ما حكم من يحارب معرفة الأنساب ويرى ذلك أمرًا لا طائل من ورائه؟
تعلُّم الأنساب وتعليمها أمر مشروع وثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد درج السلف الصالح على تعلُّم الأنساب والحث على معرفتها، وهو على درجات: فقد يكون واجبًا، أو فرض كفاية، أو مباحًا حسب الحاجة إليه، فهو أصل في التعارف كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ»، على ألَّا يكون ذلك مدعاةً للتفاخر وتعالي الناس بعضهم على بعض.
المحتويات
أصل مشروعية معرفة الأنساب من الأمور الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ثم منها ما يكون تعلمه واجبًا؛ لكونه وسيلة إلى واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومنه ما يكون تعلمه فرض كفاية أو مستحبًّا إذا كان وسيلة إلى فرض كفاية أو مستحب.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
قال الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر المالكي في "الإنباه على قبائل الرواة" (1/ 15، ط. دار الكتاب العربي): [وفيه دليل واضح على تعلم الأنساب] اهـ.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ» رواه الإمام أحمد والترمذي.
وأما الإجماع: فقال الحافظ العيني في "عمدة القاري شرح البخاري" (16/ 69، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال أبو محمد الرشاطي (ت: 442هـ): الحض على معرفة الأنساب ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة] اهـ.
وقد درج السلف الصالح على تعلُّم الأنساب والحث على معرفتها:
فروى أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه أتاه رجلٌ فقال: من أنت؟ قال: فمَتَّ له بِرَحِمٍ بعيدةٍ، فألَانَ له القولَ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اعْرِفُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا قُرْبَ بِالرَّحِمِ إِذَا قُطِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً، وَلَا بُعْدَ بِهَا إِذَا وُصِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، ولا تكونوا كنَبط السواد إذا سُئل أحدهم: ممن أنت؟ قال: من قرية كذا، فوالله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء لو يَعلم الذي بينه وبينه من دِخلة الرحم لَردَعه ذلك عن انتهاكه". أورده الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الإنباه على قبائل الرواة" (ص12).
تتابعت عبارات العلماء في مدح معرفة الأنساب وتعلمها:
فقال الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري في كتابه "جمهرة أنساب العرب" (1/ 2، ط. دار الكتب العلمية): [علم النسب علم جليل رفيع؛ إذ به يكون التعارف، وقد جعل الله تعالى جزءًا منه تعلمه لا يسع أحدًا جهلُه، وجعل تعالى جزءًا يسيرًا منه فضلًا تعلُّمه؛ يكون مَن جَهِلَه ناقصَ الدرجة في الفضل، وكل علم هذه صفته فهو علم فاضل، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معاند] اهـ.
وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الإنباه على قبائل الرواة" (1/ 11): [فإنه عِلْمٌ لا يليق جهلُه بذوي الهمم والآداب، لِمَا فيه من صلة الأرحام، والوقوف على ما نَدب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ»] اهـ.
وقال الإمام أبو سعد السمعاني في كتاب "الأنساب" (1/ 18، ط. دار الجنان): [معرفة الأنساب من أعظم النعم التي أكرم الله تعالى بها عباده؛ لأن تشعب الأنساب على افتراق القبائل والطوائف أحد الأسباب الممهدة لحصول الائتلاف، وكذلك اختلاف الألسنة والصور، وتباين الألوان والفطر] اهـ.
لمعرفة النسب أحوال: فقد يكون واجبًا، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مستحبًّا، وقد فصل القول في ذلك الإمام ابن حزم في "جمهرة أنساب العرب" (1/ 2-3) فقال: [فأما الفرض من علم النسب: فهو أن يعلم المرء أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي الذي كان بمكة ورحل منها إلى المدينة؛ فمن شك فيه أهو قرشي أم يماني أم تميمي أم أعجمي فهو كافر غير عارف بدينه، إلا أن يُعذَر بشدة ظلمة الجهل، ويلزمه أن يتعلم ذلك ويلزم من صحبه تعليمه. ومن الفرض في علم النسب: أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأن يعرف أباه وأمه، وكل من يلقاه بنسب في رحم محرمة؛ لتجنب ما يحرم عليه من النكاح فيهم. وأن يعرف كل من يتصل به برحم توجب ميراثًا، أو تلزمه صلة أو نفقة أو معاقدة أو حكم ما؛ فمن جهل هذا فقد أضاع فرضًا واجبًا عليه لازمًا له من دينه. وأما الذي تكون معرفته من النسب فضلًا في الجميع وفرضًا على الكفاية: فمعرفة أسماء أمهات المؤمنين وأكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين حبهم فرض، فإن لم نعرف أنساب الأنصار لم نعرف إلى من نحسن ولا عمن نتجاوز؛ وهذا حرام، ومعرفة من يجب له حق في الخمس من ذوي القربى، ومعرفة من تحرم عليهم الصدقة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممن لا حق له في الخمس ولا تحرم عليه الصدقة. وكل ما ذكرنا فهو جزء من علم النسب؛ فوضح بما ذكرنا بطلان من قال: إن علم النسب علم لا ينفع، وجهالة لا تضر] اهـ بتصرف.
الأول: من يتوغل في علم النسب توغلًا يشغله عن العلوم الأخرى الواجبة عليه؛ قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 527-528، ط. دار المعرفة): [والذي يظهر: حَمْلُ ما ورد مِن ذَمِّه على التعمق فيه حتى يشتغل عما هو أهم منه، وحَمْلُ ما ورد في استحسانه على ما تقدم من الوجوه التي أوردها ابن حزم، ولا يخفى أن بعض ذلك لا يختص بعلم النسب] اهـ.
الثاني: من يتعلمه ليجعل محل افتخاره بالنسب عوضًا عن الدين، وفي ذلك ورد النهي الشرعي، وذلك في نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسبُهُ» أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا؛ إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ» رواه أبو داود والترمذي، فالنهي في هذه الأحاديث عن الافتخار المذموم لا عن مجرد معرفة الأنساب.
والمقصود أن يكون المرء وسطًا بين من جعل النسب شغله الشاغل وجعله معيارًا للتقويم وأساسًا للولاء والبراء بغض النظر عن التقوى، وبين من أهمل النسب وقلل من شأنه، فضلًا عمن حاربه وصدَّ عن معرفته، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وهذا هو التوازن الذي أشار إليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
فإذا اجتمع للإنسان شرف النسب وحسن العمل زاده النسب شرفًا، كما أن اعتزاز الإنسان بنسبه في الحق فهو أمر محمود؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفتخر بنسبه الشريف؛ فيقول: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ إِنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا وَخَيْرِهِمْ نَسَبًا» رواه الترمذي وحسنه.
وكان يذكر أفخاذ الأنصار ويفاضل بينهم، وكان الخلفاء الراشدون وكثير من الصحابة والفقهاء من أعلم الناس بالأنساب؛ حتى كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعلم الأمة بالنسب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه لَمَّا أراد أن يهجو قريشًا: «لَا تَعْجَلْ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي»، فأتاه حسان ثم رجع فقال: "يا رسول الله! قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسُلَّنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرةُ مِن العجين" رواه مسلم في "صحيحه".
كان للأنساب أهمية في قيام الدولة الإسلامية وتنظيمها من جوانب متعددة: كالجانب الحربي الذي اعتمد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم النظام القبلي تحت الرابطة الدينية في فتح مكة، ولم يستقم القتال يوم الحديقة لخالد بن الوليد رضي الله عنه عندما اعتمد الوحدة القتالية، فلما رتب جيشه على الأساس القبلي كان النصر حليفه، ووضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدواوين على الأساس القبلي؛ حيث أمر بأن يتم ترتيب قوائمها بحسب الأنساب والمنازل، فاستدعى ثلاثة ممن لهم معرفة بأنساب الناس هم: جبير بن مطعم، وعقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل رضي الله عنهم، فوضعوا الدواوين بحسب الأنساب والمنازل، كما رواه ابن سعد في "الطبقات".
إذا تقرر ذلك: فإن علم الأنساب من العلوم الشريفة، ولا يجوز محاربته ولا الصدُّ عن معرفته والبحثِ عنه فضلًا عن تعلُّمه، خاصة في هذا العصر الذي عزف فيه أكثر الناس عن هذا العلم الشريف، وأصبح كثير منهم لا يعلمون مِن أنسابهم ما يصلون به أرحامهم، ويجب على المسلم أن يتقي الله فيما يقول، وألَّا يبادر بإنكار ما لا يعلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
أرجو من فضيلتكم التكرم ببيان فضل زيارة المريض، والآداب الشرعية التي ينبغي أن تراعى عند زيارته. فإني أرى بعض الناس عند زيارتهم للمرضى يطيلون الجلوس بجوار المريض، وأحيانًا يقولون بعض الألفاظ التي قد تسبب الأذى النفسي للمريض، أو من معه.
ما حكم تعاطي المخدرات والاتجار فيها والربح منها؟ فقد جاء من مكتب المخابرات العامة للمواد المخدرة ما يأتي: أتشرف بأن أرسل لفضيلتكم نسخة باللغة العربية من التقرير السنوي لمكتب المخدرات لسنة 1939م، وإني أنتهز هذه الفرصة فأعرب لفضيلتكم أن الحكومة المصرية قد وجهت عنايتها الكلية إلى محاربة المواد المخدرة كالكوكايين والهيروين والحشيش والأفيون؛ لما لمسته من ضررها البليغ بالأمة أفرادًا وجماعات ماديًّا وصحيًّا وأدبيًّا، وسلكت إلى ذلك مختلف الطرق الممكنة فسنت القوانين الرادعة لمنع زراعتها أو إحرازها أو تعاطيها أو الاتجار بها. وقد تصادف أثناء مكافحة هذه الزراعات والمواد بعض الجهلة من مروجيها يزعمون أن الدين لم يحرمها، وأنه لم يرد فيه نص يفيد ذلك، كما رئي أن بعض تجارها يباشرون بعض القربات من أرباحهم منها؛ كالحج والصدقات، زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولما كنتم فضيلتكم المرجع في مثل هذه الشئون فإنا نتقدم إلى فضيلتكم راجين التفضل بالإجابة تفصيلًا عن الآتي:
أولًا: ما حكم تعاطي هذه المواد وبيانه؟
ثانيًا: ما حكم الاتجار فيها واتخاذها حرفة تدرّ الربح؟
ثالثًا: ما حكم زراعتها؟ أي: زراعة الأفيون والحشيش لاستخلاص المادة المخدرة منها لتعاطيها أو الاتجار بها.
رابعًا: ما حكم الربح الناتج من الاتجار في هذه المواد؟ وهل يعتبر حرامًا أو حلالًا؟ وإذا كان من قسم المحرّم فما هو الحكم في إنفاقه في القربات؟
هل عبادةُ الجاهلِ بأمور الدين تكون باطلةً؟ وهل يلزم المسلم أن يعلم الفرق بين الفرض والسنة في بعض الأمور؛ مثل الوضوء والصلاة أم أن ذلك يُستحَب له؟
هل ورد في السنة النبوية المطهرة ما يُفِيدُ أنَّ المسلمَ إذا سلَّم على أخيه المسلم أو صافحه غفر الله لهما قبل تفرقهما؟
سائل يقول: سمعت أن الدعاء مستجاب عند مصافحة المسلم لأخيه المسلم؛ فما مدى صحة هذا الكلام شرعًا؟
ما حكم تقليم أظافر الميت وحلق شعر عانته؟ وكيفية التخلص مِن ذلك، هل يوضع معه في الكفن، أو يُدفن في مكانٍ آخَر؟