الرئيسية >هذا ديننا >بركة صلة الأرحام

بركة صلة الأرحام

بركة صلة الأرحام

 عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه.
يتحدث الحديث عن بركة صلة الأرحام، فهو يشير إلى أنه من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه.
ومعنى ينسأ له في أثره: يعني يُمَد له في أجلِه.
ويرد هنا تساؤل عن كيفية التوفيق بين الزيادة في عمر الإنسان وكون الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص؟
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة:
- الأول: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى عِلم الْمَلَكِ الموكَّل بالعُمر، وأما الذي دلَّتْ عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى؛ كأن يقال للملَك مثلًا إنَّ عُمُرَ فلانِ مثلًا مائة إنَّ برَّ والدَيْه، وستون إن عقَّهما.
وقد سبق في علم الله أن يبرَّ أو يعُقَّ، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملَك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقصان، وإليه الإشارة بقوله تعالى:﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملَك، وما في أمِّ الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البَتَّةَ، ويقال له القضاء المبرم ، ويقال للآخر القضاء المعلق.
- الثاني: أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت، حكاه القاضي عياض في "الإكمال"، وضعَّفه الإمام النووي في "شرحه على مسلم"، ونحوه للإمام الطيبي في "شرح المشكاة"؛ فإنه قال بعد كلامٍ له: [ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلًا فلا يضمحل سريعًا كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ومن هذا قول الخليل عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84] اهـ.
- الثالث: ما أخرجه الإمام الطبراني في "المعجم الصغير" بسند ضعيف عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن مَن وصل رحمه أنسئ له في أجله، فقال: «إنه ليس زيادة في عمره؛ قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ الآية، [الأعراف: 34]، لكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده».
وعنده في "المعجم الكبير" من حديث أبي مشجعة الجهني رضي الله عنه: "إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة لعمر ذرية صالحة".
- الرابع: أن المراد نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله وبه جزم الإمام ابن فورك، وقال غيره: [نفي الآفات عنه في جميع شئونهِ] اهـ.
- الخامس: أن الزيادة في الأوقات المعدودة، لا في الأنفاس المحدودة، ذكره الإمام المناوي في "التيسير".
- السادس: وهو الذي ارتضاه الجمع الغفير، وصححه الإمام النووي: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، قال الحافظ: "ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر".
وحاصله: أن البر يكون سببًا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل، فكأنه لم يَمُتْ، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح.
يقول الشيخ المحدث أحمد بن الصديق الغماري: [والأول من هذه الأقوال هو الأحقُّ بالقبول؛ لما فيه من إبقاء النصوص الشرعية على ظواهرها وعدم تأويلها، وقد ورد ما يدل على أن المراد بالزيادة حقيقتها مما لا يحتمل تأويلًا ولا يقبل دخيلًا.
فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال: «إنِّي رأيتُ البَارحةَ عجبًا، رأيتُ رجلًا مِن أُمَّتي أتاهُ ملَكُ المَوتِ ليقبضَ روحَهُ، فجاءَهُ بِرُّهُ بوالدَيْهِ فردَّ ملَكَ المَوتِ عنهُ» رواه أبو موسى المديني في "الترغيب"، وقال: هذا حديث حسن جدًّا.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِن الْإِنْسَان ليصل رَحمَه وَمَا بَقِي من عمره إلَّا ثَلَاثَة أَيَّام فيزيد الله تَعَالَى فِي عمره ثَلَاثِينَ سنة، وَأَن الرجل ليقطع رَحمَه وَقد بَقِي من عمره ثَلَاثُونَ سنة فينقص الله تَعَالَى عمره حَتَّى لَا يبْقى فِيهِ إلَّا ثَلَاثَة أَيَّام" رواه أبو موسى المديني في "الترغيب" وحسنه.
فهذان الحديثان مؤيدان للجواب الأول ومبطلان لما بعده، وقد وردت أدلة كثيرة صريحة في إمكان تغيير القضاء وتبديله، جمعها بعضهم في جزء مستقل:
- منها: أنه قد صح من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم في "القنوت" «وَقِنِي شَرَ ّمَا قْضَيْتَ»، وفيه طلب الحفظ من شر القضاء، ولو لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه.
- ومنها: ما صح في حديث التراويح من عذره صلى الله عليه وآله وسلم عن الخروج إليها، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله: «خشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُم فَتَعْجِزُوا عَنْهَا»، فلا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء لا يقبل التغيير؛ فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلا بد أن تفرض، وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير، فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لولا العلم بإمكان التغيير والتبديل.
- ومنها: ما صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى إنه لا ينام، وكان يقول في ذلك: «أخشى أن تقوم الساعة»، فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضًا مع إخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجد إذ ذاك كخروج المهدي، وخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانًا طويلًا، فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وأن ما قضي من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك.
- ومنها: أنه لولا إمكان التغيير لَأُلغِيَ الدعاء؛ إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا بد أن يكون، وإلا فمحال أن يكون، وطلب ما لابد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به، والقول بأنه لمجرد إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى، وكفى بذلك فائدة، يأباه ظاهر قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وأيضًا أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر، ورواه أحمد والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا، وفي معناه أحاديث كثيرة إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصى.
نعم، هذا بالنسبة إلى القضاء المعلق لا المبرم، لما يلزم على القول بتغييره من الجهل، أو التغيير كما هو مقرر في محله، والله أعلم] اهـ.
المصادر:
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر.
- "شرح النووي على مسلم".
- "التيسير شرح الجامع الصغير" للمناوي.
- "برُّ الوالدين" للحافظ أحمد بن صديق الغماري.

اقرأ أيضا
;