سائلة تقول: ما حكم تغسيل وتكفين شهداء الهدم؟ فهناك جارٌ لنا سقط عليه سقف منزله فمات تحته، فأخبرتني إحدى صديقاتي أنه شهيدٌ بسبب الهدم؛ لكنها قالت لي: إن الشهيد لا يُغَسَّلُ ولا يُكَفَّنُ ولا يُصَلَّى عليه. فما مدى صحة ذلك؟
حكم تغسيل وتكفين شهداء الهدم والصلاة عليهم
القول بأنَّ الميتَ بسبب الهدم لا يُغَسَّل ولا يُكَفَّن ولا يصلى عليه غير صحيح، والصواب: أن صاحب الهدم ومَنْ مثله كالغريق والمبطون شهيدٌ في ثواب الآخرة، فيأخذ أحكام الشهيد في الآخرة لا في الحياة الدنيا، فيغسل ويكفن ويصلى عليه.
التفاصيل ....المحتويات
- أنواع الشهداء في الإسلام وبيان سبب كل نوع
- حكم تغسيل وتكفين شهداء الهدم وأقوال الفقهاء في ذلك وهل يصلى عليهم؟
- الخلاصة
أنواع الشهداء في الإسلام وبيان سبب كل نوع
المقرر أن الشهداء على ثلاثة أقسام؛ الأول: شهيد الدُّنيا والآخرة: الَّذي يُقْتَل في المعركة والدفاع عن الأوطان، وهو المقصود من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قاتلَ لِتَكُونَ كلِمةُ اللهِ هيَ الْعُليا فهوَ في سبيلِ اللهِ» متفقٌ عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وتسمى هذه الشهادة بالشهادة الحقيقية.
والثاني: شهيد الدُّنيا: وهو مَن قُتِلَ كذلك، ولكنه قُتِلَ مُدْبِرًا، أو قاتل رياءً وسُمعةً، ونحو ذلك؛ فهو شهيد في الظاهر وفي أحكام الدنيا.
والثالث: شهيد الآخرة: وهو مَن له مرتبة الشهادة وأجر الشهيد في الآخرة، لكنه لا تجري عليه أحكام الشهيد من النوع الأول في الدنيا مِن تغسيله وتكفينه والصلاة عليه؛ وذلك كالميِّت بداء البطن، أو بالطَّاعون، أو بالغرق، أو الهدم، ونحو ذلك، وهذه تُسمَّى بالشهادة الحُكْمية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطعُونُ، والمَبطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدمِ، والشَّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ» أخرجه الشيخان.
وعَنْ جَابِر بْنِ عَتِيكٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ لَمَّا مَاتَ قَالَتْ ابْنَتُهُ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، أَمَا إِنَّكَ قَدْ كُنْتَ قَضَيْتَ جِهَازَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟» قَالُوا: قَتْلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ» أخرجه الأئمة: مالك في "الموطأ"، وأحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، وابن حبان في "الصحيح"، والطبراني في "المعجم الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والحاكم في "المستدرك" وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
قال كمال الدين الدَّمِيرِيُّ في "النجم الوهاج" (3/ 71، ط. دار المنهاج): [الشهداء ثلاثة أقسام:
شهيد في حكم الدنيا -في ترك الغسل والصلاة- وفي الآخرة، وهو: مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
والثاني: شهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو: مَن قاتل رياء وسمعة وقُتِل، والمقتول مدبرًا أو وقد غلَّ من الغنيمة، فلا يغسل ولا يصلى عليه، وليس له من ثواب الشهيد الكامل في الآخرة..
والثالث: شهيد في الآخرة فقط، وهم: المبطون، والمطعون، ومَن قتله بطنه، والغريق، والحريق، واللديغ، وصاحب الهدم، والميت بذات الجُنُب أو محمومًا، ومَن قتله مسلم أو ذمي أو باغ في غير القتال، فهؤلاء شهداء في الآخرة لا في الدنيا؛ لأن عمر وعثمان رضي الله عنهما غُسِّلَا وهما شهيدان بالاتفاق] اهـ.
فهذه الأسباب المتعددة وغيرها قد تفضَّل الله تعالى على مَن مات بها صابرًا مُحتسبًا بأجر الشهيد؛ لِما فيها من الشِّدَّة وكثرة الألم والمعاناة.
قال الإمام أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (2/ 27، ط. دار السعادة) في شرح حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه: [وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟» سؤال لهم عن معنى الشهادة؛ ليختبر بذلك علمهم، ويفيدهم مِن هذا الأمر ما لا عِلْمَ لهم به، قالوا: القتل في سبيل الله، وإنما سألهم عن جنس جميع الشهادة فأخبروه عن بعضها؛ وهو جميع ما كان يسمَّى عنده شهادة، فقالوا: القتل في سبيل الله، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الشهادة سبعة سوى القتل في سبيل الله؛ تسليةً للمؤمنين، وإخبارًا لهم بتفَضُّل الله تعالى عليهم، فإنَّ الشهادة قد تكون بغير القتل، وإن شهداء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما يعتقدهُ الحاضرون.. وهذه ميتات فيها شِدَّة الأمر، فتفضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم؛ زيادةً في أجرهم حتى بلَّغهم بها مراتبَ الشهداء] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (13/ 63، ط. دار إحياء التراث العربي) شارحًا حديث أبي هريرة المتقدم: [وقد قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفَضُّل الله تعالى؛ بسبب شِدَّتها وكثرة ألَمِهَا] اهـ.
حكم تغسيل وتكفين شهداء الهدم وأقوال الفقهاء في ذلك، وهل يصلى عليهم؟
تواردت نصوص الفقهاء على وجوب تغسيل صاحب الهدم وتكفينه والصلاة عليه، بل إن بعضهم نقل الإجماع على ذلك.
قال زين الدين ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 211، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لو مات حتف أنفه أو تردَّى من موضع، أو احترق بالنار، أو مات تحت هدم أو غرق لا يكون شهيدًا، أي: في حكم الدنيا، وإلا فقد شهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للغريق وللحريق والمبطون والغريب بأنهم شهداء، فينالون ثواب الشهداء] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 284، ط. دار الفكر): [لو مات حتف أنفه أو بتردٍّ أو حرق أو غرق أو هدم لم يكن شهيدًا في حكم الدنيا، وإن كان شهيدًا في الآخرة] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الإشراف" (1/ 359، ط. دار ابن حزم): [سائر شهداء المسلمين سوى المقتول في المعترك يغسلون ويصلى عليهم] اهـ.
وقال العلَّامة علي بن خلف المنوفي المالكي في "كفاية الطالب الرباني" (1/ 424، ط. دار الفكر): [ويُصَلَّى على كلِّ ميتٍ مسلم حاضر تقدم استقرار حياته ليس بشهيد معركة، ولا يصلى على مَن صُلِّي عليه ولا مَن فُقِدَ أكثره، فإذا فُقِدَ شيء من هذه الشروط: سقطت الصلاة عليه، وكذا الغسل فإنهما متلازمان] اهـ.
وقال الإمام العمراني الشافعي في "البيان" (3/ 86، ط. دار المنهاج): [قال الشيخ أبو حامد: وأما سائر الشهداء، مثل: مَن مات بحريق، أو غرق، أو بطن، أو تحت الهدم، وما أشبه ذلك.. فإنهم يُغَسَّلُون، ويُصَلَّى عليهم، بلا خلاف؛ لعموم الخبر، ولأنه مسلم مات في غير معترك الكفار، فوجب غسله، والصلاة عليه، كما لو مات بغير هذه الأمراض] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (5/ 264، ط. دار الفكر): [الشهداء.. كالمبطون، والمطعون، والغريق، وصاحب الهدم، والغريب، والميتة في الطَلْق، ومَن قتله مسلم أو ذمي أو مأثم في غير حال القتال وشبههم؛ فهؤلاء يغسلون ويصلى عليهم بلا خلاف. قال أصحابنا رحمهم الله: ولفظ الشهادة الوارد فيهم المراد به أنهم شهداء في ثواب الآخرة لا في ترك الغسل والصلاة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 399، ط. مكتبة القاهرة): [أما الشهيد بغير قتل؛ كالمبطون، والمطعون، والغرق، وصاحب الهدم، والنفساء، فإنهم يغسلون، ويصلى عليهم، لا نعلم فيه خلافًا.. وكل هؤلاء يغسلون ويصلى عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك غسل الشهيد في المعركة؛ لما يتضمنه مِن إزالة الدم المستطاب شرعًا، أو لمشقة غسلهم؛ لكثرتهم، أو لما فيهم من الجراح، ولا يوجد ذلك هاهنا] اهـ.
وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 118-119، ط. دار الكتب العلمية): [(والشهداء غير شهيد المعركة).. (بضعة وعشرون) شهيدًا (المطعون) أي: الميت بالطاعون (والمبطون والغريق والشريق والحريق وصاحب الهدم) أي: مَن مات بانهدام شيء عليه؛ كمن ألقي عليه حائط ونحوه.. (والشهيد بغير قتلٍ كغريق ونحوه ممَّا تقدم ذكره) غير مَن استثنى (يُغَسَّل ويُصَلَّى عليه)؛ لأنه ليس بشهيدِ معركةٍ ولا مُلْحقًا به] اهـ.
الخلاصة
بناء على ذلك: فإن ما قالته صديقتك وأخبرت به من كون الميت بسبب الهدم لا يُغَسَّل ولا يُكَفَّن ولا يصلى عليه -غير صحيح، والصواب: أن صاحب الهدم ومن مثله كالغريق والمبطون شهيدٌ في ثواب الآخرة، فيأخذ أحكام الشهيد في الآخرة لا في الحياة الدنيا، فيغسل ويكفن ويصلى عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.