هل البدعة مقتصرة على العبادات

البدعة في اللغة: من بدع الشيء يبدعه بدعا، وابتدعه: إذا أنشأه وبدأه، والبدع: الشيء الذي يكون أولا، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]: أي لست بأول رسول بعث إلى الناس، بل قد جاءت الرسل من قبل، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني، وفي لسان العرب: المبتدع الذي يأتي أمرًا على شبه لم يكن، بل ابتدأه هو، وأبدع وابتدع وتبدع: أتى ببدعة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 27]، وبدعه: نسبه إلى البدعة، والبديع: المحدث العجيب، وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، والبديع من أسماء الله تعالى، ومعناه: المبدع؛ لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها. [لسان العرب: 8/ 6، مادة «بدع»، ط. دار صادر].

والبدعة في الاصطلاح: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة [تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/ 22، ط. المنيرية].

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: «البدعة: فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم». [قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/ 172، ط. الاستقامة].

وبذلك التعريف تدخل العادات والمعاملات تحت تعريف البدعة، يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام -مقسما البدعة إلى خمسة أقسام لتتناول العادات والمعاملات والعبادات وسائر ألوان الحياة من المباحات وغيرها-: وهي منقسمة إلى واجبة، ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة، وللبدع الواجبة أمثلة، أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذلك واجب؛ لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللبدع المحرمة أمثلة، منها: مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة، وللبدع المندوبة أمثلة، منها: إحداث الربط والمدارس، وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها: صلاة التراويح، ومنها الكلام في دقائق التصوف، ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال على المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه، وللبدع المكروهة أمثلة، منها: زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فالأصح أنه من البدع المحرمة، وللبدع المباحة أمثلة، منها: المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام، وقد يختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة، ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما بعده، وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة» [قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 4/ 202- 205، ط. عالم الكتب]، وتبعه القرافي في هذا التقسيم في كتابه «الفروق» في الفرق الثاني والخمسين والمائتين.

ويقول ابن عابدين في حاشيته مقسمًا البدعة إلى أقسام خمسة تتناول العبادات والعادات: «البدعة خمسة أقسام: محرمة، وواجبة، كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلم النحو المفهم للكتاب والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب» [رد المحتار: 1/ 560، ط. دار الفكر].

وقسم المناوي في «فيض القدير» البدعة إلى مذمومة وحسنة، فقال: «والبدعة كما قال في القاموس: الحديث في الدين بعد الإكمال، وما استحدث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأهواء. وقال غيره: اسم من ابتدع الشيء: اخترعه وأحدثه، ثم غلبت على ما لم يشهد الشرع لحسنه، وعلى ما خالف أصول أهل السنة والجماعة في العقائد، وذلك هو المراد بالحديث؛ لإيراده في حيز التحذير منها والذم لها والتوبيخ عليها، وأما ما يحمده العقل ولا تأباه أصول الشريعة فحسن» [فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 1/ 72، ط المكتبة التجارية الكبرى].

كما قسم الإمام الشافعي البدعة إلى قسمين عامين تدخل فيهما العبادات والعادات، كما روى البيهقي فقال: «قال الشافعي -رضي الله عنه-: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه بدعة الضلالة. والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر -رضي الله عنه- في قيام شهر رمضان: «نعمت البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى» [المدخل إلى السنن الكبرى: 1/ 206، ط. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي].

وقال الطرطوشي المالكي: «أصل كلمة البدعة: من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احْتُذِيَ، ولا ألف مثله، ومنه قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]، وقوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل [الأحقاف: 9]؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض، وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح» [الحوادث والبدع للطرطوشي ص39: ط. دار ابن الجوزي].

وقال ابن الحاج المالكي في «المدخل»: «والبدع قد قسمها العلماء على خمسة أقسام: بدعة واجبة، وهي مثل كتب العلم؛ فإنه لم يكن من فعل من مضى؛ لأن العلم كان في صدورهم، وكشَكل المصحف ونقطه، والبدعة الثانية: بدعة مستحبة، قالوا: مثل بناء القناطر، وتنظيف الطرق لسلوكها، وتهييء الجسور، وبناء المدارس والربط وما أشبه ذلك، والبدعة الثالثة: وهي المباحة كالمنخل، والأشنان، وما شاكلهما، والبدعة الرابعة: وهي المكروهة مثل زخرفة المساجد، والبدعة الخامسة: وهي المحرمة وهي أكثر من أن تنحصر». [المدخل لابن الحاج 2/ 257، ط. مكتبة دار التراث بتصرف].

والدليل أن البدعة تنقسم إلى أقسام لتتناول العبادات والعادات: حديث عمر بن الخطاب الذي أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: «خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون». يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، فدلَّ هذا الحديث على أن البدعة تنقسم إلى ما هو حسن وإلى ما هو مذموم، ولو لم تكن مقسمة لكانت ضلالة؛ لأن الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))، عمم أن كل بدعة ضلالة، فجاء حديث عمر ليخصص هذا العموم ويبين أن كل بدعة لم يشهد لها أصول الشرع فهي ضلالة، ويؤكد هذا التخصيص للحديث ما أخرجه مسلم عن جرير البجلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»، ويؤكد هذا أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحكم بن الأعرج قال: سألت محمدا عن صلاة الضحى -أي صلاتها جماعة- وهو مسند ظهره إلى حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بدعة ونعمت البدعة.

قال النفراوي المالكي: «والبدعة: هي الأمر الذي لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم سواء دل الشرع على حرمته أو كراهته أو وجوبه أو ندبه أو إباحته، وإليه ذهب من قال: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة كابن عبد السلام والقرافي وغيرهما، وهذا أقرب لمعناها لغة من أنها ما فعل من غير سبق مثال». [الفواكه الدواني على شرح رسالة القيرواني: 1/ 109، ط. دار الفكر].

وبناءً على ما سبق: فإن البدعة تدخل في العبادات والعادات والمعاملات، وهي تنقسم إلى الأحكام الشرعية الخمسة. والله تعالى أعلم.