القياس في العبادات

النظر في جريان القياس في العبادات وما يتفرع على هذا -من القضايا المهمة المترددة بين الفقه والأصول، والتي تؤثِّر على موقف الباحث من القضايا التي يتعرض لها ويحتاج فيها لإعمال القياس واعتباره أو إهماله واطراحه، وقد جرى خلاف بين العلماء هل القاعدة في أصول الأحكام أن تكون غير مُعَلَّلة ما لم يقم الدليل على كونها معللة، أو الأصل أنها مُعَلَّلة إلا لدليل مانع؟ قولان حكاهما الإمامان الدبوسي وشمس الأئمة الحنفيَين، قالا: «والأشبه بمذهب الشافعي أنها مُعَلَّلة في الأصل، إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل يُمَيِّز» (تقويم الأدلة للدبوسي ص301، ط. دار الكتب العلمية. وأصول الفقه للسرخسي 2/144، والبحر المحيط 7/ 404، ط. الكتبي)، وقد حاول الإمام الشاطبي أن يقدِّم لنا ضابطًا لهذا الباب، فقال: «كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقًا غير مقيد ولم يُجْعَل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِّلَ إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى، كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد في المنهيات. وكل دليل ثبت فيها مقيَّدا غير مطلق وجُعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلًا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية؛ لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية» (الموافقات 3/46، ط. دار المعرفة- بيروت).

والمقصود بقول الفقهاء: إن الحكم المعين تعبدي، أي: لا يظهر وجه الحكمة من تشريعه غير مجرد التعبُّد وإظهار الامتثال، وقد يكون الحكم التعبدي في العبادات أو فيما ليس بعبادة في أصله؛ كما في استبراء الأمة التي اشتراها بائعها في مجلس البيع، وعادت إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها.

وعدم اهتدائنا لمعنى التشريع إنما يعني خفاء الحكمة علينا فحسب، لا أن الحكم شُرع لا لحكمة، فكل أمر تعبدي –كما يقول القرافي- معناه أن فيه معنى لم نعلمه، لا أنه ليس فيه معنى (الفروق 2/ 141، ط. عالم الكتب)، ويقول أيضًا: «لما كانت قاعدة الشرع رعاية المصالح في جانب الأوامر، والمفاسد في جانب النواهي على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب العقلي -كما تقوله المعتزلة- لزم أن نعتقد فيما لم نطلع فيه على مفسدة ولا مصلحة إن كان في جانب الأوامر: أن فيه مصلحة، وإن كان في جانب النواهي: أن فيه مفسدة، كأن نقول في أوقات الصلوات: إنها مشتملة على مصالح لا نعلمها، وكذلك كل تَعَبُّدِيٍّ معناه: أن فيه مصلحة لا نعلمها» (الفروق 2/ 80).

ووصفُ أحد العلماء لعبادة ما بأن علة حكمها تعبدية يكون أمرًا اجتهاديًّا، فإنه قد تختلف العقول في إلحاق عبادة من العبادات بهذا القسم أو غيره، وذلك يرجع لاختلاف المدارك والأفهام، فقد يطلع عالم على شيء لم يطلع عليه غيره، وقد يهتدي إلى علة وحكمة لم يهتد إليها سواه (راجع: القياس في العبادات، لمنظور إلهي، ص308، ط. الرشد). ومتى قلنا إن حكمًا ما تعبدي، صارت القاعدة فيه أن لا يسأل عن معناه (يراجع: حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 15/71، ط. در الفكر ).

