المستندات الشرعية لعمل البنوك

المستندات الشرعية لعمل البنوك

أنا في صدد عمل دراسة أكاديمية في خصوص أحكام المعاملات البنكية في الشريعة الإسلاميَّة، واطلعت على رأي فضيلتكم بجواز ومشروعية التعامل مع البنوك؛ إيداعًا وتمويلًا، سواء كانت بنوكًا تجارية أو غيرها، وفي سياق آخر اطلعت على كثير من الشبهات والردود التي تُحرِّم هذا التعامل وتصفه بالرِّبَا، فأرجو الإفادة كتابة ببيان المستندات الشرعية التي استندتم إليها في فتواكم. أفيدونا أفادكم الله.

 

نبذة تاريخية عن نشأة البنوك ودورها في الاقتصاد

تصور الواقعة هو ركن أساسي في الفتوى، فإن حَدَث خللٌ فيه؛ فإنَّ الفتوى تختل أيضًا، وكما قيل: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّرِهِ، وأنه لا بُدَّ من إدراك المحكوم فيه إدراكًا يستوفيه؛ فـ "وضعُ الصُّورِ للمسائل ليس بأمرٍ هيِّنٍ في نفسه؛ بل الذكيُّ ربما يَقْدِرُ على الفتوى في كلِّ صورةٍ إذا ذُكرتْ له صورتُها، ولو كُلِّف وضعَ الصورِ وتصويرَ كلِّ ما يمكن مِن التفريعات والحوادث في كلِّ واقعةٍ- عَجَزَ عنه، ولم يخطر بقلبه تلك الصور أصلًا"؛ كما قال الإمام الغزالي في "حقيقة القولين" (ص: 291، منشور بالمجلة الفقهية السعودية- العدد الثالث).

ومن هنا: باتَ من الضروري تصور عمل البنوك وطبيعتها، وإدراك مقصودها وغايتها:

فالبنوك: عبارة عن مؤسسات مالية، انطلقت من الواقع وتطورت فيه؛ نظريًّا وتطبيقيًّا، فمنذ ظهورها في أواخر القرون الوسطى وهي مرتبطة ارتباطًا طرديًّا بواقع حاجة التعامل التجاري، الذي كان فيه الصيارفة الأُوَل تُجَّارًا يديرون حركة الأموال، بصفتهم أُمناء عليها وضامنين لها، حتى جاء القرن التاسع عشر بظروف النهضة الصناعية، وما احتاجت إليه من أموال لتفتح الباب للأعمال المصرفية، ومع بداية القرن العشرين وانتقال التعامل نهائيًّا إلى النقود الورقية: تلاشت من الواقع العملي آثار الوديعة بمعنى الأمانة، واستقر العرف في معظم البلاد على اعتبار المصرف مالكًا للمال المودع لديه، حسب الاتفاق؛ كما جاء في "تطوير الأعمال المصرفية" للدكتور سامي حسن حمود (ص: 60- 65، ط. دار الفكر العربي).

ولم يَعرف السوقُ المصري البنوك بمعناها الفني إلا في أواخر القرن التاسع عشر، ويرجع ذلك إلى عدم وجود تشريعات تُنَظِّم الاقتصاد القومي وتحمي المودعين في ذلك الوقت، فاقتصر الأمر على وجود عدد مِن الصيارفة الذين احترفوا استبدال العملات الأجنبية وشراء الأوراق التجارية المسحوبة على الخارج وحققوا مِن وراء ذلك أرباحًا وفيرة، وفي سنة ١٨٧٥م أنشئت المحاكم المختلطة، وأعيد تنظيم المالية المصرية، فكانت بداية لتدفق رؤوس الأموال على السوق المصري من مختلف الدول.

وبدأ النشاط المصرفي في مصر على صورة فروع لبنوك أجنبية مركزها الرئيسي في الخارج، أو على صورة بنوك مركزها الرئيسي في مصر ورأس مالها معظمه أجنبي، كـ "البنك الإنجليزي المصري" عام 1863م، و"البنك الإمبراطوري العثماني" عام 1874م، و"بنك دي روما" عام 1880م، و"بنك الخصم والتوفير" عام 1887م، و"البنك الأهلي المصري" عام 1898م والذي تحوَّل فيما بعد إلى بنك مركزي في عام 1951م، و"بنك الشرق الألماني" عام 1906م، ثم تأسس "بنك توفير هيئة البريد" عام 1901م، الذي استهدفت الحكومة المصرية من إنشائه جذب مدخرات الموظفين وصغار المزارعين، ثم نشأت شركة التعاون المالي والتجارة عام 1910م والتي أصبحت فيما بعد "بنك التضامن المالي".

ثم تأسس "بنك مصر" في 13 إبريل 1920م في شكلِ شركة مساهمة مصرية، بناء على دراسة الحالة الاقتصادية من جانبيها (الوطني والمجتمعي) مع خلق قطاعٍ اقتصاديٍّ متطورٍ يقوم على التوازن وتوزيع الجهود توزيعًا متناسقًا ومناسبًا بين مختلف فئات الإنتاج؛ زراعة، وتجارة، وصناعة؛ حيث نشأ برؤوس أموال المصريين وإدارة مصرية صميمة؛ لضمان استقلال الادخار الوطني، وخدمة أبناء الوطن وحمايتهم من استغلال البنوك الأجنبية، عن طريق توجيه المدخرات الوطنية نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساهمة في تأسيس شركات تقوم باستغلال الثروات المعطلة؛ فقامت بإنشاء عدد من الشركات في مختلف المجالات من خلال الاستثمار المباشر في شركات التأمين، والمنسوجات، والنقل، والطيران، ومجالات: السياحة، والإسكان، والزراعة، والغذاء، ومجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

ولذلك حينما واجهَت البنك المصري صعوبات مالية وأشرف على الإفلاس سنة 1939م، سارعت الدولة بالتدخل للمحافظة على الاقتصاد الوطني من التدهور؛ فأصدرت القانون رقم (40) لسنة 1941م بتدعيم البنك، ثم صدر القانون رقم (39) لسنة 1960م بشأن اعتباره مؤسسة عامة وانتقال ملكيته إلى الدولة.

وقد ألقى أمير الشعراء أحمد شوقي عدة قصائد تُخلِّد هذه المعاني وتحثُّ جموع المواطنين على المبادرة بالمشاركة في هذا البناء الاقتصادي في بواكيره الأولى؛ مبينًا في ثنايا أبياتها حقيقة هذا البنك وأصل فكرة نظامه المصرفي ونظامه العام بأنه يقوم بدور المموِّل لمجموعة كبيرة من الشركات والمؤسسات الصناعية الوطنية، وموضِّحًا أنَّ إيداعهم للأموال هو بمثابة الحَبِّ الذي يبذر في الأرض ليؤتي حصاده حين يأتي وقته، ومن ذلك: قوله في قصيدته المسمَّاة "قف بالممالك وانظر دولة المال":

هاتوا الرِّجالَ وَهاتوا المالَ وَاحتَشِدوا      رَأيـــــــــــًا لِرَأيٍ وَمِثقـالًا لِمِثقـالِ

هَـــــــــذا هُوَ الــحَجَرُ الـدُّرِّيُّ بَـينَكُمُ      فَابـــــــنوا بِناءَ قُرَيشٍ بَيتَهـا العـالي
دارٌ إِذا نَــــــــــــزَلَت فيها وَدائِـعُكُـم      أَودَعتُمُ الحَبَّ أَرضًا ذاتَ إِغلالِ
آمـــــــــــالُ مِصرَ إِلَيها طالَما طَمَحَت      هَــــــــل تَبخَلونَ عَلى مِصرَ بِآمـالِ
فَابـــــــــنوا عَلى بَرَكاتِ اللهِ وَاغتَنِموا      ما هَــــــــيَّأَ اللَّهُ مِن حَظٍّ وَإِقبـالِ

ينظر في ذلك: "مجموعة خطب محمد طلعت حرب" (1/ 22- 26، 1/ 221، 2/ 278- 308، 3/ 199- 224 و227- 232، ط. مطبعة مصر)، و"طلعت حرب وتحدي الاستعمار- دور بنك مصر في التصنيع 1920-1941م" لإيريك دافيز (ص: 26، ط. مكتبة الشروق الدولية، ترجمة: هشام سليمان عبد الغفار)، و"اليوبيل الذهبي لبنك مصر 1920م-1970م" مكتب البحث الاقتصادي ببنك مصر (ص: 152-154، ط. الشركة المصرية للطباعة والنشر)، و"بنك التضامن المالي والتجارة، اليوبيل الذهبي لشركة التضامن المالي والتجارة 1910-1960م"، (ص: 8 وما بعدها، ط. الشركة المصرية)، و"التطور الاقتصادي في مصر في العصر الحديث" لراشد البراوي، ومحمد عليش (ص: 99، 101، ط. النهضة المصرية)، و"البنوك التجارية" للدكتور حسن كمال، والدكتور حسن غلاب (7-10، ط. دار الجيل).

وبعد ذلك نشطت حركة النظام المصرفي في مصر واتسعت، وجميعها يعمل تحت مظلة البنك المركزي المصري، وهو شخصية اعتباريَّة عامَّة مستقلَّة، يعمل الآن طبقًا للسلطات والصلاحيات المخولة له بموجب القانون رقم 194 لسنة 2020م بشأن إصدار قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي.

بما يعني أنَّ مآل هذه المؤسسات البنكيَّة هو عكس ما تؤول إليه العقود الربوية؛ فالرِّبَا (وخاصَّة رِبَا النسيئة) من شأنه أن يزيد معدلات التضخم الاقتصادي، ويؤدي إلى حصول الكساد المجتمعي، وحدوث الظلم الطبقي؛ لأن المال فيه يلد المال، دون اجتهادٍ أو عملٍ، فيختل النظام العام، بخلاف التمويل الذي يكسر احتكار رأس المال في يد فئة معيَّنة، ويعمل على تقليبه واكتمال دورته؛ بما له الأثر الأكبر في دفع عجلة التنمية، ورفع شأن الإنتاج والصناعة، وزيادة قدرة الأفراد على الادخار ومواجهة التحديات الاقتصادية، بل وتوفير موارد آمنة لأرزاقهم ومعاشهم بصورة كريمة، وهذا يؤدي إلى النهوض بالمستويات الاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات، والدول والمجتمعات.

قال الإمام النيسابوري في "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (2/ 61-62، ط. دار الكتب العلمية): [السبب في تحريم الرِّبَا.. أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب؛ لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الرِّبَا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا أو نسيئة، أعرض عن وجوه المكاسب؛ فيختل نظام العالم.. ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالًا زائدًا من الفقير] اهـ.

وقال الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 397، ط. دار ابن الجوزي): [رِبَا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يُؤخِّر دينه ويزيده في المال، وكلما أخَّره زادَ في المال، حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفة؛ وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدمٌ محتاج؛ فإذا رأى أن المُستحق يُؤخِّر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلَّف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدَّيْن حتى يستغرقَ جميع مَوْجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمةِ أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه: أن حَرَّم الرِّبَا] اهـ.

وتتأكد هذه الحقائق وتترسَّخ بدوافع تأسيس البنوك الوطنية في أوائل القرن العشرين، التي راعت محددات الرِّبَا القطعية وأسباب فساد المعاملات التي حظرها الشرع الشريف؛ فقامت بخَلْق واقعٍ بديلٍ لواقع البنوك الأجنبية القائم على العلاقات الرِّبويَّة، ويقوم على إدارة حركة الأموال وتقليبها، حتى وإن لاحَ فيها معنى التربُّح والكسب.

وهذا يظهر جليًّا في فكر مؤسس الاقتصاد الوطني محمد طلعت حرب، وقد صرَّح بذلك في عدد من كتاباته؛ كما في "علاج مصر الاقتصادي" و"بنك المصريين"، و"بنك وطني"، (نشرتها مطبعة الجريدة عام 1911م، ص: 14- 16)؛ حيث هاجم القائمين على إقراض صغار الملاك والفلاحين وإغراقهم في المديونيات من خلال الزج بهم في دائرة لا نهائية من الرِّبَا، مستغلين حاجة هؤلاء البسطاء الشديدة للإنفاق على أنفسهم وأهليهم بضمان أراضيهم أو محصولهم من القطن، خاصَّة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية، وكان ذلك وراء إنشاء البنك الوطني: "حماية المزارعين من قهر المرابين"، كما في مقالة: "بنك مصر" (نشرت في "الأخبار" بتاريخ 27 يونيو 1920م).

وينظر في ذلك أيضًا: "تقرير عن الصناعة والتجارة الألمانية" المقدم إلى اللجنة المصرية للتجارة والصناعة في 12 يونيو 1916م، إعداد محمد طلعت حرب، ويوسف أصلان (منشور ضمن مجموعة خطب محمد طلعت حرب، ص: 22-26)، "استثمار رأس المال الأجنبي في الشركات المصرية والدَّين العام"، أ. ي قورشلي، الورقة الفنية لوزارة المالية رقم 12، ط. المطبعة الحكومية عام 1936م.

وقد نوقشت هذه الفكرة الاقتصادية في الصحف وفي الأندية المختلفة، وطرحت حولها سلسلة من المحاضرات لأعلام الأمة المصرية؛ من العلماء، والقضاة، والمفكرين؛ وكان ممن أيدها: الأستاذ حفني ناصف [ت: 1337هـ/ 1919م]، والعلامة الشيخ عبد العزيز جاويش [ت: 1347هـ/ 1929م]، والشيخ محمد رشيد رضا [ت: 1354هـ/ 1935م]، والشيخ إسماعيل خليل. (وقد جمعت خطبهم -وغيرها- في كتاب "ميزان الذهب في أحاسن الخطب"، طبع في مطبعة الواعظ، دون تاريخ).

ولا ضيرَ في أن البنوك مع ما تحققه لهذا الشمول الاقتصادي، والتكامل في إدارة حركة الأموال في المجتمع، تهدف كذلك إلى الاستثمار والربح، بما يتلاقى مع مقصود الأعمال التجارية وتقليب المال بالمعاوضة؛ ذلك أنَّ "الاسترباح هو مقصود التجارة وغرضها"؛ كما أفاده الإمام الرافعي في "فتح العزيز" (12/ 40، ط. دار الفكر).

وقد صرَّح القانون المصري بأنَّ التعاملات التي تجريها البنوك عبارة عن عمليات تجارية تزاول أنشطتها بخبرة واحترافية في مختلف أوجه الاستثمار؛ بما يكفل تحقيق أغراض كلِّ بنكٍ، وتنمية موارده؛ كما نص عليه قانون التجارة رقم 17 لسنة 1999م، في المادة [5 -فقرة (و)]، والتي تسري أحكامه على عمليات البنوك مع عملائها (تجارًا أو غير تجَّار) أيًّا كانت طبيعة هذه المعاملات؛ كما هو منصوص عليه في المادة (2) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، الصادر بالقانون رقم 194 لسنة 2020م، وأنَّ هذه المعاملات تخضع -غالبًا- لموادِّ قانون التجارة؛ كعملية التقادم القصير المنصوص عليه في المادة (68)، على ما جرى عليه حكم محكمة النقض في (الطعن رقم 343 لسنة 82 ق، جلسة 20/ 3/ 2013م)، وعملية استقلال الحسابات إذا تعددت لدى المودع لبنكٍ واحدٍ أو أحد فروعه، على ما تقضي به المادة (307) من قانون التجارة الجديد رقم 17 لسنة 1999م، وكذلك عملية الحساب المشترك بين شخصين أو أكثر، مما نصَّت عليه المادة (308)، وعملية فتح عقد الاعتماد أو التسهيلات الائتمانية، مما نصَّت عليه المادة (338)، وعملية الاعتماد المستندي؛ كما في المواد (341، 342، 347، 348) من نفس القانون.

ولذلك يُقدِّم البنك المصرفي خطةً للبنك المركزي، تتضمن احتمالات تعرضه لمشكلات مالية تؤثر على ملائِهِ المالي وسيولته وربحه، وهذه الخطة تُراجَع وتُحَدَّث كلَّ سنتين؛ كما في المادة (94) من قانون البنوك، كما نصت المادة (234) منه على أنَّ أموال البنك المركزي وأموال البنوك أموالٌ عامَّة في تطبيق أحكام قانون العقوبات، وهذا التكييف هو ما جرت عليه المادة (50/ 1) من قانون التجارة الجديد رقم (17) لسنة 1999م حيث اعتبرت أن أعمال البنوك المتنوعة والتي منها منح الأموال وإبرام عقود التمويل، تعتبر أعمالًا تجارية تستهدف بها الربح، شأنها في ذلك شأن ما يعقده التاجر العادي لتمويل تجارته.

ولا فرق في ذلك بين البنوك التجارية وغيرها؛ فقد جرى العُرف الاقتصادي على إطلاق لفظ "البنوك" مُجرَّدًا بلا تمييز على البنوك التجارية وحدها دون غيرها؛ كما قال العلامة الاقتصادي محمد زكي شافعي في "مقدمة في النقود والبنوك" (ص: 180، ط. دار النهضة العربية).

ويؤكد هذا المعنى ما نصت عليه المادة (1) من قانون رقم 194 لسنة 2020م على تعريف أعمال البنوك بأنها: [كلُّ نشاطٍ يتناول بشكلٍ أساسي واعتيادي قبول الودائع، والحصول على التمويل، واستثمار هذه الأموال في تقديم التمويل والتسهيلات الائتمانية أو المساهمة في رؤوس أموال الشركات، وكلُّ ما يجري العرف المصرفي على اعتباره من أعمال البنوك] اهـ.

ولضمان عمليات الربح والاستثمار: تقوم البنوك بأخذ الضمانات الكافية لاستيفاء كامل حقِّها من العملاء؛ فتلجأ في حالة تعدد الحسابات إلى الاتفاق مع العميل على المقاصة بين أرصدة الحسابات المختلفة، أو الاتفاق على إدماجها، أو وحدتها، أو رهن رصيد أحدها لضمان رصيد حساب آخر، وغيرها من أساليب الضمان التي يبتدعها العمل المصرفي تفاديًا للنتائج التي يؤدي إليها استقلال الحسابات، وحتى لا يؤدي ذلك إلى وجود ديون معدومة مستقبلًا تؤدي إلى تخفيض أرباح البنك؛ كما نصَّت عليه محكمة النقض في الطعن رقم (4298 لسنة 86 ق، جلسة 15/ 3/ 2017م)، وكذلك إذا حلَّ أجل الوفاء بالمديونية على العميل ثم تأخر في الوفاء بها: فترصد الفائدة التأخيرية الاتفاقية تعويضًا عن الضرر الناشئ عن التأخير في هذا الوفاء، في نطاق تعليمات البنك المركزي.

فإذا لم يكن ثمةَ اتفاق على ذلك: يلزم العميل بأن يدفع فائدةً قانونيةً باعتبارها عِوضًا عن التأخير في الوفاء بدَينٍ تجاريٍّ؛ عملًا بالمادة رقم (226) من القانون المدني، والمادة (64) من قانون التجارة الجديد رقم (17) لسنة 1999م.

الأعمال والخدمات والأنشطة التي تقدمها البنوك

تتنوع عمليات البنك -تجارةً واستثمارًا- وتتطوَّر، حسب حاجات العصر ومتطلباته؛ حيث امتدت إلى ما هو أبعد من مسألة منح الأموال أو تحويلها، أو قبول الودائع والعمل على استثمارها، أو تنظيم عملية الديون وطرق سدادها (وهي الصور التقليدية في عمل البنوك)، ليشمل نشاطها كلَّ صورِ منح الائتمان بمعناه الشامل للأغراض الاستثمارية والتجارية والاستهلاكية والشخصية، أو المساهمة في رؤوس أموال الشركات، والبحث عن مصادر الأموال من المدخرين، واشتقاق النقود (فيما يسمى بالودائع المشتقة)، وبيع الشهادات والسندات ذات الآجال المحددة، وكذلك إعادة تقليب الديون وبيعها للغير، إلى غير ذلك من العمليات المتنوعة والمتطورة، والتي تُظهِر قدرة البنك الفائقة على توفير الاحتياجات المالية لمختلف المؤسسات، ولمتنوِّع الأغراض، من كلِّ ما يجري العرف المصرفي على اعتباره من أعمال البنوك؛ كما في المادة (1) من الباب الأول، في قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم (194) لسنة 2020م، وذلك ضمن معايير يجب الالتزام بها من قِبَلِ كل بنك؛ في تصنيف ما يقدمه، وما يُحدده من إجراءات لمعالجة التمويل والتسهيلات الائتمانية (المنتظمة وغير المنتظمة)؛ كما أفادته المادة (86) من نفس القانون.

ينظر في ذلك أيضًا: "اقتصاديات البنوك" للدكتور/ عبد المنعم البيه، و"بنوك الودائع" و"البنوك في مصر" كلاهما لكمال الدين صدقي، (ط. مكتبة النهضة المصرية).

غير أنَّ مردَّ هذه الأعمال بمجموعها -كما أفاده خبراء الاقتصاد- يمكن تصنيفه إلى شقَّين رئيسيين؛ هما: أعمال الخدمات، وأعمال الاستثمار:

أمَّا الخدمات المصرفية:

فهي متنوعة ومختلفة، تبعًا لتنوع واختلاف الحاجات إليها؛ فمنها ما ينطوي على منفعة للمستفيد (مجردة عن علاقات الإقراض والاقتراض)؛ كما في حالة تأجير الصناديق الحديدية، وتحويل النقود من بلدٍ لآخر أو من حسابٍ لغيره، ومنها ما تمتزج فيه الخدمة بأعمال أخرى تدخل في نطاق الإقراض أو الاقتراض (كفتح حسابات الإيداع، وإجراء الاعتمادات المستندية).

وأمَّا أعمال الاستثمار:

فتشمل قبول الودائع (بفائدة أو بغيرها)، وتوظيف الأموال المتلقَّاة بعد ضمها؛ بطريق الإقراض أو شراء السندات والأوراق المالية ونحو ذلك، وهذان الجانبان مقصودهما تشغيل المال لمنفعة مالكه ومنفعة من يستثمره؛ كما في "تطوير الأعمال المصرفية" للأستاذ الدكتور سامي حسن حمود (ص: 81- 92).

ولتحرير محل النزاع في الحكم على هذه العمليات المصرفيَّة بالنظر إلى المدخلات والمُخرجات المالية للبنك: نجد أنها ترجع إلى ثلاثِ عمليَّاتٍ رئيسيَّة:

الأولى: أخذ الأجرة على تقديم الخدمات.

الثانية: قبول الأموال من العملاء في صورة (ودائع).

الثالثة: استثمار الأموال، ومنحها العملاء في صورة (تمويل).

حكم أخذ البنوك الأجرة على تقديم الخدمات لعملائها

بالنسبة لأخذ الأجرة على تقديم الخدمات:

فهي من حيث كونُها عملًا مؤدى، لا تتعارض مع الأجر المباح شرعًا على أعمال الخدمات الجائزة، والذي ينتفع فيه الشخص بما عند غيره؛ من جهدٍ أو ملكٍ أو نحوهما، مما هو قابل للانتفاع به شرعًا، فهي على ذلك عقد إجارة بين طرفين: وصورتها: أن يستأجر العميل الخدمة المُقدَّمة من البنك؛ كالصناديق الحديدية، أو تحويل النقود من بلد لآخر أو من حسابٍ لغيره، أو تحصيل الأوراق التجارية في مقابل أجرة يتفق الطرفان عليها، فيصحُّ أخذ الأجرة على هذه المعاملة بناءً على ما فيها من المنفعة؛ فمن المعلوم أن البنك تكلَّف في توفير ذلك جهدًا ماليًّا في تفعيل ذلك واستدامة الانتفاع به، وتُعَدُّ الزيادة التي يأخذها البنك نظير تلك الخدمة هامشًا ربحيًّا خاصًّا به، لا علاقة له بالرِّبَا.

