حكم تنظيم الإنجاب

تزوجت منذ أربع سنوات وظروفي المالية ليست جيدة، وقد رُزقت بطفلين أحاول بذل قصارى جهدي لأحسِّن تربيتهما وأوفِّر لهما الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة، وقد اتفقت مع زوجتي على تأخير الإنجاب مؤقتًا إلى أن تتحسن ظروفنا ونستطيع القيام بمسئوليتنا تجاه الأبناء على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فهل علينا في هذا ذنب، رغم أننا لا نريد إلا مصلحة أبنائنا واجتناب كل ما يمكن أن يتسبب عنه التقصير في حقوقهم؟ هل القصد لتأخير الإنجاب وتنظيمه -من حيث المبدأ وبغضِّ النظر عن الوسيلة- يعتبر تدخلًا غير جائز في المشيئة الإلهية والقضاء والقدر؟ أفتونا في ذلك مأجورين إن شاء الله.

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد فإن الأولاد هبة من هبات الله سبحانه وتعالى لعباده، وهم من زينة الحياة الدنيا كما قال عز وجل في كتابه الكريم: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، وكما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البيهقي في "سننه" والحاكم في "المستدرك": «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةُ اللهِ لَكُمْ، ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: 49]، فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا».

وقد دعا غير واحد من الأنبياء عليهم السلام أن يهبهم الله الذرية الصالحة، فقال أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]، وقال سيدنا زكريا عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38]، ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ • فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ [الأنبياء: 89-90].

وكما أن الأولاد هبة مهداة إلى الإنسان فهم أيضًا أمانة وفتنة واختبار ومسئولية معلقة في عنقه لا بد من أن يرعاها حق رعايتها كما في فتنة الأموال، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالعمل على إصلاح النفس والأهل والنأي بهم بعيدًا عن الهلاك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» رواه أبو داود والنسائي في "السنن الكبرى" واللفظ له.

والإضاعة كما تكون بعدم الإنفاق المادي تكون أيضًا بالإهمال في التربية الخلقية والدينية والاجتماعية، فالواجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم دينيًّا، وجسميًّا، وعلميًّا، وخُلُقيًّا، ويوفروا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية.

وما لم يغلب على ظن الإنسان أن لديه القدرة على تحمل مسئولية الأولاد، فإنه ما لم ينظم عملية الإنجاب عرض نفسه لتكلف ما يفوق وُسْعَه من واجبات، بل تعرض بذلك للوقوع في إثم الإخلال بحقوق من سيعولهم من الأبناء، بما يعود عليه وعلى زوجته وأولاده بالمشقة والضرر، والله تعالى لا يرضى أن يُضارَّ والد ولا والدة بسبب ولدها؛ قال الله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، وهذا وإن كان خبرًا في الظاهر لكن المراد منه النهي. انظر: "تفسير الإمام الرازي" (6 /462، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت).

وهذا النهي يشمل كل المضار سواء كانت مضارًّا في الدنيا بتكلف الإنسان ما لا يطيقه ويجعله تعيسًا في حياته، أو في الآخرة بتحمل الإنسان مسئولية يعلم من نفسه أنه سيعجز عنها وسيحاسب على إضاعتها حسابًا شديدًا في الآخرة، ولهذا قال نبي الله نوح عليه السلام في شكواه قومه إلى ربه عز وجل: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]، ففي هذا دلالة على أن الذرية لا بدَّ معها من الصلاح والإصلاح، وإلا فالقلة الطيبة خير من الكثرة الفاسدة المستتبعة للخسار.

والإسلام لم يفرض على كل مسلم أن ينجب عددًا معينًا من الأبناء، لكن حث عموم المسلمين على النكاح والتكاثر، وذلك لمن كان منهم مستطيعًا، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» رواه أبو داود والنسائي.

أما غير المستطيع بسبب ظروفه المالية فقد أمره الشرع بالصبر والاستعفاف: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33]، وأرشده إلى عبادة الصوم وِجاءً له من وساوس الشيطان وتغلب الشهوات؛ كما ورد في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

فمن لم يستطع القيام بأعباء ومسئوليات الزواج لزمه الصبر حتى تتهيأ له الظروف، وكذلك من غلب على ظنه عدم القدرة على القيام بواجبات الأبوة، فإنه لا بأس عليه في أن يلتمس الوسائل المشروعة لتأخير الإنجاب مؤقتًا "تنظيم الأسرة" إذا اتفق على ذلك الزوجان وارتضياه لمصلحة الأسرة ودفع المشاق والأضرار عنها إلى أن تتحسن ظروف الأسرة ومستواها المعيشي؛ كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، والولد إنما يكون هدية وهبة تقر بها عين والديه إذا عاش سعيدًا في حياته، معافًى في بدنه، مستقيمًا في سلوكه، ناضجًا في تفكيره، بصيرًا بشئون دنياه ودينه، أما لو عاش تعيسًا منحرفًا سقيمًا؛ فإنه يكون مبعث ألم وتعب لوالديه وأسرته وأمَّته. انظر: "تنظيم الأسرة في الإسلام" الإدارة العامة لبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف (ص: 5).

والمقصود بتنظيم الأسرة: هو أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما؛ لتقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم. انظر: "كلمة عن تنظيم الأسرة ورأي الدين فيه" لمفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر سابقا فضيلة الدكتور/ محمد سيد طنطاوي (ص: 9-10، ط. وزارة الإعلام).

وقد كانت وسائل تنظيم النسل معروفة في العصور القديمة، ولكنها تكاد أن تنحصر في طريقة (العزل) والذي هو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها أثناء الجماع؛ لمنع التقاء مني الزوج ببويضة الزوجة. انظر: "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (3/ 175، ط. دار الكتب العلمية)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 166، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب)، و"كشاف القناع" للبهوتي الحنبلي (5/ 189، ط. دار الكتب العلمية).

ولا يخرج هذا المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ إذ إن العزل في اللغة: هو التنحية. يقال: عزله عن العمل أي: نحاه عنه، ويقال: عزل عن المرأة واعتزلها: لم يرد ولدها. قال الأزهري: العزل عزل الرجل الماء عن جاريته إذا جامعها لئلا تحمل. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1763، ط. دار العلم للملايين)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 441، ط. دار صادر).

وقد ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعزلون عن نسائهم وجواريهم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك بلغه ولم ينهَ عنه، فقد أخرج البخاري ومسلم واللفظ له في "صحيحيهما" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْهَنَا». فكأنه يقول: فعلنا العزل في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نقرَّ عليه. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 306، ط. دار المعرفة - بيروت).

مما يدل على أن تنظيم النسل لا تأباه نصوص الشريعة وقواعدها قياسًا على العزل الذي كان معمولًا به في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً، هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ، فَقَالَ: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ» صريح في الإذن بذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى. انظر: "فتح الباري" (9/ 306).

وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» دلالة على أنه لا تعارض بين الأخذ بالأسباب ووقوع الأقدار؛ لأنه لا قدرة لأحد على مخالفة قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقد روى أبو داود في "سننه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ».

فعلى هذا لا يعتبر العزل تدخلًا غير جائز في القدر أو هروبًا منه، وإنما هو من باب الأخذ بالأسباب العادية التي إن شاء الله تعالى خلق عندها الأثر أو لم يخلقه كما هي عقيدة أهل السنة في ارتباط الأسباب بالمسببات بطريق جريان العادة، وأن كل أثر وقع في الكون فهو مخلوق، وأنه لا خالق سوى الله عز وجل.

جاء في "المواقف" وشرحه في بيان مذهب إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه (1/ 143، ط. دار الجيل - بيروت): [ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالإحراق عقيب مماسة النار والري بعد شرب الماء فليس للمماسة والشرب مدخل في وجود الإحراق والري بل الكل واقع بقدرته واختياره تعالى فله أن يوجد المماسة بدون الإحراق وأن يوجد الإحراق بدون المماسة وكذا الحال في سائر الأفعال] اهـ.

