الاستدلال بالقواعد الفقهية

هناك بعض النصوص الشرعية التي وردت عامة، وورد من النصوص الأخرى ما يخصصها، وهناك نصوص شرعية وردت مطلقة فقيدتها نصوص أخرى، وقد تكلم العلماء فيما يخصص العام ويقيد المطلق، وذكروا ذلك في مباحث أصول الفقه وغيرها، وقد ذكروا ما يخصص ويقيد النصوص؛ كالقرآن والسنة والإجماع والقياس، على تفصيل في ذلك، فهل ذكر بعض أهل العلم أن القواعد الفقهية تخصص وتقيد النصوص، وإن لم يكن هناك ذكر لذلك، فما موقف دار الإفتاء من ذلك؟

في السطور الآتية نعالج هذه القضية فنقول:
اختلف الفقهاء في تعريف القاعدة الفقهية بناء على اختلافهم في مفهومها: هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟
ونحن نختار لكل مدرسة تعريفا من تعريفاتها، فمن تعريفات المدرسة الأولى: هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة، تفهم أحكامها منه. (ينظر: الأشباه والنظائر للسبكي 1/11، ط. دار الكتب العلمية).

ومن تعريفات المدرسة الثانية: هي حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته؛ لتعرف أحكامها منه. (ينظر: غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر للحموي 1/15، ط. دار الكتب العلمية).

والظاهر أن الباعث لمن يعرفها بأنها أكثرية هو: أن كثيرا من قواعد الفقه لها صور مستثناة منها، ولا ينطبق عليها حكمها، ويلحظ هذا الأمر من يطالع كتب قواعد الفقه. (مقدمة تحقيق قواعد الحصني للدكتور/ الشعلان 1/23، ط. مكتبة الرشد).

ولكن هذا الاستثناء وعدم الاطراد لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها؛ لأن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي، كما أن الكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات. (ينظر: موسوعة القواعد الفقهية للدكتور/ محمد صدقي الغزي 1/32، ط. مؤسسة الرسالة، والموافقات للشاطبي 2/53، ط. دار ابن عفان).

وكون هذه القواعد أغلبية لا يغض من قيمتها العلمية وعظيم موقعها في الفقه، خاصة ضبطها لفروع الأحكام العلمية بضوابط تبين في كل زمرة من هذه الفروع وحدة المناط، وجهة الارتباط برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها، مما يمهد بينها طريق المقايسة والمجانسة. (ينظر: مقدمة شرح القواعد الفقهية للزرقا ص35).

ولذا كان من أهم فوائد علم القواعد الفقهية: ضبط الأمور المنتشرة المتعددة ونظمها في سلك واحد؛ مما يمكن من إدراك الروابط بين الجزئيات المتفرقة، ويزود المطلع عليها بتصور سليم يدرك به الصفات الجامعة بين الجزئيات. (القواعد الفقهية للدكتور/ يعقوب الباحسين ص114).

ويمكن تقسيم القواعد الفقهية بحسب مصادرها إلى قسمين:
القسم الأول: قواعد جاء بها نص شرعي: قد يكون بلفظه مثل: ((الخراج بالضمان))، فهو نص حديث شريف أخرجه أصحاب السنن الأربعة. وقد يكون بإنشاء لفظها من ظاهر النص، دون حاجة إلى استقراء واستنباط، مثل: الميسور لا يسقط بالمعسور، فهي قاعدة مأخوذة من الحديث الشريف: ((وإن أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)). (متفق عليه).
القسم الثاني:
قواعد خرجها العلماء من استقراء الأحكام الجزئية: وهي التي تتبعها العلماء في أبواب مختلفة، وكثير منهم صاغوها في عبارات موجزة سلسلة، مثل: (الرضا بالشيء رضا بما يتولد منه)، و (المشغول لا يشغل). (الأشباه والنظائر للسيوطي ص28،16).

وأما تقسيمها من حيث الشمول والسعة، فتنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: القواعد الكبرى التي تشتمل على مسائل كثيرة، وأبواب متعددة كادت أن تستوعبها. وهي القواعد الخمس التي قيل: إن الفقه مبني عليها، وهي: الأمور بمقاصدها، واليقين لا يزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال، والعادة مُحكَّمة.

القسم الثاني: قواعد قريبة من السابقة في شمولها؛ إلا أنها أقل منها، وقد ذكر منها السيوطي في «الأشباه والنظائر» أربعين قاعدة، منها: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام، وأغلبها يذكر لها السيوطي أدلتها مثل القاعدة الأولى منها: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

قال السيوطي: «الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، نقله ابن الصباغ. وفي القاعدة الثالثة: (الإيثار في القربات مكروه، وفي غيرها محبوب)، قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. القاعدة الثامنة والثلاثون منها: الميسور لا يسقط بالمعسور، قال ابن السبكي: وهي من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)). اهـ.

القسم الثالث:
قواعد مختلف فيها في المذهب، كالقواعد العشرين التي ذكرها السيوطي في الكتاب الثالث من الأشباه والنظائر، وهو غالبا يوردها بصيغة الاستفهام، مثل: هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟

القسم الرابع: قواعد مشتملة على مسائل متعددة بأبواب محدودة أو معينة من أبواب الفقه، والكثير منها يعد ضابطا، وهو: ما اختص بباب واحد وقصد به نظم صور متشابهة، وغالبا ما يختص بمذهب معين.

وأما تقسيمها من حيث كونها أصلية أو تابعة فتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قواعد أصلية، وهي التي لا تكون تابعة لقاعدة أخرى، مثل القواعد الخمس الكبرى، وكذا القواعد الأربعون التي ذكرها السيوطي، والتي تقدمت الإشارة إليها.

القسم الثاني: قواعد تابعة، وهي التي تكون تابعة لقاعدة أخرى، وتكون تبعيتها من وجهين:
أ) أن تكون متفرعة من أكبر منها مثل: الأصل براءة الذمة، فهي مندرجة في قاعدة: اليقين لا يزول بالشك.
ب) أن تكون قيدا لقاعدة أخرى، مثل: الضرر لا يزال بالضرر؛ فإنها قيد لقاعدة: الضرر يزال. (ينظر: مقدمة تحقيق قواعد الحصني 1/30، وموسوعة القواعد الفقهية للغزي 1/32، ط. مؤسسة الرسالة، والقواعد الفقهية ليعقوب الباحسين ص118).

والحكم في هذه المسألة أنه يجوز تخصيص النصوص وتقييدها بالقواعد الفقهية إجمالا، وإنما قيدنا الجواز بالإجمال لأن واقع الأمر يبين أن القواعد الفقهية ليست على وتيرة واحدة، فبعضها أصله نص شرعي، وبعضها مأخوذ من معنى نص أو أكثر، وبعضها كلي لا يخرج عنه إلا القليل من الفروع، وبعضها مختلف فيه كما تقدم، وبعضها لا يندرج تحته إلا فروع معدودة؛ كقاعدة: من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، فقد قال السيوطي بعد ذكرها: «تنبيه: إذا تأملت ما أوردناه علمت أن الصور الخارجة عن القاعدة أكثر من الداخلة فيها. بل في الحقيقة: لم يدخل فيها غير حرمان القاتل الإرث». (الأشباه والنظائر ص153).

كما أن النص الذي نريد تخصيصه لا بد أن يكون قابلًا للتخصيص، فإن لم يكن قابلا للتخصيص فلا يخصص بالقواعد الفقهية، ولا بغيرها.
ومن الأدلة على ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأزرق بن قيس، قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف نهر إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها -قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي- فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ، فلما انصرف الشيخ، قال: إني سمعت قولكم «وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات - أو سبع غزوات - وثماني وشهدت تيسيره»، وإني إن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي.

ثم أخرجه البخاري من رواية الأزرق بن قيس، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره.

ووجه الدلالة من الحديث أن الصحابي أبا برزة رضي الله عنه لما ذمه الخوارج ودعَوا عليه؛ لتحركه في الصلاة، وهو مأمور بالخشوع فيها، قابل هذا العموم الوارد في الباب بقاعدة فقهية قد استفادها من مشاهداته لأفرع كثيرة من تيسير النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يستدل بحديث في الباب على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل بدابة في صلاته مثل ما فعل هو، بل أوضح أنه باستقرائه لأحواله استنبط قاعدة: التيسير مطلب شرعي، حيث قدمه أو خصص به مسألة الخشوع، وإن كان قد خرج من الصلاة كما هو ظاهر الرواية الثانية فقد خصص بها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:33]، ولا يقال: لعله خصصها بما خصصها به الشافعية بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91]، لأنه صرح بدليله ولم يسكت حتى يتطرق إلينا هذا الاحتمال.