وقد تقرَّر أنَّ المنافع كالأعيان؛ قصدًا وعقدًا؛ لأنَّ "المنفعةَ مالٌ متقوِّمٌ"؛ كما قال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 320، ط. دار الكتب)؛ فيصح اعتبارها للتملك والتعاقد عليها، وهي موجبة للمقابلة بالأجر، وكذلك في وفاء الدَّين بها.

قال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي -فيما نقله العلامة ابن شاس في "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 866، ط. دار الغرب الإسلامي)-: [الصحيح: أنَّ المنافعَ مالٌ وأنها مضمونةٌ] اهـ.

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (2/ 194، ط. دار الكتب العلمية): [المنافع كالأعيان؛ في الملك، والعقد عليها] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 336، ط. مكتبة القاهرة): [المنافع تجري مجرى الأعيان؛ في صحة العقد عليها.. فكذلك في وفاء الدَّين منها] اهـ.

وهو ما جعل جماعة من الفقهاء يُجوِّزون إجارة الدراهم والدنانير للوزن والتحلي في مدة معلومة؛ لأنها عينٌ أمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها منفعة مباحة، فأشبهت الحُلِي؛ كما في "المغني" لابن قدامة (5/ 404)، على أنَّ المحظور في الدراهم والدنانير هو اتخاذهما قرضًا وهو لم يعد قائمًا، فالقرض لا أجر فيه، لأنَّ الزيادة فيهما من قبيل الرِّبَا.

أنواع الودائع المصرفية وتكييفها وحكمها

بالنسبة للودائع:

فإنَّها تكون على صور متنوعة: فمنها ما هو حساب جارٍ، ومنها ما هو حساب توفير، ومنها ما هو حساب ائتمان، ونحو ذلك من مسميات تستجد في العرف المصرفي، ولذلك فإن البحثَ فيها منصَبٌّ على حُكمِ المالِ أو النقودِ التي يقوم صاحبها بإيداعها لدى البنك، ويتعاقَدُ عليها، وليس في الحِسابِ أو القائمةِ التي تُقيَّدُ فيها المعاملاتُ بين الطَّرَفينِ.

وهي في جملتها: عقودٌ يخول البنك ملكيتها والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه وغرضه، مع التزامه بردِّها للمودع طبقًا لشروط العقد؛ كما هو مفاد المادة (301) من قانون التجارة، وما نصت عليه محكمة النقض في الطعن رقم (4298 لسنة 86 ق، جلسة 15/ 3/ 2017م)، ولذا اعتبر القانون المدني المصري هذه العقود في مادته رقم (726) أنها من قبيل "القرض" وأسماها "الوديعة الناقصة أو الشاذة"، ورتَّب على ذلك انتقال ملكية هذه المبالغ المالية إلى البنك مع الالتزام بردِّ مثلها عند طلبه، مع سريان فائدة قانونية على ذلك.

وهذه النقطة هي مثار تجاذب الآراء الفقهية في تصوير هذه العلاقة؛ طبقًا لاختلاف أهل القانون والاقتصاد في ذلك التصوير فيما إذا كانت العلاقة بين العملاء والبنك هي علاقة القرض كما ذهب إليه القانونيون، أو هي علاقة الاستثمار كما ذهب إليه الاقتصاديون، والاختلاف في تصويرها ينبني عليه الاختلاف في تكييفها.

والمختار في الفتوى أنها في جملتها تُعدُّ من العقود الجديدة التي لم تكن معروفة لدى الفقهاء بمعناها الفقهي الموروث؛ فهذه الحسابات عقود لها أحكامها الذاتية الخاصَّة التي لا تنطبق على العقود المسمَّاة المعروفة؛ فليس في الفقه الموروث ما يسمَّى بـ"الوديعة الاستثمارية أو غير الاستثمارية"؛ فهي وإن كانت تُشبهها لبعض الاعتبارات إلا أن لها وجوهًا تجعلها مختلفة عنها، بالإضافة إلى أنَّ عدَّها من العقود الجديد هو الأقل إشكالًا والأسلم إيرادًا.

-فهي تشبه الوديعة باعتبار أن المودع يهدف من خلالها إلى حفظ ماله وصيانته، وأن المال المودع فيها مضمون على البنك مع ردِّ الفائدة القانونية المقررة؛ كلٌّ بحسب طبيعته وما يتماشى مع العرف المصرفي، بينما تخالف الوديعة بمعناها الفقهي، باعتبارها أمانة تُحفظ بعينها لتُرَد إلى أصحابها، ولا تُضْمَن إلا بالتعدي أو التقصير؛ فضلًا عن أن البنك يستهلك عين هذه المبالغ المالية ولا يبقيها كما هي.

كما أن الوديعة تبقى على ملك المودع (صاحب المال)، ولا يجوز للوديع (المؤتمن) التصرف فيها، وهو ما يتعارض مع طبيعة هذه الحسابات، فإن ملكية المال المودع في الحساب تنتقل للبنك وله التصرف فيه بتنميته واستثماره ضمن إدارته لسائر النقود والأموال.

-وهذه العقود أيضًا تشبه القرض؛ باعتبار أنَّ ملكية المال في كلٍّ منهما تنتقل إلى المقترض، ويحق له التصرف فيه، ولكنها تفترق عن "القرض" بمعناه الشرعي من جهة أنَّ القرض تحظر فيه الزيادة، بل إن المنفعة المشروطة فيه محظورة مطلقًا؛ أمَّا الودائع البنكية فإن الزيادة فيها حاصلة وموجودة، والمنفعة فيها مقصودة من كِلَا الطرفين؛ حيث يقصدها كلُّ طرفٍ كأثرٍ من آثار العلاقة، ونتيجة مترتبة عليها بصورة تلقائية.

ويشهد واقع البنوك أنها تستقبل ودائع بصورة يومية وبمبالغ مالية متفاوتة، وتدمج بين هذه الودائع في سلة عامَّة أو حوضٍ واحدٍ أشبه بالنهر الجاري الذي تمول منه عقودًا وصورًا متنوعة، وهذه العمليات يتم خلط فيها أموال المودعين وأموال المساهمين خلطًا متداخلًا غير مميز لمال مُودِع عن آخر؛ فهي كالتيار المستمر لا يمكن معه تتبع العمليات المختصة بوديعة بعينها للوقوف على حصتها في الربح أو الخسارة.

تكييف علاقة البنك بالمودعين على أنها قرض والرد على ذلك

بالنظر لهذا الواقع نجد أنه تَرِد إشكالات كثيرة على اعتبار النقود المودعة في هذه الحسابات من قبيل "القرض" بمعناه الشرعي تُخْرجه عن طبيعته وأحكامه المقررة لدى الفقهاء من كونه وسيلةَ دفعٍ وأداةَ وفاءٍ:

فمن المعلوم أنه بمجرد إيداع العميل نقوده في حسابه البنكي تخرج هذه النقود من مِلكه إلى مِلك البنك وتصبح في ضمانه، بمعنى أنه لا يمكن للعميل رهن أو ضمان أو هبة هذه النقود حال كونها مودعة في الحساب، أو شراء سلعة بضمانها كثمنٍ مؤجلٍ، حتى وإن أمكن ذلك فيكون على صورة عقود ومعاملات أخرى تجريها البنوك بحسب الأغراض والمجالات التي يقصدها العميل؛ كفَتحِ الاعتمادِ المستَنَدي، وخطاب الضمان، وإصدارِ البطاقةِ الائتمانيَّةِ، أو كفالةِ جِهةٍ أُخرى من قِبَلِ ذلك العميل، أو إصدار الشيكات وصرفها.. ونحو ذلك من عقودٍ تجدُّ وصورٍ تُستحدَثُ بحسب ما تمليه ضرورة العمل المصرفي وتتطلبه تطوراته.

-كما أن تكييفها على أنها "قرض" بمعناه الشرعي يرد عليه إشكالٌ ثانٍ باعتبار أن النقود المودعة في الحساب ليست هي عين النقود المضمونة في ذمة البنك؛ فإذا ما سحب صاحب الحساب جزءًا من نقوده المودعة في حسابه مثلًا؛ فبمَ يُكيَّف هذا الجزء المسحوب: هل يعتبر استرجاعًا للمال الذي أقرضه للبنك أو هو قرضٌ جديد أخذه من البنك يرتب عقدًا آخر؟

-كذلك يرد على تكييفها "قرضًا" أنه في حال إيداع صاحب الحساب مالًا جديدًا، فهل تعتبر هذه النقود قرضًا جديدًا أو ملحقة بعقد القرض الأول؟

ومثل ذلك يقال فيما إذا أودع شخصٌ آخر مبلغًا في حساب المودع، فهل يمكن اعتباره قرضًا في حال عدم علم صاحب الحساب؟ وهل يُعَدُّ قرضًا للبنك، أو يعتبر البنك هنا أداة للوفاء به فقط؟

وكيف تحل مشكلة الحساب بين المودعين التي تتداخل أموالهم في توقيتات متفاوتة لا تتفق مع توقيتات بدء وتصفية العمليات التي يجريها البنك بشأن هذه الأموال؟

في ضوء أن بعض الودائع تدخل في رأس مال البنك العامل بعد أن تكون العمليات قد بدأت، وكذلك تخرج منه قبل أن تنتهي، وهذا الإشكال متصور في كلِّ عملية إيداع أو سحب.

ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه البنوك في أصل نشأتها لم تضع في قاموسها العملي قضية "الاقتراض أو الإقراض"، بمعناهما الفقهي الموروث، وإن شاع في تسمية بعض معاملاتها الماليَّة بالقرض؛ لأن المقصود الشرعي من القرض هو الإشفاق والإرفاق في إعانةِ الناس على قضاءِ حاجاتهم وتفريجِ كُرباتهم؛ ولذلك فإنَّ الآيات التي وردَ بها معنى القرض في القرآن الكريم تدل على القرض الحسن الذي يُحسنُ به الموسِر إلى المعسِر؛ ابتداءً (من إعطائه المالَ لسد فاقته)، وانتهاءً (بإنظاره حالَ عُسْرَتِهِ)؛ كما دلَّ عليه قولُ الله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، مع قوله سبحانه: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280].

وذلك لأنَّ "الإعسار علة الإنظار"؛ كما قال الإمام النَّسفي في "مدارك التنزيل" (1/ 429، ط. دار الكلم الطيب).

قال الإمام أبو الوليد ابن رشد في "بداية المجتهد" (4/ 21، ط. دار الحديث): [ولا خلافَ بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقرَّه الإسلام.. وأنَّ الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح منهج الطلاب" (2/ 38): [القرض ليس مقصود التجارة؛ بل الإرفاق] اهـ.

وقال العلامة الشيخ محمد أبو زهرة في "بحوث في الرِّبَا" (ص: 35، ط. دار الفكر العربي): [القرض الحسن كيفما كانت صورتُه وبواعثُه ودواعيهِ: هو من قبيل الصَّدقةِ.. والصَّدقةُ تنبعُ مِن الرغبة في النفع العام] اهـ.

من هنا جاءت حُرمَة المعاوضة القائمة على النفع في طبيعة هذا الإقراض، خاصَّةً إذا كانت مشروطةً فيه؛ لأنه يخالف مقصودَه، ويكرُّ على مرادِهِ بالفساد؛ لما تقرر أن "كلَّ قرضٍ جرَّ نفعًا فهو رِبًا"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نُجيم (ص: 226، ط. دار الكتب العلمية).

وتحريم النفع في قرض الإرفاق، لا يستلزم تحريمه في العقود بإطلاق، فالقرض تبرعٌ يُراد به الإحسان والإبرار، بخلاف المعاملات البنكيَّة التي غرضها الربح والاستثمار، فالأولى من قبيل المسامحة، والثانية من قبيل العِوَض والمشاححة، وما به الشُّحُّ ليس قرضًا، وما فيه البرُّ ليس عوضًا.

فإن قيلَ: إنَّ لفظ "القرض" هو الشائع في المعاملات المالية التي يجريها البنك، حتى من العاملين فيه الذين لم يعتنوا بهذه التفرقة بين اللفظتين، مما يدل على قَرضيَّة هذه المعاملات.
قلنـــا: إنَّ هذا الشيوع في لفظ القرضِ ومبناه، لا يقلب حقيقته ولا يُغيِّر معناه، ومن ثمَّ فلا يؤثر في الأحكام الشرعية المتعلقة به؛ فلا يحكم على هذه المعاملات بأنها من قبيل القرض المُحرَّم لمجرد الإطلاق اللفظي عليها؛ لأنَّ الأحكام إنَّما تناط بحقيقة الواقع الموجود، ومدار العقُود على القُصود، والعبرة فيها بمقاصدها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها؛ كما في "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني (2/ 273، ط. دار الكتب العلمية).

وقد فطن إلى ذلك المقنن المصري في التشريعات اللاحقة؛ فأطلقوا على هذا النوع من المعاملات البنكية "تمويلًا"، فمنذ صدور قانون البنوك رقم (88) لسنة 2003م، ولائحته التنفيذية رقم (101) لسنة 2004م، اصطُلِحَ على تسميتهِ بعقود التمويل، وجعلوه عقدَ معاوضةٍ لا عقدَ تبرع؛ فتطابقَ بذلك الاسم والمُسمَّى، وتوافقَ المبنى مع المعنى.

والقانون وإن وردَ في بعض موادِّه تسمية عمليات التمويل بالقرض، إلَّا أنه عنى بها الأعمال التعاقدية الخاضعة للأعراف التجارية؛ فقد نصَّت محكمة النقض على أنَّ قرض المصارف (التمويل) يُعدُّ عملًا تجاريًّا بالنسبة للمصرِف وللمقترض (المتموِّل)، مهما كان الغرض الذي خُصِّصَ له القرض، وهي بذلك خارجة عن نطاق العمل الحر المنصوص عليه في المادة رقم (232) من القانون المدني، وخاضعة لقواعد العرف التجاري والعادات التجارية. (طعن رقم 13833 لسنة 81 ق، جلسة 18/ 11/ 2015م).

وبذلك، فإننا نجد أن كلَّ عقد من العقود المسماة بمفرده لا يصلح لتكييف هذه الحسابات البنكية وفقًا لواقعها الذي جرى عليه العرف المصرفي، كما أن تخريج الحكم على الحساب البنكي وفقًا لهذه العقود مجتمعة أمرٌ لا يستقيم كذلك؛ بسبب أوجه الاختلاف بينها وبين الحساب البنكي بصوره المتنوعة؛ فضلًا عن عدم التسليم بتنزيل الأحكام الشرعية الخاصة بكلِّ عقدٍ على واقع هذا العقد جملةً أو تفصيلًا.

وذلك كله راجع إلى أن هذه الفوارق تقف حائلًا دون تصوير وتكييف الحسابات البنكية وفقًا له، فما صَدَقَ على عدم إمكانية التكييف في حالة كلِّ عقدٍ بصورة مستقلة يَصْدُق على عدم إمكانية التكييف بالنظر إلى العقود المسمَّاة مجتمعة، وهذا يرجِّح معاملة الحسابات البنكية معاملة جديدة وفق واقعها وعرفها المصرفي باعتبارها عقدًا مستقلًّا.

حكم استحداث عقود جديدة غير المُسمَّاة في الفقه الموروث

قد تقرَّر في واقع المعاملات التعاقديَّة: جواز إحداث عقودٍ جديدةٍ من غير المسمَّاة في الاجتهادات الفقهية؛ ما دامت خاليةً من المخاطر أو حصول الغرر أو الضرر، وهي التي عبر عنها حجة الإسلام الغزالي بـ "مفسدات المعاملة" و"مفسدات العقود" و"أسباب الفساد" و"مثارات الفساد"؛ كما في كتاب "آداب الكسب والمعاش" المضمن في كتابه "إحياء علوم الدين" (2/ 64- 69)، وعبَّر عنها الإمام ابن رشد الحفيد بـ "أصول الفساد" وحصرها في أربعة: تحريم عين المبيع، والرِّبَا، والغرر، والشروط التي تؤول إلى أحد هذين أو لمجموعهما؛ كما في "بداية المجتهد" (3/ 145).

وقد فصَّلها القاضي أبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 137)، في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]؛ حيث قال: [هذه الآية، من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات ينبني عليها، وهي أربعة: هذه الآية، وقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، وأحاديث الغرر، واعتبار المقاصد والمصالح] اهـ.

ثم سَبَر المعاني المنهي عنها في المعاملات المالية، وحَصَرها في ستة وخمسين معنًى، ثم أجملها في سبعة أقسام لا تخرج عن ثلاثة (الرِّبَا، والغرر، والباطل)؛ كما في "أحكام القرآن" (1/ 323-324)] اهـ.

فإذا ما انتفت أسباب الفساد العامة في معاملة من المعاملات التعاقدية، وأصبحت محقِّقة لمصالح أطرافها حالًا ومآلًا: صحَّت المعاملة؛ لأنَّ "الأصل في العقود هو الانعقاد والجواز، إذ لم توضع في الشرع إلا لذلك"؛ كما قال سعد الدِّين التفتازاني في "شرح التلويح" (1/ 89، ط. مكتبة صبيح).

قال الإمام شمس الدين الزركشي في "شرح مختصر الخرقي" (7/ 470، ط. دار العبيكان): [الأصل في العقود والشروط: الصِّحة، ما لم يدل دليلٌ على المنع] اهـ.

على أنَّ "لكل عقدٍ شرعيٍّ غاية اقتضتها حكمة الشارع؛ لوصول الناس إلى أغراضهم من معايشهم... فإذا قصد الناس من عقودهم المعاني التى رتبها الشارع من كلِّ عقدٍ، واستوفى العقد كلَّ الشروطِ المطلوبة لتحققه: كان العقد صحيحًا"؛ كما قال العلامة الفقيه أحمد بك إبراهيم في "الالتزامات في الشرع الإسلامي" (ص: 98، ط. المكتبة الأزهرية).

وقال في "العقود والشروط والخيارات" ( بحث منشور في مجلة القانون والاقتصاد، العدد الأول، سنة 1934م، ص: 709): [الأصل العظيم الذي ينبغي أن يكون الأساس الذي تبنى عليه مسائل الشروط والعقود جميعها هو: أن كلَّ عقدٍ وكلَّ شرطٍ لم ينه الشارع عنه فهو جائز؛ فالأصل في العقود والشروط: الصحة، حتى يقوم الدليل على البطلان؛ فإذا عقد عاقدٌ عقدًا، أو شرط شرطًا، فقيل له: عقدك أو شرطك باطل أو فاسد، فعلى مدعي البطلان أو الفساد: الدليل، وأما العاقدُ والشارطُ فليس على أحدهما عبء شيء من ذلك؛ لتمسك كلٍّ منهما بالإذن العام، حيث لم يرد عن الشارع نص بالمنع والتحريم، فإذا روعي هذا في التشريع: كان فيه فتح باب خير عظيم على الناس] اهـ.

والمتأمل في منظومة العقود المسمَّاة في الفقه الموروث وما تم بحيالها من شروطٍ وضوابطَ: يجد أنها جاءت لضبط مبدأ الرضا في العقود؛ بحيث لا تدور حركة المال ولا تنتقل الأملاك من يدٍ إلى يدٍ إلا برضًا تامٍّ بين أطرافها؛ وذلك لأنَّ العقودَ في الحقيقة بنيت على رضا المتعاقدين؛ كما نبَّه عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ [النساء: 29].

فإذا تشارطا على أمرٍ يتعاقدان عليه ثم تعاقدا: فمن المعلوم أن كلًّا منهما إنما رضي بالعقد المشروط فيه الشرط الذي تشارطا عليه أولًا، ومِلاكُ العقودِ هو الرِّضـــا، فوجب أن يكون العقد ما رضيا به؛ كما أفاده الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (6/ 269، ط. دار الكتب العلمية).

وإمعانًا في توافر مادة الرضا بين المتعاقدَين: نصَّ العلماء على أنَّ الأصل حملُ العقودِ على أسبابها الشرعيَّة الظاهرة التي يظهر أنها غرض المتعاقدين، حتى وإن قام دليل أو قرينة، على أنَّ حقيقة الأمر غير ظاهرة، وأنه قد ينطوي هذا الغرض من أحد العاقدين أو كليهما في الواقع على أمرٍ مخالف للشرع أو محرَّم من غير أن يعلن، ومع ذلك يكتفى بالظاهر فيحكم بصحة العقد على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ كما قال العلامة أحمد بك إبراهيم في "الالتزامات في الشرع الإسلامي" (ص: 98).

كما أن عقود الودائع الاستثماريَّة وإن لم تكن متحققة في العقود المسمَّاة في الفقه الإسلامي من كلِّ وجه، إلَّا أنها من قبيل المعاملات الشرعية المباحة، ويمكن أن تندرج بوجهٍ ما تحت هذه العقود؛ فتدخل في رحاب الفقه الإسلامي من حيث الجملة؛ بناءً على ما أجازه الفقهاء من تبدُّل الوصف التعاقدي للعلاقة الواحدة، ولهم في ذلك جملة من التطبيقات على عدد من العقود؛ حتى وصفوا عقد المضاربة بأنه يُعَدُّ (أمانة) عند الدفع، و(وكالةً) عند الشراء، و(شركةً) عند الربح، و(إجارة) عند الفساد، و(غصبًا) عند المخالفة؛ كما في "تحفة الفقهاء" للإمام السمرقندي (3/ 22، ط. دار الكتب العلمية)، واعتبارًا بما تُعَيِّنُه القرائن اللفظية من المقاصد والمعاني في عقدٍ من العقود، فتكسبه حكم عقدٍ آخرَ؛ كانعقاد البيع والشراء بالأخذ والإعطاء، وانعقاد الحوالة بلفظ الكفالة إذا اشترط فيها براءة المدين عن المطالبة أو عدم براءته.

وكذلك المقاصد العرفية التي اصطلح الناس عليها في تخاطبهم ومعاملاتهم، فإنها معتبرة في تعيين جهة العقود، لتصريح الفقهاء بحمل كلام كلِّ إنسانٍ على لغته وعرفه، وإن خالفت لغة الشرع واصطلاحه، ولذلك تنعقد بعض العقود بألفاظ غير الألفاظ الموضوعة لها، مما يفيد معنى تلك العقود في العرف، و"الْعُقُود والمعاملات إنما تتبع مقاصدها والمراد منها"؛ كما قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "إعلام الموقعين" (3/ 37)؛ ولذلك جُعِلت مصلحة العاقِدَين من مقتضى العقد، ولو لم يَنُصَّ عليها العقدُ أو يوجبها.

قال الإمام القرافي في "الذخيرة" (5/ 20، ط. دار الغرب الإسلامي): [الْعُقُود أَسْبَابٌ لِتَحْصِيلِ المقاصِد] اهـ.

وقال الإمام الزركشي في "المنثور" (1/ 169، ط. أوقاف الكويت) في تقرير أن "الأصل في العقود بناؤها على قول أربابها": [فإن الأيدي نراها تتبدل ولا يتعرض لها؛ كمن في يده عين وأراد بيعها أو هبتها أو رهنها أو إجارتها وغيره من التصرفات وقال إنها ملكه: جاز الإقدام على معاملته فيها. قال الإمام في (كتاب الشفعة): وهذا أصلٌ مجمعٌ عليه] اهـ.

