حكم صيام من كان في بلد غير إسلامي برؤية بلد إسلامي مجاور

حكم صيام من كان في بلد غير إسلامي برؤية بلد إسلامي مجاور

ما حكم صيام من كان في بلد غير إسلامي برؤية بلد إسلامي مجاور؟ فأنا أعيش في بلد ذي أقلية مسلمة، ولا أعرف كيفية رؤية الهلال، ولا يوجد عندنا هيئة رسمية لذلك الشأن، لكن هناك بعض الناس يجتهدون في رؤية الهلال، وتختلف أقوالهم كل عام في ثبوت رؤية الهلال وعدم ثبوته، ويجاورنا بلد إسلامي، وبه مؤسسة إفتائية رسمية تقوم باستطلاع هلال شهر رمضان الكريم وتصدر بيانًا بذلك، فهل يجوز لمن يعيشون في مثل بلدنا أن يصوموا بناء على رؤية ذلك البلد الإسلامي المجاور حسمًا للخلاف الموجود في تلك البلد، أو يجب عليهم أن يصوموا برؤية بلدنا؟

بحسب ما يقتضيه فقه الأقليات: فإنَّ المسلم الذي يعيش في بلدٍ لا يوجد فيه هيئة رسمية مختصة باستطلاع هلال شهر رمضان المبارك يجب عليه اتباع رؤية البلد المجاور الذي ثبتت الرؤية فيه، ما لم يقم ما يناهض هذه الرؤية ويشكك في صحتها؛ وذلك حسمًا للخلاف الحاصل بين أفراد الناس في ثبوت رؤية الهلال من عدمه، وعملًا على الوحدة والائتلاف ونَبْذ الفرقة وعدم الخلاف بين أفراد المجتمع الواحد.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بيان وجوب صيام شهر رمضان

المقرَّر شرعًا أن صيام شهر رمضان فرض على كل مسلم بالغ عاقل يقوى على الصيام؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفقٌ عليه.

قال الإمام أبو العباس القُرْطُبِي في "المفهم" (1/ 168، ط. دار ابن كثير): [يعني: أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده، عليها تنبني وبها تقوم] اهـ.

أثر اختلاف المطالع على الصيام وأقوال الفقهاء في ذلك

قد نص الفقهاء على أنه إذا ثبتت رؤية هلال شهر رمضان بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان فإنه يجب على المكلفين أن يبدؤوا صيام رمضان في اليوم التالي، أما إذا تعذرت رؤية الهلال لأي سبب من الأسباب، ففي هذه الحالة يكون اليوم هو الثلاثين المتمم لشهر شعبان؛ وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ». متفق عليه، واللفظ للبخاري.

ولكنهم قد اختلفوا في مسألة: هل يصوم الناس مع اختلاف أقطارهم وبلدانهم برؤية بلد واحد، أو لكلِّ بلدٍ رؤية تخصها يصوم الناس بناءً عليها؟ وهذه المسألة معروفة بـ"اختلاف المطالع".

فذهب الحنفية في ظاهر المذهب إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، وذهب آخرون من فقهاء المذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع.

قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 393، ط. دار الفكر): [وإنما الخلاف في اعتبار اختلاف المطالع، بمعنى أنه هل يجب على كلِّ قومٍ اعتبار مطلعهم، ولا يُلزم أحدٌ العملَ بمطلع غيره، أم لا يعتبر اختلافها بل يجب العمل بالأسبق رؤيةً، حتى لو رئي في المشرق ليلة الجمعة وفي المغرب ليلة السبت وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق؟ فقيل بالأول واعتمده الزَّيْلَعِي وصاحب "الفيض"، وهو الصحيح عند الشافعية؛ لأنَّ كلَّ قوم مخاطَبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة، وأيده في "الدرر" بما مر من عدم وجوب العشاء والوتر على فاقد وقتهما، وظاهر الرواية: الثاني، وهو المعتمد عندنا وعند المالكية والحنابلة لتعلق الخطاب عملًا بمطلق الرؤية في حديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» بخلاف أوقات الصلوات] اهـ.

وقال العلامة الشِّلْبِي الحنفي في "حاشيته على تبيين الحقائق" (1/ 316، ط. الأميرية): [قوله في المتن: ويثبت رمضان برؤية هلاله... إلخ) قال الكمال رحمه الله: وإذا ثبت في مصرٍ لزم سائر الناس، فيلزم أهل المشرق رؤية أهل المغرب في ظاهر المذهب، وقيل: يختلف باختلاف المطالع؛ لأن السببَ الشهرُ، وانعقاده في حق قوم لرؤيةٍ لا يستلزم انعقاده في حقِّ آخرين مع اختلاف المطالع، وصار كما لو زالت أو غربت الشمس على قوم دون آخرين وجب على الأولين الظهر والمغرب دون أولئك] اهـ.

وللمالكية في ذلك أقوال ثلاثة:

الأول: أنه لا اعتبار لاختلاف المطالع قربت البلاد أو بعدت، وهو المشهور في المذهب.

والثاني: اعتبار اختلاف المطالع بمعنى أنه إذا ثبتت الرؤية عند حاكم فلا يعم حكمها إلا من في ولايته فقط.

والثالث: يعتبر اختلاف المطالع بالنسبة للبلاد البعيدة جدًّا كالحجاز والأندلس، وحكى العلامة ابن عرفة على ذلك الإجماع.

قال العلَّامة الخَرَشِي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 236، ط. دار الفكر): [(قوله: وعَمَّ الحُكْم) أي: وعَمَّ الحُكْم بوجوب الصوم كل منقول إليه أي: من سائر البلاد قريبًا أو بعيدًا، ولا يراعى في ذلك اتفاق المطالع ولا عدمه ولا مسافة القصر] اهـ.

وقال العلَّامة عِلِيش المالكي في "منح الجليل" (2/ 111، ط. دار الفكر): [(وعَمَّ) بفتح العين المهملة والميم مثقلة أي: شمل وجوب الصوم كل من نقلت إليه رؤية العدلين أو المستفيضة من أهل سائر البلاد قريبًا أو بعيدًا لا جدًّا، ابن عرفة، وأجمعوا على عدم لحوق حكم رؤية ما بَعُدَ كالأندلس من خراسان موافقًا في المطالع أو مخالفًا (إن نُقِل) بضم فكسر (بـ) أحد (هما) أي: العدلين، والمستفيضة (عن) رؤية واحد منـ(ـهما)] اهـ.

وقال العلَّامة الصاوي المالكي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 225، ط. دار المعارف): [..وهذا -أعني تعليق الحكم بشَفَق غيرهم- أنسب بما قالوه عندنا من عدم اعتبار اختلاف المطالع في هلال رمضان، وأنه يجب في قُطْر برؤيته في قُطْر آخر] اهـ.

وذهب فقهاء الشافعية إلى أنه إذا رُئِي هلال رمضان في بلد ولم يُرَ في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران؛ أصحهما لا يجب الصوم على أهل البلاد الأخرى، والثاني: يجب، والأصح: الأول، وفيما يعتبر فيه البُعد والقُرب ثلاثة أقوال:

الأول: أنَّ التباعد باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب كبغداد والكوفة، وهو الأصح.

والثاني: أن الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه، فإن اتحدا فمتقاربان وإن اختلفا فمتباعدان.

والثالث: أن التباعد مسافة قصر الصلاة والتقارب دونها.

قال الإمام العمراني الشافعي في "البيان" (3/ 380، ط. دار المنهاج): [إن رأوا الهلال في بلد، ولم يروه في بلد آخر... نظرت: فإن كانا متقاربين... وجب الصوم على الجميع، وإن كانا متباعدين... ففيه وجهان:

أحدهما: وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار الصَّيْمَرِي: أنه يلزم الجميع الصوم، وهو قول أحمد بن حنبل، كما لو كان البلدان متقاربين.

والثاني -ولم يذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق"، والشيخ أبو إسحاق في "المهذب" غيره-: أنه لا يلزم أهل البلد الذين لم يروه، لما روي عن كُرَيْب أنه قال: "أرسلتني أم الفضل بنت الحارث من المدينة إلى معاوية بالشام، فقدمت الشام، فقضيت حاجتي بها، واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، وذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه، فقلت: أَوَلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ"] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 348، ط. المكتب الإسلامي): [إذا رُئي هلال رمضان في بلد ولم يُرَ في الآخر، فإنْ تقارب البلدان فحكمها حكم البلد الواحد، وإن تباعدا فوجهان. أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.

وفي ضبط البعد ثلاثة أوجه: أحدها -وبه قطع العراقيون والصيدلاني وغيرهم-: أن التباعد أن تختلف المطالع، كالحجاز، والعراق، وخراسان.

والتقارب: ألا تختلف، كبغداد، والكوفة، والرَّيِّ، وقزوين.

والثاني: اعتباره باتحاد الإقليم واختلافه.

والثالث: التباعد مسافة القصر. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي، وصاحب "التهذيب"، وادعى الإمام الاتفاق عليه. قلت: الأصح هو الأول، فإن شك في اتفاق المطالع لم يجب الصوم على الذين لم يروا؛ لأن الأصل عدم الوجوب] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "الغُرر البهية" (2/ 207، ط. المطبعة الميمنية): معللًا اعتبار اختلاف المطالع: [إذْ لا تَعلُّق للرؤية بمسافة القصر، فيثبت حكمه في حق مَنْ بمكانٍ اتحد مطلعه بمطلع مكان الرؤية دون غيره، فإن شك في اتحاده فلا وجوب؛ لأن الأصل عدمه، قال السبكي: ومع الاختلاف قد تستلزم الرؤية بأحد المكانين الرؤية بالآخر بدون العكس؛ إذ دخول الليل بالشرق قبل دخوله بالغرب، فتستلزم رؤيته شرقًا رؤيته غربًا بدون العكس، فرؤيته بالشام لكونها غربية بالنسبة للمدينة لا تستلزم رؤيته بالمدينة. وفي إطلاقه دخول الليل بالشرق قبل دخوله بالغرب نظر] اهـ.

وذهب الحنابلة إلى أنه لا اعتبار باختلاف المطالع، وقرروا أنه "إذا رأى الهلال أهل بلد، لزم جميع البلاد الصوم" كما قال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (3/ 107، ط. مكتبة القاهرة)، ولا اعتبار عندهم بالبعد بين البلاد ولا بالقرب.

قال الإمام ابن مُفْلِح الحنبلي في "الفروع" (4/ 413-414، ط. مؤسسة الرسالة): [وإن ثبتت رؤيته بمكان قريب أو بعيد لزم جميع البلاد الصوم، وحكم مَن لم يره كمن رآه ولو اختلفت المطالع؛ نص عليه، "و" ذكره جماعة؛ للعموم، واحتج القاضي والأصحاب وصاحب "المغني"، و"المحرر" بثبوت جميع الأحكام، فكذا الصوم، كذا ذكروه] اهـ.

وقال الإمام البُهُوتي الحنبلي في "دقائق أولي النهى لشرح المنتهى" (1/ 471، ط. عالم الكتب): [(وإذا ثبتت رؤيته) أي: هلال رمضان (ببلد لزم الصوم جميع الناس)؛ لحديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ»، وهو خطاب للأمة كافَّة؛ ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام؛ كحلول دَيْن، ووقوع طلاق، وعتق معلقين به ونحوه، فكذا حكم الصوم، ولو قلنا باختلاف المطالع، ولكلِّ بلد حكم نفسه في طلوع الشمس وغروبها لمشقة تكررها، بخلاف الهلال، فإنه في السَّنَة مرة] اهـ.

المختار للفتوى في أثر اختلاف المطالع على الصيام

مما سَبق تبين أنَّ مسألة اختلاف المطالع مما اختلفت كلمة الفقهاء فيها، والمختار في الفتوى أنه يجب على كلِّ أهل بلد الالتزام بما تعلنه الجهات الرسمية المنوط بها ذلك في بلادهم، ولا يجوز التحول عن رؤية الهلال في بلدهم إلى بلد آخر بحالٍ من الأحوال، وهو أحد أقوال فقهاء المالكية ومَن وافقهم، كما سبق بيانه.

حكم صوم من كان في بلد غير إسلامي برؤية بلد إسلامي مجاور

أما في خصوص مسألتنا، فبما أنه لا يوجد في هذه البلد هيئة مختصة منوطٌ بها استطلاع الهلال، ويجاورها بلد بها هيئة مختصة بهذا الشأن، فإن الواجب على أفرادها المسلمين أن يصوموا برؤية ذلك البلد المجاور، ما لم يقم ما يناهض هذه الرؤية ويشكك في صحتها، وذلك حسمًا للخلاف الحاصل بين أفراد الناس في ثبوت رؤية الهلال من عدمه، وعملًا على الوحدة والائتلاف ونَبْذ الفُرقة وعدم الخلاف بين أفراد المجتمع الواحد، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» أخرجه الترمذي والدَّارَقُطْنِي في "سننهما" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي عقبه: [هذا حديث حسن، وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعُظْمِ الناس] اهـ. فضلًا عن كون الأمر موافقًا حينئذٍ لما نص عليه جمهور الفقهاء في اتحاد المطالع عند تقارب البلدان.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال وبحسب ما يقتضيه فقه الأقليات: فإنَّ المسلم الذي يعيش في بلدٍ لا يوجد فيه هيئة رسمية مختصة باستطلاع هلال شهر رمضان المبارك يجب عليه اتباع رؤية البلد المجاور الذي ثبتت الرؤية فيه، ما لم يقم ما يناهض هذه الرؤية ويشكك في صحتها؛ وذلك حسمًا للخلاف الحاصل بين أفراد الناس في ثبوت رؤية الهلال من عدمه، وعملًا على الوحدة والائتلاف ونَبْذ الفرقة وعدم الخلاف بين أفراد المجتمع الواحد.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا