الرئيسية >هذا ديننا >حد الاعتدال في التعامل مع مباحات وملاذِّ الدنيا

حد الاعتدال في التعامل مع مباحات وملاذِّ الدنيا

حد الاعتدال في التعامل مع مباحات وملاذِّ الدنيا

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا! أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه.

في هذا الحديث يعظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أناسًا وصل بهم الأمر إلى حد المغالاة والغلو في الدين إلى درجة التخلي عن المباحات التي أباحها الله لعباده، هذا الحظ من المباحات الذي يدخل تحت قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]، والذي يدخل تحت حديث حنظلة رضي الله عنه وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له: «يا حنظلةُ، ساعةً وساعة»، ويروي حنظلة رضي الله عنه الحديث ضمن المناسبة التي حدث فيها، فيقول: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رواه مسلم.

وكما هو ظاهر فإن الحديثين يؤديان نفس المعنى والمقصد.
ويبين أبو العباس القرطبيّ رحمه الله تعالى في "شرحه على مسلم" الظن الخاطئ من هؤلاء النفر تجاه حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة، وتصورهم أن عليهم أن يزيدوا في العبادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحتاج إلى الاستزادة من العبادة لأنه مغفور له ابتداء لأنه من لوازم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: "فهؤلاء القوم حصل عندهم أن الانقطاع عن ملاذّ الدنيا، من النساء، والطيّب من الطعام، والنوم، والتفرّغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى، فلما سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعبادته لم يُدركوا من عبادته ما وقع لهم أَبْدَوْا فارقًا بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنه مغفورٌ له، ثم أخبَرَ كلُّ واحد منهم بما عزم على فعله، فلما بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أجابهم بأن ألغى الفارق بقوله: «إني أخشاكم لله». وتقرير ذلك: إني وإن كنت مغفورًا لي، فخشية الله، وخوفه يَحملني على الاجتهاد، وملازمة العبادة، لكنّ طريقَ العبادة ما أنا عليه، فمن رغب عنه، وتركه، فليس على طريقتي في العبادة.

ويوضّح هذا المعنى، ويُبيّنه أن عبادة الله إنما هي امتثال أوامره الواجبة والمندوبة، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجّه على المكلّف فيه أوامر، أو نواهٍ، فمن قام بوظيفة كلِّ وقتٍ فقد أدّى العبادة، وقام بها، فإذا قام بالليل مصلّيًا، فقد قام بوظيفة ذلك الوقت، فإذا احتاج إلى النوم لدفع ألم السهر، ولتقوية النفس على العبادة، ولإزالة تشويش مدافعة النوم المشوِّشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقّها من المضاجعة كان نومه ذلك عبادةً كصلاته، وقد بين هذا المعنى سلمانُ الفارسي لأبي الدرداء بقوله: "لكني أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قومتي"، وكذلك القول في الصيام، وأما التزويج فيجري فيه مثل ذلك، وزيادة نيّة تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين، وبهذه القصود الصحيحة تتحقّق فيه العبادات العظيمة ...

وعلى الجملة فما من شيء من المباحات المستلذّات وغيرها إلا ويمكن لمن شرح الله صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نيّة التقرب بها، كما قد نصّ عليه المشايخ في كتبهم، كالحارث المحاسبيّ وغيره.

ومن فَهِمَ هذا المعنى، وحَصّله تحقّق أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد حلّ من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعله بحدود الله، وبما يُقَرّب منه.

ولما لم ينكشف هذا المعنى للنفر السائلين عن عبادته، استقلّوها بناء منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة والصوم والانقطاع عن الملاذّ، وهيهات بينهما ما بين الثريّا والثَّرَى، وسُهيل والسُّها؛ وهو كُوَيكِب صغير خفيّ في "بنات نعش الكبرى"، والناس يمتحنون به أبصارهم. اهـ "لسان العرب".

"المفهم شرح صحيح مسلم" لأبي العباس القرطبي: (4/ 86-87).

اقرأ أيضا
;