تكييف علاقة البنك بالمودعين على أنها وكالة

على ذلك: يصح أن تكيف العلاقة بين العميل الـمُودِع والبنك على أنها وكالة مستترة في استثمار الأموال التي تحت إدارته، على أن يأخذ البنك أُجرةً مسبقة على ذلك، بدلالة التصرف والتراضي عليها من الطرفين عند إنشاء العقود، فالـمُودِع في هذا التصرف يفوض البنك بصورة ضمنية من حيث المخاطر التي قد يتعرض لها ماله، بناء على ثقته في أنَّ للبنك الخبرة والأجهزة الإدارية والرقابية التي تجعله أهلًا لهذه الثقة، وللحماية القانونية والرقابية التي توفرها الدولة بشأن ذلك أيضًا؛ بما يحافظ على الأصل الذي يقرر أن البنك يستثمر أموال المساهمين والمودعين استثمارًا حريصًا دون تعريضها لمخاطرَ غير محسوبةٍ.

وهذه العلاقة تصير لازمة من الطرفين، بما يُعرف في العلوم الاقتصادية بتكلفة الوكالة (Agency Cost)، ويكون تصرف البنك في أموال المودعين بتنميتها واستثمارها بموجب هذه الوكالة المستترة بصفته أصيلًا لا وكيلًا، ويترتب على ذلك الآثار القانونية التي ترتبها الوكالة الظاهرة؛ كما هو مفاد المواد (١٠٤) إلى (١٠٧)، و(٧١٣) من القانون المدني.

وقد اتفق الفقهاء على جواز الوكالة في مقابل أُجرة:

فنصَّت المادة (1467) من مجلة الأحكام العدلية المستمدة من المذهب الحنفي- (ص: 285، ط. كراتشي) على: [إذا شرطت الأجرة في الوكالة وأوفاها الوكيل: استحق الأُجرة] اهـ.

وقال العلامة ابن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 832): [وإن كانت الوكالة بأجرة عل سبيل الإجارة فهي لازمة من الطرفين] اهـ.

وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (6/ 529، ط. دار الكتب العلمية): [الوكالة تجوز بجعل وبغير جعل، ولا يصح الجعل إلا أن يكون معلومًا] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 68): [ويجوز التوكيل بجعلٍ وغير جعلٍ] اهـ.

تكييف علاقة البنك بالمودعين على أنها مضاربة والرد على بعض المناقشات الواردة في ذلك

كما يصحُّ أن تندرج علاقة البنك بالمودعين والمساهمين تحت المضاربة الشرعية المباحة على كلِّ حال؛ ذلك أنَّ واقع عمل البنوك وأسلوبها المصرفي -في عملية جمع المال وحفظه حسابيًّا بأسماء المودعين، ثم إعادته للعمل والتشغيل من خلال صور مختلفة وتعاقدات متنوعة ومنتجات مالية مبتكرة تواكب احتياجات الأفراد والشركات والمؤسسات-، يُمَثِّلُ تطبيقًا معاصرًا حكيمًا لما قرره الشرع الشريف؛ فيما يجب أن يكون عليه دور المال وحركته في المجتمع؛ تقليبًا وإنماءً، بعيدًا عن التعطيل أو الاكتناز؛ بحيث يتم التوفيق بين حقِّ الأفراد في تملك المال وادخاره واستبقائه، وحقِّ المجتمع في الانتفاع بهذا المال وتوجيهه إلى التنمية والاستثمار والإنتاج؛ بما يحصِّل رزقًا للمجموع، ويؤمِّنُ لهم المرور من المخاطر والأزمات ومواجهتها بصورة وقائية، خاصة فيمَن ليس عنده دراية باستثمار الأموال وإنمائها، مع حفظها مِن المخاطرة التي قد تتعرض لها الأموال لو بقيت في الخزائن، وكلها قيمٌ شرعيَّة معاصرة تحضُّ على الاعتماد على التضامن والتكافل بين أفراد الأمة، بحيث تستطيع الأمة الإسلامية من خلاله الوصول إلى نفس النتائج التي وصل إليها الغربيون؛ "إذا ما أصبحوا أكثر إدراكًا لحاجة التكافل ولإحياء قيمهم التقليدية" كما أفاده محمد طلعت حرب في ورقته المقدمة إلى المؤتمر المصري بتاريخ 30 مايو 1911م، المعنونة بـ"مقترح تأسيس بنك وطني مصري"؛ بما يوقع عليها العبء في النهوض بالبلاد تجاريًّا واقتصاديًّا، والذي يتطلَّب جمع وقراءة المعلومات والإحصاءات المعنية بصورة دقيقة ومتطوِّرة من أجل إدارة حركة المال وتنمية الموارد والاستفادة منها.

وهي معانٍ كليَّة تقررها الأدلة الشرعية؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: « اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لَا تَأْكُلْهَا الزَّكَاةُ »، أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" مرفوعًا، وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال الإمام أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (2/ 110، ط. مطبعة السعادة): [قوله: «اتجروا في أموال اليتامى»: إذنٌ منه في إدارتها وتنميتها؛ وذلك أن الناظر لليتيم إنما يقوم مقام الأب له، فمن حكمه أن ينمي ماله ويثمره له ولا يثمره لنفسه؛ لأنه حينئذ لا ينظر لليتيم وإنما ينظر لنفسه، فإن استطاع أن يعمل فيه لليتيم، وإلَّا: فليدفعه إلى ثقة يعمل فيه لليتيم على وجه القراض بجزء يكون له فيه من الربح وسائره لليتيم] اهـ.

وهذا يتلاقى مع عِلة مشروعية المضاربة وحكمة مشروعيتها التي راعت الحاجة والرفق بالناس؛ لأن "الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كلُّ امرئ يقدر على ذلك بنفسه، فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة لما جرت عادة الناس في ذلك على القراض، فرخص فيه لهذه الضرورة، واستخرج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما رخص في المساقاة وبيع العرية والشركة في الطعام والتولية فيه" كما قال الإمام ابن رشد الجد في "المقدمات الممهدات" (3/ 6، ط. دار الغرب الإسلامي) في باب القراض.

ولا يمنع من كونها مضاربة أنَّ القائم بالعمل فيها طرفٌ واحدٌ من الطرفين، ولا يكِرُّ ذلك على عقدها بالفساد أو البطلان؛ لأنَّ الرِّبح على ما اشترطه الطرفان وتراضيا عليه، والاستحقاق هنا وقعَ بعد صحة العقد بالشرط، لا بنفس العمل.

قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (11/ 158، ط. دار المعرفة): [معنى المضاربة تبع لمعنى الشركة، والمعتبر موجب الأصل دون التبع؛ فلهذا لا يضرهما اشتراط العمل عليهما، فإن عملاه، أو عمل أحدهما: فالربح على ما اشترطا؛ لأن الاستحقاق بعد صحة العقد بالشرط لا بنفس العمل] اهـ.

فإن قيلَ: إنَّ تأقيت العقد بين المتعاقِدَين (البنك والعميل) يمنع من صحة دخولها تحت المضاربة الشرعية المباحة.

قلنـــا: إن أغلب العلاقات التعاقدية التي استقر عليها العرف المصرفي يكون تفويض المودع للبنك فيها تفويضًا مطلقًا، دون تحديد لزمانٍ أو مكان أو مَن يُعامله، ودون تعيين لوجه من وجوه الاستثمار، أو اختيارٍ لصورة محدَّدة من صور التجارة، أو نوعٍ مُعيَّنٍ من السلع، أو مجالٍ من مجالات الخدمات، فهي بذلك في معنى المضاربة المطلقة، وهي مشروعة باتفاق.

كما أن تحديد المضاربة بمدة لا يناسب حالة المودع؛ فهو يودع ماله لدى البنك مدة محددة ويسترجعه بعدها لاستخدامه في أموره الأخرى، أو يودعه مرة أخرى في شهادة أو نحو ذلك.
وقد نصَّ فقهاء الحنفية والحنابلة على أن تأقيت المضاربة لا يضرُّ، ولا يمنع من صحتها؛ ما دام برضـا المتعاقدين ومحقِّقًا لغرضهما.

قال الإمام أبو الحسين القدوري الحنفي في "التجريد" (7/ 3509، ط. دار السلام):

[قال أصحابنا: إذا وقَّت المضاربة: جاز] اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" (4/ 312، ط. دار الفكر):

[مطلب: في توقيت الشركة روايتان..

جزم في "الخانية" بأنها تتوقت؛ حيث قال: "والتوقيت ليس بشرط لصحة هذه الشركة والمضاربة وإن وَقَّتَا لذلك وقتًا؛ بأن قال: ما اشتريتُ اليوم فهو بيننا: صحَّ التوقيت، فما اشتراه بعد اليوم يكون للمشتري خاصة.

وكذا لو وقت المضاربة؛ لأنها والشركة توكيل، والوكالة مما يتوقت] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 50): [فصل: ويصح تأقيت المضاربة، مثل أن يقول: ضاربتك على هذه الدراهم سَنَةً] اهـ.

الرد على من قال بأن تحديد نسبة معينة من المال في الربح يُفسد تكييف الودائع البنكية بأنها مضاربة

فإن قيلَ: إنَّ الفقهاء قد اشترطوا في صحة المضاربة أن يكون الربح فيها جزءًا شائعًا (نصفًا أو ثلثًا أو ربعًا)، لا عددًا مقَدَّرًا من رأس المال كما هو حاصلٌ في معاملات البنوك، ومن ثمَّ فإن تحديد نسبة معينة من المال في الربح يُفسد المضاربة.

قلنـــا: الفقهاء متفقون على أنَّ لصاحب المال نصيبًا من الربح، وأنَّه لا بد من معلوميَّة الرِّبح وبيانه للطرفين؛ إذ هو المقصود أصالةً والمعقود عليه، غير أنَّ تحديد نسبة معينة من المال (بين العميل والبنك)، لا يدخل تحت الشرط الفاسد الذي قال به الفقهاء؛ وذلك لأربعة معانٍ:
  الأول: أنَّ الفقهاء قد علَّلوا تقدير الربح بالعدد المُقدَّر بأنه إمَّا أن يفضي إلى جهالة، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، وإمَّا أن يستغرق هذا القدر المحدد كامل الربح، فيستفيد بالربح طرفٌ دون طرفٍ، بما يتنافى مع حكمة الشرع الشريف في إباحة نفعِ كلٍّ مِن المتعاقدين؛ كما في "شرح مختصر الطحاوي" للإمام الجصَّاص الحنفي (3/ 367، ط. دار البشائر)، و"المغني" للإمام ابن قدامة الحنبلي (5/ 51)

أي: أنه يمتنع في المضاربة اشتراط ما يزيد في الغرر أو ما يقتضي جهالة الربح أو يفضي إلى عدم الاشتراك فيه، فإذا ما انتفت هذه الجهالة في تقدير الربح: ارتفع الحكم بالمنع وصحَّ الشرط؛ لما تقرَّر في القواعد الأصوليَّة "أنَّ المعلولَ يَدُورُ مع علَّتِهِ وجُودًا وعدمًا"؛ كما في حاشية الإمام العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 12، دار الكتب العلمية).

قال الإمام الزيلعي في "تبيين الحقائق" (5/ 55، ط. الأميرية): [(وكلُّ شرطٍ يوجب جهالة الربح: يفسدها، وإلَّا: لا..) أي: إن لم يكن مؤدِّيًا إلى جهالة الربح لا يفسدها] اهـ.

ويظهر انتفاء الجهالة أو الغرر في تقدير الفائدة القانونية بين العميل والبنك في أن البنك المركزي حينما يحدد هذه الأرباح إنَّما يحددها بناءً على دراسةٍ واعية لظروف كلِّ معاملة، وملابساتها، ونوعها، وحساب متوسط أرباحها، وذلك في ظل نظام الكوريدور (Corridor System) الذي يعتبر الأداة الرئيسية لتنفيذ السياسة النقدية في العرف المصرفي المصري منذ عام (2005م)، وهو يعتمد على ما تستخلصه اللجان والوحدات الإدارية المختصة من فهمٍ عميق للواقع الاقتصادي لها، بناء على التقارير والدراسات الاقتصادية والمالية، والتي يراعى فيها آخر التطورات المحلية والعالمية، وتقدير كافة المخاطر ومتابعة المتغيرات والتطورات النقدية والائتمانية، وأسعار الأصول ومؤشرات القطاع الحقيقية.

بالإضافة إلى دراسة ومتابعة المعدلات العالمية لأسعار الفائدة والنمو والتضخم، والتوقعات المستقبلية؛ بما يقي جميع الأطراف من التعرض لأيِّ مخاطرة، ويمنع من حصول الجهالة أو الغرر في تقدير الرِّبح، بل على فرض وجود جهالة في ابتداء المعاملة فإنها حالة عارضة تزول وتنتفي بتحقق الربح في العملية الختامية؛ فيصير معلومًا انتهاءً، وهو من قبيل إعطاء المتوقع حكم الواقع كما تقرر.

قال العلامة كمال الدين ابن الهمام في "فتح القدير" (6/ 193): [كونه مجهولا في الحال فهي حالة على شرف الزوال فإنه على عَرَض أن يصير معلومًا عند الجمع والبيع، بخلافِ ما إذا لم يصيبا شيئا فإن المسمَّى لا يمكن اعتباره لجهالته بالتفاحش حالًا ومآلًا] اهـ.

كما أن احتمال وجود جهالة أو غرر في عقد من العقود التي تجريها البنوك هو احتمال نادر بناء على الحسابات الدقيقة والدراسات المتخصصة، وإن حصل ذلك فلا يكون إلَّا بنسبة يسيرة لا تعتبر شرعًا، و"لا خلاف بين العلماء في أنَّ يسيرَ الغررِ لغوٌ معفوٌّ عنه"؛ كما قال القاضي أبو بكر ابن العربي في "القبس" (ص: 814، ط. دار الغرب الإسلامي)؛ "إذ لا يكاد عقدٌ يخلو منه"؛ كما قال العلامة أبو عبد الله الموَّاق في "التاج والإكليل" (6/ 230، ط. دار الكتب العلمية).

قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "زاد المعاد" (5 /727، ط. مؤسسة الرسالة): [والغرر إذا كان يسيرًا، أَوْ لَا يمكن الاحتراز منه: لم يكن مانعًا من صحة العقد] اهـ.

ومن المعلوم أنَّ هذه التوقعات مبنية على آليات التحليل الفنية للنظم المعلوماتية، وعلى الدراسات الاقتصادية لأحوال السوق المالية، ورصد تطوراتها المحلية والعالمية، مع ما لديها من كوادر مالية ومكاتب خبرة اقتصادية، بما يتيح لها حساب أرباح التمويل وضمانها وتحمل مسؤوليتها بشكل أقرب للواقعية وغالب للظنيَّة، و"المظنة تنزل منزلة المئنة".

وقد أجاز المشرع المصري في المادة (7) فقرة (د) من القانون رقم (120) لسنة 1975م بشأن البنك المركزي المصري والجهاز المصرفي -قبل وبعد تعديلها بالقانون رقم (37) لسنة 1992م- لمجلس إدارة البنك تحديد أسعار الفائدة الدائنة والمدينة على العمليات المصرفية؛ وذلك حسب طبيعة هذه العمليات، وآجالها، ومقدار الحاجة إليها؛ وفقًا لسياسة النقد والائتمان، دون التقيد بالحدود المنصوص عليها، وذلك كله وفقًا لضوابط تتسم بالمرونة وتتمشى مع سياسة النقد والائتمان التي تقررها الدولة في مواجهة ما يجدُّ من الظروف الاقتصادية المتغيرة، وتسري هذه الأسعار على العقود والعمليات التي تبرم أو تَجِدُّ في ظل سريان أحكام القانون سالف الذكر، وكذا العقود السابقة في حالة سماحها بذلك، إلا أن مناط الالتزام بسعر الفائدة هو اتفاق البنك وعميله على هذا السعر، وأنه في حالة عدم وجود هذا الاتفاق يتعيَّن تطبيق السعر القانوني المُحدَّد للفائدة، كما جاء في (الطعن رقم 13040 لسنة 79 ق، جلسة 18/ 10/ 2017م).

وهو ما نصَّت عليه المادة (88) من قانون البنك المركزي؛ حيث جاء فيها: [لكلِّ بنكٍ سلطة تحديد معدلات العائد عن العمليات المصرفيَّة التي يقوم بها حسب طبيعة هذه العمليات.. وذلك بما لا يُخِلُّ بسلامة المركز المالي للبنك، أو بقواعد المنافسة، أو يؤدي إلى ممارسات احتكارية.

ويجب على البنك في جميع الأحوال الإفصاح للعميل عن معدلات العائد الفعلية وأسعار الخدمات المصرفية؛ طبقًا لقواعد الإفصاح التي يحددها مجلس الإدارة] اهـ.

وأمَّا تعليل الفقهاء بأنَّ تحديد الربح بعددٍ محدَّدٍ مُقدَّر يمكن أن يستغرق الرِّبح: فإنَّما اعتبروا ذلك وقايةً لرأس المال؛ باعتباره الأصل الذي ينبني عليه الربح ويتبعه؛ "لأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال، وما لم يفضل فليس بربح"؛ كما قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (5/ 41).

وتحديد الفائدة (بين البنك والعميل) وإن كانت صورته تقديرية مُحدَّدة؛ إلَّا أنه ليس مالًا معلومًا يمكن أن يستغرق الربح بين الطرفين بالطريقة التي قالها الفقهاء؛ بل هي نسبة معيَّنة تُحسب على مال المضاربة، مبنية على دراسة وتقدير لحركة المال كما سبق بيانه، والغرض الأصلي فيها هو الربح؛ بل من الممكن أن يتجاوز فيها الربحُ رأسَ المال نفسَهُ؛ ولذلك نصَّ القانون على أن هذه العملية تخضع لقواعد العرف التجاري الذي يبيح مجاوزة الفوائد (الأرباح) رأس المال؛ كما جرت عليه محكمة النقض (طعن رقم 13833 لسنة 81 ق، جلسة 18/ 11/ 2015م)، بما هو أمعن في الربحيَّة وأضمن في حصول النفع للطرفين، وهو عكس مآل التحديد العددي الذي تخوَّفَهُ الفقهاء، والذي قد يحصل الربح فيه لطرفٍ دون طرفٍ.

فإن قيلَ: لا نُسلم بصحة ذلك، وأن المضاربة مع وجود هذا الشرط صارت فاسدة.

قلنـــا: على فرض صحة ذلك وأنها من قبيل المضاربة الفاسدة؛ فإنَّ ذلك لا يجعلها تدخل في دائرة الرِّبَا بحسب ما يقرره المخالف في أحكامه بطرد الحكم بأن هذه المعاملات حرامٌ لدخولها تحت الربا!

ودفع ذلك ظاهر؛ حيث لم ينصَّ أحدٌ من الفقهاء على أن فساد المضاربة يجعلها تندرج تحت الصور الربوية التي يَحْرُم فيها الربح الناتج عن العمل في رأس المال واستثماره، بل صححوا ذلك بأن المعاملة قد تنقلب إلى إجارة؛ بحيث يصير المضارب أو المستثمر بمثابة الأجير لدى صاحب المال، يستحق بذلك أجرة مثله -بالغة ما بلغتْ، على رأي الإمام محمد بن الحسن- ولصاحب المال رأس المال مع الربح.

قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (22/ 22): [العقد الفاسد لا يكون بنفسه سببًا للاستحقاق وإنما يستوجب أجرَ المثل؛ لأنه عَمِلَ لرب المال وابتغى عن عمله عوضًا، فإذا لم يسلم له ذلك استحق أجر المثل كما في الإجارة الفاسدة، ثم إن كان حصل الربح فله أجرُ مثله بالغًا ما بلغ في قول محمد] اهـ.

وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (6/ 64): [وعلى هذا الاختلاف: المضاربة الفاسدة إذا رَبِحَ المضارب فيها أنَّ له أجرُ مثله لا يتجاوز به المسمَّى من الربح في قول أبي يوسف وإن لم يكن له ربح فلا شيء له، وعند محمد: له أجر مثله بالغا ما بلغ ربح أو لم يربح] اهـ.

وقال الإمام برهان الدين الباجوري الشافعي في "حاشيته على شرح ابن قاسم" (2/ 23، ط. الحلبي): [ومتى فسد القراض: استحق العاملُ أجرةَ المثل ولو علم الفساد؛ لأنه لم يعمل مجانًا، وقد فاته المسمَّى، فيرجع لأجرة المثل] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 52): [فإذا فسدت المضاربة: فسد الشرط، فلم يستحق منه شيئًا، ولكن له أجر مثله، نص عليه أحمد، وهو مذهب الشافعي] اهـ.

الثاني: أنَّ فقهاء الحنفية والحنابلة قد أجازوا لصاحب المال أن يشترط على المضارب ألَّا يبيع بأقل من نسبة محددة سلفًا، وكذلك ألَّا يتجر إلا في السلع التي تحقق في عرف السوق حدًّا معينًا من الربح، بما يحقق النفع له، وهو البيع بسعر يحفظ له رأس المال ويدرُّ له ربًحا محددًا بصورة مسبقة ولو على وجه التقريب، وهي جملة من الصور التي يقع عليها تحديد الأرباح وتقييدها؛ بناءً على النظر والخبرة بمقياس الرجل الخبير الحريص، لا الرجل العادي، وهو عين ما تقوم به الدراسات الاكتوارية المبنية على المعلومات المنضبطة والإحصاءات الدقيقة.

قال الإمام القدوري الحنفي في "التجريد" (7/ 3512): [قال أصحابنا: إذا دفع إليه مضاربة على ألَّا يشتريَ سلعةً إلا بعينها، أو لا يشتريَ إلا من فلان: جاز] اهـ.

وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (6/ 100): [ولو قال له على أن تشتري من فلان وتبيع منه: جاز عندنا، وهو على فلان خاصة ليس له أن يشتري ويبيع من غيره.. (ولنا): أن هذا شرط مفيد لاختلاف الناس في الثقة والأمانة؛ لأن الشراء من بعض الناس قد يكون أربح لكونه أسهل في البيع، وقد يكون أوثق على المال، فكان التقييد مفيدًا، كالتقييد بنوعٍ دون نوع] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (5/ 31): [فصل: وحكم المضارب حكم الوكيل؛ في أنه ليس له أن يبيع بأقل من ثمن المثل ولا يشتري بأكثر منه، مما لا يتغابن الناس بمثله، فإن فعل: فقد روي عن أحمد أن البيع يصح ويضمن النقص؛ لأن الضرر ينجبر بضمان النقص.

والقياس: أن البيع باطل، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه بيع لم يؤذن له فيه، فأشبه بيع الأجنبي.

فعلى هذا، إن تعذَّر رد المبيع: ضمن النقص أيضًا، وإن أمكن رده: وجب رده إن كان باقيًا؛ أو قيمته إن كان تالفًا، ولرب المال مطالبة من شاء من العامل أو المشتري، فإن أخذ من المشتري قيمته: رجع المشتري على العامل بالثمن، وإن رجع على العامل بقيمته: رجع العامل على المشتري بها، ورد عليه الثمن؛ لأن التلف حصل في يده.

وأما ما يتغابن الناس بمثله، فغير ممنوع منه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، وأما إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل بعين المال: فهو كالبيع. وإن اشترى في الذمة، لزم العامل دون رب المال، إلا أن يجيزه، فيكون له. هذا ظاهر كلام الخرقي] اهـ.

