حكم طهارة ملابس الإحرام إذا وقع عليها دم - الفتاوى - دار الإفتاء المصرية - دار الإفتاء

حكم طهارة ملابس الإحرام إذا وقع عليها دم

حكم  طهارة ملابس الإحرام إذا وقع عليها دم

ما حكم  طهارة ملابس الإحرام إذا وقع عليها دم؟ فأنا كنتُ قد أحرمتُ بالعمرة، وفي أثناء الإحرام فوجئتُ بـجُرحٍ في يدي ووقوع دمٍ على ملابس الإحرام، فهل يَلْزَم غَسْل وإزالة الدَّم الذي وقع على ملابس الإحرام أَو لا؟

ينبغي على الـمُحْرِم المحافظة على نظافة ملابس إحرامه، فإن وقع عليها دمٌ من الـمُحْرِم نفسه وكان يسيرًا فهو من المعفو عنه، ولا يُخْرِج الملابس عن كونها طاهرة، وإن كان الدَّمُ الواقع كثيرًا فهو من المعفو عنه أيضًا على ما ذهب إليه الشافعية إذا كان غير مختلطٍ بدم غيره، ولم يجاوز المحل.

التفاصيل ....

المحتويات

 

مذاهب الفقهاء في حكم  طهارة ملابس الإحرام إذا وقع عليها دم

ندبَ الشرعُ الشريف إلى نظافة الثياب؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رَأَى رَجُلًا وعليه ثياب وَسِخَة، فَقَالَ: «أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» رواه أبو داود في "السنن"، والنَّسَائي في "الكبرى"، والحاكم في "المستدرك"، وابن حِبَّان في "الصحيح".

والحديث وإن لم يَرِد في الـمُحْرِم إلَّا أنَّ الـمُحْرِم داخلٌ دخولًا أَوَّلويًّا في مشمولات الحديث؛ لأنَّه يستحب له النظافة في بدنه بالاغتسال؛ إذ هو من مسنونات الإحرام، فكذلك في ثيابه بالأَوْلَى. ينظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (2/ 144، ط. دار الكتب العلمية)، و"تحفة المحتاج" لابن حجر الهَيْتَمِي (4/ 60، ط. المكتبة التجارية الكبرى)، و"كشاف القناع" للبُهُوتي (2/ 407، ط. دار الكتب العلمية).

وإذا كان الأصل في ملابس المُحْرِم النظافة، فإنَّ وقوع دمٍ على هذه الملابس يُخْرِجه من هذا الأصل، ومع ذلك فالفقهاء مختلفون في تَنَجُّسها حال وقوع هذا الدم عليها على حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون الدم الواقع على ملابس الإحرام مِن الدماء المعفو عنها، وذلك كأن يكون الدم يسيرًا في الجملة، ويَعْسُر الاحتراز منه، فهذا لا يُؤثِّر في طهارة ثوب المُحْرِم.

وقد اختلف الفقهاء في مقدار هذا اليسير الذي يُعْفَى عنه:

فيرى الحنفية -عدا زُفَر-، والمالكية: أَنَّ اليسير هو قَدْر الدرهم وما دونه.

قال العلامة الزَّيْلَعِي الحنفي في "تبيين الحقائق" (1/ 73، ط. الأميرية): [وعفا قَدْر الدِّرْهم، كعَرْض الكَفِّ من نجس مغلظ، كالدم والخمر... ولنا: أَنَّ القليل معفو إجماعًا، فقَدَّرناه بالدرهم] اهـ.

وقال العلامة الـحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 146، ط. دار الفكر): [(ودون درهم من دمٍ مطلقًا) ش: يعني أنَّه يعفى عما كان دون الدرهم من الدم مطلقًا] اهـ.

ويرى الشافعية، والحنابلة: أَنَّ مقدار اليسير يُرجع فيه إلى العُرْف خاصة.

قال الخطيب الشِّرْبِينِي الشافعي في "مغني المحتاج" (1/ 409، ط. دار الكتب العلمية): [(وتعرف الكثرة) والقلة (بالعادة) فما يقع التلطخ به غالبًا ويعسر الاحتراز عنه قليل، وإن زاد فكثير... (والدماميل والقروح) أثر الجراحات (وموضع الفصد والحجامة قيل كالبثرات) فيعفى عن دمها] اهـ.

وقال العلامة ابن قُدَامة الحنبلي في"المغني" (2/ 58-59، ط. مكتبة القاهرة): [وأما الدم فإنه يشق التحرز منه، فإنَّ الإنسان لا يكاد يخلو من بثرة أو حَكَّة أو دُمَّل، ويخرج من أنفه وفِيهِ وغيرهما، فيشق التحرز من يسيره أكثر من كثيره... أكثر أهل العلم يرون العفو عن يسير الدم والقيح... ولنا: أنَّه لا حَد له في الشرع، فرُجِع فيه إلى العُرْف] اهـ.

والشافعية وإن نَصُّوا على مراعاة العرف في تقدير اليسير من الدم، إلا أنهم فرقوا بين قليل الدماء فيما يُعْفَى عنه وما لا يُعْفَى عنه، فذهبوا إلى أَنَّ القليل من دم البراغيث والقمل يُعْفَى عنه لمشقة التحرز منه، أَمَّا غير ذلك من الدماء ففيها وجهان: قيل: يُعْفَى عن يسيرها قياسًا على دم البراغيث. وقيل: قليل النجاسة ككثيرها، لا يعفى عن شيء منها قياسًا على البول، وتبعهم في ذلك خاصة: زُفَر من الحنفية.

قال العلامة الماوَرْدِي الشافعي في "الحاوي" (1/ 295، ط. دار الكتب العلمية): [وأَمَّا المعفو عن يسيره من النجاسات فدم البراغيث؛ لإجماع السَّلَف عليه، وتَعذُّر التحرز منه، وأَمَّا غيره من سائر الدماء، ففي العفو عن يسيره قولان، نَصَّ عليهما في الجديد: أحدهما: يُعْفَى عن يسيرها قياسًا على دم البراغيث، فإن تمييز الدماء شاق فعلى هذا ماء القروح أولى بالعفو، والقول الثاني: لا يعفى عن شيء منها قياسًا على البول] اهـ.

وقال العلامة البابَرْتِي الحنفي في "العناية" (1/ 202، ط. دار الفكر): [وقال زُفَر والشافعي: قليل النجاسة وكثيرها سواء؛ لأنَّ النص الموجب للتطهير) وهو قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ﴾ [المدثر: 4]، (لم يُفَصِّل) بين القليل والكثير] اهـ.

الحالة الثانية: أن يكون الدَّم كثيرًا، -وهو الذي تجاوز حدَّ اليسير المذكور سابقًا-، فيرى الحنفية، والمالكية، والحنابلة: أَنَّه لا يُعفى عنه، ولا يجوز أداء العبادة معه إلَّا بالتطهير منه.

قال العلامة بدر الدين العَيْنِي الحنفي في "البناية" (1/ 724، ط. دار الكتب العلمية) في كلامه عما يعفى عنه وما لا يعفى عنه من النجاسات بعد أَنْ قرَّر أَنَّ الدم الذي هو قَدْر الدرهم معفو عنه: [(وإن زاد لم تجز) ش: يعني: وإن زاد النجس الـمُغلَّظ على قَدْر الدرهم لم تجز صلاته]ٍ اهـ.

وقال الشيخ الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 72- 73، ط. دار الفكر) في كلامه عن مقدار اليسير الذي يعفى عنه من النجاسات: [ومفهومه: أَنَّ ما كان قَدْر الدرهم لا يُعْفَى عنه، وهو ضعيف. والمعتمد: العفو، لا ما فوق الدرهم] اهـ.

وقال العلامة الدسوقي المالكي مُحَشِّيًا عليه: [اعلم أنَّ المسألة فيها ثلاث طرق: الأولى طريقة ابن سابق، وهي: أَنَّ ما دون الدرهم يعفى عنه اتفاقًا، وما فوقه لا يعفى عنه اتفاقًا، وفي الدرهم روايتان والمشهور: عدم العفو، والثانية لابن بشير: ما دون الدرهم يعفى عنه على المشهور، والدرهم وما فوقه لا يعفى عنه اتفاقًا؛ لأنه يقول اليسير قدر رأس الخِنْصَر والدرهم كثير، والثالثة: ما رواه ابن زياد، وقاله ابن عبد الحكم، واقتصر عليه في "الإرشاد": أنَّ الدرهم من حيز اليسير، وهذا هو الراجح، وهذا كله من دم غير أثر دُمَّل] اهـ.

