اتباع المذاهب الفقهية الأربعة وحكم مخالفتها

ما حكم الأخذ بمذاهب الفقهاء المجتهدين غير الأئمة الأربعة المشهورين: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم في الفتيا والعمل؟ وما حكم نبذ التقليد والدعوة إلى ما يسمى بـ«فقه الدليل»؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد، فالمذاهب الفقهية الأربعة هي المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وقد حظيت هذه المذاهب دون غيرها بعدة خصائص –على تفاوت فيما بينها– أكسبتها الصدارة بين المذاهب الأخرى، من حيث المتابعة والتدوين والتنقيح والتحقيق والتخريج والتفريع وغير ذلك مما لم يتوافر لغيرهم من أئمة الاجتهاد، حتى عدَّ العلماء أن القضاء يُرَدُّ بمخالفة ما أجمعت عليه المذاهب الأربعة، يقول ابن نجيم الحنفي: «مما لا ينفذ القضاء به: ما إذا قضى بشيء مخالف للإجماع وهو ظاهر، وما خالف الأئمة الأربعة مخالف للإجماع وإن كان فيه خلاف لغيرهم، فقد صرَّح في التحرير أن الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للأربعة؛ لانضباط مذاهبهم وانتشارها وكثرة أتباعهم». [الأشباه والنظائر ص92، ط. دار الكتب العلمية].

وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم حق واجب على كل بالغ عاقل مستطيع، ويتوقف الإتيان بالطاعة أولًا على فهم الشيء المأمور به والمنهي عنه؛ ليتمكن المكلف من الامتثال الموافق للمطلوب، والفهم الصحيح المعتبر شرعا يتم بالرجوع مباشرة إلى مصادر التشريع الإسلامي لمن بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، ومن لم يقدر على الاجتهاد ولم تتوفر له أهليته وشروطه وأدواته فعليه تقليد غيره من أهل العلم المفتين والفقهاء المجتهدين وأصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة، فالاجتهاد على كل الأحوال حلقة وصل لا بد منها، وعنصر أساسي لمعرفة أحكام الشريعة الإسلامية، وهو فرض كفاية يشق تكليف كل مسلم به، فلو كُلِّف عامة المسلمين بالنظر في الأدلة وتتبعها والاستيثاق منها والاستدلال بها والتوفيق بينها وبين ما يعارضها ودفع الاعتراضات عنها كما يفعل أئمة الفقه والاجتهاد؛ لكان هذا تكليفا بما لا يطاق ولا يمكن أن تستقيم معه الحياة؛ لما يترتب عليه من تعطل حركة العمل والإنتاج، والإخلال بمصالح الناس وعلاقاتهم الاجتماعية وشؤون معايشهم، فبحور العلم والاجتهاد وسيعة وعميقة لا ساحل لها ولا نهاية، ومن الشعارات الشائعة بين أهل العلم وطلابه: «أن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك»، و«مع المحبرة إلى المقبرة»، فالتخصص في الاجتهاد الفقهي لا يقل شأنه عن شأن التخصص في الطب والهندسة والصناعة والزراعة والتجارة والاقتصاد وغير ذلك من المجالات الضرورية القائمة على الكليات الشرعية الخمس وهي: حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال، والتخصص في الاجتهاد الفقهي من أسباب حفظ الدين.

ولا يعقل شرعا ولا طبعا أن يفرض على جميع المكلفين التخصص في كل هذه المجالات لتلبية حاجاتهم إليها وإلا كان تكليفا بما لا يطاق، والله تعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ولهذا وجب «الاجتهاد والإفتاء» على بعض المسلمين وخاصتهم وهم أهل الذكر وأهل صناعة الفقه، ووجب «التقليد والاستفتاء» على الباقين وهم عامة المسلمين، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، وفي الحديث الشريف عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ! أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ». [رواه أبو داود]. فدل الحديث على أن من لم يستطع أن يعلم بنفسه حكم الشرع فيما يفعله أو ينسبه للشرع وجب عليه سؤال أهل العلم والاختصاص.

