الرئيسية >الإصدارات

الإفتاء المصري

الإفتاء المصري

مقدمة

الحمد لله الذي وفقني لكتابة هذا السِّفْر المبارك؛ إجابةً لدعوةِ وَليٍّ صالح، وتلبيةً لتكليف عالمٍ عاملٍ؛ فأما الوليُّ صاحب الدعوة فهو فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر ومفتي جمهورية مصر العربية الأسبق، المرحوم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق؛ الذي اهتم بنشر مختارات من فتاوى دار الإفتاء المصرية، المقيدة في سجلات الفتاوى التي كانت محفوظة بدار الإفتاء، فكان أن نشر منها عشرين مجلدًا، وكتب في مقدمة الجزء الأول قائلاً: "ولعل الله أن يُقيض من العلماء المؤرخين الفاقهين من يؤرخ لمُفْتِيِّي مصر، وينشر على الناس فقههم، فإن فيه بلا شك إثراءٌ للفقه الإسلامي في حقب الزمان المتتالية"( ).

وأما العالِمُ العامل صاحب التكليف فهو فضيلة الشيخ الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية الحالي، الذي قَرَنَ الدعاءَ بالعمل، فسعى إلى لفت نظر المؤرخين إلى أهمية الفتوى في صناعة تاريخ مصر على مرِّ الأزمان، وذلك من خلال قيامه بتسليم سجلات دار الإفتاء إلى دار الوثائق القومية؛ لتكون متاحة للباحثين، وانتهز فرصة لقائه بالأستاذ الدكتور محمد صابر عرب – رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية – وطلب منه أن يُرشده إلى باحثٍ متخصص في تاريخ المؤسسات القضائية وتاريخ القانون، يمتلك أدوات المؤرخ، وله إلمام بالفقه وأصوله، والمذاهب وتاريخها وتطورها، ليكلفه بكتابة تاريخ دار الإفتاء المصرية، فوعده بذلك وبأن يحضره معه في اللقاء القادم.

وكان الدكتور صابر يعني شخصي الضعيف عندما وعده بذلك، وحدثني بالفعل في هذا الأمر، فترددت قليلاً، لأنني كنت في ذلك الوقت قد كُلِّفت من قِبَل الدكتور صابر عرب بالعمل مديرًا لوحدة البحوث الوثائقية بدار الوثائق القومية، ثم أتبع ذلك بأن عينني نائبًا لمدير مشروع ميكنة مقتنيات دار الوثائق القومية، وهي مسئولية جسيمة تتطلب تفرغًا كاملاً، ولكنني وجدتها فرصة لا تُفَوت، وعرضًا لا يُضَيَّع، وحُلمًا كنت أسعى لتحقيقه في مستقبل الأيام، حيث كنت قد بدأت بجمع نصوص من فتاوى فقهاء مصر في العصر العثماني من خلال سجلات المحاكم الشرعية، على أمل أن أنتقي منها نماذج مختلفة لنشرها في بحث مستقل عندما تأتي الفرصة المناسبة، فكانت هذه خير مناسبة لاستكمال ما كنت قد بدأته؛ فقبلت العرض، وعزمت على أن أضاعف الجهد حتى أنتهي منه في الوقت المناسب.

وحضرت بالفعل مع الدكتور صابر لمقابلة فضيلة المفتي، وعرضت عليه تصوري حول خطة الموضوع، وتناقشنا ثلاثتنا حولها، وبعد الموافقة عليها بدأت العمل مباشرة. بيد أنني في أثناء العمل، وجدت أن كتابة تاريخ دار الإفتاء يحتاج منا للرجوع إلى فترة سابقة لنعرف متى ظهر مصطلح "مفتي الديار المصرية"؟ وإن كانت ثمة وظائف للإفتاء قبل "مفتي الديار"، فهناك "مفتي أفندي مصر" في القرن التاسع عشر، وهناك "مفتي السلطنة الشريفة بمصر" في العصر العثماني، وهناك أيضًا "مفتي دار العدل" في العصر المملوكي، كما مارس كثير من الفقهاء الفتوى وحصلوا على لقب "مفتي مصر"، منهم من مارس الفتوى تطوعًا، ومنهم من مارسها بتفويض رسمي من حاكم مصر. ووجدت أنها سلسلة متصلة الحلقات تبدأ مع الفتح الإسلامي لمصر، وتستمر إلى الوقت الحالي بدون انقطاع. وبناءً على ذلك قررت أن أبدأ مع الفتح الإسلامي لمصر. وعرضت الأمر على فضيلة المفتي من خلال التقارير الدورية التي كنت أعرضها عليه، ووافق على ذلك أيضًا. ولا شك أن هذا كان حملاً زائدًا عليّ، وكان سببًا في تأخر صدور الكتاب عن موعده بضعة أشهر.

ولما كان هذا الكتاب يؤرخ لمدرسة الإفتاء المصري، فلم أكتف بذكر مناصب الإفتاء وتطورها، والترجمة للمفتين والتعريف بمكانتهم ومراحل حياتهم؛ بل حرصت على تقديم نماذج من فتاوى المفتين الذين ترجمت لهم كلما استطعت، في محاولة لتعريف الناس بفقه هؤلاء الأعلام، وطريقتهم في استنباط الفتاوى والأحكام، مستعرضًا ملامح مدرسة الإفتاء المصري، وتطورها، وأهم أعلامها منذ الفتح الإسلامي إلى فضيلة الدكتور علي جمعة، بادئًا برأس تلك السلسلة المباركة من الموقعين، وهو الصحابي عقبة بن عامر الجهيني، ومنتهيًا بآخر حلقاتها المنيرة فضيلة الدكتور علي جمعة، الذي وإن كان هو مسك الختام لهذا الكتاب؛ إلا أنه لن يكون نهاية تلك السلسلة التي شاء الله لها أن تمتد إلى يوم القيامة.

وقد اقتضت خطة البحث وظروف العمل بهذا الكتاب أن أُقَسِّمه إلى ثلاثة أجزاء، تتضمن عدة فصول، وقد خصصت الجزء الأول للتأريخ لمدرسة الإفتاء المصري منذ الفتح الإسلامي لمصر، وحتى نهاية العصر المملوكي، أما الجزء الثاني فقد خصصته للتأريخ لمدرسة الإفتاء المصري في العصر العثماني والقرنين التاسع عشر والعشرين، مع الترجمة لكل من شغل منصب مفتي الديار المصرية، حتى نصل إلى فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية الحالي، في حين خصصت الجزء الثالث للحديث عن "دار الإفتاء المصرية" تطورها التاريخي وواقعها الحالي، ومستقبلها المشرق بإذن الله.

وقد جعلت الفصل الأول بمثابة تمهيدٍ للكتاب، ولما وجدت أنني استخدم في فصول الكتاب كثيرًا من المصطلحات والألفاظ التي قد تبدو غريبة على القارئ غير المتخصص؛ فضلت شرحها في بداية الكتاب، من خلال هذا الفصل الذي عنونته "الإفتاءُ: مفاهيمٌ وأحكامٌ"، وعرضت فيه للمعاني المختلفة للفتوى من ناحيتي اللغة والاصطلاح، وحُكمِها ومكانتها، كما عَرَضْتُ لأركان عملية الفتوى: المفتي والمستفتي وأمين الفتوى، كما انتقلت إلى موضوع متصل بها وهو كتب الفتاوى، وذَكَرْتُ أشهر ما وُضِع في هذا المجال في العالم الإسلامي كله. ثم عَرَضْتُ في القسم الثاني من هذا الفصل للشروط والأحكام والآداب المرتبطة بكل من المفتي والمستفتي والفتوى. وميزت بين الفتوى والاجتهاد، وأوضحت الفارق بين المفتي والقاضي، وناقشت كثيرًا من القضايا المهمة بالنسبة للفتوى كمسألة خطأ المفتي، أو رجوعه عن فتواه، وغير ذلك.

ثم بدأت حديثي عن "الإفتاء المصري" – الموضوع الأساسي للكتاب– بداية من الفصل الثاني، الذي خصصته للترجمة لأشهر من مارس الإفتاء في مصر من الصحابة، ومن سار على نهجهم من التابعين وتابعيهم. وهنا أنوه إلى أنني لم أتحدث عن كل من دخل مصر من الصحابة، بل كل من مارس الإفتاء في مصر منهم، وهم تحديدًا: عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو بن العاص. كذلك لم أترجم لكل التابعين الذين عاصروا الصحابة وتعلموا منهم، بل ترجمت فقط لكل من تصدر للفتوى منهم وأصبح المعتمد عليه في الفتوى بمصر؛ ولذلك تجاهلت الترجمة لكثير من أعلام الفقهاء المصريين من التابعين لعدم شهرتهم في مجال الفتوى.

وفي ثنايا حديثي تعرضت لمنصب الفتوى في مصر، وكيف تطور من فرض كفاية يقوم به من وجد في نفسه شروط الفتوى، إلى وظيفة يكلف الحاكمُ من يراه مناسبًا من الفقهاء لشغلها. ثم انتقلت بعد ذلك إلى تابعي التابعين، وهم الجيل الثالث من الموقعين الذين تعلموا على أيدي التابعين، ومارسوا الفتوى في مصر، فترجمت لكل من أكدت المصادر على أنه كان متصدرًا للفتوى بمصر، وكان بمثابة "مفتي مصر" في عصره.

وخصصت الفصل الثالث للحديث عن المفتين المصريين من أصحاب الإمامين الجليلين: مالك بن أنس ، ومحمد بن إدريس الشافعي، فشرحت كيف انتقل المذهب المالكي إلى مصر، وترجمت لأهم المفتين المالكيين الذين سيطروا على الحياة الفقهية والعلمية في مصر إلى أن جاءها الإمام الشافعي، حين أصبحت الكلمة العليا في الفتوى له ولتلاميذه من بعده، فترجمت له ولهم، وأوضحت دورهم في الفتوى، واضطلاعهم بمسئوليتها حتى نهاية العصر الإخشيدي بمصر. ثم ختمت حديثي في هذا الفصل بالترجمة لواحد من أشهر المفتين الذين برزوا في مصر بالرغم من أنه لم يكن مالكيًا ولا شافعيًا، وهو الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي.

ثم رصدت في الفصل الرابع التغيير الكبير الذي شهدته مصر في مجال الفتوى في العصر الفاطمي؛ نتيجة لأن الدولة الفاطمية كانت شيعية المذهب، فاضطهدت أهل السنة، وشردت فقهاءهم في الأمصار، فندر وجود المفتين في مصر. ثم تتبعت كيف خَفَّتْ حدة الاضطهاد في أواخر العصر الفاطمي، وكيف ساهم صلاح الدين الأيوبي في إحداث نهضة في مجال الفقه بشكل عام والفتوى بشكل خاص، فأحيى السنة، وأنشأ المدارس الدينية لتدريس الفقه على المذهب الشافعي مذهب غالب أهل مصر، ثم ما تلا ذلك في العصر الأيوبي من انتشار المدارس الدينية التي خصصت وظائف لتدريس الفقه والفتوى على المذاهب الأربعة. وأخيرًا ترجمت لأشهر المفتين في مصر في العصرين الفاطمي والأيوبي، وقد فضلت الجمع بين هذين العصرين؛ بسبب التداخل الكبير بينهما، في الأحداث والأشخاص، كما أن كثيرًا ممن تصدر للفتوى في العصر الفاطمي قد استمر في العصر الأيوبي أيضًا.

أما الفصل الخامس فقد خصصته للحديث عن أشهر من مارس الإفتاء وبرز فيه من المفتين المصريين، من بداية العصر المملوكي، وحتى ظهور منصب "مفتي دار العدل". وقدمت لذلك بمقدمة عن تعليم المفتين وإجازاتهم، استعرضت فيها أهم المدارس الدينية التي تخرج فيها المفتون، وكيف كانوا يحصلون على "إجازات" الإفتاء، وأهم صيغ تلك الإجازات، وأشهر مانحيها. ثم ختمت ذلك الفصل بالحديث عن الظروف التي أدت إلى ظهور وظيفة "مفتي دار العدل" من خلال التعرض لملامح النظام القضائي في العصر المملوكي، وحاجته إلى وظيفة الإفتاء، ثم عرضت لموقع منصب "مفتي دار العدل" في النظام القضائي في العصر المملوكي.

وقد اختص الفصل السادس بالترجمة لكل من شغل منصب "مفتي دار العدل" بمصر. فترجمت لكل من ذكرت المصادر أنه شغل ذلك المنصب، من المذاهب الأربعة، ووضعت قائمة مرتبة تاريخياً بأسماء المفتين بدار العدل من كل مذهب ، وقد ضمت القائمة ثمانية عشر مفتيًا من الشافعية، وأربعة مفتين من المالكية، واثني عشر مفتيًا من الحنفية، وتسعة مفتين من الحنابلة، بمجموع ثلاثة وأربعين مفتيًا ترجمت لهم ترجمات وافية، وشرحت ظروف توليهم المنصب، وقدمت نماذج من فتاواهم، وأوضحت دورهم في إثراء الحياة العلمية في مصر في العصر المملوكي.

ثم خصصت الفصل السابع للحديث عن أعلام المفتين الذين تصدروا للفتوى بعد إهمال دار العدل، واقتصرت فقط على الترجمة لمن كان مشارًا لهم بالفتوى، وكانوا بمثابة مفتي الديار المصرية الآن، وإن كانوا قد عملوا متطوعين للقيام بفرض الكفاية فقط، لا وظيفة يتلقون عليها أجرًا. وحيث اقتصرت على من برع في الفتوى وتصدر لها، وكان مشارًا إليه بها؛ فقد تجاهلت كثيرًا من أعلام فقهاء ذلك العصر كالإمامين السخاوي والسيوطي، بالرغم من ممارستهم للفتوى خاصة في مجال الحديث، حيث اشتهر عنهما ما يعرف بالفتاوى الحديثية، لكنهما لم يكونا من المشار إليهما بالفتوى، كما اعتزل الإمام السيوطي الفتوى حينما بلغ عمره أربعين عامًا وتفرغ للتأليف فقط.

وأما بقية فصول الكتاب التي نتتبع فيها مدرسة الإفتاء المصري منذ بداية العصر العثماني وحتى الوقت الحاضر، فقد خصصت لها الجزأين الثاني والثالث من هذا الكتاب، مرورًا بالفترة التي ظهر فيها منصب "مفتي السلطنة الشريفة بمصر" ثم منصب "مفتي أفندي مصر" في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، ثم منصب "مفتي الديار المصرية" الذي ظهر في أواخر القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، وأخيرًا منصب "مفتي جمهورية مصر العربية". ثم نختتم حديثنا عن مدرسة الإفتاء المصري باستعراض واقع الفتوى في مصر حاليًا والدور الذي تقوم به دار الإفتاء، كما نستشرف مستقبلها وأهم مشروعات التطوير فيها، وهو ما سوف نفصله في حينه إن شاء الله تعالى.

وقد حرصت في هذا الكتاب على الترجمة للمفتين من أشهر كتب التراجم والتاريخ المتاحة، وحتى لا تزدحم حواشي الكتاب بالمصادر ؛ فقد اكتفيت بذكر مصادر الترجمة عند أول الحديث عن كل مفتٍ، وحرصت على التسلسل التاريخي، مع الاهتمام بالتاريخ الهجري، والاكتفاء بذكر التاريخ الميلادي في حواشي الكتاب. كذلك حرصت على وضع الآيات القرآنية بين قوسين مُزهرين ﴿ .. ﴾ ، ووضع الأحاديث النبوية بين قوسين مموجين { .. }، ووضع عبارات الاقتباس بين علامتي تنصيص " .. " ، وكذلك حرصت على وضع عناوين الكتب والأبحاث والرسائل التي ورد ذكرها في المتن بين قوسين عاديين ( .. ).

وسوف يلاحظ القارئ الكريم أن الكتاب مليء بالاقتباسات ونصوص أقوال الأئمة والمفتين، وهو ما قد يجعل القارئ يظن أن ذلك يخفي شخصية المؤلف قليلاً، ولكنه في الحقيقة كان أمرًا مقصودًا، حيث حرصت على إبراز مكانة المفتين بذكر نصوص أقوال المؤرخين والأئمة عنهم ورأيهم فيهم، وهي أقوال جاءت في غالب الأحيان كالقول الفصل الذي لا يحتاج إلى تعليق ولا إضافة، كما حرصت على اقتباس كثير من الفتاوى بنصوصها، دون اختصار أو تعديل.


القاهرة، في: 24 رمضان 1431هـ/3 سبتمبر 2010م
د. عماد أحمد هلال

 

اقرأ أيضا
;