أثر التخدير لإجراء العمليات على الصيام

أثر التخدير لإجراء العمليات على الصيام

هل التخدير الطبي لإجراء العمليات في نهار رمضان يبطل الصيام؟ فقد قمت بإجراء عملية جراحية في نهار رمضان، وقد أخذت المخدر اللازم لإجراء هذه العملية حتى غبت عن الوعي تمامًا، وقد أفقتُ من هذا المخدر قبل أذان المغرب، ولم أتناول أكلًا ولا شُربًا، وكنت قد نويتُ الصيام من الليل، فما حكم صوم هذا اليوم؟ هل تؤثر هذه الفترة التي غبتُ فيها عن الوعي على صحة الصوم؟ أفيدوني أفادكم الله.

لا يفسد الصوم بالتخدير الجزئي، ولا بالتخدير الكلي إن أفاق الصائم جزءًا من النهار وكان قد بيَّتَ نية الصوم من الليل باتفاق، ولا يؤثر غياب الوعي نتيجة ذلك، وإن لم يفق أثناء النهار صح صومه عند الحنفية، وذلك ما لم يوجد منه ما ينافي الإمساك.

التفاصيل ....

المحتويات

 

ما ورد في السنة النبوية من الحث على التداوي من الأمراض

حثَّ الشرع الشريف على التداوي من الأمراض، وأمر باتِّخاذ كافة السبل والإجراءات المؤدية إلى مداواتها والعلاج منها؛ أخذًا بالأسباب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» رواه البخاري في "الصحيح".

وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنزِلْ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً» أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، والإمام أحمد في "المسند".

مفهوم التخدير الطبي وأثره على المريض

إجراء العمليات الجراحية من جملة الوسائل المشروعة في التداوي؛ إذ الوسائل لها حكم المقاصد، وقد يحتاج بعض المرضى إلى التدخل الجراحي، ويحتاج إلى التخدير لإجراء هذه العملية، والتخدير في اللغة مأخوذ من "خَدِرَ" وأصله يدور حول معنيين: الأول: الستر والظلمة، والثاني: الإقامة والبطء؛ كما في "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 159، ط. دار الفكر)، و"الخدر: الكسل والفتور، وخدرت عظامه: فترت، وهو مَجَازٌ" كما قال العلامة المرتضى الزبيدي في "تاج العروس" (11/ 141، ط. دار الهداية).

قال العلامة التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 394، ط. مكتبة لبنان ناشرون) في تعريف التخدير: [هو مقابل اللَّذْع، وهو تبريد للعضو بحيث يصير جوهر الروح الحامل لقوة الحسِّ والحركة باردًا في مزاجه، غليظًا في جوهره، فلا تستعملها القوى النفسانية] اهـ.

وجاء في "المعجم الوسيط" (1/ 220، ط. دار الدعوة): [(المخدر) مادة تسبب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة] اهـ.

والتخدير الطبي: عبارة عن إعطاء الطبيب المختص بالتخدير للمريض أدوية معينة -كالبنج ونحوها، ولكلٍّ منها خواصه المنفردة- بغرض فقد إحساسه وتعطيل شعوره وغياب وعيه المصحوب بتسكين الألم، وهو إما أن يكون جزئيًّا (مَوضِعيًّا) بحيث يفقد المريض حسَّ الألم في موضع محدد من الجسم دون أن يفقد وعيه، أو أن يكون تخديرًا عامًّا يصيب الجسم كله -كما في الحالة المسؤول عنها-، ويصير معه المريض في حالة أكثر من مجرد حالة النوم؛ لأن الدماغ حينها لا يستجيب لإشارات الألم أو انعكاساته، فلا يشعر المريض بألمٍ ما دام تحت تأثير هذا التخدير. يُنظر: (الوعي بالتخدير (الاستيقاظ) أثناء الجراحة، على موقع الجمعية الأمريكية لأطباء التخدير، وستيفنز سي دبليو "التخدير الموضعي والعام في علم الأدوية"، ص: "ج"، عام 2023م).

أثر التخدير الطبي على أهلية المريض

التخدير الطبي الكلي للمريض يجعله يغيب عن الوعي والإدراك، وهو مِن العوارض التي تؤثر على أهليته، والتي هي عبارة عن خصال أو آفات لها تأثير في الأحكام بالتغيير أو الإعدام، وهي تنقسم إلى: أهلية وجوب، وأهلية أداء.

أما أهلية الوجوب: فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معًا، أو له فقط، ويعبَّر عنها بـ "أهلية الشخص للإلزام والالتزام".

وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية الإنسان لكون ما يصدر عنه معتبرًا شرعًا، فهي صفة تجعل المرء أهلًا للإيجاب والقبول والإنشاء وغيرها مِن الأعمال التي اشترط الشرعُ العقلَ لاعتبارها، ويتوقف على تلك الأهلية اعتبار التصرفات سواء كانت قولية أو فعلية، وهذه الأهلية قد يطرأ عليها ما يؤثِّر بالنقص أو الزوال؛ كالجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء، والجهل، والسُّكر، والخطأ، والإكراه، ونحو ذلك.

وسميت عوارض الأهلية بذلك: لمنعها الأحكام المتعلقة بأهلية الوجوب؛ كالموت، أو لأهلية الأداء؛ كالجنون والنوم والإغماء، أو مُغيرة لبعض الأحكام مع بقاء أصلها؛ كالسفر؛ كما قاله العلامة ابن أمير الحاج في "التقرير والتحبير" (2/ 172، ط. دار الكتب العلمية).

وهذه العوارض هي حالة من حالات ذهاب محل التكليف؛ لما تقرر أنَّ العقل هو تمام أهلية الإنسان التي عليها مدار تكليفه وخِطابه، من الأوامر والنواهي؛ وذلك لكونه آلة الفهم ووسيلة الإدراك.

قال العلامة زين الدين بن قُطْلُوبُغا في "خلاصة الأفكار" (ص: 179، ط. دار ابن حزم): [وتمام الأهلية الذي جعل منه مناط التكليف المعتبر فيها: العقلُ] اهـ.

فإذا طرأ للعقل عارض أَثَّر على إدراكه بالنقصان أو الزوال: كان له أَثَرٌ على الحكم، لذلك رفع الشرع الشريف عن مريض العقل التكليفَ وأسقط عنه الخطاب؛ ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» رواه أبو داود والنسائي والدارقطني في "سننهم"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

وفي رواية: «وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ» أخرجه أحمد في "المسند" من طريق أبي ظبيان.

وفي رواية: «وَعَنِ المُصَابِ حَتَّى يُكشَف عَنهُ» أخرجه أحمد في "مسنده"، من حديث عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وصحح إسنادَه ابن الجزري في "مناقب الأسد الغالب".

والمعاني الواردة في الأحاديث كلها متقاربة أو متوافقة؛ كما قال الإمام السبكي في "إبراز الحِكَم" (ص: 98، ط. دار البشائر)، وهي تدل على عدم تعلق الخطاب التكليفي بهذه الخصال.

وبذلك يظهر أن التخدير الكلي نوعٌ من الحالات الطبية التي تُغيب العقل وتفقده الإدراك مدة مُعيَّنة -حسب الحاجة الطبية كما ذكرنا-، وهو وإن كان لا يدخل ضمن معنى من المعاني المنصوص عليها في الأحاديث، إلَّا أنه لا يخرج عن معناه الكلي، وهو غياب العقل؛ لأن "من زال عقله بمرضٍ؛ كالمغمى عليه، والمبرسم، ونحوهما: فلأنه في معناه -أي: من زال عقله بجنونٍ أو مرضٍ-؛ فألحق به"؛ كما قال العلامة ابن الرفعة في "كفاية النبيه" (2/ 299، ط. دار الكتب العلمية).

قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [فوردَ النص في المجنون، وقيسَ عليه كلُّ مَن زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواءٌ قلَّ زمن ذلك أو طال] اهـ.

ولذلك جمع الفقهاء بينها من حيث الأثر وترتب الحكم؛ ففي نواقض الوضوء قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (4/ 74، ط. دار إحياء التراث العربي): [واتفقوا على أنَّ زوال العقل بالجنون والإغماء والسُّكر بالخمر أو النبيذ أو البنج أو الدواء ينقض الوضوء، سواء قلَّ أو كَثُر] اهـ.

أي: أنَّ المغلوب على عقله عامٌّ بين السكران، والمجنون، والنائم، والمريض الذي زال عقلُهُ بالمرض، والمُغْمَى عليه، ونحو ذلك؛ قال الإمام المظهري في "مفاتيح المصابيح" (4/ 103، ط. النوادر): [(المغلوب على عقله): عامٌّ بين السَّكران، والمجنون، والنائم، والمريض الذي زال عقلُهُ بالمرض، والمغمى عليه] اهـ.

أثر التخدير الطبي لإجراء العمليات على الصائم

يندرج الحكم في مسائل تخدير المكلف أثناء صومه ضمن ما نصَّ عليه الفقهاء في مسألة "صيام المغمى عليه"؛ وذلك لأن أقرب المعاني لفقد الوعي الذي يتعطَّل معه الإدراك من كلام الفقهاء هو معنى "الإغماء"؛ لأنَّ "الإغماء آفة في القلب أو الدماغ -على سبيل منع الخلو- تعطل القوى المدركة والمحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوبًا... (وَهُوَ) أَي الْإِغْمَاء (فَوق النَّوم) فِي سلب الاختيار وتعطل القوى: وَلذَا يمْتَنع فِيهِ التَّنْبِيه؛ كما قال العلَّامة أمير بادشاه الحنفي في "تيسير التحرير" (2/ 266، ط. دار الكتب العلمية)؛ بل نصُّوا على أنَّ فقد الوعي بسبب "البنج" هو بمنزلة الإغماء؛ كما جاء في "المبسوط" للإمام السرخسي (6/ 176، ط. دار المعرفة)، و"البحر الرائق" للعلامة ابن نُجيم (5/ 30، ط. دار الكتاب الإسلامي).

وقد ذهب جمهور الفقهاء -من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة- إلى صحة صوم الشخص الذي نوى الصوم مِن الليل ثم أغمي عليه جزءًا مِن نهاره وأفاق في بعضه؛ لأن العقل والإفاقة ليسا مِن شرائط صحة أداء الصوم؛ بل ذهب الحنفية إلى أنه لو لم يفق أثناء النهار صح صومه وكان مؤديًا للفرض، وذلك ما لم يوجد منه ما ينافي الإمساك.

قال العلامة علاء الدين البخاري الحنفي في "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" (4/ 248، ط. دار الكتاب الإسلامي): [قوله: (والإغماء) لما لم يناف حكم وجوب الصوم، وهو الأداء في الحال أو القضاء في غير حرجٍ في الثاني، ولا اعتبار لامتداده في الصوم لندرته لم يناف نفس وجوب الصوم، وإنما قلنا إنه غير مناف للأداء لا أنه إذا جُنَّ أو أغمي عليه بعدما نوى الصوم ولم يوجد منه ما ينافي الإمساك صح صومه، وكان مؤديًا للفرض] اهـ.

وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 83، ط. دار الفكر): [وكذا العقل والإفاقة ليسا مِن شرائط صحة الأداء، حتى لو نوى الصوم من الليل ثم جُنَّ في النهار أو أغمي عليه يصح صومه في ذلك اليوم] اهـ.

وجاء في "المدونة" (1/ 276، ط. دار الكتب العلمية): [فلو أنه أغمي عليه بعد أن أصبح ونيته الصيام إلى انتصاف النهار ثم أفاق بعد ذلك أيجزئه صيامه ذلك اليوم؟ قال: نعم يجزئه] اهـ.

وقال الإمام القرافي في "الذخيرة" (2/ 494، ط. دار الغرب الإسلامي): [وإن مضى أكثره قبل الإغماء، أو أغمي عليه بعد الفجر إلى نصفه، أو نام جميعه: أجزأه] اهـ.

وقال الإمام الشمس الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (3/ 176، ط. دار الفكر): [(والأظهر أن الإغماء لا يضر إذا أفاق لحظة من نهاره) أيَّ لحظة كانت اكتفاء بالنية مع الإفاقة في جزء؛ لأنه في الاستيلاء على العقل فوق النوم ودون الجنون] اهـ.

وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (3/ 16، ط. دار الكتب العلمية): [(ومَن نوى قبل الفجر ثم جُنَّ أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه)... (وإن أفاق) أي: المغمى عليه (جزءا منه، صح صومه) لقصده الإمساك في جزءٍ من النهار، فأجزأ كما لو نام بقية يومه. وظاهره: أنه لا يتعين جزء للإدراك، ولا يفسد قليل الإغماء الصوم] اهـ.

الخلاصة

بناء على ذلك: فلا يفسد الصوم بالتخدير الجزئي، ولا بالتخدير الكلي إن أفاق جزءًا من النهار وكان قد بيَّتَ نية الصوم من الليل باتفاق، وإن لم يفق أثناء النهار صح صومه عند الحنفية، وذلك ما لم يوجد منه ما ينافي الإمساك.

وفي واقعة السؤال: لا يؤثر غيابُ وعيكَ نتيجة التخدير الكلي المتطلب لإجراء العملية الجراحية على الصوم، خاصة وأنك قد نويتَ الصيام من الليل وأفقتَ قبل وقت المغرب، ولم تتناول أيَّ مفطرٍ طوال اليوم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا