العمل بقاعدة اليمين على من أنكر في دعاوى التهمة

هل في دعاوى التهمة -كالسرقة مثلًا- يعمل بقاعدة اليمين على من أنكر؟

معلوم في باب القضاء أن البينة على المدعي وأن اليمين على من أنكر، وهذه قاعدة عامة لها استثناءات، فهل اتهام شخصٍ بتهمةٍ -كسرقةٍ- تنطبق عليها هذه القاعدة؟

وهذه القاعدة هي في أصلها حديثٌ شريفٌ رواه البيهقي وغيره بهذا اللفظ، وبعضه في "الصحيحين"، ولفظ رواية مسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن المدعي يدعي أمرًا خفيًّا، فيحتاج إلى إظهار، وللبينة قوة إظهار؛ لأنها كلام مَن ليس بخصم، وهم الشهود، فجعلت حجة للمدعي.

واليمين التي يذكرها المدعَى عليه، وإن كانت مؤكدة بذكر اسم الله تعالى، لكنها كلام الخصم، فلا تصلح حجة مُظهِرة للحق، وإنما صلحت لأن تكون حجة للمدَّعَى عليه؛ لأنه متمسك بالظاهر والأصل، وهو براءة الذمة، فحاجته إلى استمرار حكم الظاهر. واليمين وإن كانت كلامًا فهي كافية للاستصحاب؛ فكان جعل البينة حجة المدعي، وجعل اليمين حجة المدعى عليه، وضع الشيء في موضعه، وهو غاية الحكمة.

قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 399، ط. دار الكتب العلمية): [وَالمَعنَى فِيهِ أَنَّ جَانِبَ المُدَّعِي ضَعِيفٌ لِدَعوَاهُ خِلافَ الأَصلِ فَكُلِّفَ الحُجَّةَ القَوِيَّةَ، وَجَانِبُ المُنكِرِ قَوِيٌّ فَاكتُفِيَ مِنهُ بِالحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَت البَيِّنَةُ قَوِيَّةً وَاليَمِينُ ضَعِيفَةً لأَنَّ الحَالِفَ مُتَّهَمٌ فِي يَمِينِهِ بِالكَذِبِ؛ لأَنَّهُ يَدفَعُ بِهَا عَن نَفسِهِ بِخِلافِ الشَّاهِدِ] اهـ.

وقال الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (13/ 248، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَقيل: الحِكمَة فِي كَون البَيِّنَة على المُدَّعِي لِأَن جَانِبه ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقُول خلاف الظَّاهِر فيتقوى بهَا، وجانب المُدَّعى عَلَيهِ قوي، لِأَن الأَصل فرَاغ ذمَّته، فَاكتُفِيَ مِنهُ بِاليَمِينِ لِأَنَّهَا حجَّة ضَعِيفَة]. اهـ.

وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص: 230، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَدِ اختَلَفَ الفُقَهَاءُ مِن أَصحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَفسِيرِ المُدَّعِي وَالمُدَّعَى عَلَيهِ. فَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي: هُوَ الَّذِي يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنَ الخَصمَينِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ: مَن لَا يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنهُمَا. وَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي مَن يَطلُبُ أَمرًا خَفِيًّا عَلَى خِلَافِ الأَصلِ أَوِ الظَّاهِرِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ بِخِلَافِهِ] اهـ.

وأما حكم المسألة؛ فالأصل في مسألة توجيه التهمة للغير أن القاعدة السابقة تنطبق عليها؛ لعمومها لكن ينبغي التنبه إلى أن المثال الذي ذكره السائل في سؤاله -وهو السرقة- ينقسم في حقيقته إلى قسمين: قسم يتعلق بحق الله تعالى وهو حد السرقة، وقسم يتعلق بحدود العباد وهو استرداد المال المسروق.

فأما حق الله وهو الحد فلا يتأتى فيه اليمين، وأما حق العباد فيتأتى فيه اليمين، فمن اتَّهَمَ آخَرَ بسرقة مال فعليه البينة، فإن لم يأت ببينة فعلى المدعى عليه -المتهم- اليمين، فإن حلف فقد أدى ما عليه ويخلى سبيله، وإن نَكَلَ ولم يحلف فعليه رد المال، لكن لا يقام عليه الحد؛ لأن اليمين إنما كانت من أجل حق العباد لا من أجل الحدود.

والدليل على إخراج الحدود من مسألة الحلف أن ترك الحلف في حقيقته لو اعتبرناه إقرارًا، فهو إقرار فيه شبهة، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، كما أنه لو أقر على نفسه بالحد ثم رجع قبل ذلك الرجوع منه ولم يحد، فترك تحليفه مع عدم الإقرار أولى، ولأن الشرع يدعو إلى ستر الإنسان لنفسه، والتحليف يناقض ذلك.

وبنحو ما ذكرنا قال أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (16/ 117، ط. دار المعرفة): [لَا يُستَحلَفُ فِي الحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي الحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالإِقرَارِ بَعدَ الرُّجُوعِ فَكَيفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي حَدِّ القَذفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الغَيرِ، كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَاب القَاضِي إلَى القَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُستَحلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقضِيَ عِندَ النُّكُولِ بِالمَالِ دُونَ القَطعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ المُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخذَ المَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُستَحلَفُ الخَصمُ فِي الأَخذِ، وَعِندَ نُكُولِهِ يَقضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَو أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثبُتُ بِهَا الأَخذُ المُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ المُوجِبَةِ لِلقَطعِ. فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ] اهـ.

وقال العلامة ابن عبد البر في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 923، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا تجوز اليمين في شيء من الحدود إلا في القسامة وأيمان اللعان] اهـ.

وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (13/ 336، ط. دار الكتب العلمية): [وأما البينة الخاصة الموجبة للغرم دون القطع فهي شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة توجب المال ولا توجب الحد، وفي السرقة مال وحد، فإن ثبت بينة الحدود جمع بين الغرم والقطع، وإن قام بينة الأموال وجب الغرم دون القطع، ولا يلزم في هذه الشهادة ذكر الحرز وصفة السرقة؛ لأنهما شرطان في القطع دون الغرم، وإنْ عَدِمَ المدعي البينةَ فلم يُقِمْهَا على حد ولا مال أُحْلِفَ السارق على إنكاره وسقط عنه إذا حلف الغرم والقطع، فإن نكل عن اليمين ردت على المدعي، فإذا حلف حكم له بالغرم، فأما القطع فلا يجب لأنه من حدود الله تعالى المحضة التي لا تدخلها الأيمان في إثبات ولا إنكار فصارت اليمين فيه مقصورة على الغرم دون القطع] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (10/ 213-214، ط. مكتبة القاهرة): [حُقُوقُ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ نَوعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الحُدُودُ، فَلَا تُشرَعُ فِيهَا يَمِينٌ. لَا نَعلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَو أَقَرَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَن إقرَارِهِ، قُبِلَ مِنهُ، وَخُلِّيَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، فَلَأَن لَا يَستَحلِفَ مَعَ عَدَمِ الإِقرَارِ أَولَى، وَلِأَنَّهُ يُستَحَبُّ سَترُهُ، وَالتَّعرِيضُ لِلمُقِرِّ بِهِ، بِالرُّجُوعِ عَن إقرَارِهِ، وَلِلشُّهُودِ بِتَركِ الشَّهَادَةِ وَالسّترِ عَلَيهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لِهَزَّالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «يَا هَزَّالُ، لَو سَتَرته بِثَوبِك لَكَانَ خَيرًا لَك». فَلَا تُشرَعُ فِيهِ يَمِينٌ بِحَالٍ.

النَّوعُ الثَّانِي: الحُقُوقُ المَالِيَّةُ، كَدَعوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ المَالِ، وَأَنَّ الحَولَ قَد تَمَّ وَكَمُلَ النِّصَابُ، فَقَالَ أَحمَدُ: القَولُ قَولُ رَبِّ المَالِ، مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا يُستَحلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِم. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُستَحلِفُ؛ لِأَنَّهَا دَعوَى مَسمُوعَةٌ، أَشبَهَ حَقَّ الآدَمِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ للهِ تَعَالَى، أَشبَهَ الحَدَّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، فَلَا يُستَحلفُ عَلَيهَا كَالصَّلَاةِ. وَلَو ادَّعَى عَلَيهِ، أَنَّ عَلَيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَو ظِهَارٍ، أَو نَذْر صَدَقَةٍ أَو غَيرهَا، فَالقَولُ قَولُهُ فِي نَفيِ ذَلِكَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا تُسمَعُ الدَّعوَى فِي هَذَا، وَلَا فِي حَدٍّ للهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلمُدَّعِي فِيهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ، فَلَا تُسمَعُ مِنهُ دَعوَاهُ حَقًّا لِغَيرِهِ مِن غَيرِ إذنِهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ. فَإِن تَضَمَّنَت دَعوَاهُ حَقًّا لَهُ، مِثلُ أَن يَدَّعِيَ سَرِقَةَ مَالِهِ، لِيُضَمِّنَ السَّارِقَ، أَو يَأخُذَ مِنهُ مَا سَرَقَهُ، أَو يَدَّعِيَ عَلَيهِ الزِّنَا بِجَارِيَتِهِ؛ لِيَأخُذَ مَهرَهَا مِنهُ، سُمِعَت دَعوَاهُ، وَيَستَحلِفُ المُدَّعَى عَلَيهِ لِحَقِّ الآدَمِيِّ، دُونَ حَقِّ اللهِ تَعَالَى] اهـ.

وبناءً على ما سبق: يتضح أن قاعدة "اليمين على من أنكر" يعمل بها في دعاوى التهمة -كالسرقة-، لكن في حدود حقوق العباد، أما في جانب الحدود والعقوبات المقدرة حقًّا لله تعالى فلا يجري فيها العمل بتلك القاعدة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

معلوم في باب القضاء أن البينة على المدعي وأن اليمين على من أنكر، وهذه قاعدة عامة لها استثناءات، فهل اتهام شخصٍ بتهمةٍ -كسرقةٍ- تنطبق عليها هذه القاعدة؟

وهذه القاعدة هي في أصلها حديثٌ شريفٌ رواه البيهقي وغيره بهذا اللفظ، وبعضه في "الصحيحين"، ولفظ رواية مسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن المدعي يدعي أمرًا خفيًّا، فيحتاج إلى إظهار، وللبينة قوة إظهار؛ لأنها كلام مَن ليس بخصم، وهم الشهود، فجعلت حجة للمدعي.

واليمين التي يذكرها المدعَى عليه، وإن كانت مؤكدة بذكر اسم الله تعالى، لكنها كلام الخصم، فلا تصلح حجة مُظهِرة للحق، وإنما صلحت لأن تكون حجة للمدَّعَى عليه؛ لأنه متمسك بالظاهر والأصل، وهو براءة الذمة، فحاجته إلى استمرار حكم الظاهر. واليمين وإن كانت كلامًا فهي كافية للاستصحاب؛ فكان جعل البينة حجة المدعي، وجعل اليمين حجة المدعى عليه، وضع الشيء في موضعه، وهو غاية الحكمة.

قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 399، ط. دار الكتب العلمية): [وَالمَعنَى فِيهِ أَنَّ جَانِبَ المُدَّعِي ضَعِيفٌ لِدَعوَاهُ خِلافَ الأَصلِ فَكُلِّفَ الحُجَّةَ القَوِيَّةَ، وَجَانِبُ المُنكِرِ قَوِيٌّ فَاكتُفِيَ مِنهُ بِالحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَت البَيِّنَةُ قَوِيَّةً وَاليَمِينُ ضَعِيفَةً لأَنَّ الحَالِفَ مُتَّهَمٌ فِي يَمِينِهِ بِالكَذِبِ؛ لأَنَّهُ يَدفَعُ بِهَا عَن نَفسِهِ بِخِلافِ الشَّاهِدِ] اهـ.

وقال الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (13/ 248، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَقيل: الحِكمَة فِي كَون البَيِّنَة على المُدَّعِي لِأَن جَانِبه ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقُول خلاف الظَّاهِر فيتقوى بهَا، وجانب المُدَّعى عَلَيهِ قوي، لِأَن الأَصل فرَاغ ذمَّته، فَاكتُفِيَ مِنهُ بِاليَمِينِ لِأَنَّهَا حجَّة ضَعِيفَة]. اهـ.

وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص: 230، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَدِ اختَلَفَ الفُقَهَاءُ مِن أَصحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَفسِيرِ المُدَّعِي وَالمُدَّعَى عَلَيهِ. فَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي: هُوَ الَّذِي يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنَ الخَصمَينِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ: مَن لَا يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنهُمَا. وَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي مَن يَطلُبُ أَمرًا خَفِيًّا عَلَى خِلَافِ الأَصلِ أَوِ الظَّاهِرِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ بِخِلَافِهِ] اهـ.

وأما حكم المسألة؛ فالأصل في مسألة توجيه التهمة للغير أن القاعدة السابقة تنطبق عليها؛ لعمومها لكن ينبغي التنبه إلى أن المثال الذي ذكره السائل في سؤاله -وهو السرقة- ينقسم في حقيقته إلى قسمين: قسم يتعلق بحق الله تعالى وهو حد السرقة، وقسم يتعلق بحدود العباد وهو استرداد المال المسروق.

فأما حق الله وهو الحد فلا يتأتى فيه اليمين، وأما حق العباد فيتأتى فيه اليمين، فمن اتَّهَمَ آخَرَ بسرقة مال فعليه البينة، فإن لم يأت ببينة فعلى المدعى عليه -المتهم- اليمين، فإن حلف فقد أدى ما عليه ويخلى سبيله، وإن نَكَلَ ولم يحلف فعليه رد المال، لكن لا يقام عليه الحد؛ لأن اليمين إنما كانت من أجل حق العباد لا من أجل الحدود.

والدليل على إخراج الحدود من مسألة الحلف أن ترك الحلف في حقيقته لو اعتبرناه إقرارًا، فهو إقرار فيه شبهة، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، كما أنه لو أقر على نفسه بالحد ثم رجع قبل ذلك الرجوع منه ولم يحد، فترك تحليفه مع عدم الإقرار أولى، ولأن الشرع يدعو إلى ستر الإنسان لنفسه، والتحليف يناقض ذلك.

وبنحو ما ذكرنا قال أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (16/ 117، ط. دار المعرفة): [لَا يُستَحلَفُ فِي الحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي الحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالإِقرَارِ بَعدَ الرُّجُوعِ فَكَيفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي حَدِّ القَذفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الغَيرِ، كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَاب القَاضِي إلَى القَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُستَحلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقضِيَ عِندَ النُّكُولِ بِالمَالِ دُونَ القَطعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ المُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخذَ المَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُستَحلَفُ الخَصمُ فِي الأَخذِ، وَعِندَ نُكُولِهِ يَقضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَو أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثبُتُ بِهَا الأَخذُ المُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ المُوجِبَةِ لِلقَطعِ. فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ] اهـ.

وقال العلامة ابن عبد البر في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 923، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا تجوز اليمين في شيء من الحدود إلا في القسامة وأيمان اللعان] اهـ.

وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (13/ 336، ط. دار الكتب العلمية): [وأما البينة الخاصة الموجبة للغرم دون القطع فهي شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة توجب المال ولا توجب الحد، وفي السرقة مال وحد، فإن ثبت بينة الحدود جمع بين الغرم والقطع، وإن قام بينة الأموال وجب الغرم دون القطع، ولا يلزم في هذه الشهادة ذكر الحرز وصفة السرقة؛ لأنهما شرطان في القطع دون الغرم، وإنْ عَدِمَ المدعي البينةَ فلم يُقِمْهَا على حد ولا مال أُحْلِفَ السارق على إنكاره وسقط عنه إذا حلف الغرم والقطع، فإن نكل عن اليمين ردت على المدعي، فإذا حلف حكم له بالغرم، فأما القطع فلا يجب لأنه من حدود الله تعالى المحضة التي لا تدخلها الأيمان في إثبات ولا إنكار فصارت اليمين فيه مقصورة على الغرم دون القطع] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (10/ 213-214، ط. مكتبة القاهرة): [حُقُوقُ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ نَوعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الحُدُودُ، فَلَا تُشرَعُ فِيهَا يَمِينٌ. لَا نَعلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَو أَقَرَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَن إقرَارِهِ، قُبِلَ مِنهُ، وَخُلِّيَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، فَلَأَن لَا يَستَحلِفَ مَعَ عَدَمِ الإِقرَارِ أَولَى، وَلِأَنَّهُ يُستَحَبُّ سَترُهُ، وَالتَّعرِيضُ لِلمُقِرِّ بِهِ، بِالرُّجُوعِ عَن إقرَارِهِ، وَلِلشُّهُودِ بِتَركِ الشَّهَادَةِ وَالسّترِ عَلَيهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لِهَزَّالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «يَا هَزَّالُ، لَو سَتَرته بِثَوبِك لَكَانَ خَيرًا لَك». فَلَا تُشرَعُ فِيهِ يَمِينٌ بِحَالٍ.

النَّوعُ الثَّانِي: الحُقُوقُ المَالِيَّةُ، كَدَعوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ المَالِ، وَأَنَّ الحَولَ قَد تَمَّ وَكَمُلَ النِّصَابُ، فَقَالَ أَحمَدُ: القَولُ قَولُ رَبِّ المَالِ، مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا يُستَحلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِم. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُستَحلِفُ؛ لِأَنَّهَا دَعوَى مَسمُوعَةٌ، أَشبَهَ حَقَّ الآدَمِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ للهِ تَعَالَى، أَشبَهَ الحَدَّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، فَلَا يُستَحلفُ عَلَيهَا كَالصَّلَاةِ. وَلَو ادَّعَى عَلَيهِ، أَنَّ عَلَيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَو ظِهَارٍ، أَو نَذْر صَدَقَةٍ أَو غَيرهَا، فَالقَولُ قَولُهُ فِي نَفيِ ذَلِكَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا تُسمَعُ الدَّعوَى فِي هَذَا، وَلَا فِي حَدٍّ للهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلمُدَّعِي فِيهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ، فَلَا تُسمَعُ مِنهُ دَعوَاهُ حَقًّا لِغَيرِهِ مِن غَيرِ إذنِهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ. فَإِن تَضَمَّنَت دَعوَاهُ حَقًّا لَهُ، مِثلُ أَن يَدَّعِيَ سَرِقَةَ مَالِهِ، لِيُضَمِّنَ السَّارِقَ، أَو يَأخُذَ مِنهُ مَا سَرَقَهُ، أَو يَدَّعِيَ عَلَيهِ الزِّنَا بِجَارِيَتِهِ؛ لِيَأخُذَ مَهرَهَا مِنهُ، سُمِعَت دَعوَاهُ، وَيَستَحلِفُ المُدَّعَى عَلَيهِ لِحَقِّ الآدَمِيِّ، دُونَ حَقِّ اللهِ تَعَالَى] اهـ.

وبناءً على ما سبق: يتضح أن قاعدة "اليمين على من أنكر" يعمل بها في دعاوى التهمة -كالسرقة-، لكن في حدود حقوق العباد، أما في جانب الحدود والعقوبات المقدرة حقًّا لله تعالى فلا يجري فيها العمل بتلك القاعدة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

العمل بقاعدة اليمين على من أنكر في دعاوى التهمة

هل في دعاوى التهمة -كالسرقة مثلًا- يعمل بقاعدة اليمين على من أنكر؟

معلوم في باب القضاء أن البينة على المدعي وأن اليمين على من أنكر، وهذه قاعدة عامة لها استثناءات، فهل اتهام شخصٍ بتهمةٍ -كسرقةٍ- تنطبق عليها هذه القاعدة؟

وهذه القاعدة هي في أصلها حديثٌ شريفٌ رواه البيهقي وغيره بهذا اللفظ، وبعضه في "الصحيحين"، ولفظ رواية مسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن المدعي يدعي أمرًا خفيًّا، فيحتاج إلى إظهار، وللبينة قوة إظهار؛ لأنها كلام مَن ليس بخصم، وهم الشهود، فجعلت حجة للمدعي.

واليمين التي يذكرها المدعَى عليه، وإن كانت مؤكدة بذكر اسم الله تعالى، لكنها كلام الخصم، فلا تصلح حجة مُظهِرة للحق، وإنما صلحت لأن تكون حجة للمدَّعَى عليه؛ لأنه متمسك بالظاهر والأصل، وهو براءة الذمة، فحاجته إلى استمرار حكم الظاهر. واليمين وإن كانت كلامًا فهي كافية للاستصحاب؛ فكان جعل البينة حجة المدعي، وجعل اليمين حجة المدعى عليه، وضع الشيء في موضعه، وهو غاية الحكمة.

قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 399، ط. دار الكتب العلمية): [وَالمَعنَى فِيهِ أَنَّ جَانِبَ المُدَّعِي ضَعِيفٌ لِدَعوَاهُ خِلافَ الأَصلِ فَكُلِّفَ الحُجَّةَ القَوِيَّةَ، وَجَانِبُ المُنكِرِ قَوِيٌّ فَاكتُفِيَ مِنهُ بِالحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَت البَيِّنَةُ قَوِيَّةً وَاليَمِينُ ضَعِيفَةً لأَنَّ الحَالِفَ مُتَّهَمٌ فِي يَمِينِهِ بِالكَذِبِ؛ لأَنَّهُ يَدفَعُ بِهَا عَن نَفسِهِ بِخِلافِ الشَّاهِدِ] اهـ.

وقال الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (13/ 248، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَقيل: الحِكمَة فِي كَون البَيِّنَة على المُدَّعِي لِأَن جَانِبه ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقُول خلاف الظَّاهِر فيتقوى بهَا، وجانب المُدَّعى عَلَيهِ قوي، لِأَن الأَصل فرَاغ ذمَّته، فَاكتُفِيَ مِنهُ بِاليَمِينِ لِأَنَّهَا حجَّة ضَعِيفَة]. اهـ.

وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص: 230، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَدِ اختَلَفَ الفُقَهَاءُ مِن أَصحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَفسِيرِ المُدَّعِي وَالمُدَّعَى عَلَيهِ. فَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي: هُوَ الَّذِي يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنَ الخَصمَينِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ: مَن لَا يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنهُمَا. وَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي مَن يَطلُبُ أَمرًا خَفِيًّا عَلَى خِلَافِ الأَصلِ أَوِ الظَّاهِرِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ بِخِلَافِهِ] اهـ.

وأما حكم المسألة؛ فالأصل في مسألة توجيه التهمة للغير أن القاعدة السابقة تنطبق عليها؛ لعمومها لكن ينبغي التنبه إلى أن المثال الذي ذكره السائل في سؤاله -وهو السرقة- ينقسم في حقيقته إلى قسمين: قسم يتعلق بحق الله تعالى وهو حد السرقة، وقسم يتعلق بحدود العباد وهو استرداد المال المسروق.

فأما حق الله وهو الحد فلا يتأتى فيه اليمين، وأما حق العباد فيتأتى فيه اليمين، فمن اتَّهَمَ آخَرَ بسرقة مال فعليه البينة، فإن لم يأت ببينة فعلى المدعى عليه -المتهم- اليمين، فإن حلف فقد أدى ما عليه ويخلى سبيله، وإن نَكَلَ ولم يحلف فعليه رد المال، لكن لا يقام عليه الحد؛ لأن اليمين إنما كانت من أجل حق العباد لا من أجل الحدود.

والدليل على إخراج الحدود من مسألة الحلف أن ترك الحلف في حقيقته لو اعتبرناه إقرارًا، فهو إقرار فيه شبهة، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، كما أنه لو أقر على نفسه بالحد ثم رجع قبل ذلك الرجوع منه ولم يحد، فترك تحليفه مع عدم الإقرار أولى، ولأن الشرع يدعو إلى ستر الإنسان لنفسه، والتحليف يناقض ذلك.

وبنحو ما ذكرنا قال أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (16/ 117، ط. دار المعرفة): [لَا يُستَحلَفُ فِي الحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي الحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالإِقرَارِ بَعدَ الرُّجُوعِ فَكَيفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي حَدِّ القَذفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الغَيرِ، كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَاب القَاضِي إلَى القَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُستَحلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقضِيَ عِندَ النُّكُولِ بِالمَالِ دُونَ القَطعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ المُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخذَ المَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُستَحلَفُ الخَصمُ فِي الأَخذِ، وَعِندَ نُكُولِهِ يَقضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَو أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثبُتُ بِهَا الأَخذُ المُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ المُوجِبَةِ لِلقَطعِ. فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ] اهـ.

وقال العلامة ابن عبد البر في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 923، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا تجوز اليمين في شيء من الحدود إلا في القسامة وأيمان اللعان] اهـ.

وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (13/ 336، ط. دار الكتب العلمية): [وأما البينة الخاصة الموجبة للغرم دون القطع فهي شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة توجب المال ولا توجب الحد، وفي السرقة مال وحد، فإن ثبت بينة الحدود جمع بين الغرم والقطع، وإن قام بينة الأموال وجب الغرم دون القطع، ولا يلزم في هذه الشهادة ذكر الحرز وصفة السرقة؛ لأنهما شرطان في القطع دون الغرم، وإنْ عَدِمَ المدعي البينةَ فلم يُقِمْهَا على حد ولا مال أُحْلِفَ السارق على إنكاره وسقط عنه إذا حلف الغرم والقطع، فإن نكل عن اليمين ردت على المدعي، فإذا حلف حكم له بالغرم، فأما القطع فلا يجب لأنه من حدود الله تعالى المحضة التي لا تدخلها الأيمان في إثبات ولا إنكار فصارت اليمين فيه مقصورة على الغرم دون القطع] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (10/ 213-214، ط. مكتبة القاهرة): [حُقُوقُ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ نَوعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الحُدُودُ، فَلَا تُشرَعُ فِيهَا يَمِينٌ. لَا نَعلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَو أَقَرَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَن إقرَارِهِ، قُبِلَ مِنهُ، وَخُلِّيَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، فَلَأَن لَا يَستَحلِفَ مَعَ عَدَمِ الإِقرَارِ أَولَى، وَلِأَنَّهُ يُستَحَبُّ سَترُهُ، وَالتَّعرِيضُ لِلمُقِرِّ بِهِ، بِالرُّجُوعِ عَن إقرَارِهِ، وَلِلشُّهُودِ بِتَركِ الشَّهَادَةِ وَالسّترِ عَلَيهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لِهَزَّالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «يَا هَزَّالُ، لَو سَتَرته بِثَوبِك لَكَانَ خَيرًا لَك». فَلَا تُشرَعُ فِيهِ يَمِينٌ بِحَالٍ.

النَّوعُ الثَّانِي: الحُقُوقُ المَالِيَّةُ، كَدَعوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ المَالِ، وَأَنَّ الحَولَ قَد تَمَّ وَكَمُلَ النِّصَابُ، فَقَالَ أَحمَدُ: القَولُ قَولُ رَبِّ المَالِ، مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا يُستَحلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِم. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُستَحلِفُ؛ لِأَنَّهَا دَعوَى مَسمُوعَةٌ، أَشبَهَ حَقَّ الآدَمِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ للهِ تَعَالَى، أَشبَهَ الحَدَّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، فَلَا يُستَحلفُ عَلَيهَا كَالصَّلَاةِ. وَلَو ادَّعَى عَلَيهِ، أَنَّ عَلَيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَو ظِهَارٍ، أَو نَذْر صَدَقَةٍ أَو غَيرهَا، فَالقَولُ قَولُهُ فِي نَفيِ ذَلِكَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا تُسمَعُ الدَّعوَى فِي هَذَا، وَلَا فِي حَدٍّ للهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلمُدَّعِي فِيهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ، فَلَا تُسمَعُ مِنهُ دَعوَاهُ حَقًّا لِغَيرِهِ مِن غَيرِ إذنِهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ. فَإِن تَضَمَّنَت دَعوَاهُ حَقًّا لَهُ، مِثلُ أَن يَدَّعِيَ سَرِقَةَ مَالِهِ، لِيُضَمِّنَ السَّارِقَ، أَو يَأخُذَ مِنهُ مَا سَرَقَهُ، أَو يَدَّعِيَ عَلَيهِ الزِّنَا بِجَارِيَتِهِ؛ لِيَأخُذَ مَهرَهَا مِنهُ، سُمِعَت دَعوَاهُ، وَيَستَحلِفُ المُدَّعَى عَلَيهِ لِحَقِّ الآدَمِيِّ، دُونَ حَقِّ اللهِ تَعَالَى] اهـ.

وبناءً على ما سبق: يتضح أن قاعدة "اليمين على من أنكر" يعمل بها في دعاوى التهمة -كالسرقة-، لكن في حدود حقوق العباد، أما في جانب الحدود والعقوبات المقدرة حقًّا لله تعالى فلا يجري فيها العمل بتلك القاعدة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

معلوم في باب القضاء أن البينة على المدعي وأن اليمين على من أنكر، وهذه قاعدة عامة لها استثناءات، فهل اتهام شخصٍ بتهمةٍ -كسرقةٍ- تنطبق عليها هذه القاعدة؟

وهذه القاعدة هي في أصلها حديثٌ شريفٌ رواه البيهقي وغيره بهذا اللفظ، وبعضه في "الصحيحين"، ولفظ رواية مسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».

وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن المدعي يدعي أمرًا خفيًّا، فيحتاج إلى إظهار، وللبينة قوة إظهار؛ لأنها كلام مَن ليس بخصم، وهم الشهود، فجعلت حجة للمدعي.

واليمين التي يذكرها المدعَى عليه، وإن كانت مؤكدة بذكر اسم الله تعالى، لكنها كلام الخصم، فلا تصلح حجة مُظهِرة للحق، وإنما صلحت لأن تكون حجة للمدَّعَى عليه؛ لأنه متمسك بالظاهر والأصل، وهو براءة الذمة، فحاجته إلى استمرار حكم الظاهر. واليمين وإن كانت كلامًا فهي كافية للاستصحاب؛ فكان جعل البينة حجة المدعي، وجعل اليمين حجة المدعى عليه، وضع الشيء في موضعه، وهو غاية الحكمة.

قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 399، ط. دار الكتب العلمية): [وَالمَعنَى فِيهِ أَنَّ جَانِبَ المُدَّعِي ضَعِيفٌ لِدَعوَاهُ خِلافَ الأَصلِ فَكُلِّفَ الحُجَّةَ القَوِيَّةَ، وَجَانِبُ المُنكِرِ قَوِيٌّ فَاكتُفِيَ مِنهُ بِالحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَت البَيِّنَةُ قَوِيَّةً وَاليَمِينُ ضَعِيفَةً لأَنَّ الحَالِفَ مُتَّهَمٌ فِي يَمِينِهِ بِالكَذِبِ؛ لأَنَّهُ يَدفَعُ بِهَا عَن نَفسِهِ بِخِلافِ الشَّاهِدِ] اهـ.

وقال الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (13/ 248، ط. دار إحياء التراث العربي): [وَقيل: الحِكمَة فِي كَون البَيِّنَة على المُدَّعِي لِأَن جَانِبه ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقُول خلاف الظَّاهِر فيتقوى بهَا، وجانب المُدَّعى عَلَيهِ قوي، لِأَن الأَصل فرَاغ ذمَّته، فَاكتُفِيَ مِنهُ بِاليَمِينِ لِأَنَّهَا حجَّة ضَعِيفَة]. اهـ.

وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص: 230، ط. مؤسسة الرسالة): [وَقَدِ اختَلَفَ الفُقَهَاءُ مِن أَصحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَفسِيرِ المُدَّعِي وَالمُدَّعَى عَلَيهِ. فَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي: هُوَ الَّذِي يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنَ الخَصمَينِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ: مَن لَا يُخلى وَسُكُوتَهُ مِنهُمَا. وَمِنهُم مَن قَالَ: المُدَّعِي مَن يَطلُبُ أَمرًا خَفِيًّا عَلَى خِلَافِ الأَصلِ أَوِ الظَّاهِرِ، وَالمُدَّعَى عَلَيهِ بِخِلَافِهِ] اهـ.

وأما حكم المسألة؛ فالأصل في مسألة توجيه التهمة للغير أن القاعدة السابقة تنطبق عليها؛ لعمومها لكن ينبغي التنبه إلى أن المثال الذي ذكره السائل في سؤاله -وهو السرقة- ينقسم في حقيقته إلى قسمين: قسم يتعلق بحق الله تعالى وهو حد السرقة، وقسم يتعلق بحدود العباد وهو استرداد المال المسروق.

فأما حق الله وهو الحد فلا يتأتى فيه اليمين، وأما حق العباد فيتأتى فيه اليمين، فمن اتَّهَمَ آخَرَ بسرقة مال فعليه البينة، فإن لم يأت ببينة فعلى المدعى عليه -المتهم- اليمين، فإن حلف فقد أدى ما عليه ويخلى سبيله، وإن نَكَلَ ولم يحلف فعليه رد المال، لكن لا يقام عليه الحد؛ لأن اليمين إنما كانت من أجل حق العباد لا من أجل الحدود.

والدليل على إخراج الحدود من مسألة الحلف أن ترك الحلف في حقيقته لو اعتبرناه إقرارًا، فهو إقرار فيه شبهة، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، كما أنه لو أقر على نفسه بالحد ثم رجع قبل ذلك الرجوع منه ولم يحد، فترك تحليفه مع عدم الإقرار أولى، ولأن الشرع يدعو إلى ستر الإنسان لنفسه، والتحليف يناقض ذلك.

وبنحو ما ذكرنا قال أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك:
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (16/ 117، ط. دار المعرفة): [لَا يُستَحلَفُ فِي الحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي الحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالإِقرَارِ بَعدَ الرُّجُوعِ فَكَيفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ، وَفِي حَدِّ القَذفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الإِقرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الغَيرِ، كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَاب القَاضِي إلَى القَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُستَحلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقضِيَ عِندَ النُّكُولِ بِالمَالِ دُونَ القَطعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ المُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخذَ المَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُستَحلَفُ الخَصمُ فِي الأَخذِ، وَعِندَ نُكُولِهِ يَقضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَو أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثبُتُ بِهَا الأَخذُ المُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ المُوجِبَةِ لِلقَطعِ. فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ] اهـ.

وقال العلامة ابن عبد البر في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 923، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ولا تجوز اليمين في شيء من الحدود إلا في القسامة وأيمان اللعان] اهـ.

وقال الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (13/ 336، ط. دار الكتب العلمية): [وأما البينة الخاصة الموجبة للغرم دون القطع فهي شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة توجب المال ولا توجب الحد، وفي السرقة مال وحد، فإن ثبت بينة الحدود جمع بين الغرم والقطع، وإن قام بينة الأموال وجب الغرم دون القطع، ولا يلزم في هذه الشهادة ذكر الحرز وصفة السرقة؛ لأنهما شرطان في القطع دون الغرم، وإنْ عَدِمَ المدعي البينةَ فلم يُقِمْهَا على حد ولا مال أُحْلِفَ السارق على إنكاره وسقط عنه إذا حلف الغرم والقطع، فإن نكل عن اليمين ردت على المدعي، فإذا حلف حكم له بالغرم، فأما القطع فلا يجب لأنه من حدود الله تعالى المحضة التي لا تدخلها الأيمان في إثبات ولا إنكار فصارت اليمين فيه مقصورة على الغرم دون القطع] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (10/ 213-214، ط. مكتبة القاهرة): [حُقُوقُ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ نَوعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الحُدُودُ، فَلَا تُشرَعُ فِيهَا يَمِينٌ. لَا نَعلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ لَو أَقَرَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَن إقرَارِهِ، قُبِلَ مِنهُ، وَخُلِّيَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، فَلَأَن لَا يَستَحلِفَ مَعَ عَدَمِ الإِقرَارِ أَولَى، وَلِأَنَّهُ يُستَحَبُّ سَترُهُ، وَالتَّعرِيضُ لِلمُقِرِّ بِهِ، بِالرُّجُوعِ عَن إقرَارِهِ، وَلِلشُّهُودِ بِتَركِ الشَّهَادَةِ وَالسّترِ عَلَيهِ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لِهَزَّالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ: «يَا هَزَّالُ، لَو سَتَرته بِثَوبِك لَكَانَ خَيرًا لَك». فَلَا تُشرَعُ فِيهِ يَمِينٌ بِحَالٍ.

النَّوعُ الثَّانِي: الحُقُوقُ المَالِيَّةُ، كَدَعوَى السَّاعِي الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ المَالِ، وَأَنَّ الحَولَ قَد تَمَّ وَكَمُلَ النِّصَابُ، فَقَالَ أَحمَدُ: القَولُ قَولُ رَبِّ المَالِ، مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا يُستَحلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِم. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُستَحلِفُ؛ لِأَنَّهَا دَعوَى مَسمُوعَةٌ، أَشبَهَ حَقَّ الآدَمِيِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ للهِ تَعَالَى، أَشبَهَ الحَدَّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، فَلَا يُستَحلفُ عَلَيهَا كَالصَّلَاةِ. وَلَو ادَّعَى عَلَيهِ، أَنَّ عَلَيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَو ظِهَارٍ، أَو نَذْر صَدَقَةٍ أَو غَيرهَا، فَالقَولُ قَولُهُ فِي نَفيِ ذَلِكَ مِن غَيرِ يَمِينٍ، وَلَا تُسمَعُ الدَّعوَى فِي هَذَا، وَلَا فِي حَدٍّ للهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلمُدَّعِي فِيهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ، فَلَا تُسمَعُ مِنهُ دَعوَاهُ حَقًّا لِغَيرِهِ مِن غَيرِ إذنِهِ، وَلَا ولَايَةَ لَهُ عَلَيهِ. فَإِن تَضَمَّنَت دَعوَاهُ حَقًّا لَهُ، مِثلُ أَن يَدَّعِيَ سَرِقَةَ مَالِهِ، لِيُضَمِّنَ السَّارِقَ، أَو يَأخُذَ مِنهُ مَا سَرَقَهُ، أَو يَدَّعِيَ عَلَيهِ الزِّنَا بِجَارِيَتِهِ؛ لِيَأخُذَ مَهرَهَا مِنهُ، سُمِعَت دَعوَاهُ، وَيَستَحلِفُ المُدَّعَى عَلَيهِ لِحَقِّ الآدَمِيِّ، دُونَ حَقِّ اللهِ تَعَالَى] اهـ.

وبناءً على ما سبق: يتضح أن قاعدة "اليمين على من أنكر" يعمل بها في دعاوى التهمة -كالسرقة-، لكن في حدود حقوق العباد، أما في جانب الحدود والعقوبات المقدرة حقًّا لله تعالى فلا يجري فيها العمل بتلك القاعدة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;