وأناط الإمام النووي الشافعي التصرف في مال المضاربة بالنظر والاحتياط وما فيه الحظ للطرفين: فقال في "المجموع" (14/ 380، ط. دار الفكر): [لا يجوز له أن يبيع بأقل من ثمن المثل، إلا إذا كان عن رغبة في تأليف المبتاعين وترويج السلعة والقناعة بالقليل من الربح؛ ما دام يتصرف على النظر والاحتياط وتوخي ما فيه الحظ له ولصاحبه] اهـ.

فإذا كان ذلك مشروعًا في المضاربات بين الأفراد بناءً على النظر والاحتياط وتوخِّي مصلحة الطرفين -خاصة في جانب صاحب المال الذي يضمن رأس ماله مع ربح ولو قليل-: فمشروعيته بالنسبة للمؤسسات التي تقوم أنشطتها على الدراسات وتدقيق الإحصاءات والحسابات، وتوقع المخاطر المستقبلية والعمل على تجزئتها وتوزيعها؛ أولى مشروعية وآكد صحة؛ لكون ذلك يرفع النزاع ويحقق الاستقرار في دورة المال واستقرار الأوضاع الاقتصادية في ظل تفاوت أحوال الناس قضاءً واقتضاءً.

فصح تحديد الفائدة القانونية في هذه المعاملات التي تجريها البنوك، كما صح التقييد في المضاربة المقيدة بالنوع أو الصفة أو المكان أو الزمان؛ وذلك "لكونه مفيدًا لزيادة الثقة به في المعاملة لتفاوت الناس في المعاملات قضاءً واقتضاءً ومناقشةً في الحساب والتنزه عن الشبهات" كما قال العلامة البابرتي الحنفي في "العناية شرح الهداية" (8/ 457، ط. دار الفكر).

بالإضافة إلى جريان العرف في التعامل مع البنوك (اقتصاديًّا وقانونيًّا) على دلالة تفويضٍ من العميل للبنك على المضاربة بأمواله، والتي تتضمن استثمارها من غير تحديد لوجه هذا الاستثمار، وتتم العقود بينهما بناء على ذلك وفق الفائدة القانونية المحددة.

وقد نصَّ فقهاء الحنفية على اعتبار العرف التجاري في المضاربة المطلقة، وفي تعليلهم لصحة تقييد المضاربة بالنوع أو بالصفة أو بالزمان أو بالمكان.

جاء في "الهداية" (8/ 453، مع العناية للبابرتي): [قال: (وإذا صحت المضاربة مطلقة: جاز للمضارب أن يبيع ويشتري ويوكل ويسافر ويبضع ويودع)؛ لإطلاق العقد، والمقصود منه: الاسترباح، ولا يتحصل إلا بالتجارة، فينتظم العقد صنوف التجارة وما هو من صنيع التجار] اهـ.

قال العلامة البابرتي شارحًا: [قال (وإذا صحت المضاربة مطلقة إلخ) المراد بالمطلق ما لا يكون مقيدًا بزمان ولا مكان؛ نحو أن يقول: دفعت إليك هذا المال مضاربة ولم يزد على ذلك، فيجوز للمضارب أن يبيع نقدًا ونسيئةً ويشتري ما بدا له من سائر التجارات؛ لأن المقصود هو الاسترباح وهو لا يحصل إلا بالتجارة، فالعقد بإطلاقه ينتظم جميع صنوفها، ويصنع ما هو صنع التجار؛ لكونه مفضيا إلى المقصود فيوكل ويبضع ويودع؛ لأنها من صنيعهم ويسافر، لأن المسافرة أيضًا من صنيعهم، ولفظ المضاربة مشتق من الضرب في الأرض كما تقدم فكيف يمنع عن ذلك] اهـ.

وقال القاضي علاء الدين نجل ابن عابدين في "قرة عين الأخيار لتكملة رد المحتار" (8/ 427، ط. دار الفكر): [قوله: (أو شخص عينه المالك)؛ بأن قال: على أن يشتري به من فلان ويبيع منه، صح التقييد، وليس أن يشتري ويبيع من غيره كما في "الهندية" عن "الكافي"؛ لأنه لم يملك التصرف إلا بتفويضه فيتقيد بما فوض إليه، وهذا التقييد مفيد؛ لأن التجارات تختلف باختلاف الأمكنة والأمتعة والأوقات والأشخاص] اهـ.

كما أجاز فقهاء الحنفية أيضًا للمضارب أن يبيع بنسيئة من غير إذن صاحب المال؛ لأنه من "صنيع التجار، وهو أقرب إلى تحصيل الربح الذي هو مقصود رب المال، فإنه بالنسيئة أكثر منه بالنقد، ولهذا كان له أن يشتري دابة للركوب، وليس له أن يشتري سفينة للركوب، وله أن يستكريها اعتبارًا لعادة التجار كما في (الهداية)"؛ نقلًا عن "مجمع الأنهر" للعلامة شيخي زاده (2/ 326، ط. دار إحياء التراث العربي).

ولا ريب أن الله تعالى قد أمرنا بالرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة والحذق وأصحاب الدراية الخاصة في كلِّ علمٍ من العلوم أو مجال من المجالات؛ ما دام أنه قد اكتسبها بالدراسة أو بالتجربة وطول المعايشة؛ إذ هم أهل الذكر الذين تجب استشارتهم في هذا الشأن؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

وبحيث يصيرون مرجعًا في معرفة دقائقها وخصائصها؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: 59].

وهو أمر شائع في المعاملات؛ فقد استعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن رواحة رضي الله عنه في خرص نخل خيبر وما عليه من تمر، والخرص: هو تقدير يحتاج إلى خبرة واختصاص، وكذا استعان بالقائف والمقدِّر، وجرى على ذلك الفقهاء والقضاة والمفتون عبر العصور؛ فقد استعانوا في واقعاتهم ومسائلهم بأهل الخبرة ورجعوا إليهم وأناطوا بهم الأحكام، باعتبار أن استشارتهم تكون تكميلية في فهم صورة المسألة على وجهها الصحيح الكامل تارةً، وتارة أخرى تكون ركنًا في تصوير وتكييف المسألة يتوقف عليها الفصل والحسم، وقد تقرر أنَّ "المعلومات التجريبية يقينية عند من جربها"؛ كما قال حجة الإسلام الغزالي في "المستصفى" (ص: 36، ط. دار الكتب العلمية).

وقال أيضًا في (ص: 37): [ومَن لم يُمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من النتائج فيستفيدها من أهل المعرفة بها، وهذا كما أن الأعمى والأصم تعوزهما جملة من العلوم التي تستنتج من مقدمات محسوسة، حتى يقدر الأعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس أكبر من الأرض، فإن ذلك يُعْرَف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية، ولما كان السمع والبصر شبكة جملة من العلوم: قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع] اهـ.

وقال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (5/ 5، ط. دار الفكر، ومعه "رد المحتار") في باب خيار العيب: [(عند التجار) المراد بهم أرباب المعرفة بكل تجارة وصنعة، قاله المصنف] اهـ.

قال العلامة ابن عابدين محشِّيًا عليه: [(قوله: بكلِّ تجارة): الأولى من كلِّ تجارة. قال ح: يعني أنه يعتبر في كلِّ تجارةٍ أهلُها، وفي كلِّ صنعة أهلُها] اهـ.

وقال العلامة ابن فرحون في "تبصرة الحكام"(1/ 244، ط. الكليات الأزهرية): [ونجيز شهادة أهل المعرفة في اختلاف المتبايعين في صفة المبيع في اللين والخشونة، وما أشبه ذلك] اهـ.

الثالث: أنَّ في ذلك متابعة وطاعة لاختيار ولي الأمر بما رآه محققًا للمصلحة العامة والتنمية الاقتصادية الشاملة؛ من خلال ضبط حركة المال في الدولة وتنظيم السياسة النقدية المتعلقة به؛ خاصَّةً في عمليات البيع والشراء، يجعل تحديده للفائدة القانونية في المعاملات البنكية مستثنًى من الأصل الذي توارد عليه المنع؛ بما يتفق مع إجراءات "التسعير" التي أجازها الفقهاء لولاة الأمور؛ صيانةً للحقوق، ودفعًا للضرر العام، وضبطًا لحركة التجارة وأسعار السلع؛ ينظر: "تبيين الحقائق" للعلامة الزيلعي الحنفي (6/ 28)، و"التاج والإكليل" للعلامة المواق المالكي (6/ 254)، و"كشف المخدرات" للعلامة الخلوتي الحنبلي (1/ 372، ط. دار البشائر الإسلامية).

وجامع ذلك: التحديد والتقدير في كلٍّ؛ على أن تقدير نسبةٍ ثابتةٍ للربح على ثمن السلع في "التسعير"، هو الحاصل في الفائدة القانونية على العمليات التي تجريها البنوك في مختلف أوجه الاستثمار وتنمية مواردها.

وقريب من ذلك: ما صدر به أمرُ السلطان العثماني بجواز ما يُعرف بـ"بيع المعاملة"، وهو شراء الشيء الزهيد بثمنٍ غالٍ مقابل الاقتراض، وذلك بناءً على ما أفتى به شيخ الإسلام أبو السعود الحنفي؛ من أنه لا تزيد نسبة الربح في ذلك عن (5%) من مبلغ القرض، ثم صدر أمرٌ آخر برفع هذه النسبة إلى (15%).

قال العلامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (ص: 430): [شراء الشيء اليسير بثمن غالٍ لحاجة القرض يجوز ويكره، وأقره المصنف.

قلت: وفي معروضات المفتي أبي السعود: لو ادَّان زيدٌ العشرةَ باثني عشر أو بثلاثة عشر بطريق المعاملة في زماننا، بعد أن ورد الأمر السلطاني وفتوى شيخ الإسلام بألا تُعطَى العشرةُ بأَزْيَدَ مِن عَشَرةٍ ونصفٍ، ونبَّه على ذلك فلم يمتثل، ماذا يلزمه؟

فأجاب: يعزر ويحبس إلى أن تظهر توبته وصلاحه فيترك.

وفي هذه الصورة: هل يَرُد ما أخذه من الربح لصاحبه؟

فأجاب: إن حصَّله منه بالتراضي ورد الأمر بعدم الرجوع، لكن يظهر أن المناسب الأمر بالرجوع، وأقبح من ذلك: السلم، حتى إن بعض القرى قد خرجت بهذا الخصوص] اهـ.

قال العلامة المحقق ابن عابدين في "رد المحتار" (5/ 167- 168) مُحشِّيًا عليه: [(قوله: بطريق المعاملة): هو ما ذكره من شراء الشيء اليسير بثمنٍ غالٍ. (قوله: بأزيد من عشرة ونصف): وهناك فتوى أخرى بأزيد من أحد عشر ونصف وعليها العمل. سائحاني، ولعله لورود الأمر بها متأخِّرًا عن الأمر الأول. (قوله: يعزَّر): لأن طاعة أمر السلطان بمباح واجبة. (قوله: ما أخذه من الربح): أي زائدًا عما ورد به الأمر. (قوله: إن حصله منه بالتراضي إلخ): مفهومه أنه لو أخذه بلا رضاه أنه يثبت له الرجوع بالزائد عما ورد به الأمر، وهو غير ظاهر؛ لأنه إذا أقرضه مائة وباعه سلعة بثلاثين مثلًا بيعًا مستوفيًا شرائطه الشرعية لم يكن فيه إلا مخالفته الأمر السلطاني] اهـ.

كما أباحت الدولة العثمانية للقضاة أن يحكموا بالفائدة في التعامل المصرفي على ألَّا تبلغ هذه الفائدة مثل الدَّين الأصلي، أي: لا تبلغ ضعف القرض؛ حيث نصت الفتوى الصادرة في 10 شوال سنة 1328هـ (13/ 10/ 1910م) على: [مشايخ الإسلام قرروا أنه ما دامت الأموال المودعة بهذا المصرف، والتي تُستقرض أو ترد، والمبالغ التي تؤخذ أو تترك بأيِّ صورةٍ؛ ما دامت تعود بربح قليلٍ، وتسير حسب إحدى الطرق التي نص عليها فقهاؤنا؛ فهي والحالة هذه: محللة] اهـ؛ كما في "قاموس القوانين" (ص: 463، ط. محمود بك).

المعنى الرابع: أنَّ تحديد هذا العائد من الربح هو مما تقتضيه المصلحة للطرفين (العميل والبنك)؛ إذ فيه تعريف كلِّ ذي حقٍّ بحقه دون جهالةٍ مُفْضيةٍ للنِّزاعِ أو غرر؛ بما يجعله يبني خططه ويُنظِّم مستقبله الاقتصادي، وكذلك يحفظ المال من الضياع، ويمنع النزاع والخصام وسوء الظن فيما بين المتعاقدين.

وذلك لأنَّ العلاقة بين البنوك وعملائها تخضع لسلطان الإرادة بينهما، والذي يقضي بأن العبرة في تحديد حقوق طرفي العقد هو بما حواه من نصوصٍ بما مؤداه احترام كلٍّ منهما للشروط الواردة فيه؛ ما لم تكن مخالفة للنظام العام، والتي منها تلاقي كامل إرادة طرفي العقد على تعيين سعر الفائدة بما يحدده البنك المركزي؛ كما قررته محكمة النقض المصرية. [الطعون: رقم 10971 لسنة 80 ق، ورقم 11163، ورقم 12078، ورقم 12367 لسنة 82 ق، جلسة 6/5/2015م، ورقم 6127، ورقم 6295 لسنة 84 ق، جلسة 21/9/2016م].

بما يعني أنَّ تعيين سِعر الفائدة بالزيادة ليس راجعًا إلى محض إرادة البنك وحدَه، بل هو نتيجة لتلاقي كامل إرادة طرفي العقد على تعيين سعر الفائدة بما يحدده البنك المركزي؛ وفقا لما يَجِدُّ من عموم تغييرات الظروف الاقتصادية من حد أقصى لأسعار الفائدة الدائنة والمدينة؛ ولما في حدود سلطته الموضوعية في تحصيل فهم الواقع؛ كما في طعون النقض رقم (1851، 6931، 7008 لسنة 87 ق؛ جلسة 10/ 5/ 2018م).

كما أنَّ جواز تحديد الفوائد القانونية المُسبَّقة للعمليات البنكيَّة على قواعد شركة المضاربة، بناءً على الخبرات ودراسات الجدوى، هو ما اعتمدته دار الإفتاء المصرية في فتاويها منذ عدة عقود مختلفة:

فقد أفتى مفتي الديار المصرية الأسبق الإمام محمد عبده بجواز فوائد صندوق التوفير؛ فيما نقله عنه العلامة الأصولي الشيخ عبد الوهاب خلاف في مقالٍ له بعنوان "الربا" (منشور في مجلة لواء الإسلام، العدد 11 السنة الرابعة، 1951م (ص: 822))، اعتمادًا على ما نقله الشيخ محمد رشيد رضا في "مجلة المنار" (6/ 717)؛ حيث قال: [أشيع في هذه الأيام أن الحكومة استفتت مفتي الديار المصرية في ربا صندوق التوفير الذي أُنشئ في إدارة البريد، فأفتاها به، والحق أن الحكومة لم تستفتِ في ذلك؛ إذ لا معنى للاستفتاء في شيء صدر به الأمر العالي ونُفذ منذ سنين. ولكن بعض رجال الحكومة -ومنهم مدير البوسطة- قالوا للمفتي في حديث عادي: إن أكثر من ثلاثة آلاف مسلم من مودعي النقود في صندوق التوفير لم يأخذوا الفائدة المخصوصة بذلك بمقتضى الدكريتو الخديوي تدينًا، فهل توجد طريقة شرعية تبيح للمسلمين أخذ ربح أموالهم من صندوق التوفير؟

فقال: "إن الرِّبَا المنصوص لا يحلُّ بحال، ولما كانت مصلحة البريد تستغل الأموال التي تأخذها من الناس -لا أنها تقترضها للحاجة- فمن الممكن تطبيق استغلال هذه الأموال على قواعد شركة المضاربة".

ويقال: إن الحكومة كلفت المفتي ببيان هذا التطبيق لتُغير القانون، وتجعله مطابقًا لأحكام الشريعة رعاية لمصلحة رعيتها المسلمين، وإنه شرع في ذلك بمساعدة بعض العلماء] اهـ.

وهو ما استقرَّت عليه الفتوى في دار الإفتاء المصرية بعد ذلك منذ عام 1991م، وإلى الآن؛ حيث يقول فضيلة الأستاذ الدكتور/ محمد سيد طنطاوي في فتواه (رقم 427 لسنة 1991م- سجل 128) عن شهادات الاستثمار المحدد عائدها مقدمًا: [من المعاملات التي اختلف الفقهاء في شأن أرباحها؛ لأنها من المعاملات المستحدثة شهادات الاستثمار وما يشبهها وهي شهادات ذات عائد محدد مقدمًا، فمنهم من حرَّم أرباحها، ومنهم من أجاز أرباحها على أساس أنها معاملات حديثة لم تكن موجودة عند الفقهاء السابقين، وهي لا تخضع لأيِّ نوعٍ من العقود المسماة، وهي نافعة للأفراد والمجتمع وليس فيها استغلال أو غش أو خداع أو ظلم من طرفي التعامل للطرف الآخر أو هي من قبيل المضاربة الشرعية، ولا يمنع من كونها مضاربة تحديد الربح مقدما؛ لأن هذا التحديد لم يرد ما يمنعه من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن هذا التحديد قد يكون مطلوبًا لرفع النزاع بين الناس في معاملاتهم؛ ولكي يعرف كلُّ طرفٍ حقَّه، والمضاربات كما يقول بعض العلماء تكون حسب اتفاق الشركاء، ودار الإفتاء ترجح الرأي الثاني وترى أن الأخذ به أولى؛ لرعاية مصالح الناس ما دام صاحب المال قد قصد استثمار ماله بالطرق المشروعة، وأقام البنك كوكيل عنه في ذلك] اهـ.

وهو ما قرره أيضًا مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في قراره رقم (146) المنعقد بتاريخ 31/ 10/ 2002م.

وهو ما أفتى به المحققون من العلماء المعاصرين؛ كالإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت، والعلامة الشيخ علي الخفيف في إباحة أرباح أموال البريد:

يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في "الفتاوى" (ص: 351، ط. الشروق): [الذي نراه تطبيقًا للأحكام الشرعية والقواعد الفقهية السليمة أنَّه حلال لا حرمة فيه، ذلك أن المال المودع.. تقدم به صاحبه إلى مصلحة البريد ملتمسًا قبول المصلحة إياه وهو يعرف أنها تستغل الأموال المودعة لديها في مواد تجارية، ويندر فيها -إن لم يعدم- الكساد والخسران.

وقد قصد بهذا الإيداع أولًا: حفظ ماله من الضياع، وتعويد نفسه على التوفير والاقتصاد، وقصد ثانيًا: إمداد المصلحة بزيادة رأس مالها ليتسع نطاق معاملاتها، وتكثر أرباحها فينتفع العمال والموظفون، وتنتفع الحكومة بفاضل الأرباح.

ولا شكَّ أن هذين الأمرين غرضان شريفان كلاهما خير وبركة ويستحق صاحبهما التشجيع، فإذا ما عيَّنت المصلحة لهذا التشجيع قدرًا من أرباحها منسوبًا إلى المال المودع أيَّ نسبةٍ تريد، وتقدمت به إلى صاحب المال: كانت دون شك معاملة ذات نفعٍ تعاونيٍّ عامٍّ، يشمل خيرها صاحب المال والعمال والحكومة، وليس فيها مع هذا النفع العام أدنى شائبة لظلم أحد، أو استغلال لحاجة أحد، ولا يتوقف حل هذه المعاملة على أن تندمج في نوع من أنواع الشركات التي عرفها الفقهاء وتحدثوا عنها وعن أحكامها.

وفى الواقع: أن هذه المعاملة بكيفيتها وبظروفها كلها وبضمان أرباحها لم تكن معروفة لفقهائنا وقت أن بحثوا الشركة ونوعوها، واشترطوا فيها ما اشترطوا.

وليس من ريب في أن التقدم البشري أحدث في الاقتصاديات أنواعًا من العقود والاتفاقات المركزة على أسس صحيحة لم تكن معروفة من قبل؛ وما دام الميزان الشرعي في حِلِّ التعامل وحرمته قائمًا في كتاب الله ﴿واللهُ يعلم المُفْسِدَ مِنَ الْمُصلِح﴾، ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾، فما علينا إلَّا أن نحكمه، ونسير على مقتضاه.

ومن هنا يعلم أن الربح المذكور ليس فائدة لدينٍ حتى يكون رِبًا، ولا منفعة جرَّها قرضٌ حتى يكون حرامًا على فرض صحة النهي عنه، وإنَّما هو تشجيع على التوفير والتعاون الذي يستحبهما الشرع] اهـ.

ويقول الشيخ علي الخفيف في حديثٍ محرر بخصوص صندوق التوفير (جريدة الأهرام، عدد 32291، السنة 101، بتاريخ 9/ 5/ 1975م، ص: 11) ما ملخصه: [الرِّبَا أخذ مال في معاوضة مالية بدون مقابل، بينما هذه المعاوضة ليست قائمة في التعامل مع صندوق التوفير؛ لأن الصندوق لا يتملك المال المودع لديه، وإنما يكون هذا المال محلًّا لتعامل الصندوق به واستثماره.

وعلى ذلك: فإن الإيداع هنا هو عقد يراد به استثمار المال المودع باسم مودعه، بوكالة دلَّ عليها التصرف، وكذلك المضاربة -كما كانت معروفة- والتي أقرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ليست ملزمة دون غيرها من السبل الممكنة لاستثمار الأموال، ومنها ما هو حاصل بالنسبة للصندوق الذي تقوم طريقة الاستثمار لديه على أصول اقتصادية تجعل الخسارة بعيدة الاحتمال غالبـــًا.

من ذلك كله: فإن المعاملة مع صندوق التوفير ليست معاملة ربوية يحرمها الشرع].

وما ارتضته هذه الجماعة العلمية بشأن تحديد الفائدة بنسبة مقطوعٍ بها في الربح سوَّغ تجديد النظر وتقليب الاجتهاد الفقهي فيها وإعطاءها حكمًا جديدًا رُوعي فيه واقعها من الناحيتين: الاقتصادية والقانونية؛ مع تقريرهم عدم سحب نصوص الفقهاء في حظر تحديد الفائدة في المضاربة بالمفهوم الفقهي، وهو اجتهاد صادرٌ من أهله؛ وقد تقرر "أن المسألة إذا كانت مجمعًا عليها؛ لم يكن للاجتهاد فيها مجالٌ؛ فذكر أصل الخلاف فيها يفيد الرخصة في الاجتهاد، وذكر اسم المخالف ومذهبه يفيد الاغتناء بالنظر؛ فإن المسمَّى إذا كان إمامًا كبير الشأن يَحتاطُ الناظر في التأمل في مخالفته؛ ولا يتجاسر إلا بدليل واضح" كما قال حجة الإسلام الغزالي في "حقيقة القولين" (ص: 285).

ومن ثَمَّ فلا يتجاسر على هذا الاجتهاد بالتوهين أو الإنكار أو معاملة الرأي المخالف له معاملة القطعي المجمع عليه الذي لا يسوغ خلافه؛ خاصة أن البنوك ومعاملاتها من النوازل والمستجدات، وقد تقرر أنَّ هناك فارقًا بين الحكم الشرعي الثابت، وبين الفتوى التي تحكمها القواعد الشرعية الكلية ومصالح الخلق المرعية، والتي تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وتستند إلى القواعد الأصولية والتخريجات الفقهية التي تنظم التعامل مع الأقوال والمذاهب المختلفة، وهذا مما يحتاج فيه إلى الصنعة الإفتائية المقاصدية التي تحسن الانتقال من الحكم المجرد، إلى الفتوى المناسبة للواقع والمراعية للمقاصد، وإذا نظرنا إلى فقهاء المذاهب في مسائل الإفتاء والاستفتاء: نجد أنهم ربما تركوا مذاهبهم وأفتوا بما يرونه أكثر تحقيقًا لمقصود الشريعة، وأشمل مراعاة لمصالح الناس.