وقال العلامة البُهُوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 109، ط. عالم الكتب): [(ويضم) نجس يُعفى عن يسيره (متفرق بثوب) واحد، فإن كان فيه بقع من دم أو قيح أو صديد، فإن صار بالضم كثيرًا لم تصح الصلاة فيه، وإلَّا عفي عنه] اهـ.

بينما يرى الشافعية أنَّه يُعْفَى عن دم الإنسان الكثير شريطة كون الدم من الشخص ذاته، أي: لم يَنْتَقِل إليه، وعدم كونه من فعله، أي: ليس متعديًا بوضعه على بدنه وثوبه، وعدم اختلاطه بأجنبي، وعدم مجاوزة المحل.

قال العلامة البُجَيْرِمِي الشافعي في "تحفة الحبيب" (1/ 447، ط. دار الفكر): [وحاصل ما في الدماء: أنَّه يُعفَى عن قليلها ولو من أجنبيٍّ غير نحو كلب، وكثيرها من نفسه ما لم يكن بفعله، أو يجاوز محله فيعفى حينئذ عن قليلها فقط م ر، ثم قال: ومحل العفو عن القليل إذا كان بفعله لغَرَضٍ؛ كعصر الدُّمَّل، أَمَّا لو فعله عبثًا؛ كأن لطخ نفسه بدم أجنبي عبثًا لم يعف عن شيء منه؛ لارتكابه محرمًا فلا يناسبه العفو، كما أفتى به الوالد رحمه الله.

ثم قال: ومحل العفو عن سائر ما تقدم مما يعفى عنه ما لم يختلط بأجنبي، فإن اختلط به ولو من نفسه كالخارج من عينه أو لثته أو أنفه أو قُبُله أو دُبره لم يعف عن شيء منه] اهـ.

بيان المختار للفتوى في هذه المسألة 

الذي نختاره للفتوى: أنَّ الدم اليسير الذي يَعْسُر الاحتراز منه لا يُؤثِّر في الطهارة، فهو من المعفو عنه، على ما ذهب إليه الحنفية -عدا زُفَر-، والمالكية، وأحد القولين عند الشافعية، والحنابلة.

قال العلامة ابن بَطَّال في "شرح صحيح البخاري" (1/ 339، ط. مكتبة الرشد)-: [أَنَّ يسير الدم موضع ضرورة؛ إذ لا يخلو الإنسان في غالب حاله  منه] اهـ، فَعُدَّ على ذلك من المعفوات.

كما أنَّ تقدير اليسير هنا بالعُرْف -كما هو مذهب الشافعية والحنابلة- هو الأقرب لمقاصد الشرع.

وأمَّا الدم الكثير فيُعْفَى عنه أيضًا إن كان دم إنسانٍ، وكان الدم من الشخص ذاته غير مختلطٍ بدم غيره، ولم يجاوز المحل.

ودليل ذلك: ما أخرجه البخاري في "صحيحه"، عن جابر رضي الله عنه: «أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فَرُمِيَ رجل بسهم، فنزفه الدم، فركع وسجد ومضى في صلاته».

فالحديث دالٌّ بلفظه على الدم الحاصل الكثير إذا كان من الشخص ذاته، أي: غير منتَقِل إليه من غيره: لا يَنْقُض الوضوء أو يُبْطِل الصلاة. يُنظر: "إرشاد الساري" للقَسْطَلَّاني (1/ 259، ط. الأميرية).

وهذا الفَهْم هو ما نُقِل عن عددٍ من الصحابة والتابعين، منهم: ابن عمر، وعبد الله بن أبي أَوْفَى، والحسن، وطاوس، وغيرهم، رضي الله عنهم جميعًا.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فينبغي على الـمُحْرِم المحافظة على نظافة ملابس إحرامه، فإن وقع عليها دمٌ من الـمُحْرِم نفسه وكان يسيرًا فهو من المعفو عنه، ولا يُخْرِج الملابس عن كونها طاهرة، وإن كان الدَّمُ الواقع كثيرًا فهو من المعفو عنه أيضًا على ما ذهب إليه الشافعية كما سبق بيانه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا