دليل سد الذريعة في الفقه الإسلامي

نسمع من بعض الناس أن الدليل على تحريم مسألةٍ مَا هو سدُّ الذريعة. فما سد الذريعة؟ وهل هو من الأدلة الشرعية؟

سدُّ الذرائع عبارة عن كلمتين: إحداهما مضافة إلى الأخرى، أما الأولى- وهي سد- فالسين والدال أصل واحد يدلُّ على ردم شيء ومُلاءَمَته، ومن ذلك قولك: سدَدت الثُّلمة سدًّا. وكلُّ حاجزٍ بين الشيئين سَدٌّ. ومن ذلك السَّديد، ذُو السَّداد، أي الاستقامة؛ كأنَّه لا ثُلْمة فيه.

أما (ذرع) فقد ورد في معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 350 فصل الذال من باب العين، و3/ 66 فصل السين من باب الدال): [الذال والراء والعين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على امتدادٍ وتحرُّك إلى قُدُم، ثم ترجع الفروعُ إلى هذا الأصل] اهـ.

والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعةٍ أي توسل، والجمع الذرائع. والذريعة مثل الدريئة جمل يختل به الصيد؛ يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، والذريعة السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال: فلان ذريعتي إليك؛ أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. راجع: "لسان العرب" (8/ 93، مادة: ذ ر ع، ط. دار صادر).

ومما تقدم يتضح أن سدَّ الذريعة في اللغة هو الإغلاق المُحكَم للطرق المؤدية إلى شيء ما.

أما التعريف الاصطلاحي لسد الذرائع؛ فيقول الإمام الباجي في "إحكام الفصول" للباجي (2/ 695-696، ط. دار الغرب): [هي المسألة التي ظاهرها الإباحةُ ويتوصل بها إلى فعل المحظور] اهـ.

وقال الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265، ط. دار الكتب العلمية): [وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور] اهـ.

والحكم في هذه المسألة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن العمل بسد الذرائع في ما مفسدته نادرة، وهو ما أجمعت الأمة على عدم منعه- كما قال القرافي- فهو احتياطٌ مذموم؛ وذلك لندرة الضرر المتحصِّل منه، والنادر لا حكمَ له، كما هو مُقرَّرٌ فقهًا، ولأن الفعل هنا عارٍ عن المفسدة، والشارع إنما اعتبر غَلَبة المصلحة ولم يعتبر الأمر النادر، فما مفسدته نادرة من الذرائع باقٍ على أصل الإباحة ولا يُلتَفَتُ إلى قول مَنْ منَعه؛ كالماء الْمُشَمَّس في الأواني المعدنية في البلاد الحارَّة، فإنه يُكرَه استعماله مع توافُر غيره؛ خوفًا من وقوع نادِر ضرره، فإن لم يجد غيره تعيَّن استعمالُه؛ لغَلَبَة السلامة من شرِّه، ولا يجوز تعطيل المصالح الغالبة لوقوع المفاسد النادرة، ومن ذلك أيضًا المنع من زراعة العنب خشية الخمر، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فهذه كلها ذرائعُ لا تُسَدُّ ووسائل لا تُحسَم. راجع: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لسلطان العلماء العز بن عبد السلام (1/ 100، ط دار الكتب العلمية)، و"الفروق" للإمام القرافي (2/ 32، ط. عالم الكتب).

وكذلك لا يُعمَل بالاحتياط في سد الذرائع التي تؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا؛ فالأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن، كمذهب الشافعي وغيره، ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان؛ إذ ليس هنا إلا احتمالٌ مجرَّد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجِّح أحد الجانبين على الآخر، واحتمالُ القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه؛ لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة. انظر: "الموافقات" للشاطبي (2/ 361، ط. دار المعرفة).

والدليل على ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يحرم شيء إلا بدليل قوي؛ فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدّارقُطْنِي وغيره، وقال الإمام النووي: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 170، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَوْلُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا: «رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ» يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرِفْقًا، حَيْثُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، بَلْ جَعَلَهَا عَفْوًا، فَإِنْ فَعَلُوهَا، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَرَكُوهَا فَكَذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ تَلَا: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]. وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52]. وَقَوْلُهُ: «فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا النَّهْيِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِي الله عَنهُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، قَدْ يُوجِبُ اعْتِقَادَ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ، لِمُشَابَهَتِهِ لِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَبُولُ الْعَافِيَةِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالسُّؤَالِ خَيْرٌ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»، قَالَهَا ثَلَاثًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا، وَالْمُتَنَطِّعُ: هُوَ الْمُتَعَمِّقُ الْبَحَّاثُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَيَنْفِي الْمَعَانِيَ وَالْقِيَاسَ كَالظَّاهِرِيَّةِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُدَقِّقَ النَّاظِرُ نَظَرَهُ وَفِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْمُسْتَبْعَدَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِمُجَرَّدِ فَرْقٍ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا النَّظَرُ وَالْبَحْثُ غَيْرُ مَرضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَحْمُودُ النَّظَرُ الْمُوَافِقُ لِنَظَرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَنَحْوِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"، يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ] اهـ.

وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/ 3، ط. دار الآفاق الجديدة): [المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَعظَمُ النَّاسِ جُرمًا فِي الإِسْلَامِ مَن سَألَ عَن شَيءٍ لَم يحَرّمْه فحَرم مِن أجْلِ مَسْألتِهِ»] اهـ.

وأشهر القائلين بسدِّ الذريعة المذهب المالكي والحنبلي: فعن مذهب الإمام مالك يقول الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 26، ط. دار الفكر): [مذهبه رضي الله عنه مبنيٌّ على سدِّ الذرائع واتِّقاء الشبهات، فهو أبعدُ المذاهب عن الشبه] اهـ.