قال إمام الحُفَّاظ سفيان الثوري: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ" أخرجه أبو نُعيم الأصبهاني في "الحلية".

فالشأن في المسائل الخلافية أنه لا إنكار فيها، وأن الإنكار إنما يكون في مخالفة المتفق عليه؛ ولذلك نصَّ الفقهاء والأصوليون على أنَّ أفعال المُكلَّفين محمولة على ما صح من مذاهب المُجتهدين ممن يقول بالحلِّ أو بالصِّحة؛ فإن مرادَ الشرع الشريف تصحيح أفعال المكلَّفين وعباداتهم وعقودهم ومعاملاتهم مهما أمكن ذلك؛ حتى تقرر في قواعد الفقه أن "إعمال الكلام أولى من إهماله"، وألَّف العلَّامة الشيخ جمال الدين القاسمي كتابه (الاستئناس، لتصحيح أنكحة الناس)، ولذلك يكفي في تصحيح هذه المعاملات التعاقدية أن توافق أحد آراء الأئمة وأقوال المُجتهدين، وليس لأحدٍ أن يبطلها أو يلزم بإلغائها، ما دام تصحيحُها ممكنًا؛ فإن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي: لا يُنقض إذا أمكن حملُه على الصحة.

قال العلَّامة الشُّرُنْبُلَالِيُّ الحنفي -فيما نقله عنه العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (1/ 75) -: [وليس له إبطال عين ما فعله بتقليدِ إمامٍ آخر؛ لأنَّ إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض] اهـ.

وقال العلَّامة الشيخ علوي بن أحمد السقَّاف الشافعي في "سبعة كتب مفيدة" (ص:52، ط. الحلبي): [ومن فتاوى السيد سُليمان بن يحيى مُفتي زبيد، عن البدر بن عبد الرحمن الأهدل بأنَّ: جميع أفعال العوام في العبادات والبيوع وغيرها مما لا يخالف الإجماع؛ على الصحة والسداد، إذا وافقوا إمامًا مُعتبرًا على الصحيح] اهـ.

مع التنبيه على أن ما يتم إيرادُه من شبهاتٍ حول الفائدة القانونية -بسَوقِ مُستنَداتِ بعض النظريات التي تتبنَّاها بعض المدارس الاقتصادية التي لا ترى جدوى للفائدة وتشكك في ملاءمتها- ليس واردًا على الحكم الشرعي الإفتائي في المسألة، فضلًا عن أن يصير رأيًا يُتَبنَّى ليُدفع به الرأي الإفتائي المختار في المسألة؛ لأنها دائرةٌ وَفْقَ قاعدةِ الاجتهاد وتقليب النظر، ويجري عليها ما تقرر أن "الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد"، سواءٌ في ذلك من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الفقهية.

قال العلامة ابن نجيم في "الأشباه والنظائر" (ص: 89): [القاعدة الأولى: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ودليلها الإجماع. وقد حكم أبو بكر رضي الله عنه في مسائل، وخالفه عمر رضي الله عنه فيها، ولم ينقض حكمه وعلته بأنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول، وأنه يؤدي إلى ألَّا يستقر حكم، وفيه مشقة شديدة] اهـ.

ذلك "أنه لو نقض به: لنُقِض النقض أيضًا؛ لأنه ما مِن اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير ويتسلسل؛ فيؤدي إلى أنه لا تستقر الأحكام، ومن ثَمَّ اتفق العلماء على أنه لا ينقض حكم الحاكم في المسائل المجتهد فيها"؛ كما قال الإمام الزركشي في "المنثور في القواعد الفقهية" (1/ 93).

والنظر الإفتائي في هذه المسألة يختص ببيان الحكم على ما هو واقع ومتحقق في الخارج وجانب الوجود، فيبحث في مدى مشروعيتها أو كونها مندرجة تحت أحكام الرِّبَا أو كونها تضمنت سببًا من أسباب فساد المعاملات، من عدمه، لا على ما هو من عالم الأفكار من آراء ونظريات اقتصادية تبحث من حيث اختصاصها الاقتصادي عن مدى جدوى الفائدة، من عدمها، ورغم أن هناك محاولات تطبيقية لهذه النظريات؛ إلا أنها إجراءاتٌ قاصرةٌ على حالاتٍ خاصة؛ فلم يحصل لها اطِّرادٌ في واقع سائر التعاملات ولم تُـتَلَقَّ بالقبول في العُرْف المصرفيِّ المستقر على مدار تاريخه؛ محليًّا وعالميًّا.

فإن قيلَ: إنَّ مما يؤثر على قياس الربح وتحديد الفائدة، هو اختلاط أموال المستثمرين أو أصحاب الأموال؛ اختلاطًا يؤثِّر في تمييزها من بعضها.

قلنـــا: اتفق الفقهاء على جواز اختلاط أموال المضاربة بمال المضارب أو بأموال مضاربين آخرين، سواء وقع ذلك بمقتضى العقد؛ على ما ذهب إليه المالكية؛ كما في "مناهج التحصيل" للإمام أبي الحسن الرجراجي المالكي (8/ 36، ط. دار ابن حزم)، أو تفويضًا من صاحب المال للمضارب في إدارة أموال المضاربة؛ على ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة؛ كما في "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني الحنفي (6/ 95)، و"المغني" للإمام ابن قدامة الحنبلي (5/ 36)، أو إذنًا من صاحب المال في ذلك؛ على ما ذهب إليه الشافعية؛ كما في "المجموع" للإمام النووي الشافعي (14/ 382).

أنواع التمويلات البنكية والرد على وجود شبهة القرضية فيها

أمَّا بالنسبة للتمويل:

فإنَّه يقع على صورٍ متعددة أيضًا؛ حسب نشاط البنك ومنتجاته المالية، وهي عبارة عن تسهيلات ائتمانيَّة، وتمويلات استثمارية، ومشروعات إنتاجية، يقدمها البنك لعملائه، ولكن أهم ما يرد عليها من شبهات، هو شبهة "القرضيَّة"؛ حيث يقوم البنك بإعطاء الأموال للعملاء، ثم يستردُّ هذه الأموال مع أخذ زيادة عليها مقابل الأجل، وهو أهم ما يتمسك به القائلون بحرمة هذه المعاملات بزعم تحقق معاني الرِّبَا فيها.

وفي الرَّدِّ على ذلك نُفرِّق بين صورَتَين واردَتَين على عمليات (التمويل المالي من البنك):

الأولى: عبارة عن تسهيلات ائتمانية مباشرة أو غير مباشرة، يتم ربطها بصفةِ وغرضِ المعاملة التي يقع عليها التمويل؛ فإذا ارتبط الائتمان بالصفة الاستثمارية: كان مخصصًا لتمويل المشروعات الاستثمارية، وإذا ارتبط بالصفة العقارية: كان مخصَّصًا لتمويل العمليات العقارية، وهكذا.

وربط التمويل بالأغراض والمجالات؛ من تجارة وصناعة وزراعة وخدمات.. إلخ، هو أمرٌ وجوبي في مختلف عمليات التمويل والتسهيلات الائتمانية؛ فقد أوجب القانون على البنوك اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأكد من التزام عملائها بالأغراض والمجالات التي تم تحديدها والاتفاق عليها في الموافقة الائتمانية، ومتابعة هذا الالتزام، وحَظَرَ في الوقت ذاته على العملاء الحاصلين على هذه التمويلات والتسهيلات الائتمانية أن يستخدموها في غير الأغراض والمجالات التي حددتها الموافقة الائتمانية.

فقد جاء في المادة رقم (104) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي الصادر برقم (١٩٤) لسنة ٢٠٢٠م ما نصه: [على كل بنكٍ التأكدُ مِن أن التمويل والتسهيلات الائتمانية تستخدم في الأغراض والمجالات التي حددت في الموافقة الائتمانية، وعليه أن يتابع ذلك، ويحظر على العميل استخدام التمويل أو التسهيلات الائتمانية في غير الأغراض أو المجالات التي حددت في الموافقة الائتمانية] اهـ.

كما أوجب القانون العقوبة على المخالف لهذه الأحكام؛ فنصت المادة رقم (226) من نفس القانون على أنه: [يعاقَب بالحبس وبغرامةٍ لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز مليون جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين: كلُّ مَن خالف حكم الفقرة الثانية من المادة (١٠٤) من هذا القانون] اهـ.

وهذه معانٍ وإجراءات حاسمة تؤكد على أمرين:

الأول: أن يد العميل ليست مطلقة لا على العمل ولا على رأس المال الذي تموله من البنك؛ بل هي مقيدة بالغرض الذي حدده، وصدرت بناء عليه موافقة البنك الائتمانية، مع متابعة الجهة المختصة بالبنك (صاحب التمويل) وإشرافها على العمل وحركة المال طوال المدة، مما يجعل العلاقة بينهما تضامنية حقيقية بين رأس المال والعمل، وبما يضمن الرقابة على استخدامه.

والثاني: أن الإلزام ببيان الأغراض والمجالات في الموافقات الائتمانية يدحض صورةً مُرَوَّجةً يقصد أصحابها إشاعة: "أن المراد من هذه المعاملات متمحض في إعطاء المال أو الحصول على المال فقط، وما هي إلَّا قيود وإجراءات ورقية تخفي تمويلًا ترتبت عليه فوائد مستورة، فالبنك يمول عملاءه في صورة قروض بفوائد"!

وذلك لأن هذه الإجراءات الملزمة تتيح للبنك الاطلاع والمعاينة لخلفية تلك المعاملات، والوقوف على مشروعية أغراضها ومجالاتها، مع الركون -إلى حدٍّ كبيرٍ- إلى الثقة المتخذة فيها، والمناشدة بعدم الإخلال بها تحت طائلة قطع التعامل وتطبيق العقوبة المقررة، وهي قيود إجرائية منضبطة تكشف عن كونها عمليات تجارية كما قدمنا من تكييفها القانوني.

وربط التسهيلات الائتمانية بالأغراض والمجالات يكشف عن مراعاة البنك في علاقاته التعاقدية مع العميل لمبدأ "توسط السلعة أو الخدمة"؛ مما لا يجعل الزيادة على رأس المال متمحِّضةً في مقابل الأجل؛ بل هي معاوضة لغرض الربح.

قال القاضي أبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 321، ط. دار الكتب العلمية): [التجارة: هي مقابلة الأموال بعضها ببعض، وهو البيع؛ وأنواعه في متعلقاته بالمال؛ كالأعيان المملوكة، أو ما في معنى المال؛ كالمنافع، وهي ثلاثة أنواع: عين بعين، وهو بيع النقد؛ أو بدين مؤجل وهو السلم، أو حالٍّ وهو يكون في التمر أو على رسم الاستصناع، أو بيع عين بمنفعة وهو الإجارة.. وأحلَّ الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحة القصد والعمل، وحرَّم منه ما وقع على وجه الباطل] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح منهج الطلاب" (1/ 130، ط. دار الفكر) في تعريف التجارة شرعًا: [هي تقليب المال بمعاوضة لغرض الربح] اهـ.

تكييف التمويلات الاستثمارية ونحوها على أنها مرابحة والرد على بعض الشبهات الواردة في ذلك

كما أن هذا النمط من التعاملات يتلاقى مع قواعد المرابحة التي هي نوعٌ من البيوع الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابل الأجل، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، والأصلُ في الشروط اعتبارها والوفاء بها ما أمكن؛ كما أفاده الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (6/ 98)، والعلَّامة ابن مفلح في "الفروع" (8/ 268، ط. مؤسسة الرسالة)؛ ما دامت برضا المتعاقدين، وتحقق مصلحتهما، وفي نفس الأمر لا تخالف مقتضى العقد، وفي حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» أخرجه البيهقي والدارقطني في "السنن"، وغيرهما.

والأجل المضروب بين الطرفين وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب المرابحة يُزاد في الثمن لأجله إذا ذُكِر الأجل المعلوم في مقابل زيادة الثمن؛ قصدًا لحصول التراضي بين الطرفين على ذلك، ولعدم وجود موجب للمنع، ولحاجة الناس الماسّة إليه بائعينَ كانوا أو مشترين، ولا يُعَدّ ذلك مِن قبيل الرِّبَا؛ نظرًا لتوسط السلعة.

وتوسط السلعة: قاعدة شرعيَّة عظيمة، وميزان دقيق في فهم قولِ الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]؛ حيث اختلطت هذه الطريقة من البيوع على أُناسٍ في بداية التشريع؛ فقالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾؛ بناءً على فهمهم في أنَّ من اقترضَ مالًا من أحدٍ ليشتري به سلعةً، ثم يرد هذا المال بزيادةٍ للأجل المضروب بينهما، هو نظيرٌ لمن اقترض المال وجعل السلعة بينه وبين المُقرِض (صاحب المال)؛ فذهبوا إلى أن الصورتين متماثلتان، وقالوا:

لمَ حكمتم على الصورة الأولى بأنها رِبًا، وعلى الثانية أنها بيعٌ؟!

فأنكر الشرعُ الشريف عَلَيْهِم حكمهم العقلي في التسوية بَين البيع والرِّبَا، وبيَّن أنهما متباينان في الحقيقة؛ لأنَّ إحدى الزيادتين حصلت من وَجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة عليه مقابل الأجل.

قال الإمام أبو جعفر الطبري في "جامع البيان" (6/ 13، ط. مؤسسة الرسالة): [أحلَّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، وحرَّم الرِّبَا، يعني: الزيادةَ التي يُزَادُها رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه، يقول عزَّ وجلَّ: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل: سواء؛ وذلك أنِّي حرَّمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها؛ فقال الله عزَّ وجلَّ: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الرِّبَا؛ لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرِّبَا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي] اهـ.

فالفرق بين الصورة الواقعِ عليها الرِّبا المُحرَّم والصورة المحكوم عليها بالبيع الجائز: هو وجود السلعة بين الطرفين؛ فالأولى سببٌ لضياع المال ومحو البركة، والثانية سدٌّ للحاجة وتفريج للكُربة، مع التَّسمُّحِ فيما قد يقع من الغبن في تحمل الزيادة.

قال العلامة القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح" (4/ 1270، ط. دار الفكر): [كلُّ عقدٍ توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الرِّبَا: جائزٌ] اهـ.

وقال الإمام الرافعي في "فتح العزيز" (8/ 166، ط. دار الفكر): [بيع مال الرِّبَا بجنسه مع زيادة لا يجوز إلا بتوسط عقد آخر] اهـ.

وقال الإمام القسطلاني في "إرشاد الساري" (4/ 27، ط. الأميرية): [والفرق بين الرِّبَا والبيع بَيِّنٌ؛ فإن من أُعطِيَ درهمين بدرهم: ضيَّع درهمًا، ومن اشترى سلعة تساوي درهمًا بدرهمين: فلعلَّ مسيس الحاجة إليها، أو توقع رواجها: يجبر هذا الغبن] اهـ.

ومفهومُ السلعة هنا كما يشمل الأعيان؛ كالعقارات والسيَّارات ونحوها: يشمل أيضًا المنافع والخدمات بصورها المتنوعة التي يتعاقد عليها البنك مع عملائه، وقد ذكرنا أنَّ المنافع أموال، مثلها مثل الأعيان؛ في قابليتها للتملك والعقد عليها؛ بيعًا وإجارة ونحو ذلك.

فإن قيلَ: إنَّ البنك هنا لا يشتري السلعة مباشرة لحسابه؛ لأنه يشترط في المرابحة أن يكون الطرف الممول هو المشتري والبائع والمؤجر.. إلخ.

قلنـــا: إن هذا الطرح يجعل البنك ينزل إلى ميدان التجارة المباشرة، ومن ثمَّ يخرجه عن وظيفته الأصيلة؛ بل سيجعله منافسًا لعملائه الذين يقومون بهذه الأنشطة ويلجؤون إليه للخدمات المصرفية والتمويلية، وهو نمط من التعامل فيه مخاطر عالية ومجازفات حذَّر منها الخبراء؛ بل فيه جمود في الشكلية؛ لأن أصحابه لم يراعوا توسع مفهوم التجارة وما استُحدث فيها من صور التبادل والتقابض (حقيقية كانت أو حكمية)، مما سنته القوانين، وجرى العرف التجاري العام بقبوله واعتباره قبضًا تامًّا؛ بما يتعارض مع مقتضيات ما تمليه مرونة وملاءمة النظر الشرعي لطبيعة العمل المصرفي؛ حيث إنه بنك مدير مدبِّر لعمليات التمويل؛ وليس تاجرًا يقتني السلع والبضائع، ولا شركة تقدم الخدمات؛ بل لازم هذا القول والجمود عليه يجعل من البنك مخزنًا عالميًّا كبيرًا يقتني ويشتري السلع ويوفر الخدمات وما يخطر على بال الناس، وهو ما لا يستطاع ولا يتصور؛ فضلًا عن أن ذلك يُعَدُّ مسببًا ظاهرًا للخسارة ومؤديًا إلى مخاطر غير طبيعية لا يستطاع تحملها لا من قِبل المودعين ولا من قِبل البنك، لما تقتضيه هذه التحكمات في الشروط من كساد وتلف للسلع والبضائع، ومن زيادة كُلفة التخزين والنقل والحراسة وما يلزم في ذلك كله من ضوابط إدارية.. ونحو ذلك.

ولذلك جرى العرف المصرفي على أن يُخَلِّي البنك بين المشتري والغرض (محل الموافقة الائتمانية) بحيث يتمكن من التعامل معها إذا كانت خدمة أو قبضها إذا كانت سلعة متى أراد دون حائل ولا مانع، وفي بعض صور هذه المعاملات خاصة في التمويلات العقارية يقوم البنك بعمل عقود ثلاثية بينه وبين البائع والمشتري، وعلى كلِّ حالٍ فلا تشترط كتابة هذه الأشياء باسم البنك لتحقق الملك أو القبض، لأنه مجرد إجراء قانوني للتوثيق، والبنك ممنوع من ذلك بحكم القانون. فالاعتراض بأنَّ العقد لا يَحْصُل فيه للبنك قبضٌ حقيقيٌّ حسيٌّ لمحلِّ الموافقة الائتمانية قبل انتقاله للعميل، -وهو شرط من شروط المرابحة؛ لئلا يؤول العقد لبيع ما لم يملك- هو اعتراضٌ غير صحيحٍ وليس في محله؛ وذلك لأنَّ القبض الحقيقي أو الحسي وإن لم يكن حاصلًا في هذه الصورة؛ لكن ما يُعْرَف بالقبض الحكمي أو القبض الاعتباري حاصل فيها، وهو قائم مقام القبض الحقيقي؛ فالقبض يدور معناه في اللغة على الأخذ، والملك، والتناول، والحوز، والإمساك، ويستعار لتحصيل الشيء؛ كما في "الصحاح" للجوهري (3/ 1100، ط. دار العلم)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 214، ط. دار صادر).

ومعنى القبض في اصطلاح الفقهاء يدخل فيه التخلية والتخلي، وهو أن يُخلِّي البائع بين المبيع والمشتري برفع الحائل بينهما على وجهٍ يجعل المشتري يَتَمكَّن من التصرُّف فيه، وهو ما يُسَمَّى بالقبض الحكمي، وهو قائم مقام القبض الحقيقي أو الحسي.

قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (5/244): [(وأما) تفسير التسليم، والقبض؛ فالتسليم والقبض عندنا هو التخلية، والتخلي وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه فيجعل البائع مسلمًا للمبيع، والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع] اهـ.

وقال الإمام الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (3/ 145، ط. دار الفكر): [ولما بَيَّنَ صفة قبض المثلي بَيَّنَ صفة قبض غيره بقوله: (وقبض العقار)، وهو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر (بالتخلية) بينه وبين المشتري وتمكنه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت، وإن لم يخل البائع متاعه منها إن لم تكن دار سكنى.

وأما هي، فإن قبضها بالإخلاء ولا يكفي التخلية (و) قبض (غيره) أي غير العقار من عروض وأنعام ودواب (بالعرف) الجاري بين الناس] اهــ.

وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 466، ط. دار الكتب العلمية) عند كلامه على بيان مفهوم القبض: [والرجوع في حقيقته إلى العرف فيه؛ لعدم ما يضبطه شرعًا أو لغةً؛ كالإحياء، والحرز في السرقة] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 85): [وقبض كل شيءٍ بحسبه؛ فإن كان مكيلًا أو موزونًا، بيع كيلًا أو وزنًا، فقبضه بكيله ووزنه، وبهذا قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض.

وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى: أنَّ القبض في كل شيءٍ بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضًا له؛ كالعقار] اهـ.

وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (4/ 121): [(وعنه: إن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز): نصره القاضي وجماعة؛ لأنه خلا بينه وبين المبيع مع عدم المانع، فكان قبضا له كالعقار] اهـ.

وتعدُّد هذه المعاني يَدُلُّ على أنَّ مفهوم القبض يتحقق بأيِّ صورةٍ تُمكِّن كلًّا مِن طَرَفي المعاملة -بيعًا وشراءً وصرفًا.. إلخ- من التصرُّف في بَدَلِه، وتحقِّق له القدرة على التسلم، وهذا كلُّه مردُّه إلى العرف في كل المعاملات المستحدثة أو التي أطلقها الشرع الشريف ولم يقيدها بحدود.

قال الإمام العمراني الشافعي في "البيان" (5/ 74): [الشرع ورد بالقبض، وليس له حدٌّ في اللغة، ولا قدر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى عرف الناس وعادتهم] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 85): [القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، كالإحراز، والتفرق] اهـ.

حق البنك في اشتراط حظر بيع محل التمويل حتى سداد كامل الثمن والرد على المناقشات الواردة في ذلك

اشتراط البنك حَظْرَ بيع محل التمويل في بعض الصور؛كالشقق والأراضي والسيارات.. إلخ حتى سداد كامل الثمن؛ وهو عبارة عن تقييد حق البنك في التصرف فيها بالبيع، مع تسلم المشتري (العميل) إياها حقيقةً بمجرد إبرام الموافقة الائتمانية وحصول البيع بالفعل: فإن هذا الشرط يأتي على معنى رهن المبيع حتى استيفاء ثمنه في ذات عقد البيع؛ حيث إن الملك قد انتقل حقيقة إلى المشتري بعقد البيع، وتسليم السيارة إليه، وحيازتها، والتمكن من الانتفاع بها، لكنه رَهَنَ هذا الملك للبنك حتى استيفاء باقي الأقساط، فإذا وَفَّى جميع الثمن: انْفَكَّ الرهن، ورفع البنكُ يده عن حظر البيع؛ بحيث يملك المشتري (العميل) التصرف فيها بالبيع ونحوه كيفما يشاء، وإلا استوفى البنك منها باقي حقه، وهذا الشرط صحيح وجائز شرعًا؛ إذ هو لضمان حق البنك في استيفاء باقي الثمن ولا يخالف مقتضى عقد البيع.

وقد نصَّ فقهاء المالكية على أنه إذا كان البيع بثمن مؤجل إلى أجل معلوم؛ فإنه يجوز للبائع أن يشترط على المشتري ألَّا يتصرف في المبيع ببيع، أو هبة، أو نحوهما حتى يستوفي منه الثمن، وأنَّ ذلك يكون بمنزلة رهن المبيع ولا حرج فيه.

وكذلك نصَّ الحنابلة في الصحيح عندهم على جواز اشتراط المتبايعَين في العقد رهن المشتري المبيعَ لدى البائع حتى يستوفي كامل ثمنه؛ لأن هذا الشرط وإن اقترن بالبيع: يحقق مصلحة مُشتَرِطِهِ، ولا ينافي مقتضى العقد؛ فكان صحيحًا وملزمًا لطرفيه شرعًا؛ لعموم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآله وَسَلَّمَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» أخرجه الترمذي في "السنن".

ووجه الدلالة من الحديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أطلق جواز الصلح ثم استثنى، وهذا الإطلاق يدل على أن الأصل فيما يكون صلحًا: الجواز، كما أطلق جواز الاشتراط ثم استثنى؛ مما يدل على أن الأصل في الاشتراط بين المتعاقدين في أيِّ معاملة من المعاملات: الجواز.

ولحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابْتَاعَ منه بَعِيرًا. قال جابر رضي الله عنه: قُلْتُ -أي: لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-: عَلَى أَنَّ لِي ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ» رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

فأفاد الحديث: أنَّ اشتراط ما فيه مصلحة أحد المتعاقدين مما لا ينافي مقتضى العقد: صحيحٌ ولازمٌ للمشترَط عليه شرعًا، ويدخل في ذلك: اشتراط البائع رهن المبيع على استيفاء جميع ثمنه.

قال الإمام أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل" (6/ 414): [ومِن سماع عليٍّ: سئل مالك عمن باع عبدًا، أو وليدةً، أو غير ذلك من السلع، واشترط على المبتاع أنك لا تبيع، ولا تهب، ولا تعتق حتى تعطي الثمن؟ قال: لا بأس بذلك؛ لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن إلى أجلٍ مُسمًّى] اهـ.

وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (5/ 80، ط. دار الفكر): [ولا بأس بالبيع بثمن إلى أجل على ألَّا يتصرف ببيع ولا هبة ولا عتق حتى يعطي الثمن؛ لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مُسمًّى] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 285): [وَإِذَا تَبَايَعَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ رَهْنًا عَلَى ثَمَنِهِ: لَمْ يَصِحَّ؛ قَالَهُ ابْنُ حَامِد، وهو قول الشافعي؛ لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكًا له، وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه، أو شرط رهنه قبل قبضه، وروي عن أحمد أنه قال: إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب، ولا يكون رهنًا إلا أن يكون شرطًا عليه في نفس البيع.

وهذا يدل على صحة الشرط؛ لأنه يجوز بيعه، فجاز رهنه.. وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: صِحَّةُ رَهْنِهِ] اهـ.

وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (11/ 251، ط. هجر): [يصح شرط رهن المبيع على ثمنه على الصحيح من المذهب؛ نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، فيقول: بعتُك على أن ترهنه بثمنه.. وإن قال: إذا رهنتنيه على ثمنه وهو كذا؛ فقد بعتُك، فقال: اشتريتُ ورهنتُها عندك على الثمن: صح الشراء والرهن] اهـ.

وقال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 189، ط. دار الكتب العلمية) في تقرير صحة وجواز هذا الشرط: [يصح اشتراط رهن المبيع على ثمنه؛ فلو قال: بعتُك هذا على أن تَرْهَنَنِيهِ على ثَمَنِهِ، فقال: اشتريتُ ورهنتُك: صح الشراء والرهن] اهـ.

وهذا ما أخذ به القانون المدني المصري الصادر برقم (131) لسنة 1948م في المادة رقم 430 في الفقرة الأولى منها؛ حيث جاء فيها: [إذا كان البيع مؤجل الثمن؛ جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوفًا على استيفاء الثمن كلِّه ولو تم تسليم المبيع] اهـ.

وجاء في الفقرة الثالثة من المادة ذاتها: [وإذا وُفِّيَت الأقساط جميعًا؛ فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مُسْتَنَدًا إلى وقت البيع] اهـ.

فإن قيل: إن البنك إذا فعل ذلك فإنه يبيع ما ليس عنده.

قلنـــا: هذا الإيراد ليس له محلٌّ؛ لأن البنك إنَّما يقدم تمويلًا لمن يحتاجه ويطلبه وفق شروط وقواعد حاكمة، فلا يعرض على عملائه أن يبيع لهم شيئًا، بل لا يبيع أصلًا حتى يطلب منه أن يملك، فالأمر في عرفه المصرفي متوقف على تمويل ما يتلقاه البنك من العميل الذي يعتبر "آمرًا بالشراء" في معاملته التي يطلبها ويرغب في تمويلها.

فإن قيلَ: ما دام أن البنك لا يبيع ولا يشتري؛ فإن هذه العملية تنطوي على ربح ما لا يَضْمن.

قلنـــا: ما جرى عليه العرف المصرفي في مثل هذه المعاملات يتمثل في الأخذ بمبدأ "الوعد الملزم"؛ لأن انحصار دور البنك في عملية التمويل يثمر في انعدام المخاطرة أو تكاد، فأصل هذه الإشكالات آتٍ من الدوران حول صورة محددة في الذهن والجمود على واقعها المناسب لعصور سابقة قبل ظهور البنوك وتطور الشركات، بما جعل المخالف يجتر الأحكام الفقهية المنصوص عليها من الكتب دون مراعاة لتغير العرف، ولا تفرقة بين أحكام الشخصيتين الطبيعية والاعتبارية.

قال الإمام القرافي في "الفُروق" (1/ 177، ط. دار الكتب العلمية): [فمهما تجدد من العُرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تَجْمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأَجْرِهِ عليه وأَفْتِهِ به دون عُرفِ بلدك والمقرَّرِ في كتُبك، فهذا هو الحقُّ الواضح بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين] اهـ.

وقد أفاد الخبراء أن جريان البنك على هذه الشروط والقيود يزيد في هذه المعاملات المخاطرة إلى أقصى الحدود، ويجر البنك إلى الإشراف على إدارة هذه الأموال وهي تحت يد العميل، بل ومشاركته أحيانًا وما يترتب عليها من الدخول في عمليات الترويج والمصروفات، وإلى تدقيق الحسابات، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تحمل البنك نتائج الخسارة الناجمة عن سوء الإدارة؛ فضلًا عن حصر نشاط البنوك في تمويل قطاعات محددة، وهي التنموية فقط؛ كالصناعة مثلًا.

مبدأ الإلزام بالوعد وجريانه على بعض المعاملات البنكية

أي أنَّ هذه المعاملات هي عقود مركبة مِن وعدٍ ملزم بالشراء من العميل الآمر بالشراء، ووعد ملزم بالبيع بالتقسيط "مرابحة" أي: بزيادة ربحٍ معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول، أو الثمن والتكلفة من البنك؛ وذلك لأن الشخص حينما يتقدم إلى البنك طالبًا شراء سلعة أو تمويل خدمة بالمواصفات التي يعينها على أساس الوعد الملزم منه بالالتزام بشراء ما طلب فعلًا مرابحة بالنسبة المتفق عليها بحسب الموافقة الائتمانية، وهذه النِّسْبة مشمولة الثمن المدفوع في السلعة زائد الربح المتفق عليه من الابتداء، ونلفت النظر إلى أن العبرة في هذه العقود -من جهة واقعها- بنية أطراف العقد المنصرف إلى إبرام عقدٍ واحدٍ متضمنٍ الشروط والالتزامات التي يلتزم به كلُّ طرفٍ.

وقد اعتبر الفقهاء انتقال المبادرة من البائع للسلعة إلى الذي يرغب في شرائها مِن خلال طلبه من طرفٍ آخر أن يشتري سلعة معينة بالذات أو موصوفة بمواصفات محددة، وقد لا تكون معينة ولا موصوفة، وأن الشراء قد يكون بنقد حالٍّ، وقد يكون إلى أجلٍ، وفي الحالين يكون الشراء بربٍح محددٍ.

قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "الحيل" (ص: 40-133، رواية السرخسي، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [قلت: أرأيت رجلًا أمر رجلًا أن يشتري دارًا بألف درهم، وأخبره أنّه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ويقبضها ويجيء الآمر، ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم، فيقول المأمور: وهي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازمًا، ويكون استيجابًا من المأمور للمشتري..وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك] اهـ.

وقال الإمام الشافعي في "الأم" (3/ 39، ط. دار المعرفة): [إذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجلُ فالشراء جائزٌ، والذي قال أربحك فيها بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعًا، وإن شاء تركه، وهكذا إن قال اشتر لي متاعًا ووصَفه له أو متاعًا أيَّ متاع شئت وأنا أربحك فيه؛ فكلُّ هذا سواء يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال أبتاعه وأشتريه منك بنقد أو دين يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدَّداه جاز، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قِبل شيئين: أحدهما: أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع، والثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا] اهـ.

وقال الإمام ابن رشد الجد في "البيان والتحصيل" (8/ 221، ط. دار الغرب الإسلامي): [ومن العينة جائزة ومكروهة.. والمكروهة التي إذا وقعت مضت على ما وقعت هي: أن يقول الرجل للرجل عندك سلعة كذا تبيعها مني بدين؟ فيقول له: لا، فيقول له: اشترها وأنا أشتريها منك إلى أجلٍ وأربحك فيها] اهـ.

وقال العلامة ابن جزي في "القوانين الفقهية" (ص: 171): ["النوع الثاني" في بيع العينة: وهو أن يُظهرا فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز فيمنع للتهمة سدا للذرائع خلافا لهما وهي ثلاثة أقسام.. (الثاني) لو قال له اشتر لي سلعة وأنا أربحك فيها ولم يسم الثمن فهذا مكروه وليس بحرام] اهـ.

وما ورد في النصوص السابقة من اشتراط حيازة السلعة وتجديد العقد بعد ذلك ونحوه يندفع بما ذكرناه من ملاحظة الفرق بين الشخصية الاعتبارية والشخصية الطبيعية، ومن مراعاة طبيعة البنك مِن كونه لا يبيع ولا يشتري.

وفي ذلك يقول فضيلة الأستاذ الدكتور/ نصر فريد واصل -المفتي الأسبق- موجِّها كلام الإمام الشافعي السابق في (فتوى رقم 860 لسنة 2000م- سجل 156): [ومؤدى عبارة الإمام الشافعي رحمه الله أن هذه المعاملة جائزة شرعا، ولكنه لا يرى أن الوعد ملزم للطرفين، وأنه يلزم أن يجدد الطرفان عقد البيع عندما يمتلك السلعةَ البائعُ -المأمور بالشراء- ولو بنفس الالتزامات المتفق عليها حين الوعد بالشراء؛ لتجنب بيع ما لا يملك، وبيع الغرر، وما ذكره الشافعي رحمه الله في عدم الالتزام بالوعد اجتهاد يوافق العصر الذي كان يعيشه، أما في عصرنا الحاضر فإن الإلزام بالوعد هو الأولى وهو الموافق لمذهب الإمام مالك رضي الله عنه] اهـ.

ولا ريب أن الأخذ بمبدأ "الإلزام بالوعد" ليفيَ كلُّ طرفٍ من أطراف المعاملة (البنك، والعميل) في جهته وجانبه ما تم الاتفاق والتراضي عليه وفق القواعد والإجراءات المتبعة والضامنة للحقوق والتصرفات ديانة وقضاء، هو الأولى، وما عليه الفتوى؛ أخذًا من مذهب المالكية ومَن وافقهم؛ إذ به يتحقق استقرار المعاملات في عصرنا، وتتوفر الحماية والجدية في التعاقدات، ويختصر الوقت والمال والجهد الذي يضيع في الإجراءات والمماطلات؛ نظرًا لتغير أحوال الناس وضخامة الصفقات.

وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى وجوب الوفاء بالوعد مطلقًا إلا لعذرٍ؛ منهم: الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، والتابعي الجليل الحسن البصري، والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وقاضي الكوفة سعيد بن عمر الأشوع، وابن شبرمة، وإسحاق بن راهويه، وحجة الإسلام الغزالي، وهو قول عند المالكيَّة اختاره القاضي أبو بكر ابن العربي وابن الشاط، وهو وجه عند الحنابلة اختاره الشيخ ابن تيمية. ينظر: "الأذكار" للإمام النووي (ص: 317، ط. دار الفكر)، و"حاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي" للعلامة قاسم بن عبد الله بن الشاط (4/ 24، ط. عالم الكتب)، و"جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب (2/ 485، ط. مؤسسة الرسالة)، و"النجم الوهاج" للعلامة الدميري (5/ 571، ط. دار المنهاج)، و"فتح الباري" للحافظ ابن حجر (5/ 290، ط. دار المعرفة)، و"الإنصاف" للعلامة المرداوي (11/ 152، ط. دار إحياء التراث) و"المبدع" للعلامة ابن مفلح (8/ 138، ط. دار الكتب العلمية).

كما ذهب فقهاء الحنفيَّة والمالكية في قول والشافعية إلى أنّ الوعدَ الذي يقع عليه الاتفاق أو الذي يظهر فيه معنى الالتزام بأن يكون مُعَلَّقًا على شرط يكون من التصرفات اللازمة؛ قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (30/ 134، ط. دار المعرفة): [المواعيد لا يتعلق بها اللزوم إلا أن يكون شرطًا في عقد لازم، ولهذا لا يثبت الأجل في القرض والعارية؛ لأنه ليس بمشروط في عقد لازم، فكذلك لا يثبت في الثمن وغيره من الديون إلا أن يكون شرطًا في عقد لازم، وكذلك الصلح أو أصل البيع إذا ذكر فيه الأجل، ولَكِنَّا نقول: لو باعه بثمن مؤجل في الابتداء يثبت الأجل، فكذلك إذا أجَّله في الثمن في الانتهاء؛ لأن هذا التأجيل يلتحق بأصل العقد بمنزلة الزيادة في الثمن والمثمن بأصل العقد ويصير كالمذكور فيه] اهـ.

وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (6/ 299، ط. دار الغرب الإسلامي) جامعًا بين أقوال مذهب المالكيَّة الأربعة: [ووجه الجمع: أن يحمل اللزوم على ما إذا أدخله في سببٍ ملزمٍ بوعده كما قال سحنون وابن القاسم، أو وَعَدَهُ مقرونًا بذكر سببٍ كما قاله أصبغ؛ لتأكد العزم على الدفع حينئذٍ، ويُحْمَلُ عدم اللزوم على خلاف ذلك] اهـ.

وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (3/ 213، ط. دار الكتب العلمية): [(ولو قال: أؤدّي المال أو أحضر الشخص فهو وعدٌ) بالالتزام لا يلزم الوفاء به؛ لأن الصيغة لا تشعر بالالتزام. قال في "المطلب": إلا إنْ صَحِبَتْهُ قرينةُ الالتزام فيلزم] اهـ.

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/ 274، ط. المكتبة الإسلامية): [الوعد لا يلزم الوفاء به، نعم إنْ صَحِبَهُ قرينةُ التزامٍ صَحَّ كما بحثه في "المطلب"، وأيَّده السبكي بكلام الماوردي وغيره] اهـ.

ويستأنس بجريان الإلزام بالوعد على هذه المعاملات البنكية بتصحيح محققي الحنفية بيع الوفاء بإجرائه مجرى الوعد لا مجرى الشرط الذي يفسد العقد، خاصة أن الاتفاقات التي تبرمها البنوك قد تم إسباغها بالصفة التنفيذية بقوة القانون:

قال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار" (5/ 84، ط. دار الفكر): [لو باع مطلقًا عن هذه الآجال ثم أجَّل الثمنَ إليها صح؛ فإنه في حكم الشرط الفاسد كما أشرنا إليه هناك، ثم ذكر في "البحر": أنه لو أخرجه مخرج الوعد لم يفسد. وصورته كما في "الولوالجية" قال: اشترِ حتى أبني الحوائط اهـ... قلت: وفي "جامع الفصولين" أيضًا: لو ذَكَرَا البيعَ بلا شرطٍ ثم ذَكَرَا الشرطَ على وجه العقد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد؛ إذ المواعيد قد تكون لازمةً، فيُجعل لازمًا لحاجة الناس] اهـ.

الرد على من يقول بأن تصحيح المعاملات البنكية بإيجاد مخرج لها تلفيق غير مشروع

إن قيلَ: إن محاولة التصحيح لهذه العمليات وإيجاد مخرج لها فيها تلفيق بين المذاهب وهو غير مشروع.

قلنـــا: المسألتان قضيتان منفصلتان، وقد استقرت منهجية الإفتاء في دار الإفتاء المصرية على أن للمفتي التلفيق في الفتوى بحسب ما يراه محقِّقًا لمقاصد التشريع وملبِّيًا لحاجات المكلفين، ويجوز حينئذ للمستفتي العمل بالحكم الملفق.

ولا ريب أن القول بعدم مشروعية التلفيق يتنافى مع يسر الشريعة وشمولها، فقد يتجدد في المسألة أمرٌ مَا أو يترتب عليها أثرٌ جديد، لذا فإن اجتهادات الفقهاء الأقدمين وانحصارها في عددٍ معينٍ من الآراء لا تستلزم الجمود على أحد هذه الآراء بعينه، بل قد يكون الحلُّ الأمثل أمام المفتي ليواجه مستجدات المسألة هو أن يأخذ بأكثر مِن مذهب ويضم من شروطهم وضوابطهم ما يجعل فتواه متوافقة مع مقاصد الشريعة وطبيعتها.

وليس في هذا التلفيق إتيان بقول باطل عند كلِّ مذهب نظرا لنقص بعض الشروط الخاصة بكلّ ِمذهب، فغاية ما هناك هو أن كلَّ مجتهد من السابقين سيجد في المسألة الملفقة بعض شروطه ولا يجد بعضًا آخر، لكن هذا لا يستلزم حكمه بالبطلان مطلقًا، وإنما يستلزم البطلان في حقِّ من قلده وحده ولم يجمع مع تقليده تقليد مجتهد آخر، ولذلك فالإمام الشافعي مثلًا- يشترط وجود الشهود ليصح عقد النكاح خلافًا للإمام مالك، وفي الوقت ذاته لم يقل الإمام الشافعي بأن من قلد مالكًا في النكاح بلا شهود فنكاحه باطلٌ، وكذلك لم يقل الإمام مالك ببطلان نكاح من قلد الإمام الشافعي في عدم اشتراط الصداق.

وعلى هذا جرى المحققون من أهل المذاهب الأربعة:

قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 108-109، ط. دار المعرفة): [وفي "فتاوى الشلبي" وقف البناء بدون الأرض صحيحٌ والحكم به صحيحٌ لكن في وقفه على نفسه إشكال من جهة أن الوقف على النفس أجازه أبو يوسف ومنعه محمد، ووقف البناء بدون الأرض من قبيل وقف المنقول ولا يقول به أبو يوسف بل محمد فيكون الحكم به مركبًا من مذهبين، وهو لا يجوز، لكن الطرسوسي ذكر أن في "منية المفتي" ما يفيد جواز الحكم المركب من مذهبين، وعلى هذا يتخرج الحكم بوقف البناء على نفسه في مصر في أوقات كثيرة، على هذا النمط حكم بها القضاة السابقون ولعلهم بنوه على ما ذكرنا من جواز الحكم المركب من مذهبين أو على أن الأرض لما كانت متقررة للاحتكار نزلت منزلة ما لو وقف البناء مع الأرض من جهة أن الأرض بيد أرباب البناء يتصرفون فيها بما شاءوا من هدم وبناء وتغيير لا يتعرض أحد لهم فيها ولا يزعجهم عنها وإنما عليهم غلة تؤخذ منهم كما أفاده الخصاف. هذا ما تحرر لي من الجواب. والله تعالى أعلم بالصواب] اهـ.

وقال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية): [والذي سمعناه من شيخنا نقلًا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع وهو طريقة المصاروة، والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت] اهـ.

وقال العلامة زين الدين المليباري الشافعي في "فتح المعين" (ص: 615، ط. دار ابن حزم): [قال شيخنا المحقق ابن زياد رحمه الله تعالى في "فتاويه": إن الذي فهمناه من أمثلتهم أن التركيب القادح إنما يمتنع إذا كان في قضية واحدة، فمن أمثلتهم إذا توضأ ولمس تقليدًا لأبي حنيفة وافتصد تقليدًا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان ذلك، وكذلك إذا توضأ ومس بلا شهوة تقليدًا للإمام مالك ولم يدلك تقليدًا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته، بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين، فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد، كما إذا توضأ ومسح بعض رأسه ثم صلى إلى الجهة تقليدا لأبي حنيفة فالذي يظهر صحة صلاته؛ لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته، فإن الخلاف فيها بحاله، لا يقال اتفقا على بطلان صلاته؛ لأنا نقول هذا الاتفاق ينشأ من التركيب في قضيتين.

والذي فهمناه أنه غير قادح في التقليد ومثله ما إذا قلَّد الإمام أحمد في أن العورة السوءتان وكان ترك المضمضة والاستنشاق أو التسمية الذي يقول الإمام أحمد بوجوب ذلك، فالذي يظهر صحة صلاته إذا قلده في قدر العورة؛ لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة، ولا يقدح في ذلك اتفاقهما على بطلان صلاته فإنه تركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد كما يفهمه تمثيلهم. وقد رأيت في "فتاوى البلقيني" ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح. انتهى ملخصًا] اهـ.

وقال العلامة الرحيباني في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (1/ 391، ط. المكتب الإسلامي): [الذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقا، خصوصا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك. فلو توضأ شخص، ومسح جزءا من رأسه مقلدا للشافعي، فوضوءه صحيح بلا ريب.

فلو لمس ذكره بعد ذلك مقلدًا لأبي حنيفة، جاز ذلك؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذا هو فائدة التقليد.

وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج، والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر؛ لأنهما قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحا بتقليد الشافعي، ويستمر صحيحا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها، وأبو حنيفة ممن يقول بصحة وضوء هذا المقلد قطعًا، فقد قلد أبا حنيفة فيما هو حاكم بصحته] اهـ.

الصورة الثانية من عمليات التمويل (الشخصي) والرد على وجود شبهة القرضية فيها

الثانية: ألَّا تتوسَّط السلعة وما في حكمها من الخدمة أو المنفعة بين العميل والبنك (فيما يُعرف بالتمويل الشخصي أو الاستهلاكي): فيتقدم العميل إلى البنك للحصول على تمويل شخصي بصفة مباشرة، يستفيد منه في شؤون حياته ومتطلباته.  وهذه الصورة هي أكثر ما ترد عليها شُبهة الرِّبَا؛ لبقاء الاحتجاج بأنه مالٌ في مقابلة مال، مع اشتراط البنك الزيادة على أصل المال حالة السداد.

