قد يحدث أحيانًا اجتماع أكثر من جنازة للصلاة عليها في وقت واحد، كما وقع في كثير من الأحيان وذكرته بعض كتب الفقه وكثير من كتب التاريخ، ويكون ذلك في حالات الفتن أو انتشار الأوبئة والزلازل ونحو ذلك، كما أخرج ابن أبي شيبة عن عبد ربه بن أبي راشد، قال: كان الناس في طاعون الجارف يصلون على جنائز الرجال والنساء متفرقين، فجاء جابر بن زيد -فيما يحسب عبد ربه-؛ فجعل النساء أمام الرجال فصلى عليهم جميعًا.
والحكم الراجح في هذه المسألة: أن يصلى على الجنائز مجتمعة، وأن تجعل الجنائز المختلفة كصفوف الصلاة، فيقدم من جهة الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء.
وأما الدليل على جواز فعلها مجتمعة: فهو ما ورد فيها من آثار عن الصحابة فمن بعدهم كما في "سنن النسائي" أن ابن عمر رضي الله عنهما صلى على تسع جنائز جميعًا، فجعل الرجال يلون الإمام، والنساء يلين القبلة، فصفهن صفًا واحدًا، ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب، وابن لها يقال له زيدٌ، وضعَا جميعًا والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو قتادة رضي الله عنهم، فوضع الغلام مما يلي الإمام. فقال رجلٌ: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة رضي الله عنهم، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة.
وتصريح هؤلاء الصحابة جميعًا بأن هذه الكيفية هي السنة تعطيها حكم الرفع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على استحبابها.
ثم ترتيب وضع الموتى أمام الإمام بحسب فضلهم على ما ورد في تفضيل الشرع، وذلك على سبيل الاستحباب.
كما أن الجمع أولى للإسراع بالجنازة وهو مطلوب شرعًا، كما أنه أخف على المؤمنين وهو مطلب شرعي عام كذلك.
وبنحو ما قلنا ذكره قال أهل العلم:
قال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 112، ط. دار الفكر): [(فإن اجتمع رجالٌ موتى فقط) أي: لا نساء معهم ولا خناثى (أو) اجتمع (خناثى) موتى (فقط) لا رجال ولا نساء معهم (سوى بين رؤوسهم) لأن موقفهم واحدٌ، وإن اجتمع أنواعٌ سوّى بين رؤوس كل نوع (ومنفرد كإمام) فيقف عند صدر رجل ووسط امرأة، وبين ذلك من خنثى (ويقدم إلى الإمام من كل نوع أفضلهم) أي: أفضل أفراد ذلك النوع؛ لأنه يستحق التقدم في الإمامة لفضيلته، فاستحق تقديم جنازته، ويؤيد ذلك: "أنه كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُقَدَّمُ فِي الْقَبْرِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ قُرْآنًا"، فيقدم إلى الإمام الحر المكلف ثم العبد المكلف، ثم الصبي، ثم الخنثى ثم المرأة، نقله الجماعة كالمكتوبة (فإن تساووا) في الفضل (قدم أكبر) أي أسن؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَبِّرْ كَبِّرْ»، (فإن تساووا) في السن (فسابقٌ) أي: يقدم لسبقه (فإن تساووا) في ذلك (فقرعةٌ) فيقدم من تخرج له القرعة كالإمامة.
(ويقدم الأفضل من الموتى أمام) أي قدام (المفضولين في المسير)؛ لأن حق الأفضل أن يكون متبوعًا لا تابعًا (ويجعل وسط المرأة حذاء صدر الرجل، و) يجعل (خنثى بينهما) إذا اجتمعوا ليقف الإمام والمنفرد من كل واحد من الموتى موقفه (وجمع الموتى في الصلاة عليهم أفضل من الصلاة عليهم منفردين) أي على كل واحد وحده، محافظة على الإسراع والتخفيف] اهـ.
وقال العلامة الشيرازي في "المهذب" (1/ 246، ط. دار الكتب العلمية): [فإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم، فإن كان رجل وصبي وامرأة وخنثى قدم الرجل إلى الإمام، ثم الصبي، ثم الخنثى المشكل ثم المرأة؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء؛ فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة.
وروى عمار بن أبي عمار: أن زيد بن عمر بن الخطاب وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا فصلى عليهما سعيد بن العاص؛ فجعل زيدًا مما يليه وأمه مما يلي القبلة، وفي القوم الحسن والحسين وأبو هريرة وابن عمر، ونحو ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم أجمعين.
والأفضل أن يفرد كل واحد بصلاة، فإن صلى عليهم صلاة واحدة جاز؛ لأن القصد من الصلاة عليهم الدعاء لهم، وذلك يحصل بالجمع في صلاة واحدة] اهـ.
وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/ 316، ط. المكتبة العلمية): [ثم كيف توضع الجنائز إذا اجتمعت؟ فنقول: لا يخلو إما أن كانت من جنس واحد، أو اختلف الجنس، فإن كان الجنس متحدًا فإن شاؤوا جعلوها صفًا واحدًا، كما يصطفون في حال حياتهم عند الصلاة، وإن شاؤوا وضعوا واحدًا بعد واحد مما يلي القبلة؛ ليقوم الإمام بحذاء الكل، هذا جواب ظاهر الرواية.
وروي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أن الثاني أولى من الأول؛ لأن السنة هي قيام الإمام بحذاء الميت، وهو يحصل في الثاني دون الأول، وإذا وضعوا واحدًا بعد واحد ينبغي أن يكون أفضلهم مما يلي الإمام، كذا روي عن أبي حنيفة أنه يوضع أفضلهما مما يلي الإمام وأسنهما، وقال أبو يوسف: والأحسن عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى».
ثم إن وضع رأس كل واحد منهم بحذاء رأس صاحبه فحسنٌ، وإن وضع شبه الدرج -كما قال ابن أبي ليلى: وهو أن يكون رأس الثاني عند منكب الأول- فحسنٌ، كذا روي عن أبي حنيفة أنه إن وضع هكذا فحسنٌ أيضًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه دفنوا على هذه الصفة فيحسن الوضع للصلاة على هذا الترتيب أيضًا.
وأما إذا اختلف الجنس بأن كانوا رجالًا ونساءً توضع الرجال مما يلي الإمام، والنساء خلف الرجال مما يلي القبلة؛ لأنهم هكذا يصطفون خلف الإمام في حال الحياة، ثم إن الرجال يكونون أقرب إلى الإمام من النساء، فكذا بعد الموت] اهـ.
وقال العلامة بدر الدين العيني في "شرح سنن أبي داود" (6/ 123، ط. مكتبة الرشد): [قالت العلماء: إذا اجتمعت جنائز من الرجال والنساء يجعل الرجل مما يلي الإمام من جهة القبلة، ثم المرأة مما يلي القبلة، وإذا اجتمع رجل، وصبي، وامرأة، وخنثى، يوضع الرجل، ثم الصبي من ناحية القبلة، ثم الخنثى، ثم المرأة، فتكون المرأة آخر الكل مما يلي القبلة] اهـ.
وهناك من أهل العلم من قال بأن الأفضل إفراد كل جنازة بصلاة؛ قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" شرح "منهاج الطالبين" (2/ 31، ط. دار الكتب العلمية): [وقوله: (وتجوز) يفهم أن الأفضل إفراد كل جنازة بصلاة، وهو كذلك؛ لأنه أكثر عملًا وأرجى قبولًا، وليس تأخيرًا كثيرًا، وإن قال المتولي: إن الأفضل الجمع تعجيلًا للدفن المأمور به. نعم إن خشي تغيرًا أو انفجارًا بالتأخير فالأفضل الجمع] اهـ.
والرد على هؤلاء بأن ما ذكروه مخالف للسنة، فهي مقدمة عليه، وقاعدة "ما كان أكثر فعلًا، كان أكثر فضلًا" ليست على إطلاقها، فقد خرجت منها صور، منها ما كانت علته التأسي بفعله صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الفرع المستثنى الذي ذكره الحافظ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (143/1، ط. دار الكتب العلمية) معللًا: [الضحى أفضلها ثمان، وأكثرها: اثنتا عشرة. والأول أفضل؛ تأسيًا بفعله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ثم نحن وهم متفقون على جواز الصورتين كلتيهما، وإنما الاختلاف في الأفضل.
قال الحافظ ابن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (5/ 421، ط. دار طيبة): [وحدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي حصين، عن موسى بن طلحة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أَنَّهُ جَعَلَ الرَّجُلَ يَلِي الْإِمَامَ، وَالْمَرْأَةَ أَمَامَ ذَلِكَ".
وحدثنا إسماعيل، قال: ثنا أبو بكر، قال: ثنا ابن نمير، عن حجاج، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، أن زيد بن ثابت، وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يفعلان مثل ذلك، وبه قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وعطاءٌ، والزهري، ويحيى الأنصاري، ومالكٌ، وسفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وقالت طائفةٌ: يجعل النساء مما يلي الإمام والرجال مما يلي القبلة، هذا قول الحسن، والقاسم، وسالم، وروي هذا القول عن مسلمة بن مخلد رضي الله عنه.
وفيه قولٌ ثالثٌ: وهو أن يصلى على المرأة على حدة، وعلى الرجل على حدة، فعل ذلك ابن مغفل، وقال: هذا لا شك فيه، قال أبو بكر: بالقول الأول أقول؛ للسنة التي ذكرها من ذكرنا ذلك عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وينبغي التنبيه إلى أن الإمام الراتب هو الذي يصلي على الجنائز المجتمعة، فإن لم يوجد واختلف أولياء الموتى فيقدم من قدمه الشرع للإمامة على الترتيب في الأفضلية المعتبرة شرعًا.
قال العلامة ابن قدامة في "المغني" (2/ 362، ط. مكتبة القاهرة): [فإن اجتمع جنائز، فتشاحَّ أولياؤهم فيمن يتقدم للصلاة عليهم، قدم أولاهم بالإمامة في الفرائض. وقال القاضي: يقدم السابق، يعني من سبق ميته. ولنا، أنهم تساووا فأشبهوا الأولياء إذا تساووا في الدرجة، مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» وإن أراد ولي كل ميت إفراد ميته بصلاة جاز] اهـ.
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإن الأفضل لكم أن تصلوا على هذه الجنائز المجتمعة مرة واحدة بدلًا من إفراد كل ميت بصلاة جنازة وحده، وكما ذكرنا في الفتوى يكون ترتيب النعوش كما في ترتيب صفوف الصلاة المكتوبة؛ فيقدم من جهة الإمام الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء تجاه القبلة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.