وقد ورد تخصيص النص بقاعدة فقهية في ثنايا كلام أهل العلم، مما يدل على صحة ما ذكرنا.
ففي حديث الصحيحين عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده».

قال ابن قدامة: «وقد روى أبو حفص عمر بن المسلم العُكْبَري في الخبر زيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن أدخلها قبل الغسل أراق الماء. ويحتمل ألا تزول طهوريته ولا تجب إراقته ؛ لأن طهورية الماء كانت ثابتة بيقين، والغمس المحرم لا يقتضي إبطال طهورية الماء ؛ لأنه إن كان لوهم النجاسة، فالوهم لا يزول به يقين الطهورية؛ لأنه لم يزل يقين الطهارة، فكذلك لا يزيل الطهورية، فإننا لم نحكم بنجاسة اليد ولا الماء؛ ولأن اليقين لا يزول بالشك، فبالوهم أولى». (المغني 1/71، ط. مكتبة القاهرة).

وفي حديث أبي داود عن البراء بن عازب، قال: كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: «فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل».

قال السيوطي: «القاعدة السادسة العادة مُحكَّمة... وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا، ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك، اعتبرت العادة في الأصح». (الأشباه والنظائر للسيوطي ص89).

وفي حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره»، ثم يقول أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمِيَنَّ بها بين أكتافكم».

قال الشيخ عبد الرحمن آل بسام عند شرحه: «وإن كان ثَم حاجة لصاحب الخشب، وليس على صاحب الجدار ضرر من وضع الخشب، فيجب على صاحب الجدار أن يأذن له في هذا الانتفاع الذي ليس عليه منه ضرر مع حاجة جاره إليه. ويجبره الحاكم على ذلك إن لم يأذن. فإن كان ثَم ضرر، أو ليس هناك حاجة، فالضرر لا يزال بالضرر». (تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ص521، ط. مكتبة الصحابة).

وقد اختلفت المذاهب فيها، وهذه بعض استخدامات العلماء في كتب الفقه وشروح الحديث للقواعد الفقهية في تخصيص عموم النصوص، وهي أبلغ في الاستدلال؛ إذ قد يذكر أحيانا كلام لا ينهض عن كونه نظريا لا يرقى للعمل به.

ويمكن مناقشة ما سبق بأن الأدلة الشرعية تتكون من النصوص الشرعية وغيرها، والنصوص الشرعية من القرآن والسنة بالنسبة للاستدلال: لهما الترتيب في الشرف، وليس في القوة، لما قد يعتري النص من الضعف من حيث الثبوت؛ كالقراءة الشاذة والحديث ضعيف السند، أو من حيث الدلالة؛ كالنص المنسوخ، بخلاف الإجماع.

والقواعد الفقهية فيها قواعد عامة كلية، تعتمد على نصوص شرعية هي إلى الإجماع أقرب، فهذه لا شك أنه يخصص بها النص.
كما أن هناك قواعد دون السابقة، لكن أكثرها لها أدلة مختلفة من الكتاب أو السنة أو الإجماع.

قال الطوفي: «فلنتكلم على أصول الفقه -أصلًا بعد أصل- على ترتيبها في الشرف لا في القوة، فهي في الشرف: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، لأن الكتاب كلام الله سبحانه وتعالى، وهو أجل وأشرف وأعظم من النبي الذي السنة كلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم أشرف من المجتهدين الذين الإجماع هو اتفاقهم. وأما في القوة، فالإجماع، ثم الكتاب، ثم السنة، لأن الإجماع لا ينسخ، بخلاف الكتاب والسنة، فإنهما ينسخان، فيجوز أن الآية أو الخبر المعارض لإجماع يكون منسوخا». (شرح مختصر الروضة 1/111، ط. مؤسسة الرسالة).

كما أن الأصل في العام أنه مخصَّص، ويجوز إخراج كثير من أفراده بالتخصيص، فإذا قابل النص العام -الذي بهذه المثابة- بقواعد تحتها أفراد أكثر من أفراده فلا شك أنه جدير بتخصيص هذا العام الذي يكاد أن يفقد لقبه.

قال ابن النجار: « لا عامَّ إلا وطَرَقَه التخصيصُ، إلا مواضع يسيرة. ويجوز التخصيص «ولو لعامٍّ مؤكَّد»؛ إذ تأكيده لا يمنع تخصيصه على أصح قولي العلماء، بدليل قوله تعالى: ﴿فسجد الملائكة كلهم أجمعون 30 إلا إبليس﴾ [الحجر: 30- 31] إذا قدر متصلا، وفي الحديث: ((فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة)). ويجوز التخصيص مطلقا «إلى أن يبقى واحد» فقط من أفراد العامِّ، قاله أكثر أصحابنا وغيرهم... وما في المتن هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وأصحابه. قال ابن مفلح: يجوز تخصيص العامِّ إلى أن يبقى واحد عند أصحابنا. قال الحلواني: هو قول جماعة. وكذا قال ابن قاضي الجبل. قال ابن برهان: هو المذهب المنصوص. قال القاضي عبد الوهاب: هو قول مالك والجمهور. وحكى الجويني إجماع أهل السنة على ذلك في «من» و «ما» ونحوهما». (شرح الكوكب المنير 3/273، ط. مكتبة العبيكان).

أما لماذا لم يذكر العلماء «القواعد الفقهية» في مخصِّصات العام في كتب الأصول، فالجواب: أن القواعد الفقهية ليست كلها على وتيرة واحدة، كما تقدم، فمن ثم لا يستطيع الإنسان أن يحكم عليها بحكم كلي. ثم إن كانت القاعدة تستند على نص شرعي، فالاستدلال يكون بالنص؛ ليكون أوضح في القبول والرد، مثل تخصيص الكتاب بخبر الواحد، هو واضح بالنسبة لكلام أهل العلم فيه، بخلاف القاعدة الفقهية التي قد لا يعلم مصدرها إلا بعد البحث الشديد. كما أن المباحث القديمة كلها تتحدث عن قوائم علمية معينة، ولذا يأتي النقاش في فلكها. كذلك فالمجتهد المطلق لا يحتاج إلى معرفة الفروع الفقهية؛ لأنه مجتهد، فلذلك لا يلتفت إلى القواعد الفقهية ليخصص بها العام، بل من الناحية العملية لا يكاد هذا يحدث؛ فإن الذين يضعون القواعد الفقهية إنما هم أتباع المذهب بعد رحيل صاحبه بزمن غير قصير.

أما بخصوص تقييد المطلق بالقواعد الفقهية، فالأصل فيه أن ما ذكر هناك يذكر هنا أيضا؛ كما صرح به كثير من أهل الأصول في كتبهم.
قال الآمدي: «وإذا عُرف معنى المطلق والمقيَّد، فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه، والمختلف فيه، والمزيف، والمختار؛ فهو بعينه جارٍ في تقييد المطلق، فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا». (الإحكام في أصول الأحكام 3/4، ط. المكتب الإسلامي، ونحوه في إرشاد الفحول 2/10، ط. دار الكتاب العربي).

وبناءً عليه: فإنه يجوز تخصيص النصوص وتقييدها بالقواعد الفقهية الخمس التي ترجع إليها جميع مسائل الفقه، كذلك القواعد الكلية التي يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، وأصلها أربعون قاعدة؛ وكثير منها له أدلة شرعية واضحة منصوص عليها، وقد ذكرنا أمثلة منها. لكنْ هذه القواعد الأربعون ليست على مستوى واحد من القوة، بل بعضها لم يندرج تحته إلا فرع واحد -كما تقدم- ولذا فالقول في هذه الأربعين هو أن يخصص بالقوي منها فقط، وهي ما يستند إلى نصوص شرعية أو إجماع. ثم إنما يُخصَّص النصُّ العامُّ الذي يقبل التخصيص. والله تعالى أعلم.