والرَّد على هذه الشُّبهة يكمن في ثلاثة أمور:

الأول -وهو أهمها-: مراعاة الفرق في جريان أحكام الرِّبا بين الشخصية الاعتبارية والشخصية الطبيعية؛ فالتنظير الفقهي في الذِّمة وما يتعلق بها فَرَق في هذا الأمر بين الشخصيتين (الاعتبارية والطبيعية)، وهي وإن لم يتناولها الفقهاء بهذا التنظير، إلَّا أنها من الأمور الاجتهادية التي يَرِدُ عليها التغيير والتطوير، حسب الأعراف والمصالح؛ فلم يرد في الكتاب والسُّنَّة ما يمنع من أن تُفْرَض الذمَّة لغير الشخص الطبيعي (الإنسان)، ويتوسع في تفسير مفهومها لتشمل ما يستجد في واقع الناس من أنواع المعاملات، وصور الشركات التي تمايز واقعها واتسع نشاطها من شركات مدنية وشركات تجارية وشركات أشخاص وشركات أموال وشركات عامة وشركات خاصة.. ونحو ذلك من صيغ الشركات والتي نظمها القانون؛ كشركات المساهمة، والتضامن، والتوصية بالأسهم، والتوصية البسيطة، وذات المسؤولية المحدودة.

ويؤكد ذلك نظر الفقهاء عبر القرون في العقود التي استجدت في واقعهم فاجتهـدوا فيها اجتهادًا جديدًا؛ كما اجتهد فقهاء سمرقند في عقدِ بيعِ الوفاءِ باعتباره عقدًا جديدًا، وكما اجتهد شيخ الإسلام أبو السعود الحنفي في عقدِ المعاملةِ وحَكَم بحِلِّها كما حكم الأوّلون بحِلِّ بيعِ الوفاء؛ وذلك لمراعاة مصالح الناس ولشدة الحاجة إليها، ولاستقامة أحوال السوق بها، ولترتُّب معاش الخلق عليها، ولمناسبتها لمقتضيات العصر مِن تطور المواصلات والاتصالات، والتقنيات الحديثة، وزيادة السكان، وضعف الروابط الاجتماعية، وتطور علوم المحاسبة، وإمساك الدفاتر، واستقلال الشخصية الاعتبارية عن الشخصية الطبيعية.. وغير ذلك كثير.

قال الملا خسرو في "درر الحكام شرح غرر الأحكام" (2/ 312، ط. دار إحياء الكتب العربية): [التجارات تختلف باختلاف الأمكنة والأمتعة والأوقات والأشخاص] اهـ.

قال الشيخ علي الخفيف في "الشركات في الفقه الإسلامي -بحوث مقارنة" (ص: 34-35، ط. دار الفكر العربي): [جملة القول في ذلك: أنَّ نظرية الذمة وما فُرِّع عليها من الأحكام ليست إلَّا تنظيمًا تشريعيًّا فقهيًّا، لا يراد منه إلَّا ضبط الأحكام واتساقها، وليس إلَّا أمرٌ اجتهاديٌّ يصح أن يتغير ويتطور لمقتضيات المعاملات وتطورها وتغير أحكامها وتنوعها إذا ما اقتضت المصلحة والعرف ذلك... فاختلاف الشرع الوضعي عن الفقه الإسلامي في إثبات الذِّمَّة للشركات مردُّهُ إلى مراعاة التعامل، والعرف، والاستجابة للتطور الاقتصادي، والمعاملات الشائعة بين الناس في الأزمنة الأخيرة، وليس خلافًا جوهريًّا يرجع إلى اختلاف في أُصول الفقهين الأساسيَّة] اهـ.

بالإضافة إلى نقطة جوهرية يلزم التنبيه إليها في هذا السياق، وهي أننا أمام مؤسسة حديثة مختلفة تمامًا؛ فالبنوك شيءٌ، والشركات الصناعية والتجارية والزراعية شيءٌ آخر، فالفكرة الأصيلة هي إنشاء "بنك" وإن كان في صورة شركة مساهمة؛ ولو كان الغرض من إنشاء البنك هو ممارسة أنشطة الشركات لكان بالإمكان إنشاء شركات تقوم بوظيفتها بشكل مباشر؛ بالإضافة إلى أن البنوك لا تعمل في ظل فراغ تشريعي؛ بل لها نظامها ولوائحها، والجهاز المصرفي له قانونه الخاص، وهناك قانون رأس المال، والقانون المدني، والقانون التجاري، وقانون الشركات... إلخ من القوانين السارية.

كما أنَّ الشخصية الاعتبارية المتمثلة في البنوك والمؤسسات لها ذمة مالية تكون أصلًا لتحمل الالتزامات واكتساب الحقوق التي تمكنها من القيام بها في جبر الأضرار التي تصيب العملاء، وهذا غير حاصل في الشخصية الفردية أو الكيانات الوهمية.

الثاني: من المعلوم أنَّ البنكَ تابعٌ للدولة تبعيَّة إداريَّة كاملة، فقد انتقلت إلى الدولة ملكية جميع البنوك بمقتضى القانون رقم ١١٧ لسنة ١٩٦١م، الصادر في ٢ يوليو سنة ١٩٦١م، القاضي بتأمیم جميع البنوك وشركات التأمين، على أن تظل محتفظة بشكلها القانوني، وهي الآن تخضع لأحكام قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، الذي هو جهاز رقابيٌّ مستقلٌّ، له شخصيَّة اعتباريَّة عامَّة، ويتمتَّع بالاستقلال الفني والمالي والإداري؛ كما نصَّت عليه المادة (2) من الفصل الأوَّل، الباب الثاني، من قانون البنك المركزي السابق.

كما نصَّ القانون نفسه على أنَّ صافي أرباح البنك المركزي في النهاية تؤول إلى الخزانة العامة للدولة، وأنَّ البنك المركزي يعمل مستشارًا للحكومة ووكيلًا ماليًّا عنها، يقوم بمزاولة العمليات المصرفية العائدة للحكومة، فيقوم بأعمال مصرف الحكومة ويتقاضى مقابلًا عن الخدمات التي يؤديها، وأنَّ للحكومة أن تتعهد إلى البنك المركزي بأن ينوب عنها في إصدار الأوراق والأدوات المالية بجميع أنواعها وإدارتها وتحديد آجالها؛ كما جاء في المواد (43، و44، و45، و46).

وهذه العلاقة قائمة على لَمحِ الأصل في التبعيَّة الملكية والماليَّة بين التابع ومتبوعه، وقد تقرَّر في القواعد الفقهية "أنَّ الشيء قد يجوز تبعًا ويمتنع استقلالًا"؛ كما قال العلامة الجمل في حاشيته "فتوحات الوهاب" (1/ 51).

وبناءً على التفرقة بين الشخصيتين (الاعتبارية والطبيعية):

نصَّ الفقهاء على صورٍ يجوز فيها التعامل بين (التابع والمتبوع) بالتفاضل والزيادة في الأموال -بما يحكم عليها في حقِّ غيرهما بأنها من الرِّبَا المُحرَّم-، بناءً على ما تقرَّر في القواعد الأصولية أن التابعَ تابعٌ؛ كما نصَّ عليه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "التبصرة في أصول الفقه" (ص: 275، ط. دار الفكر)، والعلامة أبو الوفاء ابن عَقِيل الحنبلي في "الواضح في أصول الفقه" (4/ 282، ط. مؤسسة الرسالة)، والعلامة ابن مفلح الحنبلي في "أصول الفقه" (1/ 216، ط. مكتبة العبيكان)، بل نصوا على أنه لا يتصور بقاء التابع بدون متبوعِه؛ كما قال الإمام الآمدي في "الإحكام في أصول الأحكام" (3/ 165، ط. المكتب الإسلامي)، والإمام الزركشي في "تشنيف المسامع" (2/ 876، ط. قرطبة).

الصورة الأولى: نصَّ الفقهاء على أنه لا رِبا بين العبدِ وسيِّدِهِ، فجوَّزوا للسيد أن يبيعَ عبده الدرهمَ بدرهمين، أو نحو ذلك مما هو رِبًا في حقِّ غيرهما؛ بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك؛ كالإمام أبي الحسن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 244، ط. دار الفاروق)، والإمام محمد بن الحسن الجوهري في "نوادر الفقهاء" (ص: 225، ط. دار القلم).

وذلك بناء على أنَّ السيدَ هنا هو صاحب المال حقيقةً؛ فهو عاقدٌ مع نفسه آخذٌ من ماله، فليس ثمَّة معاوضات، والرِّبَا إنَّما يتأتى في المعاوضات.

قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (13/ 126): [ولا رِبا بين المملوك وسيِّده؛ فما فيه شبهة الرِّبَا: لا يعتبر بين المملوك والسيد] اهـ.

وقال الإمام الروياني في "بحر المذهب" (4/ 558، ط. دار الكتب العلمية): [وإن كان المال دَينًا أو غائبًا أو مجهولًا أو مفضيًا إلى الرِّبَا، حتى لو كان مال العبد ألفي درهم فاشتراه بألف درهم؛ صحَّ، وللمشتري أن ينتزع له ألفين من يده ويدفع أحد الألفين إليه في ثمنه ويبقى له العبد والألف بغير شيء دفعه من ماله] اهـ.

وقال الإمام ابنُ عقيل الحنبلي في "مفرداته" -فيما نقله عنه العلامة شمس الدين ابن مفلح في "الفروع وتصحيح الفروع" (4/ 134)-: [قال أصحابنا: ولا رِبا بين العبد وربِّه؛ كعبدٍ وسيده؛ لأنه مالكهما حقيقة، والرِّبَا في المعاوضات، ولا حقيقة معاوضة، فلا رِبا] اهـ.

والمملوكيَّة والسياديَّة هنا: عبارة عن هيئات وصفيَّة لا شخصيَّة، وهي حالة اعتباريَّة أوقفت حكم الرِّبا في المعاملات المالية، دلَّ على ذلك دخولُ وصفِ (المُدبَّر وأُم الولد) تحت هذا الحكم عند جماعة من الفقهاء؛ بجامع المملوكيَّة في كلٍّ.

قال العلامة السُّغدي الحنفي في "الفتاوى" (1/ 494، ط. دار الفرقان): [ولَا رِبا بَين الرجل وَبَين أربعة، أحدها: مَعَ عَبده، وَالثَّانِي: مَعَ مُدبَّرهِ، وَالثَّالِث: مع أم وَلَدِه] اهـ.

وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (12/ 136، ط. هجر): [لا رِبا بين عَبْدٍ أو مُدَبَّر أو أمِّ وَلَدٍ ونحوهم، وبينَ سيِّدِهم، هذا المذهبُ، وقطَع به الأصحابُ، ونصَّ عليه] اهـ.

فإذا ما اعتبرنا بهذا الوصف الاعتباري أنَّ المواطنين متبوعون للدولة التي لها وصف السلطة والسيادة: فإن التعامل المالي بينهما (كتابعٍ ومتبوعٍ) داخلٌ في أنَّها تتصرفُ فيما جعلته حقًّا لها بحكم القانون، ومن ثمَّ يجوز التعامل المالي بينهما زيادةً ومفاضلة، ولا يدخل في حكم الرِّبَا.

الصورة الثانية: نصَّ شيخ الشافعية في زمنه؛ القاضي الحسن بن أبي هريرة (ت: 345هـ)، على أنه لا رِبا بين الساعي (وهو من يقوم بجمع الصدقات، والذي هو مُعيَّنٌ من قِبَلِ الدولة متمثِّلةً في بيت المال، وهو هيئة اعتبارية)، وبين ربِّ المال، في قسمة الثمار على رؤوس النخل بالخرص، قبل أن يقبضه مشاعًا.

فقال -فيما نقله الإمام الروياني الشافعي في "بحر المذهب" (3/ 112)-: [لو رأى الساعي الحظَّ في أخذ حصتهم من الثمرة: فإنهما يقطعانها ويقتسمانها كيلًا أو وزنًا، واستظهر رب المال على نفسه؛ ليعلم أن الذي أخذه الساعي لا ينقص عن حقِّ المساكين، فإن قيل: كيف أخذتم القسمة كيلًا أو وزنًا ولم تجيزوها خرصًا على رؤوس النخل؛ لأنكم جعلتم القسمة على هذه الطريقة، وبيع الثمرة بعضها ببعض لا يجوز كيلًا ولا وزنًا، كما لا يجوز على رؤوس النخل خرصًا؟

قيل: إنما لا يجوز خرصًا على رؤوس النخل؛ لأن الساعي لا يتيقن أن أخذه تمام حقِّ أهل السهمان، لا من أجل الرِّبَا؛ لأنه لا رِبا بين الساعي وبين ربِّ المال في مقاسمة العُشْر] اهـ.

أي أنَّ هذه العلاقة التبعيَّة بين السَّاعي وبين صاحب المال، أوقفت حكم الرِّبا في هذه المعاملة، وهي من الرِّبَا المُحَرَّم عند التعامل من غير هذه العلاقة.

الصورة الثالثة: أنَّ فقهاء الحنفية جوَّزوا الاقتراض بفائدة لإعمار الأوقاف والمساجد، إذا نفدت غلَّتها (ريعها)، وهي هيئات اعتباريَّة أيضًا، واشترطوا في ذلك إذنَ القاضي، واستنفادَ الوسائل في الصرف من ريعها ولو بتأجيرها، ولا يضرُّ في ذلك أنهم ألزموا القائم على هذه الهيئات بردِّ الزيادة (الفائدة) للمُقرِض (المتمَوِّل):

قال العلامة غياث الدين البغدادي الحنفي [ت: 1030هـ] في "مجمع الضمانات" (ص: 326، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لو رأى القيِّمُ أنه إن لم يهدم المسجد العام يكون ضرره في القابل أعظم، فله هدمه، ولو لم يكن فيه غلة للعمارة في الحال، فاستقرض العشرة بثلاثة عشر في سنة، واشترى من المقرض شيئًا يسيرًا بثلاثة دنانير، يرجع في غلته بعشرة، وعليه الزيادة] اهـ.

وقال أيضًا في (ص: 332): [الاستدانة على الوقف لا تجوز، إلا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف؛ كتعميرٍ، وشراءِ بذرٍ؛ فتجوز بشرطين: الأول: إذن القاضي.. الثاني: ألَّا يتيسر إجارة العين، والصرف من أجرتها.. والاستدانة: القرض أو الشراء بالنسيئة] اهـ.

مما يُكرِّس لقضية التبعية بين الدولة (متمثِّلة في البنوك)، وبين رعاياها؛ من عملاء هذه البنوك، وذلك في عصر دولة المؤسسات، والتي تضبط أعمالها بالقانون، فإذا كانت الدولة مهيمنة بقانونها على مثل هذه الأمور الماليَّة، فلا مانع حينئذٍ من ضبط معاملاتها تحت وطأة هذه العلاقة.

والثالث: أنَّ الحكم بالُحرمة إنَّما يتعلَّقُ بالنقد المتَّخذِ أو المُغطَّى بالذَّهب أو الفضَّة اللذين هما أصل التعامل في التجارات والمبادلات، وهما محل تنزُّل الأحكام الشرعيَّة عليهما أصالةً؛ وهو ما جعلَ العلماء في بداية ظهور المؤسسات البنكيَّة يُفتون بالحُرمة ويطلقون على هذه المعاملة (القرضَ الرِّبويَّ)؛ حيث كانت الأوراق النقدية (البنكنوت) مغطاة بغطاءٍ لدى البنك، ومدعومة بالذهب بنِسبة 100%، (معيار الذهب الدولي)، وكان البنك ملتزمًا التزامًا تامًّا ألَّا يُصدِر هذه الأوراق إلا بقدر ما عندَه مِن ذهب إلى أن جاءت ثورة "تعويم العملة" في منتصف القرن الماضي، والتي أنهت دعْم هذه الأوراق بالغطاء الذهبي، وجعلت بديلًا من ذلك: (الغطاء القانوني).

وأصبحت الأوراق بذلك نقودًا نهائية؛ لا تتحوَّل إلى سبائك ذهبية؛ بل هي قوَّة شِرائية اصطبغت بالصِّبغة الشرعية؛ وأصبحت قادرة على تسويةِ الدُّيون، وتسييل العمل بها، والإبراء منها؛ في التجارات ونحوها، وأصبحَ تحديدُ كميات الصادر منها إنَّما يكون طِبقًا للسياسة النقدية المتبعة والمتفقة مع حجم المعاملات والمبادلات؛ مما أدَّى إلى تغيُّر التنظيرات البحثيَّة، والاجتهادات الفقهيَّة، والمقررات الإفتائيَّة، في الأحكام الشرعيَّة المتعلقة بهذه الأوراق في التعامل المالي.

وفي الجهاز المصرفي المصري: وضع البنك المركزي قيمة النقد الصادر عن البنوك، عبارة عن رصيدٍ مكوَّنٍ من الذهب، والنقد الأجنبي، والأوراق المالية الأجنبية، والسندات والأذون الحكومية (المصرية والأجنبية)، وتودع كلها كأصولٍ مكوِّنةٍ لغطاء الإصدار النقدي؛ كما في المادة (61)، و(62) من قانون البنك المركزي.

أي أنه لم يعد هناك تعاملٌ نقديٌّ بالذهب أو الفضة تعاملًا خالصًا كما كان التعامل في السابق، ومن ثمَّ فإنَّ القطع في الحكم بربوية التعامل المالي بين طرفين، بالزيادة أو التفاضل في قيمةٍ شرائيَّةٍ واحدةٍ، والذي نهى عنهُ الشرعُ نهيًا جازمًا: قد ذَهَبَ بذهابِ أصله، وسقطَ بسقوطِ مَحلِّهِ، وهو سقوط التعامل بالنقدين (الذهب والفضة) المنصوص عليهما؛ حيث إنَّ الرِّبَا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض؛ كما قال الإمام الجصاص في "أحكام القرآن" (1/ 564، ط. دار الكتب العلمية).

وقد صرَّح الفقهاءُ والأصوليون بأنَّ الحكم الشرعي في واقعة من الوقائع لا بُدَّ له من محلٍّ، وعبَّروا عن ذلك بتعبيراتٍ مختلفة؛ منها: "فوات المحل" كما في "المبسوط" للإمام السرخسي الحنفي (2/ 100)، و"عدم المحل" كما في "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني الحنفي (3/ 137)، و"انتفاء المحل" كما في "فتح القدير" للعلامة ابن الهُمَام الحنفي (3/ 208، ط. دار الفكر)، و"انتفاء الموضوع" كما في "العناية" للإمام البابرتي الحنفي (6/ 424، ط. دار الفكر)، و"زوال المحل" كما في "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين الحنفي (3/ 354)، و"ذهاب المحل" كما في "بداية المجتهد" للإمام ابن رشد المالكي (4/ 14)، و"سقوط المحل" كما في "مواهب الجليل" للعلامة الحطَّاب المالكي (1/ 192، ط. دار الفكر)، وحاشية ابن قاسم العَبَّادي الشافعي على تحفة المحتاج (2/103، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تلف المحل"؛ كما في "الشرح الكبير" للعلامة أبي الفرج شمس الدين ابن قدامة الحنبلي (12/ 420، ط. دار الكتاب العربي).

آراء العلماء في تعيين الأصناف الربوية وتحديد علة الربا

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا» متفقٌ عليه، واللفظ لمسلم.

وفي رواية لمسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».

فقد ذهبَ جماعة من الفقهاء قديمًا وحديثًا إلى أنَّ الرِّبَا مقصورٌ على هذه الأصناف الستة المنصوص عليها، -والتي منها الذهب والفضة -وأنَّ الحرمة فيها تعبدية لا تتعدَّى لغيرها؛ وهو قول جماعة من فقهاء التابعين؛ كطاوس، وقتادة، ومسروق، والشعبي، وعثمان البتي، وهو مذهب الظاهرية، واختاره من الحنابلة ابن عقيل، ومن المتأخرين؛ الصنعاني والشوكاني، والشيخان: البرماوي والْعَشْمَاوِيُّ الشافعيان؛ كما قال الملا علي القاري في "عمدة القاري" (11/ 252، ط. دار إحياء التراث العربي)، والإمام النووي في "المجموع" (9/ 392-393)، والعلامة البجيرمي الشافعي في حاشيته "تحفة الحبيب" (3/ 21، ط. دار الفكر)، والإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 26) والإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى" (7/ 402-403، ط. دار الفكر).

بينما ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ حُرمة الرِّبَا فيها مُعلَّلة، واتفقوا على أنَّ علة الذهب والفضة فيهما واحدة، ثم اختلفوا في تحديدها:

فذهب الحنفية، والحنابلة في رواية، وهو قول إبراهيم النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق بن راهويه، إلى أنَّ العلة هي الوزن مع الجنس؛ فيجري الربا في كلِّ موزونٍ من جنس واحدٍ؛ كما في بدائع الصنائع للإمام الكاساني (5/ 183)، و"المغني" للإمام ابن قدامة (4/ 26).

وذهب الجمهور؛ من المالكية، والشافعية، والحنابلة في الأشهر، إلى أنَّ العلة في (النقدين) الذهب والفضة، كونهما جنسًا للأثمان وقِيَمًا للمتلفات، وهي علة قاصرة عليهما، لا يتعدَّى حكم الرِّبَا فيهما إلى غيرهما من الموزونات؛ كالحديد والنحاس ونحوهما؛ وذلك لعدم المشاركة في المفهوم والمعنى؛ "فيجوز أن يُباع نقدًا ونسيئةً، وزائدًا وناقصًا"؛ كما قال الإمام المظهري في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 411، ط. دار النوادر)، ونقل بعض فقهاء المالكية الإجماع على ذلك:  قال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الإشراف" (2/ 531، ط. دار ابن حزم): [فصلٌ: وعلة الربا في الذهب والفضة كونهما أثمانًا وقيمًا للمتلفات، فهي مقصورة عليهما غير متعدية] اهـ.

وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (6/ 447، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمعوا على أنها قيم للمتلفات والمستهلكات دون غيرها، فدلَّ على خصوصها وخروجها على سائر الموزونات] اهـ.

وقال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (3/ 149، ط. دار الحديث): [أما الجمهور من فقهاء الأمصار، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام. واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف (أعني: في مفهوم علة التفاضل ومنع النساء فيها).

فالذي استقر عليه حذاق المالكية أنَّ.. العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضًا مع كونهما رؤوسًا للأثمان وقِيَمًا للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة، لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة] اهـ.

وقال الإمام القرافي في "الفروق" (3/ 255، ط. عالم الكتب): [وهذه المذاهب عند المالكية.. أما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة: فهو الصنف الواحد أيضًا مع كونهما رؤوسًا للأثمان وقِيَمًا للمتلفات؛ كما في "بداية المجتهد" لحفيد ابن رشد قال: "وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة؛ لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة".

قال: "ووافق الشافعي مالكًا في علة منع التفاضل في الذهب والفضة" أعني: أن كونهما رؤوسا للأثمان وقِيمًا للمتلفات إذا اتفق الصنف] اهـ.

وقال الإمام العمراني الشافعي في "البيان" (5/ 170، ط. دار المنهاج): [وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب: لا يحرم فيه الرِّبَا] اهـ.

وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (5/ 100): [قد تقرر بما تمهد من علتي الرِّبَا أنَّ ما عدا المأكول والمشروب والذهب والفضة لا رِبا فيه؛ كالصفر والنحاس، والثياب، والحيوان، فلا بأس أن يباع الجنس منه بغيره أو بمثله؛ عاجلًا وآجلًا، ومتفاضلًا، فيجوز أن يبيع ثوبًا بثوبين، وعبدًا بعبدين، وبعيرًا ببعيرَين؛ نقدًا وَنَسَاءً] اهـ.

وقال الإمام النووي في "المجموع" (9/ 393): [قال سائر العلماء: لا يتوقف تحريم الربا عليها؛ بل يتعدى إلى ما في معناها، وهو ما وجدتْ فيه العلة التي هي سبب تحريم الربا في السُّنَّة واختلفوا فيها (فأما) الذهب والفضة: فالعلة عند الشافعي فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما لا تتعداهما إذ لا توجد في غيرهما] اهـ.

وقال أيضًا (9/ 395): [علة الرِّبَا في الذهب والفضة عندنا: كونهما جنس الأثمان غالبًا] اهـ.

قال العلامة البجيرمي في "حاشيته على الإقناع للخطيب الشربيني" (3/ 21) مُعلِّقًا عليه: [قَوْلُهُ: (عِلَّةُ الرِّبَا إلخ).. وعبارة قليوبي: لو قالَ "وَحِكْمَةُ الرِّبَا" لكان أقوَم؛ إذ لَا رِبا فِي غَيرها وإِن غلبت الثَّمَنِيَّة، فَتَأَمَّل] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 5): [واتفق المعلِّلون على أنَّ علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما: فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات.. الرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية] اهـ.

وقياسًا على علة جوهرية الثمنية في النَّقْدين، نصَّ فقهاء الشافعية على أنَّه لا رِبَا في الفلوس ولو راجت رواجَ النَّقْدَيْن (الذهب والفضة): وهو وجهٌ عند الحنفية صحَّحه بعضُهم (ونصَّ أبو حنيفة وأبو يوسف على أنه لا بأس ببيع فلسٍ بفلسين، والفلوس بالدنانير والدراهم)، وهو قولٌ أيضًا عند المالكية (نصَّ بعض المتأخرين على أنه هو المعتمد)، وقول عند الحنابلة (صحَّحه بعضهم، ونصُّوا على أنه رواية عن الإمام أحمد).

وقد اختار هذا القول جماعةٌ من العلماء قديمًا وحديثًا: فعند الإمامين؛ أبي حنيفة وأبي يوسف: لا رِبا في الفلوس الرائجة؛ فأجازا مبادلة فلس بفلسين أو أكثر إذا كانت جميعها معينة.

ووجه ذلك: أن الفلوس ليست أثمانًا بأصل الخلقة، وإنما تثبت ثمنيتُها باصطلاح الناس عليها، وما كان ثابتًا بالاصطلاح أمكن إبطاله، كما بسطه العلامة الكمال ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (7/ 22).

قال العلامة برهان الدين ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (7/ 75، ط. دار الكتب العلمية): [ولا بأس بأن يسلم الفلوس في الحديد والرصاص وما أشبهه؛ لأنه لم يجمعهما أحد وصفي علة الرِّبَا: النقد؛ وهو الوزن، أو الجنس.. والمراد من الفلوس: الفلوس الرائجة] اهـ.

وقال الإمام العيني الحنفي في "نخب الأفكار" (11/ 345، ط. أوقاف قطر): [وفي تعدي الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجهٌ، والصحيح: أنها لا رِبا فيها؛ لانتفاء الثمنيَّةِ الغالبة، ولا يتعدى إلى غير الفلوس من الحديد والنحاس والرصاص وغيرها قطعًا] اهـ.

وقال العلامة التتائي المالكي في "جواهر الدرر" (5/ 56، ط. دار ابن حزم): [اختُلِفَ في علة الرِّبَا في النقود: فقيل: مطلق الثمنية من غير قيد بالغلبة، وعليه فيدخل الرِّبَا في الفلوس.

وقيل: الغلبة في الثمنية، أي: كون أصل الأثمان غالبًا، فتخرج الفلوس.

وقيل: الرِّبَا في النقد غير معلل، بل تعبد] اهـ.

وقال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (3/ 61): [(تنبيه) سكت المصنف والشارح عن المسألة الرابعة: وهي بيع الفلوس السحاتيت المتعامل بها بالفلوس الديوانية، فعلى المعتمد من أن الفلوس غير ربوية؛ فإن تماثلَا عددًا: فأجز، وإن جهل عدد كلٍّ؛ فإن زاد أحدهما زيادة تنفي المزابنة فأجز، وإلا فلا] اهـ.

وقال الإمام القرطبي المالكي في "تفسيره" (3/ 351، ط. دار الكتب المصرية): [اختلفت الرواية عن مالك في الفلوس: فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنًا للأشياء، ومنع من إلحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنًا في كل بلدٍ، وإنما يختص بها بلدٌ دون بلدٍ] اهـ.

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (4/ 279، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وعلة الرِّبَا فيه جوهرية الثمن؛ فلا رِبا في الفلوس وإن راجت] اهـ.

قال العلامة الشرواني مُحشِّيًا عليه": [(قوله: جَوْهَرِيَّةُ الثَّمَنِ): أَي عِزَّتُهُ وشَرَفُهُ اهـ. علي الشَّبْرَامَلِّسي، وَفِي عبارة بعضهم: كَوْنُهُ ثَمَنًا بأَصلِ خِلقَتِهِ] اهـ.

وقال الإمام شمس الدين الزركشي الحنبلي في "شرح مختصر الخرقي " (3/ 421): [الفلوس النافقة: هل تجري مجرى الأثمان، فيجري الرِّبَا فيها؟ إن قلنا العلة في النقدين الثمنية مطلقًا، وهو ظاهر ما حكاه عن أبي الخطاب في خلافه الصغير، أو لا تجري مجراها، نظرًا إلى أنَّ العلة ما هو ثمن غالبًا، وذلك يخص الذهب والفضة، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الكبير؟ على قولين؛ فعلى الثاني: لا يجري الرِّبَا فيها إلا إذا اعتبرنا أصلها، وقلنا: العلة في النقدين الوزن، كالكاسدة] اهـ.

وقال العلامة شمس الدين ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (6/ 295): [يخرج بيعُ فِلْسٍ بفلسين، وفيه روايتان منصوصتان، انتهى. وأطلقهما في "التلخيص"؛ إحداهما: لا يجوز التفاضل؛ نصَّ عليه في رواية جماعة، وقدَّمه في "المستوعب" و"الحاوي الكبير". والرواية الثانية: يجوز؛ وهذه هي الصحيحة على تخريج المصنف] اهـ.  وبذلك يتضح أنَّه لا شبهة للرِّبَا في التمويلات الاستهلاكية، وأنه لا فرق بينها وبين تمويل المشروعات، لأنه يصعب كثيرًا من الناحية العملية التمييز بين النوعين؛ بل هو متعذِّر؛ كما أفاده العلامة السنهوري في "مصادر الحق" (3/ 260، ط. معهد الدراسات العربية).

فإن قيل: لا نسلم بالقول بعدم الرِّبَا في الفلوس، وأنَّ من يُجري فيها الرِّبَا من الفقهاء هو المناسب والمتفق مع ما أصبحت عليه من صلاحيتها للتداول بدلًا من الذهب والفضة؛ فهي تقوم مقامهما.

قلنا: على فرض قبولِ ذلك؛ فإنه من المعلوم أنَّ من أهم وظائف البنوك هو التوسط بين المقرضين والمستقرضين، أو بعبارة أخرى: تجميع المدخرات ووضعها في متناول الأفراد والمشروعات الراغبين في الاقتراض؛ كما قال العلامة الاقتصادي محمد زكي شافعي في "مقدمة في النقود والبنوك" (ص: 180).

بما يُعرف بالوجاهة المالية، والتي في سبيلها يحتسب البنك مبلغًا مقطوعًا على العميل؛ تعويضًا له عمَّا قدَّمه من خدمة توفير المال.

وهو يدخل تحت ما أجازه فقهاء الشافعية والحنابلة من أخذ الأجرة على عقود التبرعات وثمن الجاه مع كونها محددة سلفًا ومنسوبة إلى أصل رأس المال؛ كما لو قال رجل لآخر: اقترض لي مائة ولك عشرة، فإنه يصح ذلك؛ لأن الزيادة في مقابل ما بذله المـُقْرِضُ مِن جاهه للمقترض، وكيَّفوا هذه المعاملة بأنها تجري مجرى الجعالة.

قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (4/ 358): [إن قال رجلٌ لرجلٍ غيره: اقترض لي مائة درهم، ولك عشرة دراهم.. عندنا يجري مجرى الجعالة، ولا بأس به] اهـ.

وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في "الروض المربع" (ص: 364، ط. دار المؤيد): [إذا قال: اقترض لي مائة ولك عشرة: صح؛ لأنها في مقابلة ما بذله من جاهه] اهـ.

وقد جرى القرض مجرى الجعالة "لجهالة العمل فيه، ووجوب أجرة المثل عند الفساد، وكونه غير لازم، والمال من جانب والعمل من جانب"؛ كما قال العلامة ابن الرفعة في "كفاية النبيه" (11/ 132، ط. دار الكتب العلمية).

فإن قيلَ: إن الشافعية قيدوا هذه المشروعية بألَّا يعطيه من مال نفسه، فإن أقرضه فليس له إلا مبلغ القرض فقط؛ لئلَّا يكون ذلك من الربا المحرَّم؛ إذ هو حينئذٍ من قبيل القرض الذي جرَّ النفع؛ ففي "أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (2/ 142): [والمعنى فيه: أن موضوع القرض الإرفاق، فإذا شرط فيه لنفسه حقًّا خرج عن موضوعه، فمنع صحته] اهـ.

قلنـــا: إن الصورة الجارية في البنوك متحققة أيضًا فيما أجازه الشافعية؛ فمن المعلوم -كما قدمنا- أن البنك يُحصِّل رأس ماله عن طريق الاكتتاب في الأسهم التي يصدرها -إذا كان البنك شركة مساهمة- وعندما يتم الاكتتاب في جميع رأس المال، يقوم باستثماره في جميع أوجه نشاطه المصرفي، وولايته على هذا المال ولاية مستقلة من جهة التصرف، ومن ثَمَّ فإنه عندما يوافق البنك على إتاحة مثل هذه المعاملات فهو غير معطٍ لمال نفسه، وما هو إلا تصرف بما له من واسع سلطة الاختصاص في إدارة وتقليب أموال المساهمين والمودعين.

فإن قيلَ: إنَّ القول بذلك يفضي إلى فتح الذرائع في التعامل الربوي بين الناس، بما يدخل تحت الأحاديث النبوية التي تدل على شيوع الرِّبَا وتكثيره في آخر الزمان؛ كحديث: «بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَظْهَرُ الرِّبا»، وحديث: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا آكِلُ الرِّبَا، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِه» وغير ذلك مما رواه أصحاب السنن.

قلنـــا: إن الأصل في العقود والمعاملات الحِلُّ والصِّحة -كما ذكرنا-، وأنَّ فتحَ الذرائع هنا وردَ حمايةً لهذا الأصل عن المنع بسبب الاحتمال المفضي إلى المُحرَّم (وهو الرِّبَا)؛ فقد يفضي المنعُ عند عدم مراعاة الذرائع إلى زيادة المفاسد لا تحجيمها، وقد نصَّ العلماء على أنَّ الذرائع كما يجب سدُّها إذا أفضت إلى مفسدة راجحة، ينبغي فتحها كذلك إذا أفضت إلى مصلحةٍ راجحة، "فليس كلُّ ذريعةٍ يجب سدُّها، بل الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، وتندب، وتباح؛ بل قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة"؛ كما قال الإمام القرافي في "الفروق" (2/ 42).

كما أنه ليس كلُّ زيادة محرمة، والتوسع في مفهوم الرِّبا ليس في محله؛ لكونه من المجمل المذكور في حكم الاستثناء عن البيع؛ قال إمام الحرمين في "البرهان في أصول الفقه" (1/ 154، ط. دار الكتب العلمية): [المرضي عندنا: أن البيع الذي لا مفاضلة فيه بوجه من الوجوه مستفاد من قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ بلا إجمال، وكلُّ صفةٍ اشتملت على جهة من جهات الزيادات؛ فالأمر فيها على الإجمال، فإن الأمر يُشعر بالزيادة، ولا يُحَرِّم كلَّ زيادة] اهـ.

وقال القاضي ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 321): [المراد به في الآية: كلُّ زيادة لم يقابلها عوض؛ فإن الزيادة ليست بحرام لعينها، بدليل جواز العقد عليها على وجهه، ولو كانت حراما ما صح أن يقابلها عوض، ولا يرد عليها عقد كالخمر والميتة وغيرها] اهـ.

ومع ذلك: فإنَّ هذا الحكم في التعامل المالي (تمويلًا وإيداعًا) بين الهيئات والشخصيات الاعتبارية والتي تماثل المؤسسات العامة التي استثناها الفقهاء، أو بينها وبين الأشخاص الطبيعيين (عملاء البنوك)، لا يُسَوِّغُ تعامل الأفراد الطبيعيين فيما بينهم بطريقة المفاضلة والزيادة في الأموال؛ إذ يجري عليهم الحكم بالتحريم؛ لأنه عين الرِّبَا ومقصودُه، دخولًا تحت ما تقرر من "كُلِّ قرضٍ جرَّ نفعًا فهو رِبًا"؛ كما سبق بيانه.

خلاصة الفتوى

على ذلك ومن خلال ما سبقَ وتقررَ يتبيَّن:

أنَّ الفتوى قد استندت في اختياراتها لحِلِّ ومشروعية المعاملات البنكية المختلفة والمتنوعة على جملة من التخريجات الفقهية، والغايات الشرعية، والدلالات القانونية، والممارسات الواقعية، والتي تتلخَّص فيما يلي:

أولًا: البنوك عبارة عن شخصيات اعتبارية وهيئات معنوية؛ لها أحكامها التي تختلف عن أحكام الشخصية الطبيعية.

ثانيـًا: أنَّ ما تمارسه البنوك من عملياتٍ مصرفية يُعدُّ عملًا تجاريًّا محضًا -بحكم القانون- تتغيَّا من خلاله الربح والتكسُّب، مراعيةً في أصل نشأتها العدالة المجتمعية في إدارة حركة الأموال، والدعم الاقتصادي في استقرار أحوال البلاد (تكاملًا وتكافلًا) من خلال تمويل المشروعات التنموية والإنتاجية للأفراد والشركات والمشروعات (طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل).

ثالثـًا: لم تضع البنوك في قاموسها العملي قضية "الاقتراض والإقراض"، بمعناهما الفقهي الموروث الذي يقصد به الإشفاق والإرفاق، ورفع الضِّيق، حتى وإن شاع في تسمية بعض معاملاتها الماليَّة بالقرض؛ لأن الأحكام إنَّما تناط بحقيقة الواقع، وأنَّ العبرة في العقود بمسمياتها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها.

رابعًـا: أن الفتوى حينما تُبين المستندات الشرعية للمعاملات البنكية في جملتها، تتفق مع المخالف في كبرى القياس؛ وهو حرمة المعاملات التي تشتمل على الرِّبَا المُحرَّم بكافة صورها، ولكنها سلكت في صغرى القياس: الاجتهاد والنظر المشروع الذي لا يتعارض مع قطعيات الشريعة؛ وذلك لأن نوعية فكرة البنك وما يجري عليه العمل المصرفي من صيغ وصور للمعاملات لا تحل إشكالاتها منهجية التقليد المحضة ولا الجمود على النصوص المنقولة؛ بل لا يخلو من الاستناد إلى أقوال فقهية معتبرة، ولذلك ذَكرتْ أن هذه العمليات عبارة عن عقودٍ جديدة، راعت ما وضعه الفقهاء من "أسباب الفساد ومثاراته" والتي تدور حول (الغرر والضرر والغش والربا والباطل)، وما دامت محققة لمبدأ الرضا بين أطرافها، لأنَّ الْعُقُود والمعاملات إنما تتبع مقاصدها والمراد منها، والأصل فيها الصحة، حتى يقوم الدليل على بطلانها.

خامسـًا: أنَّ مردَّ العمليات المصرفيَّة -بالنظر إلى المدخلات والمُخرجات المالية للبنك- راجعٌ إلى ثلاثِ عمليَّاتٍ رئيسيَّة:

الأولى: أخذ الأجرة على تقديم الخدمات؛ وهو مما لا يتعارض مع الأجر المأخوذ على أعمال الخدمات الجائزة شرعًا، والذي ينتفع فيه الشخص بما عند غيره مما هو قابل للانتفاع به، فيصحّ أخذ الأجرة على هذه المعاملة بناءً على ما فيها من المنفعة؛ وقد قرَّر الفقهاء أنَّ المنافع كالأعيان؛ قصدًا وعقدًا؛ لأنَّ المنفعةَ مالٌ متقوِّمٌ، يصح اعتبارها للتملك والتعاقد عليها، وهي موجبة للمقابلة بالأجر، وكذلك في وفاء الدَّين بها.

الثانية: قبول الأموال من العملاء في صورة (ودائع): وهو من قبيل المعاملات الشرعية المباحة في جملتها؛ لأنها إمَّا أن تدخل تحت الوكالة المطلقة؛ والتي اتفق الفقهاء على جوازها وأخذ الأُجرة عليها، وإمَّا أن تدخل تحت المضاربة الشرعية المباحة، ولا يضر فيها تحديد الربح (الفائدة) مقدمًا؛ لأنَّ الرِّبح على ما اشترطه الطرفان، وتراضيا عليه، والفقهاء وإن منعوه عددًا مُقدَّرًا، إلَّا أنهم علَّلوا ذلك بأنه يفضي إلى جهالة، وأنه ربما استغرق هذا القدر المحدد كامل الربح، فإذا ما انتفت هذه الجهالة في تقدير الربح: ارتفع الحكم بالمنع؛ لأن المعلول يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

وتنتفي الجهالة والغرر والمخاطرة في ذلك بطريقين جوهريتين:

الأول: القوانين المنظِّمة لعمل البنوك والتي تنص على التصرفات التي يجوز لها أن تباشرها، والتي يُحظر لها أن تباشرها كليًّا، أو تقييدها جزئيًّا، بما يضبط هذه التصرفات من أيِّ نشاط تتعرض معه أموال المساهمين والمودعين للخطر أو الخسارة؛ بحيث يكون أصل المال المتمول وفائدته القانونية مضمونَين.

والثاني: النُّظم المعتمدة في العمل، والمبنية على السياسات النقدية والدراسات الاكتواريَّة والخطط المستقبلية التي يقدمها البنك لاستثمار أمواله وتنمية موارده، وأن التحديد وإن كانت صورته تقديرية، إلَّا أنه نسبة معيَّنة تُحسب على حركة المال وفق النظام المتبع، فتدخل تحت مفهوم التقدير المشاع، إضافة إلى أنَّ تحديد هذا العائد فيه تعريف كلِّ ذي حقٍّ بحقه، وحفظ الأموال من الضياع، وتقليل النزاع والخصام وسوء الظن فيما بين المتعاقدين، وهو ما اعتمدته دار الإفتاء المصرية في فتاويها منذ 1990م، وقرره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في قراره رقم (146) المنعقد بتاريخ 31/ 10/ 2002م، وأفتى به المحققون من العلماء المعاصرين؛ كالإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت، والعلامة الشيخ علي الخفيف في إباحة أرباح أموال البريد.

الثالثة: استثمار الأموال، ومنحها العملاء في صورة (تمويل) للمشروعات الإنتاجية: وهو عكس ما تؤول إليه العقود الربوية، (خاصَّة رِبَا النسيئة) الذي من شأنه أن يزيد من معدلات التضخم الاقتصادي، ويؤدي إلى الكساد المجتمعي، والظلم الطبقي، بخلاف التمويل الذي يكسر احتكار رأس المال في يد فئة معيَّنة، ويعمل على تقليبه واكتمال دورته وزيادة قدرة الأفراد وملاءتهم في مواجهة التحديات الاقتصادية، بما له الأثر الأكبر في دفع عجلة التنمية، ورفع شأن الصناعة، وحث الناس على الادخار والإنتاج، فهو مخالفٌ لمعنى الرِّبا، ومن ثمَّ فهو جائزٌ شرعًا، سواء توسطت السلعة أو الخدمة فيه بين العميل والبنك؛ لأنها حينئذٍ من قبيل المرابحة الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابلة الأجل، أو لم تتوسَّط السلعة بين العميل والبنك (فيما يُعرف بالتمويل الشخصي أو الاستهلاكي)، وهي صورة جائزة أيضًا؛ لما قرره العلماء من أن الحرمة متعلقة بالنقد المتَّخذِ أو المُغطَّى بالذهب أو الفِضَّة اللذين هما أصل التعامل في التجارات والمبادلات، أما وأنَّ الأوراق النقدية (البنكنوت) خرجت عن أصل النقدين في التعامل: فإنَّ إطلاق الحكم بربوية التعامل المالي بين طرفين، بالزيادة أو التفاضل في قيمةٍ شرائيَّةٍ واحدةٍ، قد ذَهَبَ بذهابِ أصله، وسقطَ بسقوطِ مَحلِّهِ، شأنها في ذلك شأن الفلوس الرائجة التي نصَّ جمهور الفقهاء على عدم ربويَّته في التعاملات والمبادلات، وإن فضَلَت أو زادت.

سادسـًا: أنَّ البنكَ تابعٌ للدولة تبعيَّة إداريَّة كاملة، وأنَّ صافي أرباح البنوك في النهاية تؤول إلى الخزانة العامة للدولة، وقد أجاز الفقهاء صورًا في التعامل المالي بين (التابع والمتبوع) مفاضلة وزيادة؛ لما تقرَّر أن "التابع تابع"؛ فنصوا على أنه لا رِبا بين العبد وسيده، والوالد وولده، والساعي وصاحب المال في الزكاة، وأجازوا اقتراض الأموال بفائدة لإعمار الوقف أو المسجد، وكلها هيئات وصفيَّة اعتباريَّة أوقفت حكم الرِّبَا في المعاملات المالية، فإذا ما اعتبرنا بهذا الوصف الاعتباري أنَّ المواطنين متبوعون للدولة التي لها وصف السلطة والسيادة: فإن التعامل المالي بينهما داخلٌ في أنَّها تتصرفُ فيما هو حقٌّ لها بحكم القانون، ومن ثمَّ يجوز التعامل المالي بينهما زيادةً ومفاضلة، ولا يدخل في حكم الرِّبَـا.

وبناء على ذلك: فلا خلاف في كبرى القياس من أن الرِّبَا أمرٌ محرمٌ شرعًا بإجماع المسلمين، إنما الخلاف في صغرى القياس؛ وهي المعاملات البنكية (في أصل فكرتها ونظام عملها وعلاقاتها التعاقدية)، والتي ظهر لنا من خلال تنزيل واقعها القانوني والاقتصادي على الأحكام الشرعية والمقاصد المرعية أنَّها دائرة تجاريَّة محدَّدَة، تختلف تمامًا عن دائرة القرضيَّة، وهي في جملتها عبارة عن استثمار للأموال وتقليبها بغرض الربح، ومن ثمَّ: فلا حرمة في التعامل بها بكافة أنواع التعاملات التعاقدية، وأن الفتاوى التي تحرم فوائد البنوك، لم تقرأ واقع عمل الجهاز المصرفي قراءةً صحيحة، بل هي حبيسة تصورات خاصة، كيَّفَهَا أصحابُها على أنها علاقة قرض أو مضاربة فاسدة، فضلًا عن أن إيراداتهم على القول بالمشروعية هي إطلاقات غير مُحدِّدة لما هو حرام فيها على وجه دقيق، وهي صورة منتفية تمامًا، وفقًا لتصورنا عن طبيعة أعمال البنوك وما آلت إليه تعاملاتها، والذي حسم فيه القانون بناء على واقعه الاقتصادي مادة هذه النزاعات، فإذا كان الحاكمُ قد فصلَ بحكم القضـاء في مثل هذه التعاملات الماليَّة، وحكم عليها بأنها عمليات تجاريَّة؛ إيداعًا وتمويلًا: فإنه ينبغي العمل بما قضى به؛ لما تقرر في القواعد من أنَّ حكم الحاكم يرفع الخلاف.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا