الرئيسية >هذا ديننا >من إشراقات الفطرة عند الصحابة الكرام

من إشراقات الفطرة عند الصحابة الكرام

من إشراقات الفطرة عند الصحابة الكرام

عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: "كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «مَنِ المُتَكَلِّمُ» قَالَ: أَنَا، قَالَ: «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ» (رواه الإمام البخاري).
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟» فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا»، فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا» (رواه الإمام مسلم).
من المقرر أن المستحدثات التي وقعت بعد زمن النبوة كثيرة، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل كل المباحات، فعُلم أن هناك من الجزئيات التي ستظهر بعد زمن النبوة كثيرة جدًا، ولا يمكن أن تكون السنة قد حصرتها كلها، إذ من غير الممكن دخول غير المنحصر تحت المنحصر، ومن هذه الجزئيات: إنشاء المدارس والكليات والجامعات لتدريس العلوم الشرعية وغيرها، وإنشاء الشركات والهيئات والحكومات والمحاكم والجمعيات وعقود الملكية والزواج، ونحو هذا كثير جدًا مما يصعب أن يدخل تحت الحصر، وإلا لاحتاج كل عصر وما يستحدث فيه إلى رسول وكتاب جديد وتشريع جديد، ولم يصبح القرآن هو الكتاب الناسخ الذى يصلح لكل زمان وجيل وعصر وأوان؛ وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إنكم أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول"، أي: تحدثون أمورًا، ويُحدِث لكم أهل العلم أحكامًا جزئية جديدة تندرج تحت القواعد الكلية للدين.
وعليه فلم يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل الجزئيات ولا صحابته الكرام الطيبين الطاهرين، وإلا كما تقدم لَاحتاج الناس إلى رسول جديد وكتاب جديد وشرع جديد، وهذا باطل بالعقل والنقل، وأيضًا لو فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته كل الجزئيات؛ لأصبح هذا الدين مقصورًا على عصر دون عصر، وما كان صالحًا لكل عصر وأوان، ولأصبح هذا الدين رجعيًّا قاصرًا على عصر بعينه وشخص -أو شخوص- بعينه لا يتعداه، وهذا محال عقلًا ونقلًا، وأيضًا لم يكن لهذا الكتاب الكريم تلك الفيوضات الربانية على من يشاء الله تعالى من عباده في التفسير والفقه والأحكام بما يناسب كل عصر ومستحدثاته وما يتجدد للناس في كل زمان، ولانحصر في زمان بعينه.
والحديث الذي بين أيدينا يتحدث عن إحداث ذكر من قبل أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدر من حالة فطرية ملائكية -إن صح التعبير- جعلت هذا الصحابي ينطق بهذه الكلمات.
وبناء على الحديث لم يغلق الفقهاء الباب في مثل هذه الحالة غلقًا تامًّا يؤدي إلى حبس أي توهج فطري أو نوراني أو وجداني، ولكنهم قيدوا تلك الوجدانيات بقيد أساسي واحد، ألا وهو: أن تكون تلك الواردات متناغمة أو متفقة مع الشرع ولا تخالفه، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله بصدد شرح الحديث: [استدل بهذا على إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور].
وقد استدلوا بحالات حدثت في عهد الصحابة الكرام من هذه الإضافات النابعة منهم، من ذلك على سبيل المثال الزيادة في "التلبية"، وقد جاءت زيادات مختلفة عن الصحابة الكرام، منها على سبيل المثال ما ورد: أن ابن عمر رضي الله عنهما كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَجِّ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ» لاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَل"، وَفِي رِوَايَةٍ: قَال ابن عمر رضي الله عنهما: كَانَ عُمَرُ يُهِلّ بِهَذَا (أَيْ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) وَيَزِيدُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ.. إِلَخْ.
وقد نقل ابن علان أن زيادات العلماء في القنوت ونحوه من الأذكار يكون الإتيان بها أولى، وفارق التشهد وغيره بأن العلماء فهموا أن المدار فيه على لفظه فلذا لم يزيدوا فيه، ورأوا أن الزيادة فيه خلاف الأولى بخلاف القنوت فإنهم فهموا أن للدعاء تأثيرًا عظيمًا في الاستجابة فتوسعوا في الدعاء فيه.
وغير ذلك حالات عديدة من هذه الزيادات المشروعة لا يتسع المقام لذكرها.
وفي هذا الصدد يرد الشوكاني على من منع ذلك احتجاجًا بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص الصلاة: «لا يصلح فيها شيء من كلام الناس».
يقول: [والمراد بقوله-صلى الله عليه وآله وسلم-: «لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» أي من تكليمهم ومخاطبتهم، هذا هو المعنى العربي الذي لا يشك فيه عارف، وليس المراد ما زعمه المانعون للدعاء في الصلاة من أن المراد لا يصلح فيها شيء مما هو من كلام الناس الذي ليس من كلام الله، فإن هذا خلاف ما هو المراد، وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة في منع الكلام، وخلاف ما ثبت في الصلاة من ألفاظ التشهد ونحوها، وخلاف ما تواتر تواترًا لا يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة من الأحاديث المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبألفاظ دالة على مشروعية مطلق الدعاء كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وليتخير من الدعاء أعجبه إليه» (أحمد 1/ 437، النسائي 163).
وبالجملة: فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر إلا ممن لا يعرف السنة النبوية، ولا يدري بما اشتملت عليه كتبها المعمول بها والمرجوع إليها في جميع الأقطار الإسلامية، وفي كل عصر وعند أهل كل مذهب].
المصادر
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني.
- "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" لابن علان.
- "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" للشوكاني.

 

اقرأ أيضا
;