ومذهب جمهرة أهل العلم هو جواز العزل عن الزوجة الحرة برضاها؛ لأن لها حقًّا في الاستمتاع وطلب النسل، ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه برضاه. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (4/ 143، ط. مطبعة السعادة).

فيجوز لها التنازل عن حقها في طلب النسل وتمام الاستمتاع حرصًا على تحقيق المصلحة الراجحة لها ولأسرتها.

وقد صرح الحنفية بجواز العزل عن الزوجة ولو بغير إذنها، وذلك إذا خشي الزوج على ولده السوء لفساد الزمان، وقالوا: بأن مثل هذا يعتبر من الأعذار المسقطة لإذن الزوجة، وذلك كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فخاف أن تحبل. انظر: "حاشية رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (3/ 176، ط. دار الكتب العلمية).

ويذكر حجة الإسلام الغزالي من الشافعية أن العزل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف وإن تنافى مع تمام التوكل -والذي هو من أعلى درجات الإحسان- إلا أنه ليس منهيًا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر في العواقب والأخذ بالأسباب؛ قال في "إحياء علوم الدين" (2/ 52، ط. دار المعرفة- بيروت): [النيات الباعثة على العزل خمس... الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه؛ فإن قلة الحرج معين على الدين. نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضًا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه] اهـ.

ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 308): [وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع؛ لأنه مما جرب فضر غالبًا] اهـ.

وهذا وإن كان فيه قصر الترجيح على إحدى الصور لكنه يفيد بأن علة ترجيح العزل تدور مع وقوع الضرر، أو الاحتمالية الغالبة لوقوعه إن لم يتيقن ذلك على سبيل القطع.

ولا فرق بين الإضرار بالولد المرضع أو أخيه الذي سيولد أو بأحد الوالدين؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا فرق أيضًا في هذه القضية بين الضرر وبين الحرج والمشقة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

وذكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام ما يفيد بأن العلة تدور مع المصلحة فقال بتفضيل فعل ما هو الأصلح للزوجين عند التخير بين فعل الجماع وتركه. انظر: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 146، ط. دار الكتب العلمية).

فيستحب ترك الجماع إذا كان الترك هو ما يحقق المصلحة الراجحة، وينطبق مثل هذا الحكم على العزل من باب أولى؛ لتحصيل المصلحة الراجحة معه وانقضاء الشهوة ولو بصورة غير تامة، لكن على كل حال هو أفضل من ترك الجماع بالكلية.

وذكر المالكية جواز العزل بإذن الزوجة وقالوا: بأن جعل خرقة في الرحم ونحوها لمنع وصول ماء الزوج، هو مثل العزل في حكمه. انظر: "حاشية العدوي على شرح الخرشي" (3/ 225، ط. دار الفكر)، و"منح الجليل" (3/ 360، ط. دار الفكر).

مما يشير إلى أن ما يستحدث من وسائل منع الحمل ولا يشتمل على الضرر يكون حكمه الجواز بإذن الزوجة قياسًا على العزل.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لك ولزوجتك أن تتفقا على التماس وسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة مؤقتة إلى أن تتهيأ لك ولأسرتك الظروف المناسبة لاستقبال مولود جديد يتربى في ظروف ملائمة لإخراج الذرية الطيبة التي تقر بها عين الأبوين، ويتقدم بها المجتمع، وتفخر بها أمة الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد فإن الأولاد هبة من هبات الله سبحانه وتعالى لعباده، وهم من زينة الحياة الدنيا كما قال عز وجل في كتابه الكريم: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، وكما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البيهقي في "سننه" والحاكم في "المستدرك": «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةُ اللهِ لَكُمْ، ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: 49]، فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا».

وقد دعا غير واحد من الأنبياء عليهم السلام أن يهبهم الله الذرية الصالحة، فقال أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]، وقال سيدنا زكريا عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38]، ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ • فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ [الأنبياء: 89-90].

وكما أن الأولاد هبة مهداة إلى الإنسان فهم أيضًا أمانة وفتنة واختبار ومسئولية معلقة في عنقه لا بد من أن يرعاها حق رعايتها كما في فتنة الأموال، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالعمل على إصلاح النفس والأهل والنأي بهم بعيدًا عن الهلاك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» رواه أبو داود والنسائي في "السنن الكبرى" واللفظ له.

والإضاعة كما تكون بعدم الإنفاق المادي تكون أيضًا بالإهمال في التربية الخلقية والدينية والاجتماعية، فالواجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم دينيًّا، وجسميًّا، وعلميًّا، وخُلُقيًّا، ويوفروا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية.

وما لم يغلب على ظن الإنسان أن لديه القدرة على تحمل مسئولية الأولاد، فإنه ما لم ينظم عملية الإنجاب عرض نفسه لتكلف ما يفوق وُسْعَه من واجبات، بل تعرض بذلك للوقوع في إثم الإخلال بحقوق من سيعولهم من الأبناء، بما يعود عليه وعلى زوجته وأولاده بالمشقة والضرر، والله تعالى لا يرضى أن يُضارَّ والد ولا والدة بسبب ولدها؛ قال الله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، وهذا وإن كان خبرًا في الظاهر لكن المراد منه النهي. انظر: "تفسير الإمام الرازي" (6 /462، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت).

وهذا النهي يشمل كل المضار سواء كانت مضارًّا في الدنيا بتكلف الإنسان ما لا يطيقه ويجعله تعيسًا في حياته، أو في الآخرة بتحمل الإنسان مسئولية يعلم من نفسه أنه سيعجز عنها وسيحاسب على إضاعتها حسابًا شديدًا في الآخرة، ولهذا قال نبي الله نوح عليه السلام في شكواه قومه إلى ربه عز وجل: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]، ففي هذا دلالة على أن الذرية لا بدَّ معها من الصلاح والإصلاح، وإلا فالقلة الطيبة خير من الكثرة الفاسدة المستتبعة للخسار.

والإسلام لم يفرض على كل مسلم أن ينجب عددًا معينًا من الأبناء، لكن حث عموم المسلمين على النكاح والتكاثر، وذلك لمن كان منهم مستطيعًا، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» رواه أبو داود والنسائي.

أما غير المستطيع بسبب ظروفه المالية فقد أمره الشرع بالصبر والاستعفاف: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33]، وأرشده إلى عبادة الصوم وِجاءً له من وساوس الشيطان وتغلب الشهوات؛ كما ورد في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

فمن لم يستطع القيام بأعباء ومسئوليات الزواج لزمه الصبر حتى تتهيأ له الظروف، وكذلك من غلب على ظنه عدم القدرة على القيام بواجبات الأبوة، فإنه لا بأس عليه في أن يلتمس الوسائل المشروعة لتأخير الإنجاب مؤقتًا "تنظيم الأسرة" إذا اتفق على ذلك الزوجان وارتضياه لمصلحة الأسرة ودفع المشاق والأضرار عنها إلى أن تتحسن ظروف الأسرة ومستواها المعيشي؛ كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، والولد إنما يكون هدية وهبة تقر بها عين والديه إذا عاش سعيدًا في حياته، معافًى في بدنه، مستقيمًا في سلوكه، ناضجًا في تفكيره، بصيرًا بشئون دنياه ودينه، أما لو عاش تعيسًا منحرفًا سقيمًا؛ فإنه يكون مبعث ألم وتعب لوالديه وأسرته وأمَّته. انظر: "تنظيم الأسرة في الإسلام" الإدارة العامة لبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف (ص: 5).

والمقصود بتنظيم الأسرة: هو أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما؛ لتقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم. انظر: "كلمة عن تنظيم الأسرة ورأي الدين فيه" لمفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر سابقا فضيلة الدكتور/ محمد سيد طنطاوي (ص: 9-10، ط. وزارة الإعلام).

وقد كانت وسائل تنظيم النسل معروفة في العصور القديمة، ولكنها تكاد أن تنحصر في طريقة (العزل) والذي هو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها أثناء الجماع؛ لمنع التقاء مني الزوج ببويضة الزوجة. انظر: "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (3/ 175، ط. دار الكتب العلمية)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 166، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب)، و"كشاف القناع" للبهوتي الحنبلي (5/ 189، ط. دار الكتب العلمية).

ولا يخرج هذا المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ إذ إن العزل في اللغة: هو التنحية. يقال: عزله عن العمل أي: نحاه عنه، ويقال: عزل عن المرأة واعتزلها: لم يرد ولدها. قال الأزهري: العزل عزل الرجل الماء عن جاريته إذا جامعها لئلا تحمل. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1763، ط. دار العلم للملايين)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 441، ط. دار صادر).

وقد ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعزلون عن نسائهم وجواريهم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك بلغه ولم ينهَ عنه، فقد أخرج البخاري ومسلم واللفظ له في "صحيحيهما" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْهَنَا». فكأنه يقول: فعلنا العزل في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نقرَّ عليه. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 306، ط. دار المعرفة - بيروت).

مما يدل على أن تنظيم النسل لا تأباه نصوص الشريعة وقواعدها قياسًا على العزل الذي كان معمولًا به في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً، هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ، فَقَالَ: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ» صريح في الإذن بذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى. انظر: "فتح الباري" (9/ 306).

وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» دلالة على أنه لا تعارض بين الأخذ بالأسباب ووقوع الأقدار؛ لأنه لا قدرة لأحد على مخالفة قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقد روى أبو داود في "سننه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ».

فعلى هذا لا يعتبر العزل تدخلًا غير جائز في القدر أو هروبًا منه، وإنما هو من باب الأخذ بالأسباب العادية التي إن شاء الله تعالى خلق عندها الأثر أو لم يخلقه كما هي عقيدة أهل السنة في ارتباط الأسباب بالمسببات بطريق جريان العادة، وأن كل أثر وقع في الكون فهو مخلوق، وأنه لا خالق سوى الله عز وجل.

جاء في "المواقف" وشرحه في بيان مذهب إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه (1/ 143، ط. دار الجيل - بيروت): [ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالإحراق عقيب مماسة النار والري بعد شرب الماء فليس للمماسة والشرب مدخل في وجود الإحراق والري بل الكل واقع بقدرته واختياره تعالى فله أن يوجد المماسة بدون الإحراق وأن يوجد الإحراق بدون المماسة وكذا الحال في سائر الأفعال] اهـ.

ومذهب جمهرة أهل العلم هو جواز العزل عن الزوجة الحرة برضاها؛ لأن لها حقًّا في الاستمتاع وطلب النسل، ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه برضاه. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (4/ 143، ط. مطبعة السعادة).

فيجوز لها التنازل عن حقها في طلب النسل وتمام الاستمتاع حرصًا على تحقيق المصلحة الراجحة لها ولأسرتها.

وقد صرح الحنفية بجواز العزل عن الزوجة ولو بغير إذنها، وذلك إذا خشي الزوج على ولده السوء لفساد الزمان، وقالوا: بأن مثل هذا يعتبر من الأعذار المسقطة لإذن الزوجة، وذلك كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فخاف أن تحبل. انظر: "حاشية رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (3/ 176، ط. دار الكتب العلمية).

ويذكر حجة الإسلام الغزالي من الشافعية أن العزل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف وإن تنافى مع تمام التوكل -والذي هو من أعلى درجات الإحسان- إلا أنه ليس منهيًا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر في العواقب والأخذ بالأسباب؛ قال في "إحياء علوم الدين" (2/ 52، ط. دار المعرفة- بيروت): [النيات الباعثة على العزل خمس... الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه؛ فإن قلة الحرج معين على الدين. نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضًا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه] اهـ.

ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 308): [وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع؛ لأنه مما جرب فضر غالبًا] اهـ.

وهذا وإن كان فيه قصر الترجيح على إحدى الصور لكنه يفيد بأن علة ترجيح العزل تدور مع وقوع الضرر، أو الاحتمالية الغالبة لوقوعه إن لم يتيقن ذلك على سبيل القطع.

ولا فرق بين الإضرار بالولد المرضع أو أخيه الذي سيولد أو بأحد الوالدين؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا فرق أيضًا في هذه القضية بين الضرر وبين الحرج والمشقة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

وذكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام ما يفيد بأن العلة تدور مع المصلحة فقال بتفضيل فعل ما هو الأصلح للزوجين عند التخير بين فعل الجماع وتركه. انظر: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 146، ط. دار الكتب العلمية).

فيستحب ترك الجماع إذا كان الترك هو ما يحقق المصلحة الراجحة، وينطبق مثل هذا الحكم على العزل من باب أولى؛ لتحصيل المصلحة الراجحة معه وانقضاء الشهوة ولو بصورة غير تامة، لكن على كل حال هو أفضل من ترك الجماع بالكلية.

وذكر المالكية جواز العزل بإذن الزوجة وقالوا: بأن جعل خرقة في الرحم ونحوها لمنع وصول ماء الزوج، هو مثل العزل في حكمه. انظر: "حاشية العدوي على شرح الخرشي" (3/ 225، ط. دار الفكر)، و"منح الجليل" (3/ 360، ط. دار الفكر).

مما يشير إلى أن ما يستحدث من وسائل منع الحمل ولا يشتمل على الضرر يكون حكمه الجواز بإذن الزوجة قياسًا على العزل.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لك ولزوجتك أن تتفقا على التماس وسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة مؤقتة إلى أن تتهيأ لك ولأسرتك الظروف المناسبة لاستقبال مولود جديد يتربى في ظروف ملائمة لإخراج الذرية الطيبة التي تقر بها عين الأبوين، ويتقدم بها المجتمع، وتفخر بها أمة الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

حكم تنظيم الإنجاب

تزوجت منذ أربع سنوات وظروفي المالية ليست جيدة، وقد رُزقت بطفلين أحاول بذل قصارى جهدي لأحسِّن تربيتهما وأوفِّر لهما الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة، وقد اتفقت مع زوجتي على تأخير الإنجاب مؤقتًا إلى أن تتحسن ظروفنا ونستطيع القيام بمسئوليتنا تجاه الأبناء على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فهل علينا في هذا ذنب، رغم أننا لا نريد إلا مصلحة أبنائنا واجتناب كل ما يمكن أن يتسبب عنه التقصير في حقوقهم؟ هل القصد لتأخير الإنجاب وتنظيمه -من حيث المبدأ وبغضِّ النظر عن الوسيلة- يعتبر تدخلًا غير جائز في المشيئة الإلهية والقضاء والقدر؟ أفتونا في ذلك مأجورين إن شاء الله.

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد فإن الأولاد هبة من هبات الله سبحانه وتعالى لعباده، وهم من زينة الحياة الدنيا كما قال عز وجل في كتابه الكريم: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، وكما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البيهقي في "سننه" والحاكم في "المستدرك": «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةُ اللهِ لَكُمْ، ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: 49]، فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا».

وقد دعا غير واحد من الأنبياء عليهم السلام أن يهبهم الله الذرية الصالحة، فقال أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]، وقال سيدنا زكريا عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38]، ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ • فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ [الأنبياء: 89-90].

وكما أن الأولاد هبة مهداة إلى الإنسان فهم أيضًا أمانة وفتنة واختبار ومسئولية معلقة في عنقه لا بد من أن يرعاها حق رعايتها كما في فتنة الأموال، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالعمل على إصلاح النفس والأهل والنأي بهم بعيدًا عن الهلاك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» رواه أبو داود والنسائي في "السنن الكبرى" واللفظ له.

والإضاعة كما تكون بعدم الإنفاق المادي تكون أيضًا بالإهمال في التربية الخلقية والدينية والاجتماعية، فالواجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم دينيًّا، وجسميًّا، وعلميًّا، وخُلُقيًّا، ويوفروا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية.

وما لم يغلب على ظن الإنسان أن لديه القدرة على تحمل مسئولية الأولاد، فإنه ما لم ينظم عملية الإنجاب عرض نفسه لتكلف ما يفوق وُسْعَه من واجبات، بل تعرض بذلك للوقوع في إثم الإخلال بحقوق من سيعولهم من الأبناء، بما يعود عليه وعلى زوجته وأولاده بالمشقة والضرر، والله تعالى لا يرضى أن يُضارَّ والد ولا والدة بسبب ولدها؛ قال الله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، وهذا وإن كان خبرًا في الظاهر لكن المراد منه النهي. انظر: "تفسير الإمام الرازي" (6 /462، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت).

وهذا النهي يشمل كل المضار سواء كانت مضارًّا في الدنيا بتكلف الإنسان ما لا يطيقه ويجعله تعيسًا في حياته، أو في الآخرة بتحمل الإنسان مسئولية يعلم من نفسه أنه سيعجز عنها وسيحاسب على إضاعتها حسابًا شديدًا في الآخرة، ولهذا قال نبي الله نوح عليه السلام في شكواه قومه إلى ربه عز وجل: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]، ففي هذا دلالة على أن الذرية لا بدَّ معها من الصلاح والإصلاح، وإلا فالقلة الطيبة خير من الكثرة الفاسدة المستتبعة للخسار.

والإسلام لم يفرض على كل مسلم أن ينجب عددًا معينًا من الأبناء، لكن حث عموم المسلمين على النكاح والتكاثر، وذلك لمن كان منهم مستطيعًا، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» رواه أبو داود والنسائي.

أما غير المستطيع بسبب ظروفه المالية فقد أمره الشرع بالصبر والاستعفاف: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33]، وأرشده إلى عبادة الصوم وِجاءً له من وساوس الشيطان وتغلب الشهوات؛ كما ورد في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

فمن لم يستطع القيام بأعباء ومسئوليات الزواج لزمه الصبر حتى تتهيأ له الظروف، وكذلك من غلب على ظنه عدم القدرة على القيام بواجبات الأبوة، فإنه لا بأس عليه في أن يلتمس الوسائل المشروعة لتأخير الإنجاب مؤقتًا "تنظيم الأسرة" إذا اتفق على ذلك الزوجان وارتضياه لمصلحة الأسرة ودفع المشاق والأضرار عنها إلى أن تتحسن ظروف الأسرة ومستواها المعيشي؛ كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، والولد إنما يكون هدية وهبة تقر بها عين والديه إذا عاش سعيدًا في حياته، معافًى في بدنه، مستقيمًا في سلوكه، ناضجًا في تفكيره، بصيرًا بشئون دنياه ودينه، أما لو عاش تعيسًا منحرفًا سقيمًا؛ فإنه يكون مبعث ألم وتعب لوالديه وأسرته وأمَّته. انظر: "تنظيم الأسرة في الإسلام" الإدارة العامة لبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف (ص: 5).

والمقصود بتنظيم الأسرة: هو أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما؛ لتقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم. انظر: "كلمة عن تنظيم الأسرة ورأي الدين فيه" لمفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر سابقا فضيلة الدكتور/ محمد سيد طنطاوي (ص: 9-10، ط. وزارة الإعلام).

وقد كانت وسائل تنظيم النسل معروفة في العصور القديمة، ولكنها تكاد أن تنحصر في طريقة (العزل) والذي هو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها أثناء الجماع؛ لمنع التقاء مني الزوج ببويضة الزوجة. انظر: "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (3/ 175، ط. دار الكتب العلمية)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 166، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب)، و"كشاف القناع" للبهوتي الحنبلي (5/ 189، ط. دار الكتب العلمية).

ولا يخرج هذا المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ إذ إن العزل في اللغة: هو التنحية. يقال: عزله عن العمل أي: نحاه عنه، ويقال: عزل عن المرأة واعتزلها: لم يرد ولدها. قال الأزهري: العزل عزل الرجل الماء عن جاريته إذا جامعها لئلا تحمل. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1763، ط. دار العلم للملايين)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 441، ط. دار صادر).

