بعدما لجأ مشركو قريش إلى عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليوغروا صدره على ابن أخيه حتى يتخلى عن نصرته، سالكين بذلك طريق الإيذاء والفتنة، بل والإيذان بالحرب والمنابذة، ووجدوا أن مسعاهم هذا قد باء بالفشل بسبب عدم تخلِّي أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه؛ ارتأوا أن يلجأوا إلى السياسة المقابلة، ألا وهي سياسة الملاينة، والإغراء بالمال أو الجاه أو الملك والسلطان ظنًّا منهم أنه ربما يغري بريق هذه العروض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فيفتنوه عن دينه أو يحولوه عن وجهته.
فقد روى أبو نعيم الأصبهاني عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأبو يعلى، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما بسند جيد: أن قريشًا اجتمعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد فقال عتبة بن ربيعة لهم: دعوني حتى أقوم إليه أكلمه فإني عسى أن أكون أرفق به منكم. فقام عتبة حتى جلس إليه فقال: يا ابن أخي أراك أوسطنا بيتًا وأفضلنا مكانًا، وقد أدخلت على قومك ما لم يدخل رجل على قومه مثله، فإن كنت تطلب بهذا الحديث مالًا فذلك لك، على قومك أن يجمع لك حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تطلب شرفًا فنحن نشرفك حتى لا يكون أحد من قومك أشرف منك ولا نقطع أمرًا دونك، وإن كان هذا عن ملمٍّ يصيبك فلا تقدر على النزوع منه بذلنا لك خزائننا حتى نعذر في طلب الطب لذلك منك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ»؟ قال: نعم. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿حَم﴾ السجدة حتى مرَّ بالسجدة، فسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعتبة مُلْقٍ يده خلف ظهره حتى فرغ من قراءتها، ثم قام عتبة ما يدري ما يرجع به إلى نادي قومه، فلما رأوه مقبلًا قالوا: لقد رجع إليكم بوجهٍ غير ما قام من عندكم. فجلس إليهم فقال: يا معشر قريش، قد كلمته بالذي أمرتموني به، حتى إذا فرغت كلمني بكلام؛ لا والله ما سمعَت أذناي مثله قط، وما دريت ما أقول له، يا معشر قريش، فأطيعوني اليوم وأعصوني فيما بعده، واتركوا الرجل واعتزلوه فوالله ما هو بتاركٍ ما هو عليه، وخلُّوا بينه وبين سائر العرب فإن يظهر عليهم يكن شرفُه شرفكم وعزُّه عزكم وإن يظهروا عليه تكونوا قد كُفيتُمُوه بغيركم. قالوا: صبأت يا أبا الوليد.
وفي رواية: "قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم".
وروى الإمام الطبري وابن كثير وغيرهما: أن نفرًا من المشركين -فيهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل- جاؤوا فعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم وأن يزوجوه أجمل أبكارهم على أن يترك شتم آلهتهم وتسفيه عاداتهم، فلما رفض إلا الدعوة إلى الحقِّ الذي بعث به، قالوا: فتعبد آلهتنا يومًا ونعبد إلهك يومًا، فرفض ذلك أيضًا ونزل تعليقًا على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 1-6].
ثم إن أشراف قريشٍ عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة فذهبوا إليه مجتمعين، وعرضوا عليه الزعامة والمال، وعرضوا عليه الطِّبَ إن كان هذا الذي يأتيه رئيًا من الجان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا بِيِ مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُ بما جٍئْتُكُم بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلا الشَّرفَ فِيْكُمْ ولَا المُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُم رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ بَشيرًا وَنَذيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَاَلاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُم بِهِ فَهوَ حَظُّكُم فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَردُّوهُ عَلَيَّ، أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكٌمْ».
فكان في هذا ما أحبط آخر محاولةٍ من محاولات قريش للوصول إلى تسوية.
لقد أخفق الإغراء إخفاق الاضطهاد، وكان الاضطهاد ثقيلًا لا يُطاق، ولكنَّ الإغراءَ كان أقوى من أن يُقاوم، ولكن صخرة الثبات النورانية المحمديَّة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحطمت عليها جميع المحاولات الرامية إلى ثنيه عن أداء رسالته.
المصادر:
- "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد".
- "دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصبهاني.
- "القول المبين في سيرة سيد المرسلين" لمحمد الطيب النجار.