حكم تحديد مدة عقد المساقاة بموت الشجر موتا طبيعيا

حكم تحديد مدة عقد المساقاة بموت الشجر موتا طبيعيا

ما حكم تحديد مدة عقد المزارعة بموت الشجر موتًا طبيعيًّا؟ فأنا أمتلك مزرعة عنب ولا أستطيع القيام بأعبائها، وأريد أن أسلمها لمن يقوم عليها ويتولاها مزارعةً على نسبةٍ من الثمر؛ كالثلث مثلًا، وتم الاتفاق بيننا على أن تكون مدةُ التعاقدِ مُحدَّدةً بموت الشجرِ الموجودِ في وقته موتًا طبيعيًّا. فما مدى صحة هذا العقد المشروط بهذا الشرط في نظر الشرع؟

يجوز شرعًا التعامل بهذا العقد بالصورة المسؤول عنها، ولا يضر تحديد مدة العقد بموت شجر العنب الموجود في المزرعة وقت التعاقد موتًا طبيعيًّا، والأولى في مثل هذه العقود تحديد مدة معلومة للعقد كثلاث سنين أو نحو ذلك؛ خروجًا مِن خلاف مَن قال بفساده من العلماء.

التفاصيل ....

المحتويات

تكييف المعاملة المسؤول عنها

العقود التي تجري فيما يتعلق بالزراعة والاشتغال بها تتنوع ما بين مزارعة ومساقاة ومغارسة ومخابرة، وكلُّ عقدٍ من هذه العقود له حقيقته الشرعية الخاصة به، وإن كان بينهما وجه شَبَهٍ.

ويظهر من السؤال أن العقد المُتفقَ عليه محلُّه القيامُ على شجرِ مزرعةِ العنب، وبذلك فهو يندرج تحت المساقاة وليس المزارعة -كما تم التعبير عنه في السؤال-؛ إذ إنَّ المزارعة تقع على الأرض والحَبِّ، ولا تقع على شجرٍ مزروعٍ بالفعل، خلافًا للمساقاة؛ والتي يُقصد بها دفع شجرٍ مغروسٍ معلومٍ لمن يعمل عليه بسَقْيه وخِدمته بكلِّ ما يحتاج إليه على جزءٍ معلومٍ مِن الثمرة الخارجة من هذا الشجر، وهذا المعنى هو الظاهر من نصوص الفقهاء وإن اختلفت ألفاظهم. ينظر: "الاختيار" للإمام ابن مودود الموصلي الحنفي (3/ 79، ط. الحلبي)، و"الكافي" للإمام ابن عبد البَرِّ المالكي (2/ 766، ط. مكتبة الرياض الحديثة)، و"نهاية المحتاج" للإمام الرملي الشافعي (5/ 244، ط. دار الفكر)، و"المغني" للإمام ابن قدامة الحنبلي (5/ 290، ط. مكتبة القاهرة)].

بيان مشروعية المساقاة

الأصل في مشروعية المساقاة وأنَّ الأجرة فيها تكون على جزءٍ شائعٍ من الربح أو الثمر: ما ورد عن عَبْدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ اليَهُودَ: أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» أخرجه الشيخان.

حكم تحديد مدة عقد المساقاة بموت الشجر موتا طبيعيا

قد قرر الفقهاء للمساقاة عدة شروط، منها: أن تكون مؤقتةً بمدةٍ محددةٍ ومعلومةٍ للطرفين، كما قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (4/ 32، ط. دار الحديث)، ومع ذلك فقد اختلفوا في أكثرِ مدةٍ لعقدِ المساقاة، ويدخل في ذلك ما ورد في السؤال من كون الاتفاق قد حدَّد العاقدان مُدَّتَه بموت شجر العنب الموجود في المزرعة وقتَ العقد موتًا طبيعيًّا:

فذهب الحنفية إلى عدم صحة عقد المساقاة في حال عدم تحديد مدةٍ، ومن ثَمَّ فقد قرروا أن العقد في هذه الحالة ينتهي بخروج أول ثمرٍ بعده؛ لأن المساقاة من قبيل الإجارة في الجملة؛ ولأنه استئجار للعامل، وفي هذا لا يصير المعقودُ عليه معلومًا إلا ببيان المدة، ووجه تحديد العقد بأولِ ثمرٍ يخرج بعده: أنَّ الثمرةَ لإدراكها وقت معلوم وقلما يتفاوت؛ كما في "الهداية" للإمام الميرغيناني الحنفي (4/ 343، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"البناية شرح الهداية" للإمام بدر الدين العيني الحنفي (11/ 512، ط. دار الكتب العلمية).

وجريًا على هذا الأصل؛ فقد نصوا على فساد الصورة (محل السؤال) بعينها، حيث قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (23/ 104، ط. دار المعرفة): [ولو دفع إليه أصولَ رطبة على أن يقوم عليها ويسقيها حتى تذهب أصولها وينقطع نبتها على أن الخارج بينهما نصفان -فهو فاسد، وكذلك النخل والشجر؛ لأنه ليس لذلك نهاية معلومة بالعادة، وجهالة المدة في المعاملة تفسد المعاملة] اهـ.

وذهب المالكية إلى أن عقد المساقاة يجوز الاتفاق عليه لسنين ما لم تكثر جدًّا، بلا حدٍّ للكثرة، غير أنهم وضعوا ضابطًا لذلك وهو: عدم تغير أصول الشجر في العادة؛ مراعاةً لاختلاف المزارع والبساتين، بحسب النظر إلى طبيعة الأرض من حيث القوة والضعف في الخصوبة، وكذا أصول الأشجار من حيث كونها جديدة أم قديمة.

قال العلامة أبو البركات الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (3/ 544، ط. دار الفكر): [(و) جاز مساقاة عامل في حائط (سنين) ولو كَثُرت (ما لم تكثر جدًّا بلا حدٍّ) في الكثرة الجائزة وغيرها، بل المدار في الجواز على السنين التي لا تتغير الأصول فيها عادةً، وذلك يختلف باختلاف الحوائط أرضًا وأصولًا؛ إذ الجديد ليس كالقديم، ولا الأرض القوية كالضعيفة] اهـ.

ويظهر من ذلك أنَّ تحديد مدة المساقاة في الصورة المسؤول عنها بموت شجر المزرعة (محل العقد) موتًا طبيعيًّا يجري على ما قرره المالكية من مشروعية المساقاة مع طول مدتها ولو لسنوات متعاقبة بشرط عدم تغير أصول الشجر، ومع ذلك فقد نصوا على استحباب أن تكون مدة العقد من سَنَةٍ إلى أربعِ سنين.

قال الإمام ابن الحاجب المالكي في "التوضيح" (7/ 114، ط. مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث) نقلًا عن صاحب "معين الحكام" الإمام القاضي أبي إسحاق بن عبد الرفيع [ت: 734هـ]: [إلَّا أنه يستحب أن تكون المساقاة من سنةٍ إلى أربع] اهـ.

ووافق الشافعيةُ ما قرره المالكيةُ، حيث ذهبوا -في مشهور المذهب- إلى مشروعية أن تكون مدةَ عقدِ المساقاة لسنين طويلة، شريطة بقاء أصول الشجر غالبًا بحسب العادة، وضربوا مثالًا لذلك بالنخل، وذلك في بيان وجوه تحديد الإمام الشافعي هذه المدة بثلاثين سَنَةً، مع تقريرهم بأن الثلاثين ليست مُرَادةً كضابطٍ لأكثرِ المدة.

قال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (7/ 364، ط. دار الكتب العلمية): [قال الشافعي رحمه الله: "وتجوز المساقاة سنين"... فأما أكثر مدتها فكالإجارة في أكثر مدتها، وقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أكثر مدة الإجارة على قولين:... والقول الثاني: يجوز سنين كثيرة. قال الشافعي رضي الله عنه يجوز ثلاثين سنة، فمن أصحابنا من جعل الثلاثين حدًّا لأكثر المدة اعتبارًا بظاهر كلامه، وذهب سائرهم -وهو الصحيح- إلى أن قوله ثلاثين سنة ليس بحد لأكثر المدة، ولهم فيه تأويلان: أحدهما: أنه قاله مثالًا على وجه التكثير، والثاني أنه محمولٌ على ما لا يبقى أكثر من ثلاثين سنة. والقول الثاني: تجوز سنين كثيرة يُعْلَم بقاء النخل إليها، كما تجوز الإجارةُ سنينَ كثيرةً] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في "الروضة" (5/ 196، ط. المكتب الإسلامي): [وفي تقدير المدة التي يجوز عقد الإجارة عليها ثلاثة أقوال، المشهور والذي عليه جمهور الأصحاب أنه يجوز سنين كثيرة، بحيث يبقى إليها ذلك الشيء غالبًا] اهـ.

بينما ذهب الحنابلة إلى أنَّ عقد المساقاة عقدٌ جائز لا يَفتقر إلى التأقيت بمدة معلومة مطلقًا، ومن ثمَّ فلا يؤثر في صحة العقدِ الجهالةُ في مدته.

قال العلامة برهان الدين ابن مفلح الحنبلي في "المبدع" (4/ 394، ط. دار الكتب العلمية): [والمساقاة عقدٌ جائزٌ في ظاهر كلامه لا تفتقر إلى ذكر مدة] اهـ.

ويُستدل لذلك بما ورد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله سلم عَامَل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرع، ووجه الدلالة من ذلك: أنَّ المعاملة الحاصلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل خيبر لم يُتطرق فيها إلى ضرب مدة معلومة، فكان ذلك دليلًا على أنَّ عقد المساقاة عقد جائز لا يَفتقر إلى التوقيت بمدة.

كما يُستدل لذلك بأنَّ أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قد أخرج أهل خيبر من الأرض بعد معاملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، ولو كان تحديد المدة شرطًا من شروط عقد المساقاة لما جاز إخراج أهل خيبر قبل مُضي مدتهم، كما أفاده الإمام ابن قدامة في "المغني" (5/ 299).

كما يُستدل على عدم اشتراط تحديد المدة في عقد المساقاة بأنَّ لكلٍّ من المتعاقدَين الحقَّ في فسخ العقد متى شاء، ومِن ثمَّ فلا حاجة إلى تحديد العقد بمدة، بالإضافة إلى أنه يصح قياس عدم تحديد مدة على المضاربة بجامع أنَّ كلًّا منهما عقدٌ على المال بجزء من نمائه، والمضاربة لا يُفتقر فيها إلى ضَرْبِ مدةٍ، فكذا المساقاة، كما قال الإمام ابن قدامة في "الكافي" (2/ 163، ط. دار الكتب العلمية).

الخلاصة

بناء عليه: فإنَّ تحديد المدة في عقد المساقاة بسنوات طويلة تصل إلى موت أصول الشجر يتفق مع ما قرره فقهاء المالكية والشافعية في المشهور من مشروعية ذلك؛ شريطة عدم تغير أصول الشجر وبقاء عينها، كما يندرج تحت نصوص فقهاء الحنابلة الذين أطلقوا المشروعية في عدم تأقيت مدة المساقاة.

وفي واقعة السؤال: لا حرج شرعًا في التعامل بهذا العقد بالصورة المسؤول عنها، ولا يضر تحديد مدة العقد بموت شجر العنب الموجود في المزرعة وقت التعاقد موتًا طبيعيًّا، والأولى في مثل هذه العقود تحديد مدة معلومة للعقد كثلاث سنين أو نحو ذلك؛ خروجًا مِن خلاف مَن قال بفساده.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا