ما حكم قطع التتابع في صيام كفارة القتل الخطأ بسبب صيام شهر رمضان والعيد؟ حيث إن هناك رجلًا وجبت عليه كفارة صيام شهرين متتابعين بسبب القتل الخطأ، فصام شهر شعبان، ومِن بعده رمضان وشوال، ولم يفطر سوى يوم عيد الفطر، فهل يُعدُّ صيام رمضان وفطر يوم العيد قاطعًا لتتابع صيام كفارته؛ بحيث يجب عليه إعادة صيام الشهرين المتتابعين من جديد؟ علمًا بأنه قضى يوم العيد الذي أفطره في الأول من ذي القعدة.
قطع التتابع في صيام كفارة القتل الخطأ بصيام شهر رمضان
إذا كان الإنسان قد وَجَبَ عليه كفارةٌ صيام شهرين متتابعين بسبب القتل الخطأ، فَشَرَعَ في الصوم ابتداءً من أول شهر شعبان، ثم تخلل صيامَه صيامُ شهر رمضان وفطرُ يوم عيد الفطر؛ فإن هذا لا يقطع تتابع صومه ما دام قد قضى يوم العيد الذي أفطره من غير فصل بينه وبين صيام الشهرين، ومن ثَمَّ فلا يجب عليه إعادة صيام الكفارة مرة أخرى، ولا حرج عليه.
التفاصيل ....المحتويات
- كفارة القتل الخطأ
- اشتراط التتابع في كفارة القتل الخطأ
- حكم قطع التتابع في صيام كفارة القتل الخطأ بسبب صيام شهر رمضان والعيد
- الخلاصة
كفارة القتل الخطأ
أجمع أهل العلم على أنه يجب على القاتل خطأً كفارةٌ بخلاف الدية؛ لا فرق في ذلك بين كون المقتول خطأً صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى؛ كما في "المغني" للإمام ابن قدامة (8/ 512، ط. مكتبة القاهرة).
وهذه الكفارة هي تحرير رقبة، وحيث لم يعد هناك رقٌّ، ومِن ثَمَّ لم يَبْقَ للتكليف بتحرير رقبةٍ محلٌّ؛ أصبح الواجب في الكفارة أصالةً: صيام شهرين متتابعين؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92].
اشتراط التتابع في كفارة القتل الخطأ
قد أجمع أهل العلم على أنه يشترط في كفارة صيام الشهرين: التتابع؛ أي: صيام الأيام متتالية من غير فصل بينها؛ كما في "الشرح الكبير" لشمس الدين ابن قدامة [ت: 682هـ] (8/ 603، ط. دار الكتاب العربي)؛ والأصل في ذلك قول الله تعالى: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 92].
فإذا شرع من وجبت عليه الكفارة بصيام الشهرين، ثم أفطر قبل تمامهما وقطع تتابع صومه من غير عذر شرعي معتبر: فقد أجمع أهل العلم على أنه يستأنف صومه مِن جديدٍ، ولا يبني على ما صامه من الأيام؛ لقطعه التتابع المشروط فيها؛ كما في "الإشراف" للإمام ابن المنذر (5/ 305، ط. مكتبة مكة الثقافية).
حكم قطع التتابع في صيام كفارة القتل الخطأ بسبب صيام شهر رمضان والعيد
أما إذا ابتدأ صيام الشهرين، فتخللهما صيامُ رمضان، أو فطرٌ واجبٌ؛ كالعيدين؛ فقد اختلف الفقهاء في قطع تتابع كفارته من عدمها على قولين:
القول الأول: أنَّ مَن وجب عليه صيام شهرين متتابعين، فتخلل صيامَه صيامُ رمضان أو يومٌ يجب الفطر فيه؛ فقد انقطع تتابع صومه، وعليه أن يستأنف صومه من جديد؛ لأنه يمكنه أن يتحرز عن صيام كفارته في رمضان وكذا أيِّ وقتٍ منهيٍّ عن الصيام فيه، والمعنى: أنه يجد خلال العام وقتًا يَسَعُهُ صيام الشهرين المتتابعين فيه من غير أن يتخللهما صومٌ واجبٌ أو وقتٌ منهيٌّ عن الصيام فيه؛ وهذا مذهب الحنفية والشافعية.
قال علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (5/ 111، ط. دار الكتب العلمية): [لو أفطر يوم الفطر، أو يوم النحر، أو أيام التشريق: فإنه يستقبل الصيام؛ سواء أفطر في هذه الأيام أو لم يفطر] اهـ.
وقال فخر الدين الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (3/ 10، ط. المطبعة الأميرية): [(فإن لم يجد ما يعتق؛ صام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان، وأيام منهية) وهي يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق؛ لأن التتابع منصوص عليه، وشهر رمضان لم يشرع فيه صوم آخر غيره في حق المقيم الصحيح، والصوم في العيدين وأيام التشريق منهي عنه فلا يتأدى به الكامل، وينقطع التتابع بدخول هذه الأيام؛ لأنه يجد شهرين متواليين خاليين عن هذه الأيام، بخلاف ما إذا حاضت المرأة في صوم كفارة الإفطار أو القتل؛ حيث لا ينقطع به الترتيب؛ لأنها لا تجد بُدًّا منه في شهرين، بخلاف كفارة اليمين] اهـ.
