البلد المعتبر في دخول رمضان للمسافر إلى عدة أماكن يوم 29 شعبان

البلد المعتبر في دخول رمضان للمسافر إلى عدة أماكن يوم 29 شعبان

ما البلد المعتبر في دخول شهر رمضان للمسافر إلى عدة أماكن يوم 29 شعبان؟ فأنا عندي سفر لعدة دول قبل رمضان، وسيوافق يوم العودة يوم 29 شعبان، فعلى أي دولة أتحرى دخول رمضان؟ لأنني بعد المغرب من يوم 29 شعبان إلى ما بعد فجر 30 شعبان، أو 1 رمضان سأكون في الطائرة من دولة إلى دولة أخرى.

العبرة بالبلد الذي ثبتت رؤية هلال رمضان والمسافر فيه، فيجب عليه أن يوافِق أهل المكانِ الذي تثبُت الرؤية وهو مقيمٌ به عند غروب الشمس، فيصوم معهم -إن ثبتت الرؤية بإعلان جهة الاختصاص-؛ لأنه قد صار في حكم أهل هذا المكان فيلزمه حكمهم صومًا وإفطارًا.

التفاصيل ....

المحتويات

 

وجوب صيام رمضان برؤية الهلال

المقرَّر شرعًا أن اعتبار وجوب الصَّوم والفِطر على المكلَّفين يكون برؤيةِ الهلال، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقْدُرُوا له» متفق عليه.

ووجهُ دلالة الحديث على المطلوب: أن الشَّارع قد جعل رؤية الهلال أمارة على وجوب الصَّوم، وأوجب على كلِّ قوم أن يعتبِروه بوقت الرؤية في بلادهم دون بلاد غيرهم. ينظر: "شرح صحيح البخاري" للإمام الخطابي (2/ 943، ط. أم القرى).

وقد حُكي الإجماع على ذلك، قال ابنُ حزم في "مراتب الإجماع" (ص40، ط. دار الكتب العلمية): [وأجْمعُوا على أَن الكافة إذا أخبرت بِرُؤْيَة الهلال أَن الصِّيام والإفطار بذلك واجِبان] اهـ.

أثر اختلاف المطالع على الصيام وأقوال الفقهاء في ذلك

مِن المقرَّر شرعًا أن الصَّوم عبادةٌ يجتمعُ فيها المسلمون في يوم محدَّد مِن أجْل أدائها، وهذا الاجتماعُ مِن مقاصد الشرع الشريف؛ وذلك لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الصَّومُ يوم تصُومون، والفطرُ يوم تفطِرُون، والأضحى يوم تُضَحُّون» أخرجه الترمذي في "سننه".

وجهةُ الدلالة في هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم بيَّن أنَّ العبادة الجماعيَّة، كالصَّوم والإفطار والأضحية والتَّعييد ونحوِها الأصلُ فيها هو استصحابُ الجماعةِ التي يُوجد الشخصُ فيهم وعدم الانفراد عنهم.

ومما يُستفاد منه: أن الأصل في المسلم أنه يصوم ويُفْطِر مع الجماعةِ سواءٌ أكان مقيمًا ببلدِهِ أو مسافِرًا لغيرها؛ لأن المسافِر يلزمُه حكم أهلِ البلد الذين قد انتقَلَ إليهم صومًا وإفطارًا؛ لأنَّه صار واحِدًا منْهم.

قال أبو عيسى الترمذي في "السنن" (3/ 71، ط. الحلبي): [فسَّر بعضُ أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معنى هذا أن الصَّوم والفطر مع الجماعة وعُظْمِ الناس] اهـ.

وهذا مبنِيٌّ على القولِ باعتبار اختلاف المطالع، فإن العلماء قد اختلفوا في اعتباره من عدمه في خصُوص ما يترتَّب على رؤية الهلال في إحدى البلدان مِن وجوب الصوم أو الفطر على غيرها ممَّن لم يشاهد فيها الهلال.

فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، بمعنى أنه إذا رأى الهلالَ أهلُ بلد ولم يره أهل بلد آخر وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان. يُنظر: "البحر الرائق" للعلامة ابن نجيم المصري الحنفي (2/ 14، ط. دار الكتب العلمية)، و"حاشية الصاوي على الشرح الصغير" للإمام الصاوي المالكي (1/ 225، ط. دار المعارف)، و"كشاف القناع" للعلامة البهوتي الحنبلي (2/ 349، ط. دار الكتب العلمية).

ومذهبُ الشافعية هو اعتبارُ اختلافِ المطالع، وهو المفتى به.

قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (2/ 348، ط. المكتب الإسلامي): [إذا رئُي هلال رمضان في بلد، ولم ير في الآخر، فإن تقارب البلدان، فحكمها حكم البلد الواحد، وإن تباعدا، فوجهان. أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.

وقال الإمام زكريا الأنصاري في "شرح البهجة الوردية" (2/ 217، ط. المطبعة الميمنية) معللًا اعتبار اختلاف المطالع: [إذ لا تعلق للرؤية بمسافة القصر فيثبت حكمه في حق مَنْ بمكانٍ اتحد مطلعه بمطلع مكان الرؤية دون غيره، فإن شك في اتحاده فلا وجوب؛ لأن الأصل عدمه، قال السبكي: ومع الاختلاف قد تستلزم الرؤية بأحد المكانين الرؤية بالآخر بدون العكس إذ دخول الليل بالشرق قبل دخوله بالغرب، فتستلزم رؤيته شرقًا رؤيته غربًا بدون العكس، فرؤيته بالشام لكونها غربية بالنسبة للمدينة لا تستلزم رؤيته بالمدينة، وفي إطلاقه دخول الليل بالشرق قبل دخوله بالغرب نظر] اهـ.

والأصلُ في ذلك ما ورد من حديث كُرَيْبٍ رضي الله عنه، أن أم الفضل بنت الحارث، بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدِمْتُ الشام، فقضَيتُ حاجتها، واستهلَّ علي رمضان وأنا بالشام، فرأيتُ الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتُم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنتَ رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه النَّاس، وصاموا وصام معاوية، فقال: «لكنَّا رأيناهُ ليلة السبت، فلا نزالُ نصوم حتى نُكمل ثلاثين، أو نراهُ»، فقلت: أوَلَا تكتفي برؤيةِ معاوية وصيامه؟ فقال: «لا، هكذا أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم» رواه مسلم.

قال أبو العباس القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 142، ط. دار الكلم الطيب): [هو حجَّة على أنَّ البلاد إذا تباعَدَتْ، كتباعد الشَّام مِن الحجاز أو ما قارَبَ ذلك، فالواجِبُ على أهل كلِّ بلد أن تعمل على رؤيتِه دون رؤية غيره] اهـ.

البلد المعتبر في دخول رمضان للمسافر إلى عدة أماكن يوم 29 شعبان

أمَّا مَن سافر إلى عدة أماكن يوم 29 شعبان -كما هو مسألتنا- فيجِبُ عليه أن يوافِق أهلَ البلد الذي سافر إليه في رؤيتهم هلال رمضان، فإذا ثبتَت الرؤية بعد غروب الشمس والسَّائل ما زال مقيمًا بأرضها فإنه يصوم معهم؛ لأنه بات من أهل هذا البلد فيلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185].

قال الإمام ابنُ كثير في تفسيره (1/ 369، ط. دار الكتب المصرية): [هذا إيجابُ حتْم على مَن شهد استهلال الشهر، أي: كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيحٌ في بدنه أن يصوم لا مَحالة] اهـ.

وقد نصَّ فقهاءُ الشافعيةِ والحنابلة في هذه الصورة على أن العِبرة في الصوم والفِطر بالبلد الذي سافر إليه المكلفُ وثبتَتْ لدى أهله رؤيةُ الهلال.

قال الإمام زكريا الأنصاري الشافعي في "شرح منهج الطلاب" (1/ 138، ط. دار الفكر): [(فلوْ سافر إلى) محلٍّ (بعيد مِن محلِّ رؤْية) مَن صام به (وافَقَ أهله في الصَّوم آخِرًا. فلو عيَّد قبل سفره (ثم أدركهم) بعده (أمسَك) معهم وإن تمَّ العدد ثلاثين؛ لأنه صار منهم)] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 349): [إذا رآه جماعةٌ ببلد، ثم سافروا إلى بلدٍ بعيد: فلم يُر الهلال به في آخِر الشهر مع غيم أو صحو، فلا يحِلُّ لهم الفطر ولا لأهلِ ذلك البلد] اهـ.

الخلاصة

بناء على ذلك: فالعبرة بالبلد الذي ثبتت رؤية هلال رمضان والمسافر فيه، فيجب عليه أن يوافِق أهل المكانِ الذي تثبُت الرؤية وهو مقيمٌ به عند غروب الشمس، فيصوم معهم -إن ثبتت الرؤية بإعلان جهة الاختصاص-؛ لأنه قد صار في حكم أهل هذا المكان فيلزمه حكمهم صومًا وإفطارًا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا