حكم نقل الأجنة المخصبة بعد وفاة الزوج وذلك في أثناء مدة العدة

حكم نقل الأجنة المخصبة بعد وفاة الزوج وذلك في أثناء مدة العدة

ما حكم زرع الأجنة المجمدة في رَحِم المرأة بعد وفاة زوجها، والذي توفِّي نتيجة تعرضه لحادث سيارة، وذلك أثناء المتابعة لإجراء عملية زراعة الأجنة؟

ويشهد المستشفى بأن هذه المرأة دخلت المستشفى لعمل سحب بُوَيْضات، وتم حقنها بالحيوانات المَنَوِيَّة الخاصة بزوجها وتم تجميد (7) أجنة بعد عملية الحقن، ولم يتم إرجاع الأجنة لأسباب طبية. وبعد حوالي شهرين تم رجوع المريضة إلى الطبيب المعالج للمتابعة لعمل عملية زرع الأجنة، وذلك قبل وفاة الزوج بعشرة أيام، فهل يجوز زرع الأجنة المجمدة في رَحِم الزوجة المذكورة بعد وفاة زوجها المذكور أو لا؟ خاصة وقد وافقت موافقةً كتابيةً كل مِن والدة الزوج وأخته الشقيقة على استكمال مراحل عملية الحقن المجهري بعد وفاته.

لا مانع شرعًا مِن زرع البُوَيْضة المخصبة أو المُلَقَّحَة معمليا في رَحِم المرأة المسؤول عنها، على أن يكون ذلك خلال عدتها مِن وفاة زوجها، مع مراعاة أنَّ نقل الأجنة المجمدة إلى رحم الزوجة يحتاج إلى بعض الأدوية المُهَيِّئَةِ لاستقبال الجسم لها، وأنْ يتم النقلُ بعد ذلك في غضون اليوم السادس عشر إلى اليوم العشرين مِن بداية الدورة الشهرية، فيجب أن يكون هذا كلُّه في أثناء عدتها تلك، وعلى الجهات المَعنِيَّة المختصة التأكدُ مِن حصول زراعة هذه البُوَيْضة بما يسبقها مِن إجراءاتٍ خلال فترة العدة، لا بعد ذلك.

التفاصيل ....

مِن السُّنن التي أودعها اللهُ تعالى خَلْقَهُ: أنَّ مَنِيَّ الرجل لا يتخلَّق ويصير جنينًا إلا إذا وَصَلَ إلى بُوَيْضةِ امرأةٍ مستعدةٍ لقبوله، وتَفَاعَلَ مع هذه البُوَيْضة بتلقيحها، لِيَتَكَوَّنَ مِنها الجنينُ في أوَّل مراحله التي هي النُّطْفة، ثم تسير هذه البُوَيْضة بعد تلقيحها حتى تستقر في قرار مكين داخل جَوْف الرَّحِم.

قال الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: 12-13]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ۝ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المرسلات: 20-21].

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (18/ 23، ط. الدار التونسية): [﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾.. والسلالة: الشيء المَسْلُول.. أي: خلقناه منفصلًا وآتِيًا مِن سُلَالَةٍ، فتكون السُّلَالَةُ على هذا مجموعَ ماء الذكر والأنثى المَسْلُول مِن دَمِهِمَا.. ومِن اجتماع تلك المادة الدهنية التي في الأُنْثَيَيْن مع البُوَيْضة مِن البُوَيْضات التي في قناة الرحم يَتكون الجنين.. وقوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ طَوْرٌ آخَر للخَلْق، وهو طَوْر اختلاط السُّلَالَتَيْن في الرحم] اهـ.

وقال أيضًا (29/ 431): [﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾.. جعل خَلْق الإنسان مِن ماء الرجل؛ لأنه لا يتم تخلُّقه إلا بذلك الماء إذا لَاقَى بويضاتِ الدم في الرحم، فاقتصرت الآية على ما هو مشهورٌ بين الناس؛ لأنهم لا يعلمون أكثر مِن ذلك، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكوين الجنين مِن ماء المرأة وماء الرجل] اهـ.

غير أن هذا الوصول قد يكون بالمباشَرَة عن طريق الاتصال العضوي، أو بغير المباشَرَة عن طريق التلقيح مِن غير اتصال عضوي، وهذا التلقيح بغير المباشَرَة يتم بأحد طريقَيْن:

الطريق الأول: التلقيح الداخلي، وذلك باستدخال مَنِيِّ الرجل في رَحِمِ المرأة، لِكَي يَأخذَ المَنِيُّ بدَوْرِه طريقَه إلى البُوَيْضة التي قَذَفَهَا المِبْيَضُ ويَصِلَ إليها في بُوق الرَّحِم المعروف بـ"قناة فالوب" فيُلَقِّحها قبل وُصُولها إلى جَوْف الرَّحِم، ثم تأخذ البُوَيْضةُ بعد التلقيح طريقَها إلى جَوْف الرَّحِم فتستقر فيه.

والطريق الثاني: التلقيح الخارجي، وذلك بسَحْب بُوَيْضة المرأة وتلقيحها في المَعَامِل والمختَبَرات المتخصصة بمَنِيِّ الرجل، ثم تُجْرَى عمليةُ زَرْع البُوَيْضة في جَوْف الرَّحِم بعد تلقيحها بذلك المَنِيِّ.