قال العلامة الشلبي مُحَشِّيًا عليه: [قال الأتقاني رحمه الله: أما عدم إجزاء صوم رمضان عن الكفارة؛ فلأن الصوم الواقع فيه وقع عن فرض رمضان؛ فلا يقع عن فرض آخر، إلا إذا كان مسافرًا فصام شعبان ورمضان بنية الكفارة: أجزأه عند أبي حنيفة، خلافًا لهما.. قال الإمام الإسبيجابي في "شرح الطحاوي": ولو أفطر يومًا لعذر من مرض أو سفر؛ فإنه يستقبل الصيام، وكذا لو جاء يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق؛ فإنه يستقبل الصوم، ولو صام هذه الأيام ولم يفطر؛ فكذلك أيضًا يستقبل] اهـ.
وقال الإمام العمراني الشافعي في "البيان" (10/ 389، ط. دار المنهاج): [إن صام بعض الشهرين، ثُم تخللهما زمان لا يجزئ صومه عن كفارته؛ مثل: رمضان، وعيد الأضحى: انقطع تتابعه؛ لأن رمضان مستحقٌّ للصوم، وعيد الأضحى مستحقٌّ للفطر، وقد كان يمكنه أن يبتدئ صومًا لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل فقد فرط؛ كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر، ولا يجيء أن يقال: تخللهما عيد الفطر، ولا أيام التشريق؛ لأن عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد الأضحى] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (8/ 303، ط. المكتب الإسلامي): [فرع: لو ابتدأ بالصوم في وقت يدخل عليه رمضان قبل تمام الشهرين، أو يدخل يوم النحر: لم يجزئه عن الكفارة] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (3/ 369، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ويقطعه) أي: التتابع (عيدُ النحر ورمضان ولو في تحرِّي أسير) أي: ولو في صومِ أسيرٍ تحرَّى فيه فغلط بظهور ما ذكر] اهـ.
القول الثاني: أنَّ مَن وجب عليه صيام شهرين متتابعين فتخلل صيامه صيام رمضان أو عيد فطر؛ فلا ينقطع تتابع صومه؛ لأن صيام شهر رمضان واجب، فمَنَع الشرع الشريف صيام غيره فيه، والعيد زمنٌ يَحرُم الصيام فيه ابتداءً، ومن ثَمَّ فلما كان الشرع هو مَن قيَّد هذا الزمان بوجوب الصيام أو بوجوب الفطر؛ لم يقطع تخلُّلُهُمَا صيامَ الشهرين المتتابعين؛ لأنه عذر شرعي معتبرٌ لا ينقطع تتابع صيام الكفارة به، وهذا مذهب الحنابلة، والإمام ابن حبيب من المالكية. وهذا القول هو المختار للفتوى؛ لما فيه من التيسير على المكلفين ورفع الحرج ودفع المشقة والتخفيف عنهم؛ رحمةً بهم، ورعايةً لأحوالهم، ولأن الناس تختلف ظروفهم وأحوالهم في إمكان صوم الشهرين خلال العام؛ نظرًا لتنوع مواسم أعمالهم ونحو ذلك، والتكليف في الشريعة الإسلامية إنما هو على قدر الوُسع والطاقة بما يناسب أحوال الناس وطبائعهم وقدراتهم؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقد تقرر في قواعد الشرع أنَّ "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَلَّدَ مَنْ أَجْازَ"؛ كما في "حاشية العلامة الشرواني" (1/ 119، ط. المكتبة التجارية الكبرى)، وأنَّ "الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ" و"إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 49، ط. دار الكتب العلمية).
قال علاء الدين المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (9/ 224، ط. دار إحياء التراث): [قوله: (فإن تخلل صومَها صومُ شهر رمضان، أو فطرٌ واجبٌ كفطر العيد، أو الفطر لحيضٍ، أو نفاسٍ، أو جنونٍ، أو مرضٍ مخوفٍ، أو فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما: لم ينقطع التتابع).. وكون الصوم لا ينقطع إذا تخلله رمضان أو يوم العيد: مِن مفردات المذهب] اهـ.
وقال أبو السعادات البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 384، ط. دار الكتب العلمية): [(وإن تخلل صومهما صوم) شهر (رمضان) بأن يبتدئ الصوم من أول شعبان فيتخلله رمضان: لم ينقطع التتابع (أو) تخلله (فطر واجب كفطر العيدين وأيام التشريق) بأن يبتدئ مثلًا من ذي الحجة، فيتخلل يوم النحر وأيام التشريق: لم ينقطع التتابع؛ لأنه زمنٌ مَنَعَهُ الشرعُ عن صومه في الكفارة كالليل] اهـ.
وقال العلامة أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل" (5/ 449، ط. دار الكتب العلمية): [قال ابن حبيب: إذا صام شعبان عن ظِهاره، ورمضان لفرضه، وأكمل ظِهاره بصوم شوال: أنَّ ذلك يجزئه] اهـ.
ومحل هذا الخلاف الحاصل بين الفقهاء إنما هو قبل التلبس بالفعل، فإذا صدر الفعل ووقع من المكلَّف -كما في مسألتنا-؛ فإنه "مَتَى وَافَقَ عَمَلُ العَامِّيِّ مَذْهَبًا مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ.. كَفَاهُ ذَلِكَ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا"؛ كما قال العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق في "الفتاوى" (1/ 225، ط. دار وهبة).
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإذا كان الرجل المذكور قد وَجَبَ عليه كفارةٌ صيام شهرين متتابعين بسبب القتل الخطأ، فَشَرَعَ في الصوم ابتداءً من أول شهر شعبان، ثم تخلل صيامَه صيامُ شهر رمضان وفطرُ يوم عيد الفطر؛ فإن هذا لا يقطع تتابع صومه ما دام قد قضى يوم العيد الذي أفطره من غير فصل بينه وبين صيام الشهرين، ومن ثَمَّ فلا يجب عليه إعادة صيام الكفارة مرة أخرى، ولا حرج عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.