ويقول الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه الفصول في الأصول [4/ 281- 282، ط. وزارة الأوقاف الكويتية]: «إذا ابتلي العامي الذي ليس من أهل الاجتهاد بنازلة، فعليه مساءلة أهل العلم عنها؛ وذلك لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 43]. وقال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]. فأمر من لا يعلم بقبول قول أهل العلم فيما كان من أمر دينهم من النوازل، وعلى ذلك نصت الأمة من لدن الصدر الأول ثم التابعين إلى يومنا هذا، إنما يفزع العامة إلى علمائها في حوادث أمر دينها. ويدل على ذلك أيضا: أن العامي لا يخلو عند بلواه بالحادثة من أن يكون مأمورا بإهمال أمرها، وترك المسألة عنها، وترك أمره على ما كان عليه قبل حدوثها، وأن يتعلم حتى يصير من حدود من يجوز له الاجتهاد، ثم يمضي بما يؤديه إليه اجتهاده، أو يسأل غيره من أهل العلم بذلك، ثم يعمل على فتياه، ويلزمه قبولها منه. وغير جائز للعامي إهمال أمر الحادثة، ولا الإعراض عنها وترك الأمر على ما كان عليه قبل حدوثها؛ لأنه مكلف لأحكام الله تعالى الثابت منها بالنص وبالدليل، ولأنه لا يعلم بوجوب تركها على ما كان عليه قبل حدوثها إذا كان ذلك سببا مختلفا فيه بين أهل العلم، وإنما يصار إلى معرفة الحق فيه من جهة النظر والاستدلال، وليس معرفة ذلك في طوق العامي. وغير جائز أيضا أن يقال: إن عليه أن يتعلم الأصول وطرق الاجتهاد والمقاييس حتى يصير في حد من يجوز له الاستنباط؛ لأن ذلك ليس في وسعه، وعسى أن ينفد عمره قبل بلوغ هذه الحالة. وقد يكون المبتلى بالحادثة غلاما في أول حال بلوغه، وامرأة رأت دما شكت في أنه حيض أو ليس بحيض، وقد حضرهما وقت إمضاء الحكم حيث لا يسع تأخيره، فثبت أن عليه مسألة أهل العلم بذلك وقبول قولهم فيه» اهـ.

ولا يجب على العوام تقليد مجتهد بعينه، ولا التزام مذهبه في كل الفروع الفقهية على الراجح من أقوال أهل العلم كما رجحه النووي وصححه الزركشي وغيرهما من فطاحل العلماء، فلا بأس بتقليد أحد الأئمة الأربعة. قال الإمام عز الدين بن عبد السلام في فتاويه [ص122، ط. دار المعرفة- بيروت]: «يجوز تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، ويجوز لكل واحد أن يقلد واحدًا منهم في مسألة، ويقلد إمامًا آخر منهم في مسألة أخرى، ولا يتعين عليه تقليد واحد بعينه في كل المسائل، ولا يجوز تتبع الرخص، والله أعلم وأحكم، وألطف وأرحم» اهـ. وقال العلامة الزركشي في البحر المحيط [8/ 374- 375، ط. دار الكتبي]: «مسألة: هل يجب على العامي التزام تقليد معين في كل واقعة؟ فيه وجهان، قال إلكيا: يلزمه. وقال ابن برهان: لا، ورجحه النووي في أوائل القضاء، وهو الصحيح، فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد. وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك، فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها، فلم ير الحجر على الناس، وربما نودي: «لا يفتي أحد ومالك بالمدينة». قال ابن المنير: وهو عندي محمول على أن المراد: لا يفتي أحد حتى يشهد له مالك بالأهلية. وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد، فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل على مذهبك فيحرجوا، دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وسئل عن مسألة من الطلاق فقال: يقع يقع، فقال له القائل: فإن أفتاني أحد أنه لا يقع، يجوز؟ قال: نعم، ودله على حلقة المدنيين في الرصافة. فقال: إن أفتوني جاز؟ قال: نعم. وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة، وقد قال النبي الصلاة والسلام عليه: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»..... وحكى الرافعي عن أبي الفتح الهروي أحد أصحاب الإمام أن مذهب عامة أصحابنا: أن العامي لا مذهب له» اهـ.

وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار [4/ 80، ط. دار الكتب العلمية]: «مطلب: العامي لا مذهب له، قلت: وأيضا قالوا: العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه، وعلله في شرح التحرير بأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله. وأما غيره ممن قال: أنا حنفي أو شافعي، لم يصر كذلك بمجرد القول، كقوله: أنا فقيه أو نحوي. اهـ. وتقدم تمام ذلك في المقدمة أول هذا الشرح» اهـ. ونقل في أول الشرح عن الشرنبلالي قوله [1/ 75]: «ثم قال بعد ذكر فروع من أهل المذهب صريحة بالجواز وكلام طويل: فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدا فيه غير إمامه مستجمعا شروطه ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. وقال أيضا: إن له التقليد بعد العمل كما إذا صلى ظانا صحتها على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره فله تقليده، ويجتزئ بتلك الصلاة على ما قال في البزازية: إنه روي عن أبي يوسف أنه صلى الجمعة مغتسلا من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» اهـ.
وعلى الراجح أيضا أنه لا يجوز للعوام تتبع رخص المجتهدين واختيار أخف الأقوال من كل مذهب في حالة القصد للتلاعب والتحايل وطلب التخلص من أحكام الشريعة.

والعلماء اختلفوا في فعل ذلك وفيمن هذا صفته على أقوال:
القول الأول: يحرم، ويفسَّق مَنْ فعل ذلك، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو مذهب الشافعية، إلا أنهم -أي الشافعية- قالوا: إن كان انتقاله إلى مذهب من المذاهب المدونة فالأوجه أنه لا يفسَّق، وقيَّد الشهاب الرملي بما إذا تغلب طاعاته معاصيه، وإن انتقل إلى غير المذاهب المدوَّنة فإن كان في العصر الأول يعني الصحابة فلا يفسَّق، وإلا فلا. [راجع: رد المحتار 5/ 481، والفواكه الدواني 2/ 356، ط. دار الفكر، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2/ 510، ط. دار الفكر، وتحفة المحتاج 10/ 112، ط. دار إحياء التراث العربي، وأسنى المطالب بحاشية الرملي 4/ 286، ط. دار الكتاب الإسلامي، وفتاوى الرملي 4/ 378، والإنصاف 12/ 50، ط. دار إحياء التراث العربي]، بل نقل غير واحد الإجماع على ذلك، وممن نقل الإجماع على فسق متتبع الرخص تشهيًا: ابن عبد البر، والنفراوي [يراجع: جامع بيان العلم وفضله 2/ 927، ط. دار ابن الجوزي، والفواكه الدواني 2/ 356].

واستدلوا على ذلك بأنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو حرامًا ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، وهذا ما نص عليه الإمام أحمد كما ذكر ابن تيمية [الفتاوى الكبرى 20/ 220، 221]، كما أننا لو قلنا بجواز الانتقال تشهيًا بناء على أنه أخذ بأقوال بعض المجتهدين لكان المنع أولى؛ لأن النفس تميل إلى الدعة والراحة والهروب من مشقة التكليف، وذلك يؤدي إلى التفلت من أحكام الشرع في الغالب، فكان الواجب منعه؛ سدًّا للذريعة المؤدية للفساد، وقد ذم الله اتباع الهوى لأجل إشباع حظوظ النفس وشهواتها، فقال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23]، وتتبع الرخص دون حاجة أو دليل مقتض يعد من اتباع الهوى المؤدي إلى الضلال، وهذا ما نص عليه الشاطبي حيث بيَّن أن ذلك يؤدي إلى: «الاستهانة بالدين؛ إذ يصير بهذا الاعتبار سيالًا لا ينضبط، فلا يحجر النفوس عن هواها ولا يوقفها عند حد». [الموافقات 5/ 102، ط. دار ابن عفان]، يضاف إلى ذلك أن الانتقال من مذهب إلى آخر تشهيًا قد يؤدي إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق الإجماع. [الموافقات 5/ 103].

ويمكن الاستدلال لمن قال بأنه لا يفسَّق بالانتقال إلى رأي من آراء الصحابة: بأن الصحابة ليسوا كغيرهم، إذ لهم من الفضل والمزية ما ليس لغيرهم، فقد شاهدوا الرسول وعاصروا الوحي والتنزيل بلا واسطة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم نقلًا عن الشافعي: «وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا». [إعلام الموقعين 2/ 150، ط. دار ابن الجوزي]، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لبعضهم بالعلم والحفظ والفهم، أو شهد لهم بذلك، وقد زكَّاهم الله تعالى وأمرنا باتباعهم عمومًا في القرآن، وهذا مما يعطي الثقة في أقوالهم في المسألة الواحدة، وإن اختلفت فيها آراؤهم، وهو ما يبيح لنا الأخذ بأحدها في وقت والأخذ بالآخر في وقت آخر.

القول الثاني: لا يفسَّق مطلقًا، وإن انتقل تشهيًا وتتبعًا للرخص، وهو قول بعض الحنفية، وبه قال ابن عبد السلام، وابن أبي هريرة من الشافعية، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبو إسحاق المروزي من الحنابلة في إحدى الروايتين عنه، حيث نقل عنه إطلاق جواز تتبعها، وهو لازم مذهب عمر بن عبد العزيز، حيث أجاز الأخذ بما شاء عند الاختلاف، وأشار إلى أن الاختلاف سعة، وكذا القاسم بن محمد، وسفيان الثوري [فتح القدير 7/ 258، وفيض القدير 1/ 209، وجامع بيان العلم 2/ 898، والتحبير 8/ 4091- 4093، وشرح الكوكب المنير 4/ 578، وشرح الجلال بحاشية العطار 2/ 441].

واستدلوا بأحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم))، ووجه الدلالة فيه قياس الاختيار من أقوال العلماء على الاختيار من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان يحب ما يخفف عنهم. أي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب ما يخفف عن أمته، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فلا يُمنَع أحد من أتباعها أن يأخذ بالرخص ما دام في الأخذ بها نوع يسر عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) [رواه أحمد]. ووجه الدلالة: أن الأخذ بما فيه يسر محبوب إلى الله تعالى كما أن الأخذ بالعزيمة محبوب لديه كذلك، فدل ذلك على جواز الأخذ بالرخص؛ لأنها من اليسر الذي يحب الله الأخذ به، يضاف إلى ذلك أن التشديدات التي ذكرها من منع الانتقال مطلقًا إنما هي لكف الناس عن تتبع الرخص، فإذا انتفى المحذور المترتب على الأخذ بالرخص جاز العمل بها، كما أن الناس من لدن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماءَ المختلفين من غير نكير، سواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم؛ لأن من جعل المصيب واحدًا وهو الصحيح لم يُعَيِّنه، ومن جعل كل مجتهد مصيبًا فلا إنكار على من قلَّده بالصواب. يقول الشاطبي استدلالًا لهذا الرأي: «من جهة القياس: الله غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى». [الموافقات 5/ 104، 105].

والراجح من هذين القولين التفصيل؛ وهو أن مَن انتقل من مذهب إلى آخر أو من قول مجتهِد إلى قول مجتهِد آخر -تشهيًا لا لمسوِّغ شرعي- لا يفسَّق شريطة أن لا يكون الـمُنتقِل مجتهدًا مطلقًا؛ وذلك لاتفاق الأصوليين على أن المجتهد المطلق إذا اجتهد فغلب على ظنه حكم لم يجز له تقليد غيره، أي لا يجوز له الانتقال [المستصفى ص368، ط. دار الكتب العلمية، والإحكام للآمدي 4/ 204، ط. المكتب الإسلامي، وقواطع الأدلة لابن السمعاني 2/ 341، ط. دار الكتب العلمية]، أما مَن دون المجتهد المطلق فقال قوم بالجواز وقال بالمنع آخرون، يقول الغزالي في المستصفى [ص369] بعد ذكره الخلاف فيمن دون المجتهد المطلق: «والمسألة ظنية اجتهادية»، والمعنى أننا لو قلنا بجواز الانتقال لكان الأمر قريبًا.

ويعتبر اختلاف المجتهدين رحمة من الله تعالى بالعباد وتوسعة عليهم حتى لا يقعوا في الحرج بالتزام مذهب واحد في كل الأمور، ولهذا يسع العوام الأخذ بالرأي الأيسر ليدفع عنهم المشقة والحرج ويحقق لهم المصالح الراجحة، قال العلامة ابن رسلان في منظومته صفوة الزبد في الفقه الشافعي:

والشافعي ومالك والنعمان وأحمد بن حنبل وسفيان
 وغيرهم من سائر الأئمة  على هدى والاختلاف رحمة

وفي شرح غاية البيان شرح زبد ابن رسلان يقول العلامة الرملي «ص20- 21، ط. دار الكتب العلمية]: «(وغيرهم من سائر الأئمة) كابن عيينة والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وداود الظاهري (على هدى) من ربهم في العقائد وغيرها... (والاختلاف) بينهم فيما طريقه الاجتهاد (رحمة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اختلاف أصحابي رحمة)) والمراد بهم المجتهدون، وقيس بهم غيرهم فلو اختلف جواب مجتهدين متساويين فالأصح أن للمقلد أن يتخير فيعمل بقول من شاء منهما» اهـ.

وفي مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى [5/ 316، ط. المكتب الإسلامي]: «(وفي واضح ابن عقيل: يستحب إعلام) المفتي (المستفتي) أي: طالب الفتيا (بمذهب غيره) أي: غير المفتي (إن كان) المستفتي (أهلا للرخصة كطالب التخلص من) الوقوع في (الربا) ولم يجد له وجها في مذهبه (فيدله على من يرى التحيل للخلاص منه) أي: الربا (والخلع) فيفتيه ذلك الغير بصحة الخلع (وعدم وقوع الطلاق) لئلا يضطر فيقع في المحظور المنهي عنه؛ إذ لا يجب على الإنسان التزام مذهب بعينه بحيث إنه يعتقد صوابه وخطأ غيره، وإلا لضاق الأمر على الناس، والله سبحانه وتعالى لم يكلف عباده ما لا يطيقونه، وإنما جعل اختلاف المذاهب رحمة لهذه الأمة (و) مما يؤيد ذلك ما نقله القاضي أبو الحسين في فروعه أن أناسا (جاءوا) الإمام (أحمد بفتوى) سألوه عنها (فلم تكن على مذهبه، فقال: عليكم بحلقة المدنيين) ففي هذا دليل على أن المفتي إذا جاءه المستفتي، ولم يكن عنده رخصة يدل على مذهب له فيه رخصة» اهـ.

وقد قيل بحصر جواز الإفتاء والقضاء -دون عمل النفس- في دائرة المذاهب الأربعة، لانتشارها وثقة عامة الناس فيها؛ لما حظيت به دون غيرها من انضباط قواعدها وتحرير أصولها وتضافر الجهود على خدمتها والاعتناء بتحقيق وتوثيق كتب كل مذهب منها وتراجم علمائه وطبقاتهم ومراتبهم وبيان المعتمد فيه ونقل ذلك بالتواتر أو ما يقرب منه جيلا من بعد جيل، قال بعضهم كما هو منقول في حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي للمنهاج [1/ 14، ط. دار إحياء الكتب العربية]:

وجاز تقليد لغير الأربعة في حق نفسه ففي هذا سعة
لا في قضاء مع إفتاء ذكر

  هذا عن السبكي الإمام المشتهر

قال العلامة ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى [4/ 325- 326، ط. المكتبة الإسلامية]: «الذي تحرر: أن تقليد غير الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء، وأما في عمل الإنسان لنفسه فيجوز تقليده لغير الأربعة ممن يجوز تقليده لا كالشيعة وبعض الظاهرية، ويشترط معرفته بمذهب المقلد بنقل العدل عن مثله وتفاصيل تلك المسألة أو المسائل المقلد فيها وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلَّد، وعدم التلفيق لو أراد أن يضم إليها أو إلى بعضها تقليد غير ذلك الإمام.... ولا يشترط موافقة اجتهاد ذلك المقلد لأحد المذاهب الأربعة، ولا نقل مذهبه تواترا كما أشرت إليه، ولا تدوين مذهبه على استقلاله، بل يكفي أخذه من كتب المخالفين الموثوق بها المعول عليها» اهـ.

