الرئيسية >هذا ديننا >بيعة العقبة الثانية

بيعة العقبة الثانية

بيعة العقبة الثانية

 لقد أعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للأمر عدَّته، وفكَّر في بَيْعَةٍ ثانيةٍ أعظم من البيعةِ الأولى، وأوسع مما كان يدعو إليه أهل مكة ومن حولها.
وجاء حَجِيجُ المدينة إلى مكة في الموسم التالي للبيعة الأولى؛ مؤمنهم وكافرهم، وكان فيهم خمسة وسبعون مسلمًا، ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان؛ اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر من الأوس، وعلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمجيئهم ورغبتهم في لقائه، فاتَّصل سرًّا بزعمائهم حتى لا تعلم قريشٌ بالأمر فتعمل على إلحاق الأذى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه، وتُفْسِدَ على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين خطَّة اجتماعهم، كما أخفى مسلمو يثرب أمرهم على من معهم من المشركين.
- اجتماع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمسلمي يثرب:
وقد واعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلمي يثرب أن يقابلهم في آخر موسم الحج حتى لا يكون هناك شبهة عند قريش، فهم في كل يومٍ يغدون ويروحون أمامهم، أما إذا غابوا عن الأنظار انكشف أمرهم، كما واعدهم أن تكون المقابلة ليلًا، وأن يكون مكانها عند العقبة، وانتظر مسلمو يثرب حتى انتهى أمر الحج وحان الموعد، فخرجوا من رحالهم بعد انقضاء ثلث الليل مستخفين حتى لا ينكشف أمرهم، ووصلوا العقبة وعلى رأسهم الاثنا عشر رجلًا الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيعة الأولى وقاموا ينظرون مَقدِمَ صاحب الرسالة.
ويحكي تفاصيل البيعة سيدنا جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، فيقول: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبث عشر سنين يتبع النَّاس في منازلهم؛ مِجنَّة وعكاظ، وفي المواسم بِمِنَى، يقول: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ وَمَنْ يَنْصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّة»، فلا يجد أبدًا أحدًا يُؤويه ولا ينصره، حتى إنَّ الرجل ليرحل من مُضَر أو اليمن، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر فتى قريشٍ لا يفتنك. ويمضي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من دور يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا واجتمعنا فقلنا: متى نذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلًا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه "شِعب العقبة"، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله: علامَ نبايعك؟ قال: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لا يَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِيَ إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ».
فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أَسْعَدُ بن زُرَارَة رضي الله عنه، -وهو أصغر السبعين رجلًا إلا أنا- فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد المطيِّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافَّة وقتل خياركم وأن تعضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عضِّ السيوف إذا مسَّتكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافَّة فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
فقلنا: ابسُط يدك يا أسعد بن زرارة فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
فقمنا إليه نبايعه رجلًا رجلًا يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة" رواه الإمام أحمد والبيهقي.
وقد نظر العباس في وجوه وفد الأنصار ثم قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث. (مما يدل على غلبة الشباب على الوفد).
وهكذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الطاعة والنصرة.
وتقّدم روايَةُ الصحابي كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه -وهو أحد المبايعين في العقبة الثانية- تفاصيل مهمة قال: "خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا ... وَخَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ، فَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.. وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا.. فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا؛ حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِمْ، نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ..، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ..، فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ؛ حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقُ لَهُ -وكان ذلك قبل الهجرة بشهور تقريبًا سنة 622م-، فَلَمَّا جَلَسْنَا كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، -قَالَ: وَكَانَتْ الْعَرَبُ مِمَّا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا- إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ-، وَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ.
قال اليثربيون -وقد سمعوا كلام العباس-: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، فَتَلَا، وَدَعَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ»، قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
وتبعه الباقون، فمدوا أيديهم إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ واحدًا بعد واحد يبايعون، وجاء بعدهم النساء يبايعن أيضًا.
ولما فرغوا من البيعة قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: «أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ أُمَرَاء»
فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ لهؤلاء النقباء: «أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيْهِمْ كُفَلَاء كَكَفَالَةِ الحَوَارِيِّينَ لِعِيْسَىَ ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيْلٌ عَلَى قَوْمِي».
وكذلك تمت البيعة الثانية وذهب كلٌّ إلى رحله في ظلام الليل، وهم على ثقة ويقين من أنه لا يعلم بهم أحدٌ إلا الله.
ولم يكدْ نورُ الصباح يظهر حتى كان أمرُ تلك البيعة حديثَ قريشٍ، فبدأت نفوسُهم تضطرب لما سمعت، وقلوبهم تمتلئُ فزعًا لهذا الحادث الخطير، وصمَّمُوا على أن يَحُولُوا بين سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وبين الوصول إلى يثرب، حتى لا يعظُم أمره فيها ويصبح خطرًا عليهم.
وهذا التحول في أمر الدعوة وصاحبها صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث أجمعوا أمرهم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فساروا إليهم وخاطبوهم قائلين: "يا معشر الخزرج، بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حيٍّ من العرب يغضبنا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم أكثر منكم". فلم يجبهم أحد ممن أسلم بكلمة.
أما المشركون منهم فقد حلفوا لهم أنه لم يحدث من ذلك شيء وما علموا به، وقال عبد الله بن أُبي -وهو من كبار الخزرج وكبير المنافقين بيثرب-: "إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتَّفِقُوا على مثل هذا وما أعلم به"، فاعتقد رؤساء قريش صدق قوله وانصرفوا.
وبعد ذلك بقليل بدأت قوافل الحجاج تعود إلى أوطانها، ولما مضى على رحيل أهل يثرب بضعة أيام تأكد لدى قريش أن ما علموه من أمر البيعة صحيح، وأن حديث عبد الله بن أُبيٍّ حديث غير العارف بها، ووقفت على تفاصيل ما دار في بيعة العقبة، فعرفت عدد الذين بايعوا ولم يخف عليهم كذلك ما تعاهدوا عليه من حمايتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه، لذلك قامت قيامتهم وخرجوا يتعقبون الرَّكب المدني للإيقاع به، فلم يدركوا منهم إلا سعد بن عبادة رضي الله عنه -وكان قد تأخر عن القافلة-، فأخذوه وردوه إلى مكة مسحوبًا من شعره الطويل وعذبوه حتى أجاره جبير بن مطعم بن عدي، وأطلق سراحه ثم عاد إلى المدينة.
وهكذا مرَّت البيعة بسلامٍ واكتمل عودة الأنصار إلى المدينة، ينتظرون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم بتلهُّفٍ كبيرٍ.
المصادر
- "سبل الهدى والرشاد" للصالحي.
- "القول المبين في سيرة سيد المرسلين" لمحمد الطيب النجار.
- "الصحيح من أحاديث السيرة" لمحمد بن حمد الصوياني.
- "المسند" للإمام أحمد بن حنبل.
- "دلائل النبوة" للإمام البيهقي.

اقرأ أيضا
;