فقه الأقليات

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وبعد... فقد اتسم الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر بعدة سمات اختلف فيها عما وُسِم به في كنف نشأة المذاهب الفقهية وتدوينها، كما اختلفت أيضًا طرق تناول قضاياه، ولا يتعجب المرء من اختلاف طرائق تناول موضوعات الفقه أو اختلاف سماته في عصر عما كان عليه في عصور سابقة؛ وذلك لأن من أهم ثمرات الفقه: تقديم حلول شرعية لنوازل ومشكلات الواقع، فالفقه يصطبغ لا محالة بمشكلات عصره الذي يعيش فيه.

ومن الموضوعات التي دار النقاش فيها بين الفقهاء والباحثين المعاصرين: ما يتعلق بـ«فقه الأقليَّات»، والمقصود بالأقليَّات هنا: هي المجموعات المسلمة الموجودة في قطر من الأقطار الذي يكون معظم أهله وساكنيه من غير المسلمين.
ومصطلح فقه الأقليَّات مصطلح حادث لم يكن موجودًا في التراث الفقهي، بل استحدث تبعًا لمتغيرات العصر، والذي يؤكد ذلك: "أن الفقه المرتبط بهذه الأقليات فقه نوعي يراعى فيه ارتباط الحكم الشرعي بظروف جماعة ما في مكان محدَّد نظرًا لظروفها الخاصة؛ من حيث كون ما يصلح لها لا يصلح لغيرها"([1])، فالظرف المكاني الذي تلبست به هذه الأقليات قد يجعل لهم في كثير من الأحوال مسوغات اضطرارية تلجئ المفتي إلى الإفتاء بما يخالف معتمد مذهبه، أو الراجح في نظره من حيث الدليل، أو بما يخالف فتاوى المفتين في أماكن تكون فيها الغلبة أو السلطان للمسلمين.

وعليه فيمكن أن نقول: إن موضوع فقه الأقليات هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.

وهذا الفقه وإن كان ذا نمط خاص -من حيث خصوصيته وموضوعاته ومشكلاته المتميزة- إلا أنه ليس فقهًا مستقلا خارجًا عن إطار الفقه الإسلامي، ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة؛ كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب... ونحوها من الأدلة التي أسس عليها الأئمة آراءهم، وكثير من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها منصوص عليها في كتب الفقه التراثية، وإن كانت لها صورة جديدة معاصرة، فمن هنا تعتبر قديمة بالجنس حديثة بالنوع.

ومما سبق تظهر أهمية جمع الفتاوى والأحكام المتعلقة بالأقليات المسلمة؛ فهذا الجمع المتضمن ما اعتمدته جهة إفتاء معتبرة مساعد لهم كي يظلوا متشرعين متمسكين بأحكام دينهم مع اندماجهم في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها دون أن يحصل تعارض بين أحكام شريعتهم ومقتضيات حياتهم بما يوقعهم في الضيق والحرج والعنت مما يتنزه عنه الشرع الشريف؛ كما قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6].
 
وفيما يأتي مقدِّمة تأصيلية مختصرة للتعريف بفقه الأقليات وتشتمل على ما يلي:
أولًا: التعريف بـ«فقه الأقليات».
ثانيًا: أهمية دراسة «فقه الأقليات».
ثالثًا: مرتكزات «فقه الأقليات».
أولًا: التعريف بـ«فقه الأقليات»:
تعريف الفقه اللغوي والاصطلاحي معروف مشهور فلا داعي لاجترار ما كتب فيه، فنتجاوزه لتعريف الأقلية، وهي في اللغة: ضد الأكثرية، والقلة تعني في اللغة: الندرة أو العدم أو النقص([2])، وهذا المعنى اللغوي ملحوظ في التعريف الاصطلاحي للأقليات؛ حيث تدور تعريفات الأقلية على أنها الجماعة الأقل عددًا التي تعيش في مجتمع يتمايز من هم أكثر عددًا عنهم في أحد الأشياء، وغالبًا ما يكون التمايز في الدين أو اللون أو العرق أو الثقافة.
يقول الدكتور علي منتصر الكَتَّاني: "الأقلية هي مجموعة بشرية تعيش بين مجموعة بشرية أكثر عددًا، وتختلف عنها في خاصية من الخاصيات تصبح نتيجتها تعامل معاملة مختلفة عن معاملة الأكثرية"([3]).

وعرَّفها بعضهم بأنها "جماعة فرعية تعيش بين جماعة أكبر، وتكوِّن مجتمعًا تربطه ملامح تميزه عن المحيط الاجتماعي حوله، وتعتبر نفسها مجتمعًا يعاني من تسلط مجموعة تتمتع بمنزلة اجتماعية أعلى وامتيازات أعظم تهدف إلى حرمان الأقلية من ممارسة كاملة لمختلف صنوف الأنشطة الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية، بل تجعل لهم دورًا محدودًا في مجتمع الأغلبية"([4]).
 
ومما يلاحظ على التعريفات الاصطلاحية بروز مسألة العدد كمعيار للقلة والكثرة، ومعنى ذلك: أن من كان أقل عددًا كان هو الأقلية في مقابل الأكثر عددًا حتى وإن كان الأقل هو من بيده الحكم والسيادة، وهذا المعيار لا نقصده في تعاملنا مع «فقه الأقليات»، لا سيما وأن هناك دولًا يمثل المسلمون فيها كثرة عددية مع أن تلك الدول لا توصف بكونها إسلامية، كما هو الحال في بعض دول جنوب أفريقيا، أو في البلاد التي تنص على أن "لا ديانة لها"، فاعتبار العدد في تحديد مفهوم الأقلية لا يدخل معنا في المراد بـ«فقه الأقليات»، وإنما المعنى الملحوظ الذي نقصده في فقه الأقليات هو وجود المسلم في ديار لا تكون فيه الغلبة والحكم للمسلمين "بلاد غير إسلامية"، فالأقليات إذن: «كل مجموعة تعيش بين مجموعة مختلفة عنها في أحد السمات، وللأخيرة السيادة عليها».
وعلى ذلك فـ«فقه الأقليات» هو: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمسلمين الذين يعيشون وسط جماعة غير مسلمة لها السيادة عليهم.
وخصيصة هذا النوع من الفقه: أنه ذو نمط خاص من حيث موضوعاته ومشكلاته المتميزة، إلا أنه ليس فقهًا مستقلًا خارجًا عن الإطار التشريعي العام، أو يعتمد على أسس مغايرة لما اعتمد عليه فقه المذاهب، كما أن كثيرًا من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها منصوص عليها في كتب الفقه التراثية وإن كانت لها صورة جديدة معاصرة، فتخصيص المسائل الشرعية المتعلقة بالأقليات المسلمة بنوع فقه هو اصطلاح قابل للموافقة والرفض، ويمكن أن يعتبر هذا النوع من الفقه الاجتهادي من قبيل الفتوى لطائفة معينة، ويكون حينئذ التطبيق الجلي لقضية تغير الفتوى بتغير المكان الذي هو إحدى جهات تغير الفتوى الأربعة، وبذلك تخرج من حساسية المصطلح ودلالته.
هذا، وإن كان كثير من الباحثين على أن أصل البحث جديد -كما تقدم- إلا أننا نرى أنه ليس كذلك، وأنه في مثل فتوى الأحناف بالعمل بالعقود الفاسدة في غير ديار المسلمين ما ينقض هذا، ويُثبت أن اختلاف الأحكام باختلاف الدار أصل موجود في تراثنا الفقهي.
 
ثانيًا: أهمية دراسة «فقه الأقليات»:
تزايد الاهتمام بدراسة أحوال المسلمين الموجودين في بلاد غير المسلمين ومشكلاتهم ومسائلهم مع نشوء جيل ليس فقط من المهاجرين إلى تلك البلاد، بل من أصحاب البلاد الأصليين الذين لهم حقوق المواطنة كأقرانهم ممن لا ينتمون لدينهم، بل إن المهاجرين إلى تلك البلاد أصبحت لهم جاليات ومراكز تجمعهم وتعبِّر عنهم، ومنهم من تبوأ مراكز متقدمة في البلاد التي هاجروا إليها، وأصبحت لهم كلمة في صنع القرار، لكن في ظل سيادة وحكم غير المسلمين.
وهذا الواقع المعقَّد يخلق حالة من إعادة النظر في المسائل الفقهية المتعلقة بالمسلمين هناك، وتزداد الحاجة إلى إعادة النظر كي يظل المسلم متشرعًا متمسكًا بأحكام دينه ومعتقدًا أنه يقع تحت مظلة التشريع مع اندماجه في مجتمعه وعدم عيشه غريبًا عنه، ولعدم حصول تعارض بين أحكام الشريعة ومقتضيات حياتهم بما يوقعهم في الحرج أو المشقة أو حصول اليأس من تمسكهم بدينهم، فيكونون على وشك تركه بالكلية.
والتقليل من شأن الخطاب الفقهي لتلك الأقليات المسلمة يعكس مدى الجهل بما تعانيه هذه الأقليات من مشكلات، ولنضرب لذلك مثالًا: وهو التعامل بالربا، فهو لا يجوز قولًا واحدًا في بلاد المسلمين إلا من ضرورة، لكن الأمر يختلف لو كان في بلاد غير المسلمين، وقد أصدرت دار الإفتاء عدة فتاوى في هذا الشأن واختارت فيها المذهب القائل بأنه لا ربا بين المسلم وغير المسلم في دار غير المسلمين وأيَّدته. فهذا مثال من أمثلة عديدة لا بد فيها من مراعاة حال السائل في جوابها، كما أن تلك المسائل ليست من وحي النظر بل يكثر السؤال عنها، وهو ما ينبئ عن الواقع الذي قد لا يجد المسلم الذي يعيش في تلك البلاد مفرًا من التعامل والتكيف معه، فلئن كان له مخرج فقهي يظل معه متشرعًا فتركه مع ما يصيبه من العنت والمشقة أمر غير مقبول.
ولا يتبادر إلى الذهن أن الغرض من دراسة «فقه الأقليات» هو تتبع الترخص أو اتباع الأقوال الضعيفة والشاذة، بل المراد هو مراعاة المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وهذا لا يعني بحال من الأحوال التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام أو المساس بما يمثل هوية الإسلام، وقد سبق أن قلنا: إن هذا الفقه لا يخرج عن الإطار التشريعي العام، وهذا الإطار لا ينازع الثوابت أو الهوية.
 
ثالثًا: مرتكزات «فقه الأقليات»:
المقصود بمرتكزات فقه الأقليات: الأصول والأسس والضوابط التي يبنى عليها فقه الأقليات، وقد نادى أكثر الباحثين المعاصرين الكاتبين في فقه الأقليات بضرورة اعتماد أصول لهذا النوع من الفقه؛ استجابة لما تمليه ظروف هذه الأقليات في البلاد التي يعيشون فيها.
وقد "اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوروبا منذ بعض الزمن واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقهًا من الفتاوى والأحكام ظل يثرى يومًا بعد يوم، ولكن هذا الاهتمام المتزايد بشأن الوجود الإسلامي بأوروبا وما أثمر من ثمار وما تراكم به من فقه؛ ظل يفتقر إلى الحلقة الأساسية من حلقات النظر الفقهي التي من شأنها أن توجه الاجتهاد وترشده في معالجة شأن الوجود ليبلغ مداه المأمول، ألا وهي حلقة التأصيل الفقهي متمثلًا في تقعيد أصولي فقهي لفقه الأقليات مختص به ومبني على مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوروبية من جهاته المختلفة"([5]).
ولئن سلمنا بضرورة وجود أصول وضوابط ينشأ في كنفها فقه الأقليات فلا نسلم أن هذه الأصول بمعزل عن قواعد أصول الفقه التقليدي أو مغايرة لمباحثه ومسائله، بل هي من جملة موضوعاته، وإنما يتميز أصول فقه الأقليات بعمق الدراسة والتناول وحسن الترتيب والجمع، وهذا أيضًا من الخصائص التي تميِّز فقه الأقليات، فليس هذا النوع من الفقه خارجًا عن الإطار التشريعي العام.

ونظرًا لوجازة هذه المقدِّمة فنشير هنا إلى بعض هذه الأصول والضوابط وهي تختلف في عددها بين العلماء تبعًا للاختلاف في جودة سَبرِها ودقته.
أولًا: المصلحة:
المصلحة في اللغة تستعمل بمعنيين:
الأول: المنفعة وزنًا ومعنى.
والثاني: الفعل الذي فيه صلاح بمعنى النفع([6]).
ولا تخرج المصلحة في الاصطلاح عما هي عليه في اللغة، إلا أنها في الاصطلاح أخص، فيمكن أن تعرَّف في الاصطلاح بأنها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده: من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم وفق ترتيب معين فيما بينها، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعه مصلحة([7]).
وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب كما في تحصيل المنافع، أو بالدفع والاتقاء كما في استبعاد المضار؛ فهو جدير بأن يسمى مصلحة([8]).

أما أقسامها فقد قسَّمها الأصوليون باعتبارات عديدة إلى أنواع مختلفة، وما يهمنا هنا تقسيمها من حيث اعتبار الشارع لها، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
1) المصلحة المعتبرة: وهي التي شهد الشرع باعتبارها، وقام الدليل على رعايتها من نصٍ أو إجماع، كتحريم شرب الخمر؛ لحفظ العقل، وكوجوب القصاص في القتل العمد العدوان؛ لحفظ النفوس، وكذا مشروعية الضمان؛ لحفظ المال، الذي هو مقصد شرعي معتبر أيضًا، فإذا نص الشرع على حكم ما وأرشد -بمسلك من المسالك- إلى العلة التي ربط بها هذا الحكم -لما في هذا الربط من تحقق مصلحة مقصودة للشارع- فإن هذه المصلحة معتبرة، وكل واقعة وجدنا فيها هذه العلة متحققة صح تعدية الحكم إليها، ويكون شَرْع الحكم في مثل هذه الواقعة بالعلة لا بالمصلحة.
2) المصلحة الملغاة: وهي التي شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها بنصٍ أو إجماع، وبعض الأصوليين يسميها المناسب الغريب، ومن أمثلة هذا النوع: القول بتساوي الأخ وأخته في الميراث؛ لوجود معنى الأخوة الجامعة بينهما، فهذا المعنى ملغى بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176]. فكل ما يظن فيه مصلحة لكن نص الشرع أو وقع الإجماع على عدم اعتبارها فهي مصلحة ملغاة.
3) المصلحة المسكوت عنها: وهي التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء لكنها توافق مقاصد الشرع العامة من جلب نفع
أو دفع ضر([9])، وهي ما تسمى بالمصلحة المرسلة أو المناسب المرسل([10]).
 
ويعد القسم الثالث من المصالح بهذا الاعتبار – أي: المرسلة- موضع خلاف الأصوليين بين قائل بحجيته مطلقًا، وبين مانع من ذلك، وبعيدًا عمن قال بكل رأي وأدلة قوله فليس هذا ما يعنينا في هذا المقام، فإن ما يخصنا هو أن اختلاف الأصوليين في هذا النوع من المصلحة إنما هو في الحجية، بمعنى جعل هذا النوع من المصلحة دليلًا شرعيًا مستقلًا يستثمر منه الحكم([11])، لا في الترجيح بها، وعليه فالقَدْر المشترك بين القائل بالحجية وبين النافي لها: اتفاقهم على الترجيح بها عند التعارض، وأكثر المسائل -إن لم يكن كلها- التي يستند فيها إلى المصلحة المرسلة يحتاج إليها في الترجيح بين المتعارضات.
وقد وضع العلماء بعض الشروط والضوابط لهذا الترجيح، وهي:
1) أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع([12]): ومقاصد الشرع تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينيات، يقول الزنجاني: "ذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع -وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة- جائز"([13]).
 
وبعض الأصوليين -كابن الحاجب- يسمي المصلحة المرسلة الملائمة لتلك المقاصد (مرسلًا ملائمًا)([14])، والمعنى: أنه يشترط الملائمة بين المصلحة المرسلة ومقاصد الشرع في الجملة بحيث لا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته، بحيث تكون من جنس المصالح الكلية التي قصد الشارع إلى تحصيلها، أو قريبة منها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار([15]).
 
2) أن لا تخالف نصًا من الكتاب أو السنة، أو إجماعًا، أو قياسًا صحيحًا: فالنص -من حيث دلالته على معناه وحكمه- نوعان: نص قطعي، ونص ظني، فالأول: ما كان مقطوعًا به ثبوتًا ودلالة، فلا يجوز للمصلحة التي يعوِّل عليها المجتهد أن تعارض نصًّا قطعيًّا([16]).
 
ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، فالنص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة على الفرق بين البيع والربا في الحرمة، فلا أثر لأي مصلحة مظنونة تخالف هذا النص القطعي مهما قويت وترجحت([17]).

وأما الثاني: وهو النص الظني بمراتبه، فهو الذي يدل على أكثر من معنى، فوظيفة المجتهد حينئذ حصر تلك المعاني التي يحتملها النص، ومن ثَمَّ العمل على تحديد أقربها وأنسبها للمصلحة المشروعة، ولا مانع هنا من معارضة المصلحة -في حالة معينة- لغير ذلك المعنى المحدد على وفق المصلحة، إنما الممنوع تعارض المصلحة لجميع مدلولات النص الظني؛ لأن معارضة كل مدلولات النص الظني كمعارضة النص القطعي تمامًا، فإذا عارضت المصلحة كل المدلولات الظنية فحكمها كحكم معارضة الدلالة القطعية، وعليه فلا يجوز مثلًا مخالفة مدلولي الحيض والطُهْر للقُرْء؛ بإحداث قول ثالث لجلب مصلحة المرأة أو الرجل، وكذلك يحرم مخالفة معنيي الملامسة الواردين في الآية: اللمس أو الوطء، فلا يجوز إحداث رأي ثالث حينئذ، وغير ذلك من المعاني المحتملة للنص الظني التي لا يجوز العدول عنها إلى غيرها بمجرد توهم المصلحة وتخيلها، أو الظن بها ظنًّا ضعيفًا مرجوحًا([18]).
 
أما الإجماع: فإنه ينقسم باعتبار قوته إلى قطعي وظني، فالأول: مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر، والإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، فهذا النوع من الإجماع لا يتغير بالمصلحة مهما كانت؛ فالإجماع القطعي كالنص القطعي.والثاني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل، فإذا كان الإجماع قائمًا على أحكام متغيرة بتغير الزمان والمكان والحال ومبنيًا على مصلحة ظرفية لم تثبت أبديتها وبقاؤها، فإنه خاضع للتعديل والتغيير بموجب المصلحة الحادثة، ومجرد الاتفاق في عصر على حكم لمصلحة لا يكفي في أبديته، بل لا بد مع هذا الاتفاق من اتفاق آخر على أنه دائم لا يتغير([19]).
 
أما القياس: فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، وهذه العلة تتناسب مع ما شرع الحكم لأجله، بمعنى كون الحكم مقترنًا بوصف مناسب لبناء الحكم عليه، وهو ما يسميه الأصوليون (المناسب)، وهو تختلف درجاته ومراتبه باختلاف اعتباره أو إلغائه شرعًا؛ إذ هناك وصف اعتبره الشارع، ووصفٌ ألغاه، ووصف لم يعتبره ولم يلغه، وفي الحالة التي يكون فيها الوصف معتبرًا عند الشارع، فإن التعبير عنه يكون متعدد الوجوه، فتارة يكون الوصف المناسب منصوصًا عليه تصريحًا أو إيماء، أو منصوصًا على جنسه أو نوعه. والمقصد من بيان هذه التقسيمات للمناسب معرفة المقبول من غيره، وإجراء القياس، والترجيح بين الأقيسة والمصالح عند تعارضها، وإبراز تفاوت المصالح في منظور الشارع بتفاوت الاعتبار الشرعي لها قوة وضعفًا؛ وبناء عليه فإذا كانت المصلحة مرسلة معارضة لقياس بني على علة تشتمل على وصف (مصلحة) مؤثر أو ملائم- فتكون المصلحة مطروحة؛ لتعارضها مع قياس صحيح، أو قل: لتعارضها مع مصلحة أقوى منها([20]).
 
3) أن يكون العمل بها في غير الأمور التعبدية: وهي ما لا يعقل معناها؛ كأعداد الركعات، والمقدرات من الحدود، وفروض الإرث، وما شابه([21])، لكن ربما يقع الاستصلاح في الوسائل المطلقة لبعض العبادات، لا في ذات العبادة وأصلها، ولا في وسائلها التوقيفية التي ورد بها الشارع، ومثال ذلك: استخدام بعض الأجهزة الحديثة لمعرفة استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة([22]).
 
4) أن لا تعارض مصلحة أهم منها في القوة والرجحان: فإذا كان كذلك وكان ما تحافظ عليه هاتان المصلحتان في تفاوتٍ بالنظر إلى الذات -كما إذا حافظت إحداهما على ضروري والأخرى على حاجي- فتُقدَّم ما تحافظ على الضروري، وكذا تُقدَّم ما تحافظ على الحاجي إذا كانت مقابلتها تحافظ على التحسيني، فإن كانتا غير متفاوتتين -بل كلتاهما في درجة واحدة- فينظر إلى شيئين: أولهما: مقدار الشمول، فالمصلحة العامة مقدَّمة على الخاصة، وثانيهما: التأكد من وقوع نتائجها، فالمصلحة اليقينية تقدم على الظنية([23]).
ثانيًا- التيسير:
يأتي مبدأ التيسير في الشريعة الإسلامية بشكل عام -وفي الفتوى بشكل خاص- ليناهض فكرة التشديد على الناس وإلزامهم الأخذ بالاحتياط والعمل بالأشق في كل نازلة مستحدثة يختلف في تكييفها العلماء وتتعدد أقوالهم في حكمها تبعًا لذلك، وقد ورد عن بعض أهل العلم ذم التساهل في الفتوى، ويتخذ بعض الناس من هذا ذريعة لرفض مبدأ التيسير، لكن في الحقيقة هناك فرق كبير بين التساهل والتيسير، وكما ورد عن العلماء ذم التساهل في الفتوى، ورد عنهم أيضا استحسان التيسير على الناس والتماس المخرج الشرعي لهم مما يشق عليهم التزامه ولا تستقيم معه أحوالهم.

يقول الإمام النووي: «يحرم التساهل في الفتوى, ومن عرف به حرم استفتاؤه, فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر, فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة, وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل: أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة, والتمسك بالشُّبَه؛ طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه, أو التغليظ على من يريد ضره, وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها- فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا, كقول سفيان: "إنما العلم عندنا: الرخصة من ثقة, فأما التشديد فيحسنه كل أحد"»([24]).

ومما ذكره الإمام النووي يتجلى الفارق الجوهري بين التساهل والتيسير، فالتساهل ينشأ عن فوضى وقصور في البحث، بينما التيسير ينشأ عن رسوخ في العلم, ودراية بأحوال الناس وحاجاتهم وواقعهم، وإدراك لمقاصد التشريع واعتبارها ركنًا أصيلًا في الفتوى، فالتيسير منهج علمي مدروس ومقنن بعناية كبيرة من قِبل علماء الشريعة وأئمة الفقه.

فيكون المقصود بالتيسير: "تشريع الأحكام على وجه يراعى فيه حاجة المكلف وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع"([25]).
ودور المفتي هو بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه، وقد يأتيه استفتاء في مسألة قديمة تعددت فيها آراء أهل العلم، وقد يأتيه في مسألة حديثة لم يتعرض لها السابقون وتحتاج لاجتهاد معاصر، وفي كلا الحالين ينبغي عليه أن يبذل قصارى جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي المتعلق بواقعة السؤال، سواء كان بترجيحه للأقوال، أو بنظره في الأدلة ونصوص الوحي، أو بتخريجه فتواه على قواعد العلماء وأصول مذاهب المجتهدين، وعليه أيضًا -أثناء ذلك- أن يضع نصب عينيه قصد الشريعة المطهرة إلى التكليف الذي يكون به صلاح العباد واستقامة أحوالهم، والذي لا يشق عليهم امتثاله، فالتكليف في الإسلام مقرون بالتيسير والتخفيف.

وقد ورد في كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصوص صريحة في إظهار اليسر في التشريع ونفي العسر أو الحرج عنه، بالإضافة إلى أمر المكلفين بالتيسير، خاصة العلماء منهم؛ لأنهم المبلغون عن الله شرعه، وهم من يهرع إليهم الناس إذا نزلت بهم نازلة؛ لمعرفة حكم الله تعالى.

قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، قال الخازن في تفسيره: "أي: قد نفى عنكم الحرج في أمر الدين، قيل: ما خُيِّر رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان أحب إلى الله تعالى"([26]).

وقال الله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، قال الإمام الرازي: "اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع، وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة، ويدل عليه هذه الآية؛ فإنه تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، ويدل عليه أيضًا: أن دفع الضرر مستحسن في العقول، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع؛ لقوله عليه السلام: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ»"([27]).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بَالَ أعْرَابيٌّ في المَسْجِدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُ وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»([28]).

قال المناوي: "«فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ» أيها المؤمنون «مُيَسِّرِينَ»... قال الحرالي: والتيسير: تحمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر بما يجهد النفس ويضر الجسم، ثم أكد التيسير بنفي ضده وهو التعسير، فقال: «وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» إسناد البعث إليهم مجاز؛ لأنه المبعوث بما ذكر، لكن لما نابوا عنه في التبليغ أطلق عليهم ذلك، إذ هم مبعوثون من قبله، أي: مأمورون، وكان ذا شأنه مع كل من بعثه لجهة يقول: "يسروا ولا تعسروا"، وهذا قاله لمّا بال ذو الخُويصرة اليماني أو الأقرع بن حابس بالمسجد"([29]).

وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا ولَا تُنَفِّرُوا»([30]).

قال المناوي: "«يَسِّرُوا»... أي: خذوا بما فيه التيسير على الناس بذكر ما يؤلفهم لقبول الموعظة في جميع الأيام؛ لئلا يثقل عليهم فينفروا، وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة، ويُرغِّب في العبادة، ويسهُل به العلم والعمل، «وَلَا تُعَسِّرُوا» لا تشددوا، أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده؛ تصريحًا لما لزم ضمنًا للتأكيد، ذكره الكرماني، وأولى منه قول جمع: عقبه به إيذانًا بأن مراده نفي التعسير رأسًا، ولو اقتصر على «يَسِّرُوا» لصدق على كل من يسر مرة وعسر كثيرًا، كذا قرره أئمة هذا الشأن ومنهم النووي وغيره"([31]).

والناظر في الأحكام الشرعية الأصلية والفرعية يرى أنها مبنية على اليسر ووضع الحرج عن المكلفين، وهذا يعد من مزايا شريعة الإسلام.

ومن التطبيقات الجلية لمبدأ التيسير: "الترخص عند الابتلاء"، وهي من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه والمفتي أن ينتبه إليها، فمن ابتلي بشيء من المختلف فيه فله أن يقلد من أجاز؛ تخلصًا من الوقوع في المحرم، وذلك من التيسير على الناس في أمور دينهم، ورفع المشقة والحرج عنهم، وتصحيح أفعالهم ومعاملاتهم ما أمكن، ولأن يُقدمَ المرء على فعل شيء وله وجه يجيزه شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له سعة بأن يقلد من أجاز.
وقد جاء ذكر أصل الترخص عند الابتلاء في كلام العلماء، ومنهم شيخ الإسلام البيجوري والعلامة الشرواني؛ ففي حاشية البيجوري على شرح ابن قاسم لمتن أبي شجاع في الفقه الشافعي -عند قول الشارح: "ولا يجوز -في غير ضرورة- لرجل أو امرأة استعمال شيء من أواني الذهب والفضة"، قال محشِّيًا: "عده البلقيني -وكذا الدميري- من الكبائر، ونقل الأذرعي عن الجمهور أنه من الصغائر، وهو المعتمد، وقال داود الظاهري بكراهة استعمال أواني الذهب والفضة كراهة تنزيهية، وهو قول للشافعي في القديم، وقيل: الحرمة مختصة بالأكل والشرب دون غيرهما؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما»، وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن من ابتلي بشيء من ذلك -كما يقع كثيرًا- تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة»([32]). ومثله في حاشية الشرواني على التحفة([33]).

وأخيرًا: فإن المحذور في قضية التيسير هو التساهل، وهو عدم التثبت في المسائل ودراستها كما ينبغي حتى يتبين للمفتي الحق في المسألة، والحق أن أصل التيسير إن روعي بضوابطه يعد مخرجًا شرعيًّا في كثير من المسائل العصرية التي تتجاذبها الأنظار حِلًّا وحُرمة.
ثالثًا: الإفتاء بالقول الضعيف:
الإفتاء بالقول الضعيف يرتبط بمدى جواز العمل به، فإذا جوَّزنا العمل به فالإفتاء به جائز أيضًا، ولذا فكل ما سيأتي عن العمل بالقول الضعيف فإنه ينسحب على الإفتاء به.
والذي صرح به العلماء هو أن المجتهد يجب عليه العمل بالراجح في ظنه، ونُقِل الإجماع على ذلك، فلا يَعدِل عن الراجح إلى غيره إلا بمسوِّغات ستذكر، يقول القرافي: "إن الحاكم إذا كان مجتهدًا فلا يجوز له أن يحكم ويفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدًا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحًا عنده، مقلدًا في رجحان القول المحكوم به إمامَه الذي يقلده كما يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعًا"([34])، ويقول ابن الهمام: "الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين وترك المرجوح"([35])، ويقول الدسوقي: "ويجب على كلٍ من الخليفة والقاضي -إذا لم يكن مجتهدًا مطلقًا- أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه، لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي"([36])، إلى غير ذلك من النصوص التي تؤيد ذلك.
وقد استدل العلماء على وجوب العمل بالراجح بأدلة منها: أن كلًّا من القولين الراجح والمرجوح لا يخرج عن كونهما ظنيين، أحدهما أقوى من الآخر، والاتفاق على أنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى، كما أن الظنيين إذا تعارضا ثم ترجَّح أحدهما على الآخر فالعمل بالراجح أولى من المرجوح؛ لأن بيِّنة الراجح اختصت بما يفيد زيادة الظن، فصارت الأخرى كالمعدومة، فيصير العمل بالراجح متعيَّنًا عرفًا، فيجب شرعًا؛ لأن «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ([37]).
إلا أن العلماء قد أجازوا العمل بالمرجوح والإفتاء به؛ لحدوث ضرورة، أو لجلب مصلحة راجحة، أو دفعًا لمفسدة، ويدخل في ذلك تقليد مذهب الغير في إحدى الحالات المذكورة.
وكتب الفقه مليئة بالفروع الدالة على ذلك؛ منها: كلامهم في الصلاة خلف إمام مخالف للمأموم في الفروع رغم أنه قد يفعل في صلاته ما لا يعتقده هو راجحًا؛ منعًا للفتنة وحرصًا على اجتماع المسلمين([38]).
كما أجاز الشافعية تقليد القول بجواز استعمال ظروف القهوة من ذهب أو فضة عند الحنفية لمن ابتلي به؛ ليتخلص من الحرمة([39]).
وقد أشار ابن عابدين إلى جواز العمل بالمرجوح في منظومته "عقود رسم المفتي"([40]):
 
ولا به يجاب من جا يسأل
ولا يجوز بالضعيف العمل
أو من له معرفة مشهورة
إلا لعامـــل له ضرورة
 
وأما في خصوص الإفتاء؛ فنصَّ ابن عابدين في شرح منظومة "عقود رسم المفتي" بعد أن ذكر شيئًا من الأقوال الضعيفة في المذهب الحنفي: "وفي المعراج عن فخر الأئمة: لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة؛ طلبًا للتيسير لكان حسنًا. انتهى. وبه علم أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا، وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر، فما مرَّ من أنه ليس له العمل بالضعيف ولا الإفتاء به محمول على غير موضع الضرورة"([41]).
فمقصد التيسير يجعل القول الضعيف قابلا للعمل به؛ لعروض المشقة، لكن لا بد أيضًا من الالتفات إلى ألا يكون الضعف شديدًا، بمعنى أن يكون القول معتبرًا، وأن يُعرف قائله؛ خشية أن يكون ممن لا يُقتدى به علمًا وحالًا، وأن تتحقق حالة الضرورة أو المصلحة الراجحة، أو للعمل على دفع مفسدة، أو الوقوع في الابتلاء.
ومسألة الإفتاء بالضعيف يبقى النظر فيها للمفتي، وتختلف فتواه من شخص لآخر؛ تبعًا لقوة درايته بما يكتنف المستفتي من أحوال تستوجب المصير إلى القول الضعيف.
والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله أولًا وآخرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع: بحث د/ طه جابر العلواني باسم: «مدخل إلى فقه الأقليات ... نظرات تأسيسية»، منشور بمجلة: "إسلامية المعرفة"، العدد (19). 
(2) راجع: المصباح المنير (2/ 514)، مادة (ق ل ل).
(3) راجع: الأقليات الإسلامية في العالم اليوم للدكتور/ علي الكتاني. وانظر: الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادات والإمارة والجهاد لمحمد درويش سلامة، رسالة ماجستير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة أم القرى. 
(4) راجع: الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادات والإمارة والجهاد ص (15).
(5) نحو منهج أصولي لفقه الأقليات، للدكتور/ عبدالمجيد النجار، ص (50) بحث منشور في المجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، العدد الثالث، ربيع الثاني 1424هـ.
(6) راجع: لسان العرب (2/ 516)، مادة (ص ل ح)، ومختار الصحاح ص (85)، فصل الصاد من باب الحاء، والمصباح المنير ص (345)، مادة (ص ل ح)، والمعجم الوسيط ص (520).
(7) راجع: المستصفى للغزالي ص (174).
(8) راجع: رسالة في رعاية المصلحة، للطوفي ص (25)، وضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور/ البوطي، ص (23).
(9) وليس معنى هذا أن المصلحة المرسلة مجردة عن أي دليل تستند إليه، بل لا بد أن تكون مستندة إلى دليل ما اعتبره الشارع غير أنه دليل لا يتناول أعيان هذه المصالح بخصوصها، وإنما يتناول الجنس البعيد لها، كجنس حفظ الأرواح والعقول والأنساب. انظر: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، للدكتور/ مصطفى ديب البغا، ص (36).
(10) اختلفت تعاريف العلماء لهذا النوع من المصلحة، وما ذكرناه هو خلاصة تعريفاتهم، وهو ما أقره مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الخامسة عشرة بمسقط (سلطنة عمان) 14 - 19 المحرم 1425هـ، الموافق 6 - 11 مارس 2004م، البند الأول. وانظر: المستصفى ص (174)، ونهاية السول (4/ 98)، وضوابط المصلحة للبوطي ص (216).
(11) ولذلك عند تقسيم الأصوليين الكتبَ والأبواب فإننا نراهم قد جعلوا هذا النوع من المصلحة من الأدلة المختلف فيها.
(12) راجع: التقرير والتحبير (3/ 153)، والموافقات (3/ 47).
(13) تخريج الفروع على الأصول ص (320).
(14) راجع: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 126)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 153).
(15) انظر: علاقة المصالح المرسلة بالتطور والثبات في التشريع الإسلامي، للدكتور/ ماهر حامد الحولي، ص (11).
(16) راجع: الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، للدكتور/ نور الدين خادمي، ص (34- 35).
(17) انظر: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور/ البوطي، ص (133).
(18) انظر: الاجتهاد المقاصدي ص (38- 39) بتصرف وزيادات.
(19) راجع: الاجتهاد المقاصدي ص (40- 42).
(20) راجع: الاجتهاد المقاصدي ص (43- 44).
(21) راجع: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي ص (40).
(22) راجع: فتوى الدكتور/ محمد حسين الجيزاني بعنوان: «إعمال المصالح المرسلة في العبادات» على شبكة المعلومات الدولية: http:/ / www.islamtoday.net
(23) راجع: المصالح المرسلة وإسعافها للمفتين لا سيما في الغرب، للدكتور/ محمد موفق الغلاييني ص (12)، بتصرف وزيادات.
(24) مقدمة المجموع (1/ 79).
(25) مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية ص (7)، لكمال جودة أبو المعاطي، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراة بجامعة الأزهر، القاهرة، عام 1975م.
(26) تفسير الخازن (1/ 156).
(27) تفسير الإمام الرازي (11/ 139).
(28) رواه البخاري في كتاب: الأدب، باب: قول النبي يسروا ولا تعسروا، حديث رقم (6128).
(29) فيض القدير (2/ 573).
(30) متفق عليه.
(31) فيض القدير (6/ 462- 461).
(32) حاشية العلامة الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع (1/ 41).
(33) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (1/ 119).
(34) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي ص (92).
(35) فتح القدير لابن الهمام (5/ 481).
(36) حاشية الدسوقي (4/ 130). وللتوسع في ذكر النقول انظر: رفع العتاب والملام عمن قال العمل بالضعيف اختيارًا حرام لأبي عبدالله محمد بن قاسم القادري ص (27).
(37) رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود موقوفًا (1/ 379)، بلفظ: «فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ».
وراجع: المحصول (5/ 398)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 680).
(38) راجع: المغني لابن قدامة (2/ 11). 
(39) راجع: تحفة المحتاج بحاشية الشرواني (1/ 118).
(40 ) (1/ 48).
(41 ) شرح منظومة عقود رسم المفتي، ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين (1/ 50).