والذي نراه أن الحصر والتقييد بالمذاهب الأربعة في الإفتاء والقضاء ليس على إطلاقه في كل عصر ولا في كل ظرف، وإنما يخضع هذا الأمر لإذن ولي الأمر وللعرف ولما يتراضى عليه الناس حكما بينهم ومرجعا لقضاياهم الدينية ومشكلاتهم الحياتية، فالأصل أن كل مجتهد يجوز تقليده سواء كان من الصحابة الكرام أو التابعين أو الأئمة الأربعة أو غيرهم، شريطة أن يتلقى عنه المقلد معرفة أحكام الشريعة بالسماع المباشر أو من خلال نقل الثقات الضابطين عنه.

والظاهر -والله تعالى أعلى وأعلم- أن حاجة الناس لانضباط أمر القضاء وسد أبواب التلاعب واستمالة القاضي لاختيار مذهب ما يحقق مصلحة أحد أطراف النزاع كانت هي الدافع الأساسي لأن يشترط على القاضي غير المجتهد التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة المتبوعة الموثوق فيها دون غيرها من سائر مذاهب المجتهدين التي هجرها أتباعها، وإلا فلو فتح الباب على مصراعيه للانتقاء العشوائي من كل رأي رآه إمام مجتهد لتطرقت الشكوك والاتهامات إلى حكم القاضي، ولما حسمت النزاعات ولا استقر أمر الناس، فكانت المذاهب الأربعة المرتضاة من جماهير المسلمين هي الفيصل الحاسم لكل خصومة.

وكذلك أمر الإفتاء لما كان يتعلق بالشأن العام وما يعرض لمجموع الأمة وكان مطلب عامة الناس الأخذ في دينهم بمذاهب العلماء المحررة والمخدومة والتي تحظى باهتمام العلماء وطلاب العلم، كانت المذاهب الأربعة هي أقرب مصداق لتحقيق هذا المطلب، فقد أنشئت لها المدارس ودونت لها الكتب في الفروع والأصول والقواعد والتراجم والطبقات، وشارك أتباعها في مختلف العلوم الإسلامية وتصدروا لتعليم الناس وتفقيههم في الدين، فكانت بجدارة مصدر ثقة في الدين والإفتاء والقضاء، وفي الشأن العام والشأن الخاص.

لكن مع هذا لا يوجد دليل شرعي يحتم على المكلفين تقليد هذه المذاهب الأربعة بخصوصها في الإفتاء والقضاء أو فرضها قسرا على الأمم والشعوب الإسلامية، فالأصل جواز تقليد كل إمام مجتهد، وفي اختلاف الأئمة سعة ورحمة، فمتى كانت هناك مصلحة راجحة أو مشقة مطلوب رفعها، ويتحقق هذا بالاعتماد على رأي فقهي ثابت النسبة لإمام مجتهد من غير الأئمة الأربعة فلا مانع حينئذ من الأخذ به سواء كان في القضاء أو الإفتاء أو عمل النفس. قال العلامة النفراوي المالكي في الفواكه الدواني [1/ 24، ط. دار الفكر]: «وبالجملة يجب اعتقاد أن جميع المجتهدين على هُدًى حتى من هُجِر مذهبه، وامتناع تقليد غير الأربعة إنما هو لعدم حفظ مذاهبهم، فلا ينافي أن جميعهم على خير من الله وهُدًى وليسوا على ضلال ولا بدعة» اهـ. وقال النفراوي أيضا في الفواكه الدواني [2/ 356]: «وقد انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم، وإنما حرم تقليد غير هؤلاء الأربعة من المجتهدين، مع أن الجميع على هدى؛ لعدم حفظ مذاهبهم؛ لموت أصحابهم وعدم تدوينها، ولذا قال بعض المحققين: المعتمد أنه يجوز تقليد الأربعة، وكذا من عداهم ممن يحفظ مذهبه في تلك المسألة ودون حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته، فالإجماع الذي نقله غير واحد -كابن الصلاح وإمام الحرمين والقرافي- على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد منه شرط من ذلك» اهـ.

ويقول العلامة علوي بن أحمد السقاف في الفوائد المكية [ص50، ط. مصطفى الحلبي]: «وليست المذاهب المتبوعة منحصرة في الأربعة، بل لجماعة من العلماء مذاهب متبوعة أيضا كالسفيانين وإسحاق بن راهويه وداود الظاهري والأوزاعي، ومع ذلك فقد صرح جمع من أصحابنا بأنه لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة، وعللوا ذلك بعدم الثقة بنسبتها إلى أربابها؛ لعدم الأسانيد المانعة من التحريف والتبديل، بخلاف المذاهب الأربعة؛ فإن أئمتها بذلوا أنفسهم في تحرير الأقوال وبيان ما ثبت عن قائله وما لم يثبت، فأمن أهلها من كل تغيير وتحريف، وعلموا الصحيح من الضعيف؛ ولذا قال غير واحد في الإمام زيد بن علي: إنه إمام جليل القدر عالي الذكر، وإنما ارتفعت الثقة بمذهبه؛ لعدم اعتناء أصحابه بالأسانيد، فلم يؤمن على مذهبه التحريف والتبديل ونسبة ما لم يقله إليه، فالمذاهب الأربعة هي المشهورة الآن المتبعة، وقد صار إمام كل منهم لطائفة من طوائف الإسلام عريفا بحيث لا يحتاج السائل عن ذلك تعريفا، ولا بأس بتقليد غير من التزم مذهبه في أفراد المسائل، سواء كان تقليده لأحد الأئمة الأربعة أو لغيرهم ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة ودون حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته، فالإجماع الذي نقله غير واحد على منع تقليد الصحابة يحمل على ما لم يعلم نسبته لمن يجوز تقليده، أو علمت ولكن جهل بعض شروطه عنده» اهـ.

ويضاف إلى ما مر أن المفتي أو القاضي قد يكون مجتهدا مطلقا فله الخروج قطعا عن المذاهب الأربعة إذا أداه لذلك اجتهاده، وقد يكون مجتهدا منتسبا، أي: وافق اجتهاده اجتهاد إمام سابق صاحب مذهب فانتسب إليه، فله ذلك أيضا، وقد يكون مجتهدا في مذهب إمام معين يمكنه الاستنباط والتخريج على أصول إمامه، فله أيضا الخروج إذا تبحر في فهم مذهب مجتهد آخر وأدلته حتى ترجح لديه الإفتاء بمذهبه، وقد يكون المفتي مجتهدا في الفتيا، أي: لديه القدرة على الترجيح بين الأقوال والوجوه المختلفة في مذهب إمامه، فله أن يعرض للمستفتي الراجح في مذهبه وأن يعرض عليه آراء المذاهب الأخرى الموثوق في نسبتها إلى أصحابها دون أن يلزم المستفتي بالتزام مذهب معين، وكذلك الأمر للمفتي الناقل لمذهب إمام مجتهد ما دام قد وقف على حقيقة مذهب غير إمامه، فله أن يعرضه على المستفتي بعد عرض مذهب إمامه.

وبناء على ما سبق: فإن نبذ التقليد للمجتهد مطلوب، أما العامي فينبغي أن يقلد مجتهدا من المجتهدين، ويجوز الخروج عن المذاهب الأربعة في الفتيا والعمل إذا لم يشترط ولي الأمر في تولية المفتي أن يلتزم الإفتاء على مذهب معين، وبشرط أن يقف على حقيقة المذهب الذي يفتي به ويستوثق من نسبته إلى صاحبه من أئمة الاجتهاد، وبشرط ألا يترتب على ذلك حصول مفاسد واضطرابات في المجتمع. والله تعالى أعلم.