والمقصود بالقياس في العبادات تعقل معناها وكون هذا المعنى هو المقصود بشرع حكم الأصل، فيُجْعَلُ ذلك المعنى المتعقل وصفا جامعًا، بحيث يصبح هو العلة التي ينبني عليها القياس، ثم بالقياس على حكم الأصل يَتِمُّ تعديته إلى الفرع -مع استكمال شروط القياس- الذي لم يُنَص على الحكم فيه، فالقياس لا يجري فيما لا يعقل معناه من العبادات وغيرها؛ لأن القياس فرْعٌ عن تعقل المعنى، فما لا يدرك معناه يصبح تعبديًّا لا يجري القياس فيه، وليس المراد بالقياس في العبادات إحداث عبادة زائدة عن العبادات الواردة، أو إثبات كيفيَّة خاصة للعبادات المشروعة، فلا يصح إثبات عبادة مبتدأة به، كصلاة سادسة أو حج آخر، فإنما يتم معرفتهما بالتوقيف لا بالرأي والاجتهاد، فإنه لا يجوز ابتداء إثبات العبادات بطريق القياس (نبراس العقول للشيخ عيسى منون ص139، ط. التضامن الأخوي).

والقياس في العبادات مختلف فيه على مذهبين:
- فيرى الحنفية المنع في أصول العبادات والمقدرات، يقول الشيخ الأسمندي الحنفي: «اختلف الناس في إثبات أصول العبادات وغيرها من المقدرات كالحدود والكفارات بالقياس، فذهب الكرخي وجملة من المتكلمين إلى المنع منه، وحكاه الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله» (كتاب بذل النظر في الأصول 623، ط. مكتبة دار التراث). ونَسَبَ الفخرُ الرازيُّ المنعَ إلى الجُبَّائي (المحصول 5/348، ط. الرسالة).

- وذهب الشافعي وأصحابه إلى جواز القياس فيما كان معقول المعنى مطلقًا سواء كان في العبادات أو غيرها، ومنع القياس في غير معقول المعنى مطلقًا، وهو مذهب جمهور الأصوليين، واختاره الإمام الرازي وأتباعه، والتاج السبكي (يُراجع: المحصول 5/348، ونهاية السول للإسنوي 1/ 357، ط. دار الكتب العلمية، وشرح المحلي على جمع الجوامع 2/257، ط. دار الكتب العلمية، وشرح الكوكب المنير 4/224، ط. العبيكان)، ولهذا يتفق الشافعية مع المانعين في أن ما كان كأعداد الركعات فغير معقول المعنى فلذلك لا يمكن استنباط علة منها، وكل ما كان غير معقول المعنى لا يصح القياس عليه لعدم معرفة العلة، فمن شرط القياس عندهم أن لا يكون المقيس عليه تعبديا، والأمور التعبدية لا يدخلها القياس.
ومنشأ اختلاف العلماء حول جواز إجراء القياس في العبادات وعدمه يرجع لأمرين:

الأول:
اختلافهم في كون جميع العبادات وأصولها معقولة المعنى فيجوز إجراء القياس فيها، أو أن بعضها غير معقولة المعنى فلا يجوز إجراء القياس فيها؟ مع اتفاق الكل –على ما يظهر من نصوصهم– على أن معقول المعنى يجري فيه القياس، وغير معقول المعنى يمنع فيه القياس، وإنما اختلفوا في أفراد ذلك، هل هو من معقول المعنى فيجري فيه القياس، أو غير معقول المعنى فلا يجري فيه القياس.
الأمر الثاني: وهو مفرَّع على الأول: هل «دلالة النص» قياسية فيقال: إن الحكمَ الثابتَ بها ثابتٌ بالقياس، أو هي لفظية فيقال: إن الحكمَ الثابتَ بها غيرُ ثابتٍ بالقياس؟

فيرى الحنفية أن دلالة النص هي: ما يَثْبُتُ بمعنى اللفظ لغةً لا اجتهادًا ولا استنباطًا بالرأي، فهي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه، لاشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها عن طريق اللغة من غير حاجة إلى الاجتهاد الشرعي، وذلك سواء أكان المسكوت عنه مساويًا للمنصوص عليه؛ للتساوي في العلة أم أولَى بالحكم منه؛ لقوة العلة فيه.

فالحنفية يرون أن الحكم الثابت بدلالة النص لم يثبت بصورة النص وذات النظم كما في عبارة النص، كما أنه ليس ثابتًا عن طريق الاجتهاد والاستنباط بالرأي ليكون ثابتًا بالقياس، وإنما ثبت من طريق علة الحكم؛ وهذا لأن المعنى المعلوم بالنص لغة بمنزلة العلة المنصوص عليها شرعًا عندهم، فهي دلالة تعتمد على معنى النص وما يُفهم منه بحسب اللغة، فهي لفظية وليست قياسية، فتَثْبُتُ أحكام العبادات بها بخلاف القياس الأصولي.

وأما عند الشافعية وبعض الحنابلة فإن الحكم في المسكوت عنه يُعرف عن طريق الاجتهاد أو القياس الشرعي، لا بمجرد معرفة اللغة، والقياس معنًى يُستنبط بالرأي؛ ليتعدَّى به الحكمُ إلى ما لا نَصَّ فيه، فليس هو استنباطًا باعتبار معنى النظم لغة؛ ولهذا اختص العلماء بمعرفة الاستنباط بالرأي، وعليه فإن «دلالة النص» عندهم قياسية، فمتى ثبتت أحكام العبادات بـ«دلالة النص» يصح القول بأنها ثبتت بالقياس.

وقد استدل الجمهور لإجراء القياس في العبادات إذا عُقل المعنى بأدلة كثيرة منها:
1- ما أخرجه الشيخان عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: بَعَثَنِي النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة فأجنبتُ فلم أجِدِ الماءَ، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تتمرَّغ الدابةُ، ثم أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فذكرتُ ذلك له، فقال: «إنمَا كانَ يَكْفِيكَ أن تقول بِيدَيْكَ هكذا. ثم ضَرَب بِيدَيه الأرضَ ضَرْبةً واحدةً، ثم مَسَحَ الشمالَ على اليمين، وظاهرَ كفَّيْهِ ووجهَه».

ووجه الدلالة: أن عمارًا استعمل القياسَ في العبادات حيث قاس كيفية التطهيرَ بالتراب على كيفية التطهير بالماء، فكما أن الماء يَعم البدن في الغسل من الجنابة، فكذلك يقاس عليه التراب فيُعَمم به البدن، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على عمَّار استعماله القياس في العبادات، وإنما أخبره أن قياسه غير صحيح، والخطأ في مسألة لا يدل على بطلان القياس، بل إنه إقرار من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث لم ينكر عليه القياس في العبادات لما رأى عمارًا قاس فيها، فدل هذا على جواز القياس في العبادات؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

2- أنه يجوز إثبات أحكام العبادات بأخبار الآحاد وكذلك يجوز إثباتها بظواهر النصوص، وإن كان طريق هذه الأدلة غلبة الظن ويجوز فيه الخطأ، فلما جاز إثبات أحكام العبادات بخبر الواحد وظواهر النصوص جاز إثباتها بالقياس؛ بجامع أن كلا منهما دليل ظني.

3- عموم أدلة حجيَّة القياس، فهي دلت على جواز القياس في جميع الأحكام الفقهية ولم تفرق بين ما يخص العبادات أو المعاملات أو غيرها، والمرجع في ذلك هو معرفة العلة التي من أجلها شرع الحكم في الأصل، فمتى عرفنا العلة في الحكم المنصوص عليه، ووجدنا هذه العلة في الفرع، فإنه يصح القياس مع استكمال شروط القياس (يُراجع: البحر المحيط للزركشي 5/129، والتقرير والتحبير لابن أمير حاج 1/109-110، ط. دار الكتب العلمية. وشرح المحلي على الجمع 2/244- 245، وشرح الكوكب المنير 3/486).

وقد استدل الحنفية بما يلي:
1- العبادات مشتملة على تقديرات لا يُعقل معناها، كأعداد الصلوات والركعات وأنصبة الزكوات، فكانت من الأمور التعبدية التي لا نعلم العلة التي من أجلها شُرِعت، فلا يجري القياس فيها، فإن القياس فرع تعقل المعنى، فما لم تدرك علته لا يقاس عليه. يقول الأسمندي الحنفي: «والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه -يعني منع القياس في أصول العبادات- أن القياس إثبات الحكم بأمارة يغلب على الظن ثبوت الحكم بها إذا عرض على العقل، والعقل لا يهتدي إلى إيجاب صلاة سادسة، وإلى كون نصاب الإبل مقدرا بخمس ... فلا يمكن إثباتها بالقياس» (ص623).

ويجاب عنه: بأننا لا نقيس في مقادير العبادات أو في غيرها إلا إذا علمنا العلة التي من أجلها شُرِع الحكم، فإذا علمنا العلة في الأصل، ووجدنا نفس العلة في فرعٍ -مع استكمال بقية الشروط- أتممنا عملية القياس، وأما إذا لم نعلم العلة فلا خلاف في أنه لا يجوز القياس في مثل ذلك، لأنه فَقَدَ ركنًا من أهم أركانه، وهي العلة.

2- استخدام القياس في العبادات يُثْبِت عبادة مبتدأة، مثل الصلاة بالإيماء بالحاجب، وما شابه ذلك فإنها من الأمور المهمة التي تتوفر الدواعي على نقلها، فلو كانت مشروعة لوجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيَّنها، وينقل ذلك أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلومًا لنا قطعًا، فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل.

ويجاب عنه: بأن عدم النقل لا يدل على عدم الجواز، وكذلك فإن ما اعترضتم به منتقض بوجوب الوتر عندكم؛ حيث إن الوتر واجب عندكم مع أن وجوبه لم يعلم قطعًا (نبراس العقول للشيخ عيسى منون ص 140).

3- المقادير متساوية فلا يظهر في العقل تميز مقدار عن مقدار.
ويجاب عنه: بأنا لا نجري القياس إلا إذا ظهر وجه التمييز، فإن استوت المقادير على وجه لا يترجح بعضها على بعض فلا قياس، كما قال أبو حنيفة في تقدير مسح الرأس بثلاثة أصابع قياسًا على مسح الخف.

4- إن مقادير العبادات قد شرعت لمصلحة يعلمها الله، وهي حق لله تعالى، كأعداد الصلوات وأعداد الركعات وأنصبة الزكوات، وبما أننا لا ندرك ولا نعلم المصلحة التي شرعت هذه المقادير والعبادات لها، ولا مدخل للقياس في معرفة المصالح وحقوق الله، فمِن ثَمَّ فلا يجوز إجراء القياس في مقادير العبادات.

ويجاب عنه: بأن استدلالكم هذا في نفي القياس في أحكام العبادات يفضي إلى إبطال استخدام القياس في جميع الأحكام الشرعية؛ وذلك أن جميع الأحكام مبنية على المصالح التي لا يعلمها إلا الله، وقد بطل هذا الاستدلال، وأجيب عنه في أثناء الرد على منكري القياس في جميع الأحكام (يُراجع: شرح المحلي على الجمع 2/245).

وعلى ذلك فتعليل قول القائل إنه لا يشرع القياس في العبادات بأن العبادات مبنية على نصوص الكتاب والسنة فلا يدخلها النظر والاعتبار؛ تعليل ضعيف؛ لأن البناء على نصوص الكتاب والسنة لا يختص بالعبادات وحدها، بل البناء عليها جارٍ في جميع الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات والمناكحات وغيرها، ولهذا فالاستدلال -لمنع القياس في العبادات- بكونها مبنية عليهما هو كلام ضعيف، ولا بد في كل مسألة من النظر فيها هل هي مما يعقل معناه أو مما لا يعقل معناه، ولهذا فلا بد من النظر الفقهي في كل مسألة على حدة، وجمع الأدلة الشرعية فيها، والنظر في أشباهها ونظائرها، وتدبر معناها وعلتها وحكمتها.

وبناء على ما سبق فإن القياس يجري في العبادات وغيرها ما دامت معقولة المعنى واستكمل القياس أركانه وشروطه. والله تعالى أعلم.