والفقهاء وإن نَصُّوا على الطريق الأول للتلقيح بغير المباشَرَة -والمتمثِّل في التلقيح الداخلي باستدخال المَنِيِّ في رَحِم المرأة- باعتباره المتصوَّرَ في زمانهم، وبَنَوْا عليه الأحكام، ورَتَّبُوا عليه الآثار، إلا أنه يُفهم بدلالة تلك النصوص تنزيلُ نَفْس الأحكام وتَرتيبُ ذات الآثار على الطريق الثاني له -والمتمثِّل في التلقيح الخارجي بسَحْب البُوَيْضة مِن المرأة وتلقيحها بالمَنِيِّ ثُم إدخالها بعد التلقيح في جَوْف الرَّحِم-، إذ العبرةُ في كلامهم إنما هي بالتلقيح الذي عبَّروا عنه بـ"العُلُوق" -ويُقصد به: عُلُوق مَنِيِّ الرجلِ ببُوَيْضة المرأة-، لا بمجرد الدفق والاستدخال، وإذا كان الأمرُ كذلك فلا فرق في الحكم بين كون هذا العُلُوق قد حَدَث داخلَ الجسم أو خارجَه، وينشأ الحملُ منسوبًا إليه ما دام قد حدث ذلك في ظلِّ عقد زواج صحيح، وتترتب عليه آثارُه مِن عدةٍ ونَسبٍ وغيرهما، كما في "المحيط البرهاني" للإمام برهان الدين ابن مَازَه (9/ 404، ط. دار الكتب العلمية)، و"تحفة المحتاج" لشيخ الإسلام ابن حَجَرٍ الهَيْتَمِي (8/ 231، ط. المكتبة التجارية الكبرى)، و"نهاية المحتاج" للإمام شهاب الدين الرَّمْلِي (7/ 127، ط. دار الفكر).

وكذلك ما يتم في حالة مرض الزوج أو الزوجة مِن تلقيح بُوَيْضة الزوجة بالحيوان المَنَوِيِّ للزوج في أنبوبٍ خارجَ الرَّحِم، ثم إعادة نقلِهِ إلى جَوْف رَحِم الزوجة نَفْسها، بأن يقرر الأطباء الحاذقون المؤتَمَنُون أن هذه الطريقة هي العلاج الوحيد في مثل هذه الحالة، وهو أمرٌ جائزٌ شرعًا، ما دامت البُوَيْضة مِن الزوجة والحيوان المَنَوِي مِن زوجها في أثناء قيام الزوجية بينهما.

ويَلحق بذلك: ما لو تم التلقيح في حياة الزوجين بموافقتهما، ثم توفي الزوج قبل زرع البُوَيْضة المُلَقَّحَة في رَحِم زوجته -فلا مانع شرعًا مِن زَرْعها في رَحِم الزوجة صاحبة البُوَيْضة بعد وفاة زوجها؛ لحاجتها إلى الولد، بشرط أن يكون ذلك في عدة وفاته لا بعدها، أي: خِلالَ أربعة أشهر وعشرة أيام قمرية مِن تاريخ الوفاة إذا توفي الزوج في غُرَّة الشهر، أو مائةٍ وثلاثين يومًا كاملة إذا وقعت بعد مُضِيِّ جزءٍ منه؛ لأن الزوجية لا تنقطع بتمامها في أثناء عدة الوفاة، مع الأخذ في الاعتبار أن نقل الأجنة المجمدة إلى رَحِم الزوجة يحتاج إلى بعض الأدوية المُهَيِّئَةِ لاستقبال الجسم لها، ليتم النقلُ بعد ذلك في غضون اليوم السادس عشر إلى العشرين مِن بداية الدورة الشهرية.

ولا يقدح في ذلك انقطاعُ علاقة الزوجية بوفاة الزوج قبل زرع البُوَيْضة المُلَقَّحَة في رَحِم الزوجة؛ لأن هذا الانقطاع ليس تامًّا، بل بقيت له آثارٌ، منها: ثبوت النَّسَب.

وإذا تم زرع البُوَيْضة المُلَقَّحَة في فترة العدة بنجاحٍ في رَحِم الزوجة فإنه تترتب على ذلك كلُّ حقوق الجنين مِن نَسبٍ ووصيةٍ وميراثٍ وغير ذلك، ما دامت البُوَيْضة قد لُقِّحَتْ حال قيام الزوجية وفي حياة الزوجين وبموافقتهما.

وبناءً على ذلك: فإذا كانت بُوَيْضة الزوجة قد لُقِّحَتْ بالفعل في حياة الزوج، بموافقة الزوجين وإقرارهما، ثم توفي الزوج قبل زرعها في رَحِم الزوجة، وأرادت الزوجة أن تَشْغَل رَحِمَها بهذه البُوَيْضة بعد وفاة زوجها في عدة الوفاة على النحو السابق بيانه -فهذا أمرٌ جائز شرعًا، وتترتب على ذلك كافة حقوق الجنين، نَسبًا ووصيةً وميراثًا، فإذا انتهت العدة لم يكن لها فعل ذلك.

وفي واقعة السؤال: لا مانع شرعًا مِن زرع البُوَيْضة المُلَقَّحَة -على النحو الوارد بالتقرير المرفَق- في رَحِم المرأة المسؤول عنها، على أن يكون ذلك خلال عدتها مِن وفاة زوجها، مع مراعاة أنَّ نقل الأجنة المجمدة إلى رحم الزوجة يحتاج إلى بعض الأدوية المُهَيِّئَةِ لاستقبال الجسم لها، وأنْ يتم النقلُ بعد ذلك في غضون اليوم السادس عشر إلى اليوم العشرين مِن بداية الدورة الشهرية، فيجب أن يكون هذا كلُّه في أثناء عدتها تلك، وعلى الجهات المَعنِيَّة المختصة التأكدُ مِن حصول زراعة هذه البُوَيْضة بما يسبقها مِن إجراءاتٍ خلال فترة العدة كما بيَّنَّاها، لا بعد ذلك.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا