حكم قطع تتابع صيام الكفارة بسبب الفطر للسفر

حكم قطع تتابع صيام الكفارة بسبب الفطر للسفر

ما حكم قطع تتابع صيام الكفارة بسبب الفطر للسفر؟ فإن أحد جيراني يعمل سائقًا، وقد وجب عليه كفارة صيام شهرين متتابعين، فصام شهرًا أو أكثر من الكفارة، وبحكم عمله طُلِبَ للسفر في رحلة مدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني منها أفطر، ثم أكمل صيامه من اليوم التالي، فهل بفطره في يوم سفره يكون تتابع صيامه قد انقطع؟

المحتويات

 

مسافة السفر التي تبيح الفطر للمسافر وشروط ذلك

رخَصَّ الله سبحانه وتعالى للصائم المسافر أن يُفْطِرَ من صيامه حال سفره، بشرط ألَّا يكون سفره هذا بغرض المعصية، وأن يكون سفرًا طويلًا -يصح أن يطلق عليه اسم السفر-، وهو الذي يجوز به قصر الصلاة الرباعية، بحيث لا تقل مسافة السفر عن مرحلتين، وتُقَدَّران بنحو ثلاثة وثمانين كيلومترًا ونصف الكيلومتر تقريبًا؛ وذلك على المُفْتَى به، وتُحسب مسافة القصر بمجرد مجاوزة بنيان الحي الذي يسكن فيه، أو سوره إن كان له سور.

حكم إفطار الصائم في السفر الذي ليس فيه مشقة

قد أناط الشرع الشريف رخصة الفطر بتحقق علة السفر فيه دون النظر إلى ما يصاحب السفر عادةً من المشقة؛ وهذا باتفاق الأمة -كما نقله الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/ 209-210، ط. مجمع الملك فهد)-، فَصَلُحَ السفر أن يكون علة بذاته؛ سواء قدر الإنسان على الصوم أو عجز، وسواء شق عليه الصوم أو لم يشق؛ لأن السفر وصف ظاهر منضبط يصلح لتعليق الحكم به، ومن المقرر أنَّ "الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا"؛ كما في "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (3/ 504، ط. دار العبيكان)، فإذا وُجِد السفر وُجِدَت الرخصة، وإذا انتفى انتفت، أمّا اقتران السفر بالمشقة فهي حكمة غير منضبطة؛ لأنها مختلفة باختلاف الناس، واختلاف الأزمنة والأحوال ووسائل السفر، فلا يصلح إناطة الحكم بها، ولذلك لم يترتب هذا الحكم عليها ولم يرتبط بها وجودًا ولا عدمًا.

الأدلة على جواز رخصة الفطر للمسافر

قد جاءت رخصة الفطر للمسافر في الجملة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ فقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

وعن كعب بن عاصم الأشعري رضي الله عنه، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» أخرجه الطيالسي وأحمد والروياني في "المسند"، والدارمي وابن ماجه والنسائي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، وأخرجه مسلم في "الصحيح" بلفظ: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وعن أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ لِلْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ» أخرجه أبو داود والترمذي -وحسنه- وابن ماجه والنسائي والبيهقي في "السنن".

"وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة، وإنما يباح الفطر في السفر الطويل، الذي يبيح القصر والإجماع"؛ كما قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 116، ط. مكتبة القاهرة).

أقوال الفقهاء في حكم قطع التتابع للصائم بسبب الفطر للسفر ونصوصهم في ذلك

الفقهاء وإن أجمعوا على إباحة الفطر للمسافر في الجملة، إلا أنهم قد اختلفوا في المسافر الذي وجب عليه صيام شهرين متتابعين كفارةً فأفطر؛ هل يقطع فطره في السفر تتابع صوم كفارته، أم لا يقطع؟

فذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وقولٌ لبعض الحنابلة، إلى أن مَن وجب عليه صيام شهرين متتابعين كفارةً فسافر فأفطر تَرَخُّصًا: انقطع تتابعه؛ لأن الفطر في السفر رخصة لا ضرورة.

قال علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (5/ 111، ط. دار الكتب العلمية) في بيان مستند القول بانقطاع تتابع الصوم بالفطر في السفر: [(ولنا) قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ"، وقراءته كانت مشهورة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ فكانت بمنزلة الخبر المشهور؛ لقبول الصحابة رضي الله عنهم إياها تفسيرًا للقرآن العظيم إن لم يقبلوها في كونها قرآنًا، فكانت مشهورة في حق حكم الصحابة رضي الله عنهم إياها في حق وجوب العمل؛ فكانت بمنزلة الخبر المشهور، والزيادة على الكتاب الكريم بالخبر المشهور جائزة بلا خلاف، ويجوز بخبر الواحد، وكذا عند بعض مشايخنا على ما عرف في أصول الفقه، وعلى هذا يخرج ما إذا أفطر في خلال الصوم: أنه يستقبل الصوم؛ سواء أفطر لغير عذر أو لعذرِ مرضٍ أو سفر؛ لفوت شرط التتابع] اهـ.

قال العلامة الإسبيجابي الحنفي في "شرحه على مختصر الطحاوي" (مخطوط رقم: 457، ل: 253، م: المكتبة السليمانية): [لو أنه أفطر يومًا لعذرِ مرضٍ أو سفرٍ... فإنه يستقبل الصيام] اهـ. ونقله عنه العلامة الشلبي في "حاشيته على تبيين الحقائق" (3/ 10، ط. المطبعة الكبرى الأميرية).

وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة" (1/ 486، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [إن سافر فأفطره انقطع تتابعه؛ لأنه يقدر معه على الصوم فلم يكن عذرًا في قطع التتابع] اهـ.

وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (4/ 118، ط. دار الفكر): [المظاهر إذا كَفَّرَ بالصوم ثم إنه سافر في أثناء صومه سفرًا تقصر فيه الصلاة فأفطر فيه فإن ذلك يقطع تتابعه؛ لأنه فعل ذلك باختياره فيستأنف الصوم من أوله] اهـ.

وقال الإمام الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 445، ط. دار الكتب العلمية): [إن أفطر بالسفر؛ فإن قلنا: إنه ينقطع التتابع بالمرض؛ فالسفر أولى، وإن قلنا: لا ينقطع بالمرض؛ ففي السفر وجهان: أحدهما: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر فهو كالفطر بالمرض، والثاني: ينقطع؛ لأن سببه باختياره] اهـ.

وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (9/ 226-227، ط. دار إحياء التراث): [قوله: (وإن أفطر لعذر يبيح الفطر؛ كالسفر والمرض غير المخوف فعلى وجهين)... أحدهما: لا ينقطع التتابع به... وقيل: يقطع السفر] اهـ.

وذهب الشافعية في أحد القولين، والحنابلة في الأظهر وهو المذهب، والحسن البصري، إلى أن من وجب عليه صيام شهرين متتابعين فسافر فأفطر في سفره: فإنه يبقى على تتابعه، بشرط قضاء أيام سفره موصولة بصيامه حتى يتم شهرين كاملين، فإن فصل بين صيامه وقضاء أيامه: انقطع تتابعه.

قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (15/ 331، ط. دار الكتب العلمية): [إن قيل: إن الفطر بالمرض لا يقطع التتابع؛ ففي قطعه بالسفر قولان: أحدهما: لا يقطعه، ويجوز معه البناء؛ لأنه فطر بعذرين قد جمع الله بينهما في الإباحة] اهـ. ومقتضى البناء: الوصل دون الفصل بين أيام الصيام وقضاء ما أفطره في أثناء السفر.

وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي في "نهاية المطلب" (14/ 564، ط. دار المنهاج): [المرض لا يقطع التتابع؛ فيجوز الإفطار بسببه، وإن قلنا: المرض يقطع التتابع؛ فيجوز الفطر أيضًا بسببه، كما يجوز الفطر في رمضان على التزام القضاء مِن بَعدُ، وكذلك يجوز الفطر بعذر السفر على التزام الاستئناف مِن بَعدُ] اهـ.

وقال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (9/ 226-227): [قوله: (وإن أفطر لعذر يبيح الفطر؛ كالسفر والمرض غير المخوف فعلى وجهين)، وأطلقهما في "الهداية"، و"المذهب"، و"مسبوك الذهب"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"الهادي"، و"المغني"، و"البلغة"، و"المحرر"، و"الشرح"، و"النظم"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، وغيرهم. أحدهما: لا ينقطع التتابع به، وهو المذهب، قدمه في "الكافي"، و"الفروع"، وجزم به الأدمي في "منتخبه"، وابن عبدوس في "تذكرته"، وإليه ميل المصنف، وهو ظاهر كلام الخرقي، قال الشارح: لا ينقطع التتابع بفطره في السفر المبيح له، على الأظهر] اهـ.

وقال العلامة الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولى النهى" (5/ 526، ط. المكتب الإسلامي): [(ولا ينقطع) تتابع (بصوم رمضان) ولا بفطر فيه بسفر ونحوه] اهـ.

وقال أبو السعادات البهوتي الحنبلي في "المنح الشافيات" (2/ 645، ط. دار كنوز): [لا ينقطع التتابع إذا سافر سفرًا يبيح الفطر وأفطر، فيبني على ما مضى من صومه إذا رجع] اهـ. ومقتضى البناء: وصل الصيام دون انقطاع بينه.

وقال الإمام ابن المنذر في "الإشراف" (5/ 305-306، ط. مكتبة مكة الثقافية): [واختلفوا فيمن عليه صوم شهرين متتابعين فسافر وأفطر فقالت طائفة: إذا أفطر صائم بقيته، روي هذا القول عن الحسن] اهـ.

وقال العلامة الريمي في "المعاني البديعة" (2/ 283، ط. دار الكتب العلمية): [وعند الحسن: لا يبطل تتابعه، وعند أَحْمَد: لا يبطل تتابعه] اهـ.

المختار للفتوى في هذه المسألة

المختار للفتوى في هذه المسألة: هو أنَّ الفطر في السفر لا ينقطع به تتابع الصوم في الكفارة؛ لأن الشريعة الإسلامية قد جاءت بالتيسير على المكلفين؛ رحمةً بهم، ورعايةً لأحوالهم، وقد أناطت أحكامها بقدر السعة والطاقة؛ وذلك في نحو قول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، علاوة على أن السفر من أهم الأعذار التي جعلها الله سبحانه وتعالى سببًا في الترخص بالفطر في الصيام الواجب؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ» متفق عليه.

وقد تقرر في قواعد الشرع الشريف أن "الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 49، ط. دار الكتب العلمية)، وأنَّ "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَلَّدَ مَنْ أَجْازَ"؛ كما في "حاشية العلامة الشرواني" (1/ 119، ط. المكتبة التجارية الكبرى)، بالإضافة إلى أنَّ تصرُّفات المكلفين بعد صدورها منهم محمولة على ما صحَّ من مذاهب المجتهدين وأقوالهم، ومتى وافق عمل العامي قول أحد المجتهدين ممن يقول بالصحة أو الحِلِّ كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه باتفاق العلماء؛ كما قال العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق في "فتاويه" (1/ 225، ط. دار وهبة).

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دام جارك المذكور قد شرع في صيام شهرين متتابعين كفارةً، ثم تخلل صومَه سفرٌ فأفطر فيه؛ فإن هذا لا يقطع تتابع صومه، بشرط أن يقضي ما أفطره موصولًا بصومه، ويستمر حتى يستوفي صيام شهرين كاملين، فإن لم يَفعل ذلك انقطع تتابع صومه وكان عليه أن يستأنفه من جديد.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا