هل فقه المذاهب الأربعة دون أدلة

هناك من ينكر الآن على المذاهب الأربعة ويزعم أن فقهها بلا دليل، وأنه لا يجوز الأخذ بها لذلك، فهل هذا صحيح؟
من اطلع على كتب أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها تيقن من أن علماء المذاهب لا يجرؤون على الكلام في دين الله تعالى ولا أحكام الشريعة دون دليل، وكل مسألة عندهم لها دليلها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغير ذلك من الأدلة الشرعية المقبولة عندهم، فينبغي لكل مسلم أن يكون على ثقة ويقين من هذا.

وكتبهم المطولة خير شاهد على هذا، وأما الكتب المختصرة المؤلفة لصغار الطلبة والمبتدئين فربما أخلوها من الأدلة؛ طلبًا للاختصار، وتخفيفًا عن الطالب المبتدئ، وأما المطولات والموسوعات الفقهية فيذكرون فيها الأدلة بالتفصيل، ولهم في ذلك نظرية مستقرة في التعليم: أن يبدأ الطالب في المستوى الأول المبتدئ بمسائل الفقه مختصرة دون دليل، فإذا انتقل إلى المستوي الثاني المتوسط أخذ المسألة بدليلها دون ذكر خلاف المذاهب الأخرى، فإذا انتقل إلى المستوى الثالث المنتهي أخذ المسائل بدليلها مع ذكر خلاف العلماء وأدلتهم ومناقشتها والترجيح بينها، وقد جرى على هذا النسق العلماء في المذاهب الأربعة جميعًا.

إذن فطالب الفقه يدرس الفقه بالدليل ابتداء من المستوى الثاني، ثم يدرس الفقه المقارن ابتداء من المستوى الثالث.
وإذا أردت الوقوف على أمثلة لذلك فعليك بخصوص فقه الشافعية بالرجوع مثلا إلى كتاب "الأم" للشافعي، و"السنن الكبرى" للبيهقي، ومعرفة السنن والآثار" له أيضا، و"المجموع" للنووي، و"نهاية المحتاج" و"تحفة المحتاج" و"مغنى المحتاج"، وفى فقه المالكية ارجع مثلًا إلى الموطأ للإمام مالك وشروحه كالاستذكار والتمهيد لابن عبد البر، وارجع إلى "الذخيرة" للقرافي.

وفى فقه الحنابلة ارجع مثلا إلى "المغني" لابن قدامة، وإلى "الشرح الكبير"، وفى فقه الحنفية ارجع مثلا للآثار لمحمد بن الحسن الشيباني، و"المبسوط" للسرخسي، و"بدائع الصنائع" للكاساني، و"فتح القدير" للكمال بن الهمام.

وأيضا فأهل كل مذهب ألفوا الكتب المستقلة في أدلة مذهبهم، فألفوا في آيات الأحكام لبيان مآخذ مذهبهم من القرآن الكريم، كأحكام القرآن للإمام الشافعي، والجصاص الحنفي، وابن العربي المالكي، وإلكيا الهراس الشافعي. . إلخ، وألفوا في أدلة مذهبهم من السنة النبوية الشريفة، كالموطأ للإمام مالك، والآثار لمحمد بن الحسن صاحب الإمام أبى حنيفة، وله أيضا رواية خاصة به لموطأ مالك مشهورة بموطأ محمد بن الحسن، وجمع أصحاب الشافعي وأصحاب أبى حنيفة الأحاديث التي استدلا بها في فقههما، فجمعوا مسانيد الإمام أبي حنيفة، ومسند الشافعي، وسنن الشافعي، وخدم الإمام البيهقي مذهب الشافعي بكتبه، خاصة السنن الكبرى، ومعرفة السنن والآثار، ثم تتابع أئمة المذاهب على جمع أدلة المذهب من السنة في مؤلفات مستقلة مطولين تارة ومختصرين أخرى، فمن الشافعية: ابن دقيق العيد، والعراقي، وابن الملقن، وابن حجر العسقلاني، ومن الحنفية: الزيلعي والمرتضى الزبيدي وغيره، وقد اعتنى الحنفية بأدلة مذهبهم وشرحها كشروحهم على موطأ محمد بن الحسن، ومن الحنابلة: مجد الدين ابن تيمية وغيره.

إذن فعشرات العلماء -إن لم يكن مئات منهم- في كل مذهب ألفوا في الأدلة استقلالًا، فضلًا عمن نثر تلك الأدلة من خلال المسائل في مطولاتهم الفقهية.

فمن اتهم العلماء بعد كل هذا بأنهم تكلموا في الفقه والشريعة دون دليل فقد افترى عليهم كذبًا، وتقوّل عليهم بهتانًا، ولا يريد بذلك إلا أن يترك الناسُ المذاهب المتبعة المستقرة، ويتبعون الأهواء والشهوات والآراء المستحدثة المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والله تعالى أعلى وأعلم.