الرئيسية >هذا ديننا >حجج سيدنا إبراهيم عليه السلام على قومه

حجج سيدنا إبراهيم عليه السلام على قومه

حجج سيدنا إبراهيم عليه السلام على قومه

قال الله جل جلاله في سورة الأنعام [75-79]: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۞ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ ۞ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ۞ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۞ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
في هذه الآيات الكريمات يخبر الله جل جلاله أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد استقبح في قومه عبادة الأصنام، فأراد جل جلاله أن يريه ملكوت السماوات والأرض كما أراه قبح عبادة الأصنام؛ فيتوسل بها إلى معرفة الله جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته؛ قال الإمام مجاهد: "تفرجت لإبراهيم السماوات السبع حتى العرش فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع فنظر فيهن"، وقال الإمام السُّدي: "وفتحت له السماوات فنظر إلى ملك الله فيها حتى نظر إلى مكانه في الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض".
ومن المعلوم أن حصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال، فلا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها بعضًا؛ خاصة أن هذه المعارف وتلك المعلومات كانت بعين البصيرة والعقل لا بالبصر والحس الظاهر.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 83]؛ فدل ذلك على أن قوم إبراهيم لم يكونوا ليصدقوه في دعواه إلا بدليل عقلي منفصل ومعجزة باهرة -وتجدر الإشارة إلى أن تلك الحجة كانت مفصولة عن قوم إبراهيم بحجاب الله أي نوره الذي من خلاله رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض-؛ فاستخدم سيدنا إبراهيم الاستدلال العقلي لإظهار الحجة التي يراها هو وقومه؛ كما قال الله في حقِّ هذه الأمة: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53]، وإراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بوجود الله جل جلاله، وفي هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم؛ لأن الكفار في الآخرة يعرفون الله بالضرورة ولا يكون لهم بذلك نصيب من المدح أو التعظيم، أما الاستدلال العقلي على وجود المخلوقات وماهيتها على وجود الصانع الذي صنعها فأتقن صنعها، فذاك هو الذي أورث المدح والتعظيم.
ويدل على ذلك قوله عز وجل على لسان سيدنا إبراهيم: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام : 79]؛ فحكم على السماوات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في "النجم" و"القمر" و"الشمس" من إراءة الملكوت والتعريف بكيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم.
واليقين عبارة عن العلم المستفاد بطريق التأمل والتفكر والتدبر إن كان مسبوقًا بشك أو شبهة؛ دلَّ على ذلك قوله الله جل جلاله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام : 75]؛ أي: ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسًّا لا خبرًا.
وجميع المخلوقات تدل على وجود الله جل جلاله كونها محدثة ممكنة محتاجة له؛ ﴿اللهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 2]؛ فإن وعى الإنسان هذا الاستدلال فقد طالع جميع الملكوت بعين عقله.
ولما أراد سيدنا إبراهيم عليه السلام إبطال زعم قومه بربوبية ما سوى الله بطريق العقل، فلما شهد حركتها قال: ﴿لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾، بل إنه استرسل بعد ذلك فقال: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
وباستدلال سيدنا إبراهيم على أن أفول الكوكب غير جائز في حق الخالق؛ وجب علينا النظر في أمرين:
- أحدهما: ما هو الأفول؟ والآخر: كيف يدل الأفول على عدم ربوبية الكوكب؟
أما الأول: الأفول: عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره، إذًا فهو يدل على الحدوث؛ قال النحوي الأخفش الأوسط: "وإنما هذا مثل ضربه لهم ليعرفوا إذا هو زال: لا ينبغي أن يكون مثله إلهاً، وليدلهم على وحدانية الله، وأنه ليس مثله شيء"، وقال اللغوي ابن فارس: "وكل شيء غاب فهو آفل قال الخليل: وإذا استقر اللقاح في قرار الرحم فقد أفل".
لكن لِمَ ترك إبراهيم الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول على إثبات الشرك بالأفول؟! طالما أن الطلوع والأفول حادثين.
والجواب: لأن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد أن يكون ظاهراً جلياً بحيث يشترك في فهمه العالم والجاهل، ودلالة الأفول دلالة ظاهرة كونه انتقال مع اختفاء واحتجاب؛ فتستوي العقول في فهمه لأن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكان الشاهد أتم. أما الثاني: كون الكوكب له أفول، أفيمنع ذلك من ربوبيته؟!
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن الإله صمد لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء، فإذا ثبت أن الأفول من علامات الحدوث وجب القطع باحتياجها لمن أحدثها وبالتالي أثر في أفولها، وبذلك يثبت لدينا أن الأفول من صفات المحدثات التي لا تستحق أن تقوم بذاتها فتكون إلهاً يعبد، ويكون المعنى: "لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال فإن ذلك دليل على الحدوث وهو من صفات الأجرام والرب لا يجوز عليه التغير والانتقال".
قال الصحابي قتادة بن النعمان رضي الله عنه: علم -سيدنا إبراهيم عليه السلام- أن ربه دائم لا يزول.
الوجه الثاني: أن أفول الكوكب دالٌّ على عجزها عن الخلق والإيجاد بل والتأثير بأفول غيرها، ولزم التسلسل وهو محال، نضيف لذلك أنها لو لم تكن متأثرة بغيرها لبقي احتمال ذلك في غيرها من المخلوقات، ولعبدت مخلوقات غيرها كونها مشتركة معها في هذه الصفة؛ قال الإمام الشافعي: "واعلموا أن العالم اسم لجميع ما سوى الله من عرشه وكرسيه وسمائه وأرضه وحيوانه وجماده ناطقاً ساكتاً، محدث كائن بعد أن لم يكن، والدليل عليه أنه قد ثبت أن العالم يتغير من صفة إلى صفة ومن حال إلى حال، لا ينفك عن الألوان المختلفة والأكوان المتباينة والحوادث المتعاقبة، وما لا ينفك عن الحوادث ولم يسبق فهو محدث مثلها؛ لأنه لا يعقل وجود الأجزاء الكثيرة إلا مجتمعة أو متفرقة أو متقاربة أو متباعدة، والاجتماع والافتراق حوادث، وفي معنى قوله هذه الدلالة قوله عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي﴾ الآية ... حين نظر إلى الكواكب والشمس والقمر متغيرات في صفاتها؛ فأخرجها عن ربوبيته بعلة الأفول والزوال، والتنقل من حال إلى حال".
إن من يكون له كيفية لا يستحق أن يكون إلهاً لقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 78]؛ فبيّن أن الكيفية ﴿هَـذَا أَكْبَرُ﴾ هي من صفات المخلوقات المحدثات وأن من نسبها لخالقها يكون مشركًا؛ لأنه وصف الله بصفات مخلوقاته فوقع في الوهم؛ قال النحوي الفراء: "إنما قال: هذا ربي، استدراجًا للحجة على قومه ليعيب آلهتهم أنها ليست بشيء، وأن الكوكب والقمر والشمس أكبر منها ولسن بآلهة"، وقال الإمام الطبري: "وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام؛ إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلةً زائلة غير دائمة، والأصنام التي هي دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم أحقُّ ألا تكون معبودة ولا آلهة".
ثم ختم سيدنا إبراهيم حججه على قومه بقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض، الدائم الذي يبقى ولا يفنى ويحيي ويميت، لا إلى الذي يفنى ولا يبقى، ويزول ولا يدوم، ولا يضر ولا ينفع.
المصادر:
- "تفسير ابن أبي حاتم" (4/ 1326، 4/ 1329).
- "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" (9/ 349، 9/ 356، 9/ 360، 24/ 736، 9/ 363، 24/ 737).
- "الدر المنثور" (3/ 24).
- "اللباب في علوم الكتاب" (8/ 238).
- "معاني القرآن" (1/ 306، 1/ 341).
- "معجم مقاييس اللغة" (1/ 119).
- "البحر المحيط" (4/ 172).
- "الكشاف" (2/ 366).
- "التسهيل لعلوم التنزيل" (1/ 277).
- "تفسير الجلالين" (ص: 137).
- "تفسير ابن كثير" (3/ 260).
- "الفقه الأكبر"(ص: 5).
 

اقرأ أيضا
;