وعن مذهب الحنابلة يقول العلامة ابن النجار في "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير" (4/ 434، ط. مكتبة العبيكان): [(وتُسَدُّ) بالبناء للمفعول (الذرائع) جمع ذريعة، (وهي) أي: الذريعة (ما)، أي: شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرَّم)، ومعنى سدها: المنع من فعلها لتحريمه] اهـ.

ويقول الإمام الزركشي في "البحر المحيط" للزركشي (8/ 90، ط. دار الكتبي): [وقال القرطبي: سدُّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا، ثم قرّر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعًا أو لا، الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والذي لا يلزم إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا، أو ينفك عنه غالبًا، أو يتساوى الأمران، وهو المسمّى بالذرائع عندنا. فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه، وربما يسميه التُّهمة البعيدة والذرائع الضعيفة] اهـ.

وقد استدل القائلون بسدِّ الذريعة بالكتاب والسنة: أمّا الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108].

يقول الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265): [اتفق العلماء على أن معنى الآية: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو؛ فإن السب في غير الحجة فعل الأدنياء. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ». فمنع الله تعالى في كتابه أحدًا أن يفعل فعلًا جائزًا يؤدي إلى محظور؛ ولأجل هذا تعلَّق علماؤنا بهذه الآية في سدِّ الذرائع، وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور... وقد قيل: إن المشركين قالوا: لئن لم تَنْتَهُنَّ عن سبِّ آلهتنا لنَسُبَّنَّ إلهكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية] اهـ.

وقد ورد في السنة الحثُّ على الورع واتقاء الشبهات؛ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» "سنن ابن ماجه"، وقوله: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رواه الترمذي والنسائي، وقوله: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رواه مسلم. وقد جعل الشوكاني هذه الأحاديث من أحسن ما يستدل به على هذا الباب. راجع: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 196، ط. دار الكتاب العربي).

إلا أن الفقهاء المانعين من سدِّ الذريعة يرون أن الأدلةَ المذكورة في الباب إنما هي أدلةٌ إجماليةٌ عامةٌ لا تتناول جميع أفراد الباب؛ لأن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع.

ومن الغريب أن يكون أحد فقهاء المالكية هو الذي يوضح هذا الأمر؛ حيث يقول الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (3/ 266): [اعلم أن الذريعة هي الوسيلة للشيء، وهي ثلاثة أقسام: منها ما أجمع الناس على سدِّه، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، ومنها ما اختلفوا فيه. فالمجمع على عدم سده؛ كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر والتجاور في البيوت خشية الزنا، فلم يمنع شيء من ذلك، ولو كان وسيلة للمحرم. وما أجمع على سده؛ كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى حينئذ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون. والمختلف فيه؛ كالنظر إلى المرأة؛ لأنه ذريعة للزنا، وكذلك الحديث معها، ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله، ويحكى عن المذهب المالكي اختصاصه بسد الذرائع وليس كذلك، بل منها ما أجمع عليه كما تقدم، وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب على الشافعية في سد الذرائع بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، وبقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: 65]؛ فذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرَّم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة، وبقوله عليه السلام: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»، إلى أن قال: فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها، وهي لا تفيد، فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمعٌ عليه، وإنما النزاع في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن تذكر أدلة خاصة لمحلّ النزاع، وإلا فهذه لا تفيد وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئًا واحدًا وهو القياس، وهم لا يعتقدون أن مدركهم هذه النصوص، وليس كذلك فتأمل ذلك، بل يتعين أن يذكروا نصوصًا أخر خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها] اهـ.

أضف إلى ذلك أن الأحاديث الواردة في الباب تدل على الورع، وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه؛ لأن أمر الورع واسع ومرغب فيه، ولكن العمل به مستحبٌّ لا واجب، ومما يدل على ذلك أيضًا ما ورد عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: «كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، دَعْهَا عَنْكَ» أخرجه البخاري.

يقول الإمام العيني في "عمدة القاري" (11/ 167، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال صاحب "التلويح": ذهب جمهور العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتاه بالتحرز من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة، لكن لم يكن قاطعًا ولا قويًّا... لكنه أشار عليه بالأحوط، يدل عليه أنه لما أخبره أعرض عنه، فلو كان حرامًا لما أعرض عنه بل كان يجيبه بالتحريم، لكنه لما كرّر عليه مرة بعد أخرى أجابه بالورع] اهـ.

ومن ردود المانعين أيضًا: أن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع. كما أن الفروع التي ذكرها أصحاب الرأي الآخر مقابلة بأفرع لم تأخذ بسد الذريعة، بل أخذت بظاهر الأمر، وهذا على تسليم ما ذكروه يُظهر أن "سد الذريعة" غير منضبط، مما يتعذر معه اتخاذه دليلًا فقهيًّا مستقلًّا.

والخلاصة: أنه لا خلاف في أن ما وردت به النصوص الشرعية من سد الذريعة يجب الامتثال له، وهذا عليه الإجماع، ومثاله النهي عن سب آلهة المشركين كي لا يؤدي ذلك إلى سبِّهم لله تعالى، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، كما أن الراجح عدم اعتبار "سد الذريعة" دليلًا مستقلًّا يستند إليه المجتهد في حكمه على المسائل الفرعية، وإذا لم تصلح دليلًا فلا دخل لها في عملية الترجيح، إذ إن الترجيح فرع عن الاعتبار كما قلناه مرارًا، من ذلك فتوى بعنوان (الترجيح بالمصلحة).

وبناءً على ما سبق: فإن سدَّ الذريعة من الأدلة المختلَف فيها، ويعمل به فيما كان مجمعًا على تحريمه وليس ما كان فيه ضرر نادر أو مفسدة موهومة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

سدُّ الذرائع عبارة عن كلمتين: إحداهما مضافة إلى الأخرى، أما الأولى- وهي سد- فالسين والدال أصل واحد يدلُّ على ردم شيء ومُلاءَمَته، ومن ذلك قولك: سدَدت الثُّلمة سدًّا. وكلُّ حاجزٍ بين الشيئين سَدٌّ. ومن ذلك السَّديد، ذُو السَّداد، أي الاستقامة؛ كأنَّه لا ثُلْمة فيه.

أما (ذرع) فقد ورد في معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 350 فصل الذال من باب العين، و3/ 66 فصل السين من باب الدال): [الذال والراء والعين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على امتدادٍ وتحرُّك إلى قُدُم، ثم ترجع الفروعُ إلى هذا الأصل] اهـ.

والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعةٍ أي توسل، والجمع الذرائع. والذريعة مثل الدريئة جمل يختل به الصيد؛ يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، والذريعة السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال: فلان ذريعتي إليك؛ أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. راجع: "لسان العرب" (8/ 93، مادة: ذ ر ع، ط. دار صادر).

ومما تقدم يتضح أن سدَّ الذريعة في اللغة هو الإغلاق المُحكَم للطرق المؤدية إلى شيء ما.

أما التعريف الاصطلاحي لسد الذرائع؛ فيقول الإمام الباجي في "إحكام الفصول" للباجي (2/ 695-696، ط. دار الغرب): [هي المسألة التي ظاهرها الإباحةُ ويتوصل بها إلى فعل المحظور] اهـ.

وقال الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265، ط. دار الكتب العلمية): [وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور] اهـ.

والحكم في هذه المسألة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن العمل بسد الذرائع في ما مفسدته نادرة، وهو ما أجمعت الأمة على عدم منعه- كما قال القرافي- فهو احتياطٌ مذموم؛ وذلك لندرة الضرر المتحصِّل منه، والنادر لا حكمَ له، كما هو مُقرَّرٌ فقهًا، ولأن الفعل هنا عارٍ عن المفسدة، والشارع إنما اعتبر غَلَبة المصلحة ولم يعتبر الأمر النادر، فما مفسدته نادرة من الذرائع باقٍ على أصل الإباحة ولا يُلتَفَتُ إلى قول مَنْ منَعه؛ كالماء الْمُشَمَّس في الأواني المعدنية في البلاد الحارَّة، فإنه يُكرَه استعماله مع توافُر غيره؛ خوفًا من وقوع نادِر ضرره، فإن لم يجد غيره تعيَّن استعمالُه؛ لغَلَبَة السلامة من شرِّه، ولا يجوز تعطيل المصالح الغالبة لوقوع المفاسد النادرة، ومن ذلك أيضًا المنع من زراعة العنب خشية الخمر، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فهذه كلها ذرائعُ لا تُسَدُّ ووسائل لا تُحسَم. راجع: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لسلطان العلماء العز بن عبد السلام (1/ 100، ط دار الكتب العلمية)، و"الفروق" للإمام القرافي (2/ 32، ط. عالم الكتب).

وكذلك لا يُعمَل بالاحتياط في سد الذرائع التي تؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا؛ فالأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن، كمذهب الشافعي وغيره، ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان؛ إذ ليس هنا إلا احتمالٌ مجرَّد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجِّح أحد الجانبين على الآخر، واحتمالُ القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه؛ لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة. انظر: "الموافقات" للشاطبي (2/ 361، ط. دار المعرفة).

والدليل على ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يحرم شيء إلا بدليل قوي؛ فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدّارقُطْنِي وغيره، وقال الإمام النووي: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 170، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَوْلُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا: «رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ» يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرِفْقًا، حَيْثُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، بَلْ جَعَلَهَا عَفْوًا، فَإِنْ فَعَلُوهَا، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَرَكُوهَا فَكَذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ تَلَا: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]. وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52]. وَقَوْلُهُ: «فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا النَّهْيِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِي الله عَنهُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، قَدْ يُوجِبُ اعْتِقَادَ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ، لِمُشَابَهَتِهِ لِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَبُولُ الْعَافِيَةِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالسُّؤَالِ خَيْرٌ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»، قَالَهَا ثَلَاثًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا، وَالْمُتَنَطِّعُ: هُوَ الْمُتَعَمِّقُ الْبَحَّاثُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَيَنْفِي الْمَعَانِيَ وَالْقِيَاسَ كَالظَّاهِرِيَّةِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُدَقِّقَ النَّاظِرُ نَظَرَهُ وَفِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْمُسْتَبْعَدَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِمُجَرَّدِ فَرْقٍ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا النَّظَرُ وَالْبَحْثُ غَيْرُ مَرضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَحْمُودُ النَّظَرُ الْمُوَافِقُ لِنَظَرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَنَحْوِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"، يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ] اهـ.

وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/ 3، ط. دار الآفاق الجديدة): [المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَعظَمُ النَّاسِ جُرمًا فِي الإِسْلَامِ مَن سَألَ عَن شَيءٍ لَم يحَرّمْه فحَرم مِن أجْلِ مَسْألتِهِ»] اهـ.

وأشهر القائلين بسدِّ الذريعة المذهب المالكي والحنبلي: فعن مذهب الإمام مالك يقول الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 26، ط. دار الفكر): [مذهبه رضي الله عنه مبنيٌّ على سدِّ الذرائع واتِّقاء الشبهات، فهو أبعدُ المذاهب عن الشبه] اهـ.

وعن مذهب الحنابلة يقول العلامة ابن النجار في "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير" (4/ 434، ط. مكتبة العبيكان): [(وتُسَدُّ) بالبناء للمفعول (الذرائع) جمع ذريعة، (وهي) أي: الذريعة (ما)، أي: شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرَّم)، ومعنى سدها: المنع من فعلها لتحريمه] اهـ.

ويقول الإمام الزركشي في "البحر المحيط" للزركشي (8/ 90، ط. دار الكتبي): [وقال القرطبي: سدُّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا، ثم قرّر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعًا أو لا، الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والذي لا يلزم إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا، أو ينفك عنه غالبًا، أو يتساوى الأمران، وهو المسمّى بالذرائع عندنا. فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه، وربما يسميه التُّهمة البعيدة والذرائع الضعيفة] اهـ.

وقد استدل القائلون بسدِّ الذريعة بالكتاب والسنة: أمّا الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108].

يقول الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265): [اتفق العلماء على أن معنى الآية: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو؛ فإن السب في غير الحجة فعل الأدنياء. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ». فمنع الله تعالى في كتابه أحدًا أن يفعل فعلًا جائزًا يؤدي إلى محظور؛ ولأجل هذا تعلَّق علماؤنا بهذه الآية في سدِّ الذرائع، وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور... وقد قيل: إن المشركين قالوا: لئن لم تَنْتَهُنَّ عن سبِّ آلهتنا لنَسُبَّنَّ إلهكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية] اهـ.

وقد ورد في السنة الحثُّ على الورع واتقاء الشبهات؛ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» "سنن ابن ماجه"، وقوله: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رواه الترمذي والنسائي، وقوله: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رواه مسلم. وقد جعل الشوكاني هذه الأحاديث من أحسن ما يستدل به على هذا الباب. راجع: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 196، ط. دار الكتاب العربي).

إلا أن الفقهاء المانعين من سدِّ الذريعة يرون أن الأدلةَ المذكورة في الباب إنما هي أدلةٌ إجماليةٌ عامةٌ لا تتناول جميع أفراد الباب؛ لأن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع.

ومن الغريب أن يكون أحد فقهاء المالكية هو الذي يوضح هذا الأمر؛ حيث يقول الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (3/ 266): [اعلم أن الذريعة هي الوسيلة للشيء، وهي ثلاثة أقسام: منها ما أجمع الناس على سدِّه، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، ومنها ما اختلفوا فيه. فالمجمع على عدم سده؛ كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر والتجاور في البيوت خشية الزنا، فلم يمنع شيء من ذلك، ولو كان وسيلة للمحرم. وما أجمع على سده؛ كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى حينئذ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون. والمختلف فيه؛ كالنظر إلى المرأة؛ لأنه ذريعة للزنا، وكذلك الحديث معها، ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله، ويحكى عن المذهب المالكي اختصاصه بسد الذرائع وليس كذلك، بل منها ما أجمع عليه كما تقدم، وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب على الشافعية في سد الذرائع بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، وبقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: 65]؛ فذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرَّم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة، وبقوله عليه السلام: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»، إلى أن قال: فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها، وهي لا تفيد، فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمعٌ عليه، وإنما النزاع في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن تذكر أدلة خاصة لمحلّ النزاع، وإلا فهذه لا تفيد وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئًا واحدًا وهو القياس، وهم لا يعتقدون أن مدركهم هذه النصوص، وليس كذلك فتأمل ذلك، بل يتعين أن يذكروا نصوصًا أخر خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها] اهـ.

أضف إلى ذلك أن الأحاديث الواردة في الباب تدل على الورع، وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه؛ لأن أمر الورع واسع ومرغب فيه، ولكن العمل به مستحبٌّ لا واجب، ومما يدل على ذلك أيضًا ما ورد عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: «كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، دَعْهَا عَنْكَ» أخرجه البخاري.

يقول الإمام العيني في "عمدة القاري" (11/ 167، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال صاحب "التلويح": ذهب جمهور العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتاه بالتحرز من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة، لكن لم يكن قاطعًا ولا قويًّا... لكنه أشار عليه بالأحوط، يدل عليه أنه لما أخبره أعرض عنه، فلو كان حرامًا لما أعرض عنه بل كان يجيبه بالتحريم، لكنه لما كرّر عليه مرة بعد أخرى أجابه بالورع] اهـ.

ومن ردود المانعين أيضًا: أن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع. كما أن الفروع التي ذكرها أصحاب الرأي الآخر مقابلة بأفرع لم تأخذ بسد الذريعة، بل أخذت بظاهر الأمر، وهذا على تسليم ما ذكروه يُظهر أن "سد الذريعة" غير منضبط، مما يتعذر معه اتخاذه دليلًا فقهيًّا مستقلًّا.

والخلاصة: أنه لا خلاف في أن ما وردت به النصوص الشرعية من سد الذريعة يجب الامتثال له، وهذا عليه الإجماع، ومثاله النهي عن سب آلهة المشركين كي لا يؤدي ذلك إلى سبِّهم لله تعالى، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، كما أن الراجح عدم اعتبار "سد الذريعة" دليلًا مستقلًّا يستند إليه المجتهد في حكمه على المسائل الفرعية، وإذا لم تصلح دليلًا فلا دخل لها في عملية الترجيح، إذ إن الترجيح فرع عن الاعتبار كما قلناه مرارًا، من ذلك فتوى بعنوان (الترجيح بالمصلحة).

وبناءً على ما سبق: فإن سدَّ الذريعة من الأدلة المختلَف فيها، ويعمل به فيما كان مجمعًا على تحريمه وليس ما كان فيه ضرر نادر أو مفسدة موهومة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

دليل سد الذريعة في الفقه الإسلامي

نسمع من بعض الناس أن الدليل على تحريم مسألةٍ مَا هو سدُّ الذريعة. فما سد الذريعة؟ وهل هو من الأدلة الشرعية؟

سدُّ الذرائع عبارة عن كلمتين: إحداهما مضافة إلى الأخرى، أما الأولى- وهي سد- فالسين والدال أصل واحد يدلُّ على ردم شيء ومُلاءَمَته، ومن ذلك قولك: سدَدت الثُّلمة سدًّا. وكلُّ حاجزٍ بين الشيئين سَدٌّ. ومن ذلك السَّديد، ذُو السَّداد، أي الاستقامة؛ كأنَّه لا ثُلْمة فيه.

أما (ذرع) فقد ورد في معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 350 فصل الذال من باب العين، و3/ 66 فصل السين من باب الدال): [الذال والراء والعين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على امتدادٍ وتحرُّك إلى قُدُم، ثم ترجع الفروعُ إلى هذا الأصل] اهـ.

والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعةٍ أي توسل، والجمع الذرائع. والذريعة مثل الدريئة جمل يختل به الصيد؛ يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، والذريعة السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال: فلان ذريعتي إليك؛ أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. راجع: "لسان العرب" (8/ 93، مادة: ذ ر ع، ط. دار صادر).

ومما تقدم يتضح أن سدَّ الذريعة في اللغة هو الإغلاق المُحكَم للطرق المؤدية إلى شيء ما.

أما التعريف الاصطلاحي لسد الذرائع؛ فيقول الإمام الباجي في "إحكام الفصول" للباجي (2/ 695-696، ط. دار الغرب): [هي المسألة التي ظاهرها الإباحةُ ويتوصل بها إلى فعل المحظور] اهـ.

وقال الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265، ط. دار الكتب العلمية): [وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور] اهـ.

والحكم في هذه المسألة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن العمل بسد الذرائع في ما مفسدته نادرة، وهو ما أجمعت الأمة على عدم منعه- كما قال القرافي- فهو احتياطٌ مذموم؛ وذلك لندرة الضرر المتحصِّل منه، والنادر لا حكمَ له، كما هو مُقرَّرٌ فقهًا، ولأن الفعل هنا عارٍ عن المفسدة، والشارع إنما اعتبر غَلَبة المصلحة ولم يعتبر الأمر النادر، فما مفسدته نادرة من الذرائع باقٍ على أصل الإباحة ولا يُلتَفَتُ إلى قول مَنْ منَعه؛ كالماء الْمُشَمَّس في الأواني المعدنية في البلاد الحارَّة، فإنه يُكرَه استعماله مع توافُر غيره؛ خوفًا من وقوع نادِر ضرره، فإن لم يجد غيره تعيَّن استعمالُه؛ لغَلَبَة السلامة من شرِّه، ولا يجوز تعطيل المصالح الغالبة لوقوع المفاسد النادرة، ومن ذلك أيضًا المنع من زراعة العنب خشية الخمر، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فهذه كلها ذرائعُ لا تُسَدُّ ووسائل لا تُحسَم. راجع: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لسلطان العلماء العز بن عبد السلام (1/ 100، ط دار الكتب العلمية)، و"الفروق" للإمام القرافي (2/ 32، ط. عالم الكتب).

وكذلك لا يُعمَل بالاحتياط في سد الذرائع التي تؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا؛ فالأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن، كمذهب الشافعي وغيره، ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان؛ إذ ليس هنا إلا احتمالٌ مجرَّد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجِّح أحد الجانبين على الآخر، واحتمالُ القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه؛ لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة. انظر: "الموافقات" للشاطبي (2/ 361، ط. دار المعرفة).

والدليل على ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يحرم شيء إلا بدليل قوي؛ فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدّارقُطْنِي وغيره، وقال الإمام النووي: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 170، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَوْلُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا: «رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ» يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرِفْقًا، حَيْثُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، بَلْ جَعَلَهَا عَفْوًا، فَإِنْ فَعَلُوهَا، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَرَكُوهَا فَكَذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ تَلَا: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]. وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52]. وَقَوْلُهُ: «فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا النَّهْيِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِي الله عَنهُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، قَدْ يُوجِبُ اعْتِقَادَ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ، لِمُشَابَهَتِهِ لِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَبُولُ الْعَافِيَةِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالسُّؤَالِ خَيْرٌ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»، قَالَهَا ثَلَاثًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا، وَالْمُتَنَطِّعُ: هُوَ الْمُتَعَمِّقُ الْبَحَّاثُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَيَنْفِي الْمَعَانِيَ وَالْقِيَاسَ كَالظَّاهِرِيَّةِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُدَقِّقَ النَّاظِرُ نَظَرَهُ وَفِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْمُسْتَبْعَدَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِمُجَرَّدِ فَرْقٍ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا النَّظَرُ وَالْبَحْثُ غَيْرُ مَرضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَحْمُودُ النَّظَرُ الْمُوَافِقُ لِنَظَرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَنَحْوِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"، يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ] اهـ.

وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/ 3، ط. دار الآفاق الجديدة): [المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَعظَمُ النَّاسِ جُرمًا فِي الإِسْلَامِ مَن سَألَ عَن شَيءٍ لَم يحَرّمْه فحَرم مِن أجْلِ مَسْألتِهِ»] اهـ.

وأشهر القائلين بسدِّ الذريعة المذهب المالكي والحنبلي: فعن مذهب الإمام مالك يقول الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 26، ط. دار الفكر): [مذهبه رضي الله عنه مبنيٌّ على سدِّ الذرائع واتِّقاء الشبهات، فهو أبعدُ المذاهب عن الشبه] اهـ.

وعن مذهب الحنابلة يقول العلامة ابن النجار في "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير" (4/ 434، ط. مكتبة العبيكان): [(وتُسَدُّ) بالبناء للمفعول (الذرائع) جمع ذريعة، (وهي) أي: الذريعة (ما)، أي: شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرَّم)، ومعنى سدها: المنع من فعلها لتحريمه] اهـ.

ويقول الإمام الزركشي في "البحر المحيط" للزركشي (8/ 90، ط. دار الكتبي): [وقال القرطبي: سدُّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا، ثم قرّر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعًا أو لا، الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والذي لا يلزم إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا، أو ينفك عنه غالبًا، أو يتساوى الأمران، وهو المسمّى بالذرائع عندنا. فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه، وربما يسميه التُّهمة البعيدة والذرائع الضعيفة] اهـ.

وقد استدل القائلون بسدِّ الذريعة بالكتاب والسنة: أمّا الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108].

يقول الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265): [اتفق العلماء على أن معنى الآية: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو؛ فإن السب في غير الحجة فعل الأدنياء. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ». فمنع الله تعالى في كتابه أحدًا أن يفعل فعلًا جائزًا يؤدي إلى محظور؛ ولأجل هذا تعلَّق علماؤنا بهذه الآية في سدِّ الذرائع، وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور... وقد قيل: إن المشركين قالوا: لئن لم تَنْتَهُنَّ عن سبِّ آلهتنا لنَسُبَّنَّ إلهكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية] اهـ.

وقد ورد في السنة الحثُّ على الورع واتقاء الشبهات؛ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» "سنن ابن ماجه"، وقوله: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رواه الترمذي والنسائي، وقوله: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رواه مسلم. وقد جعل الشوكاني هذه الأحاديث من أحسن ما يستدل به على هذا الباب. راجع: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 196، ط. دار الكتاب العربي).

إلا أن الفقهاء المانعين من سدِّ الذريعة يرون أن الأدلةَ المذكورة في الباب إنما هي أدلةٌ إجماليةٌ عامةٌ لا تتناول جميع أفراد الباب؛ لأن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع.

ومن الغريب أن يكون أحد فقهاء المالكية هو الذي يوضح هذا الأمر؛ حيث يقول الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (3/ 266): [اعلم أن الذريعة هي الوسيلة للشيء، وهي ثلاثة أقسام: منها ما أجمع الناس على سدِّه، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، ومنها ما اختلفوا فيه. فالمجمع على عدم سده؛ كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر والتجاور في البيوت خشية الزنا، فلم يمنع شيء من ذلك، ولو كان وسيلة للمحرم. وما أجمع على سده؛ كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى حينئذ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون. والمختلف فيه؛ كالنظر إلى المرأة؛ لأنه ذريعة للزنا، وكذلك الحديث معها، ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله، ويحكى عن المذهب المالكي اختصاصه بسد الذرائع وليس كذلك، بل منها ما أجمع عليه كما تقدم، وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب على الشافعية في سد الذرائع بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، وبقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: 65]؛ فذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرَّم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة، وبقوله عليه السلام: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»، إلى أن قال: فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها، وهي لا تفيد، فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمعٌ عليه، وإنما النزاع في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن تذكر أدلة خاصة لمحلّ النزاع، وإلا فهذه لا تفيد وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئًا واحدًا وهو القياس، وهم لا يعتقدون أن مدركهم هذه النصوص، وليس كذلك فتأمل ذلك، بل يتعين أن يذكروا نصوصًا أخر خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها] اهـ.

أضف إلى ذلك أن الأحاديث الواردة في الباب تدل على الورع، وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه؛ لأن أمر الورع واسع ومرغب فيه، ولكن العمل به مستحبٌّ لا واجب، ومما يدل على ذلك أيضًا ما ورد عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: «كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، دَعْهَا عَنْكَ» أخرجه البخاري.

يقول الإمام العيني في "عمدة القاري" (11/ 167، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال صاحب "التلويح": ذهب جمهور العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتاه بالتحرز من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة، لكن لم يكن قاطعًا ولا قويًّا... لكنه أشار عليه بالأحوط، يدل عليه أنه لما أخبره أعرض عنه، فلو كان حرامًا لما أعرض عنه بل كان يجيبه بالتحريم، لكنه لما كرّر عليه مرة بعد أخرى أجابه بالورع] اهـ.

ومن ردود المانعين أيضًا: أن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع. كما أن الفروع التي ذكرها أصحاب الرأي الآخر مقابلة بأفرع لم تأخذ بسد الذريعة، بل أخذت بظاهر الأمر، وهذا على تسليم ما ذكروه يُظهر أن "سد الذريعة" غير منضبط، مما يتعذر معه اتخاذه دليلًا فقهيًّا مستقلًّا.

والخلاصة: أنه لا خلاف في أن ما وردت به النصوص الشرعية من سد الذريعة يجب الامتثال له، وهذا عليه الإجماع، ومثاله النهي عن سب آلهة المشركين كي لا يؤدي ذلك إلى سبِّهم لله تعالى، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، كما أن الراجح عدم اعتبار "سد الذريعة" دليلًا مستقلًّا يستند إليه المجتهد في حكمه على المسائل الفرعية، وإذا لم تصلح دليلًا فلا دخل لها في عملية الترجيح، إذ إن الترجيح فرع عن الاعتبار كما قلناه مرارًا، من ذلك فتوى بعنوان (الترجيح بالمصلحة).

وبناءً على ما سبق: فإن سدَّ الذريعة من الأدلة المختلَف فيها، ويعمل به فيما كان مجمعًا على تحريمه وليس ما كان فيه ضرر نادر أو مفسدة موهومة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

سدُّ الذرائع عبارة عن كلمتين: إحداهما مضافة إلى الأخرى، أما الأولى- وهي سد- فالسين والدال أصل واحد يدلُّ على ردم شيء ومُلاءَمَته، ومن ذلك قولك: سدَدت الثُّلمة سدًّا. وكلُّ حاجزٍ بين الشيئين سَدٌّ. ومن ذلك السَّديد، ذُو السَّداد، أي الاستقامة؛ كأنَّه لا ثُلْمة فيه.

أما (ذرع) فقد ورد في معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 350 فصل الذال من باب العين، و3/ 66 فصل السين من باب الدال): [الذال والراء والعين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على امتدادٍ وتحرُّك إلى قُدُم، ثم ترجع الفروعُ إلى هذا الأصل] اهـ.

والذريعة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعةٍ أي توسل، والجمع الذرائع. والذريعة مثل الدريئة جمل يختل به الصيد؛ يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، والذريعة السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال: فلان ذريعتي إليك؛ أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. راجع: "لسان العرب" (8/ 93، مادة: ذ ر ع، ط. دار صادر).

ومما تقدم يتضح أن سدَّ الذريعة في اللغة هو الإغلاق المُحكَم للطرق المؤدية إلى شيء ما.

أما التعريف الاصطلاحي لسد الذرائع؛ فيقول الإمام الباجي في "إحكام الفصول" للباجي (2/ 695-696، ط. دار الغرب): [هي المسألة التي ظاهرها الإباحةُ ويتوصل بها إلى فعل المحظور] اهـ.

وقال الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265، ط. دار الكتب العلمية): [وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور] اهـ.

والحكم في هذه المسألة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن العمل بسد الذرائع في ما مفسدته نادرة، وهو ما أجمعت الأمة على عدم منعه- كما قال القرافي- فهو احتياطٌ مذموم؛ وذلك لندرة الضرر المتحصِّل منه، والنادر لا حكمَ له، كما هو مُقرَّرٌ فقهًا، ولأن الفعل هنا عارٍ عن المفسدة، والشارع إنما اعتبر غَلَبة المصلحة ولم يعتبر الأمر النادر، فما مفسدته نادرة من الذرائع باقٍ على أصل الإباحة ولا يُلتَفَتُ إلى قول مَنْ منَعه؛ كالماء الْمُشَمَّس في الأواني المعدنية في البلاد الحارَّة، فإنه يُكرَه استعماله مع توافُر غيره؛ خوفًا من وقوع نادِر ضرره، فإن لم يجد غيره تعيَّن استعمالُه؛ لغَلَبَة السلامة من شرِّه، ولا يجوز تعطيل المصالح الغالبة لوقوع المفاسد النادرة، ومن ذلك أيضًا المنع من زراعة العنب خشية الخمر، والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا، فهذه كلها ذرائعُ لا تُسَدُّ ووسائل لا تُحسَم. راجع: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لسلطان العلماء العز بن عبد السلام (1/ 100، ط دار الكتب العلمية)، و"الفروق" للإمام القرافي (2/ 32، ط. عالم الكتب).

وكذلك لا يُعمَل بالاحتياط في سد الذرائع التي تؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا؛ فالأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن، كمذهب الشافعي وغيره، ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان؛ إذ ليس هنا إلا احتمالٌ مجرَّد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجِّح أحد الجانبين على الآخر، واحتمالُ القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه؛ لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة. انظر: "الموافقات" للشاطبي (2/ 361، ط. دار المعرفة).

والدليل على ذلك أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يحرم شيء إلا بدليل قوي؛ فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رواه الدّارقُطْنِي وغيره، وقال الإمام النووي: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 170، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَوْلُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا: «رَحْمَةً مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ» يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَرِفْقًا، حَيْثُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، بَلْ جَعَلَهَا عَفْوًا، فَإِنْ فَعَلُوهَا، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَرَكُوهَا فَكَذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ثُمَّ تَلَا: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64]. وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52]. وَقَوْلُهُ: «فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا النَّهْيِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ بِإِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِي الله عَنهُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ سَلْمَانَ مِنْ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، قَدْ يُوجِبُ اعْتِقَادَ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ، لِمُشَابَهَتِهِ لِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَبُولُ الْعَافِيَةِ فِيهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ عَنْهُ وَالسُّؤَالِ خَيْرٌ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»، قَالَهَا ثَلَاثًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا، وَالْمُتَنَطِّعُ: هُوَ الْمُتَعَمِّقُ الْبَحَّاثُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَيَنْفِي الْمَعَانِيَ وَالْقِيَاسَ كَالظَّاهِرِيَّةِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ- وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ نَصٌّ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومِ وَالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهُ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُدَقِّقَ النَّاظِرُ نَظَرَهُ وَفِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْمُسْتَبْعَدَةِ، فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِمُجَرَّدِ فَرْقٍ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ، وَلَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا النَّظَرُ وَالْبَحْثُ غَيْرُ مَرضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْمَحْمُودُ النَّظَرُ الْمُوَافِقُ لِنَظَرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَنَحْوِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: "إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"، يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ] اهـ.

وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/ 3، ط. دار الآفاق الجديدة): [المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 119]، فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَعظَمُ النَّاسِ جُرمًا فِي الإِسْلَامِ مَن سَألَ عَن شَيءٍ لَم يحَرّمْه فحَرم مِن أجْلِ مَسْألتِهِ»] اهـ.

وأشهر القائلين بسدِّ الذريعة المذهب المالكي والحنبلي: فعن مذهب الإمام مالك يقول الإمام الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 26، ط. دار الفكر): [مذهبه رضي الله عنه مبنيٌّ على سدِّ الذرائع واتِّقاء الشبهات، فهو أبعدُ المذاهب عن الشبه] اهـ.

وعن مذهب الحنابلة يقول العلامة ابن النجار في "مختصر التحرير شرح الكوكب المنير" (4/ 434، ط. مكتبة العبيكان): [(وتُسَدُّ) بالبناء للمفعول (الذرائع) جمع ذريعة، (وهي) أي: الذريعة (ما)، أي: شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرَّم)، ومعنى سدها: المنع من فعلها لتحريمه] اهـ.

ويقول الإمام الزركشي في "البحر المحيط" للزركشي (8/ 90، ط. دار الكتبي): [وقال القرطبي: سدُّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلًا، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلًا، ثم قرّر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعًا أو لا، الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والذي لا يلزم إما أن يفضي إلى المحظور غالبًا، أو ينفك عنه غالبًا، أو يتساوى الأمران، وهو المسمّى بالذرائع عندنا. فالأول لا بد من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، ومنهم من لا يراعيه، وربما يسميه التُّهمة البعيدة والذرائع الضعيفة] اهـ.

وقد استدل القائلون بسدِّ الذريعة بالكتاب والسنة: أمّا الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108].

يقول الإمام ابن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 265): [اتفق العلماء على أن معنى الآية: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو؛ فإن السب في غير الحجة فعل الأدنياء. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ». فمنع الله تعالى في كتابه أحدًا أن يفعل فعلًا جائزًا يؤدي إلى محظور؛ ولأجل هذا تعلَّق علماؤنا بهذه الآية في سدِّ الذرائع، وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور... وقد قيل: إن المشركين قالوا: لئن لم تَنْتَهُنَّ عن سبِّ آلهتنا لنَسُبَّنَّ إلهكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية] اهـ.

وقد ورد في السنة الحثُّ على الورع واتقاء الشبهات؛ مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» "سنن ابن ماجه"، وقوله: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رواه الترمذي والنسائي، وقوله: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رواه مسلم. وقد جعل الشوكاني هذه الأحاديث من أحسن ما يستدل به على هذا الباب. راجع: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/ 196، ط. دار الكتاب العربي).

إلا أن الفقهاء المانعين من سدِّ الذريعة يرون أن الأدلةَ المذكورة في الباب إنما هي أدلةٌ إجماليةٌ عامةٌ لا تتناول جميع أفراد الباب؛ لأن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع.

ومن الغريب أن يكون أحد فقهاء المالكية هو الذي يوضح هذا الأمر؛ حيث يقول الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (3/ 266): [اعلم أن الذريعة هي الوسيلة للشيء، وهي ثلاثة أقسام: منها ما أجمع الناس على سدِّه، ومنها ما أجمعوا على عدم سده، ومنها ما اختلفوا فيه. فالمجمع على عدم سده؛ كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر والتجاور في البيوت خشية الزنا، فلم يمنع شيء من ذلك، ولو كان وسيلة للمحرم. وما أجمع على سده؛ كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى حينئذ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون. والمختلف فيه؛ كالنظر إلى المرأة؛ لأنه ذريعة للزنا، وكذلك الحديث معها، ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله، ويحكى عن المذهب المالكي اختصاصه بسد الذرائع وليس كذلك، بل منها ما أجمع عليه كما تقدم، وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب على الشافعية في سد الذرائع بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، وبقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ [البقرة: 65]؛ فذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرَّم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة، وبقوله عليه السلام: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا»، إلى أن قال: فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها، وهي لا تفيد، فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا مجمعٌ عليه، وإنما النزاع في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن تذكر أدلة خاصة لمحلّ النزاع، وإلا فهذه لا تفيد وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة، ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئًا واحدًا وهو القياس، وهم لا يعتقدون أن مدركهم هذه النصوص، وليس كذلك فتأمل ذلك، بل يتعين أن يذكروا نصوصًا أخر خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها] اهـ.

أضف إلى ذلك أن الأحاديث الواردة في الباب تدل على الورع، وهذا أمرٌ لا خلافَ فيه؛ لأن أمر الورع واسع ومرغب فيه، ولكن العمل به مستحبٌّ لا واجب، ومما يدل على ذلك أيضًا ما ورد عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ لِي: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، قُلْتُ: إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ: «كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا، دَعْهَا عَنْكَ» أخرجه البخاري.

يقول الإمام العيني في "عمدة القاري" (11/ 167، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال صاحب "التلويح": ذهب جمهور العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتاه بالتحرز من الشبهة، وأمره بمجانبة الريبة خوفًا من الإقدام على فرج يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة، لكن لم يكن قاطعًا ولا قويًّا... لكنه أشار عليه بالأحوط، يدل عليه أنه لما أخبره أعرض عنه، فلو كان حرامًا لما أعرض عنه بل كان يجيبه بالتحريم، لكنه لما كرّر عليه مرة بعد أخرى أجابه بالورع] اهـ.

ومن ردود المانعين أيضًا: أن الوسيلة أقسام وليست قسمًا واحدًا، فهي تأخذ الأحكام التكليفية الخمسة، ثم هي غير منضبطة، ويظهر ذلك لمن تأمل الفروع. كما أن الفروع التي ذكرها أصحاب الرأي الآخر مقابلة بأفرع لم تأخذ بسد الذريعة، بل أخذت بظاهر الأمر، وهذا على تسليم ما ذكروه يُظهر أن "سد الذريعة" غير منضبط، مما يتعذر معه اتخاذه دليلًا فقهيًّا مستقلًّا.

والخلاصة: أنه لا خلاف في أن ما وردت به النصوص الشرعية من سد الذريعة يجب الامتثال له، وهذا عليه الإجماع، ومثاله النهي عن سب آلهة المشركين كي لا يؤدي ذلك إلى سبِّهم لله تعالى، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، كما أن الراجح عدم اعتبار "سد الذريعة" دليلًا مستقلًّا يستند إليه المجتهد في حكمه على المسائل الفرعية، وإذا لم تصلح دليلًا فلا دخل لها في عملية الترجيح، إذ إن الترجيح فرع عن الاعتبار كما قلناه مرارًا، من ذلك فتوى بعنوان (الترجيح بالمصلحة).

وبناءً على ما سبق: فإن سدَّ الذريعة من الأدلة المختلَف فيها، ويعمل به فيما كان مجمعًا على تحريمه وليس ما كان فيه ضرر نادر أو مفسدة موهومة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;