وقد ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعزلون عن نسائهم وجواريهم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك بلغه ولم ينهَ عنه، فقد أخرج البخاري ومسلم واللفظ له في "صحيحيهما" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْهَنَا». فكأنه يقول: فعلنا العزل في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نقرَّ عليه. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 306، ط. دار المعرفة - بيروت).

مما يدل على أن تنظيم النسل لا تأباه نصوص الشريعة وقواعدها قياسًا على العزل الذي كان معمولًا به في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً، هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ، فَقَالَ: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ» صريح في الإذن بذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى. انظر: "فتح الباري" (9/ 306).

وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» دلالة على أنه لا تعارض بين الأخذ بالأسباب ووقوع الأقدار؛ لأنه لا قدرة لأحد على مخالفة قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقد روى أبو داود في "سننه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ».

فعلى هذا لا يعتبر العزل تدخلًا غير جائز في القدر أو هروبًا منه، وإنما هو من باب الأخذ بالأسباب العادية التي إن شاء الله تعالى خلق عندها الأثر أو لم يخلقه كما هي عقيدة أهل السنة في ارتباط الأسباب بالمسببات بطريق جريان العادة، وأن كل أثر وقع في الكون فهو مخلوق، وأنه لا خالق سوى الله عز وجل.

جاء في "المواقف" وشرحه في بيان مذهب إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه (1/ 143، ط. دار الجيل - بيروت): [ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالإحراق عقيب مماسة النار والري بعد شرب الماء فليس للمماسة والشرب مدخل في وجود الإحراق والري بل الكل واقع بقدرته واختياره تعالى فله أن يوجد المماسة بدون الإحراق وأن يوجد الإحراق بدون المماسة وكذا الحال في سائر الأفعال] اهـ.

ومذهب جمهرة أهل العلم هو جواز العزل عن الزوجة الحرة برضاها؛ لأن لها حقًّا في الاستمتاع وطلب النسل، ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه برضاه. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (4/ 143، ط. مطبعة السعادة).

فيجوز لها التنازل عن حقها في طلب النسل وتمام الاستمتاع حرصًا على تحقيق المصلحة الراجحة لها ولأسرتها.

وقد صرح الحنفية بجواز العزل عن الزوجة ولو بغير إذنها، وذلك إذا خشي الزوج على ولده السوء لفساد الزمان، وقالوا: بأن مثل هذا يعتبر من الأعذار المسقطة لإذن الزوجة، وذلك كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فخاف أن تحبل. انظر: "حاشية رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (3/ 176، ط. دار الكتب العلمية).

ويذكر حجة الإسلام الغزالي من الشافعية أن العزل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف وإن تنافى مع تمام التوكل -والذي هو من أعلى درجات الإحسان- إلا أنه ليس منهيًا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر في العواقب والأخذ بالأسباب؛ قال في "إحياء علوم الدين" (2/ 52، ط. دار المعرفة- بيروت): [النيات الباعثة على العزل خمس... الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه؛ فإن قلة الحرج معين على الدين. نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضًا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه] اهـ.

ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 308): [وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع؛ لأنه مما جرب فضر غالبًا] اهـ.

وهذا وإن كان فيه قصر الترجيح على إحدى الصور لكنه يفيد بأن علة ترجيح العزل تدور مع وقوع الضرر، أو الاحتمالية الغالبة لوقوعه إن لم يتيقن ذلك على سبيل القطع.

ولا فرق بين الإضرار بالولد المرضع أو أخيه الذي سيولد أو بأحد الوالدين؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا فرق أيضًا في هذه القضية بين الضرر وبين الحرج والمشقة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

وذكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام ما يفيد بأن العلة تدور مع المصلحة فقال بتفضيل فعل ما هو الأصلح للزوجين عند التخير بين فعل الجماع وتركه. انظر: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 146، ط. دار الكتب العلمية).

فيستحب ترك الجماع إذا كان الترك هو ما يحقق المصلحة الراجحة، وينطبق مثل هذا الحكم على العزل من باب أولى؛ لتحصيل المصلحة الراجحة معه وانقضاء الشهوة ولو بصورة غير تامة، لكن على كل حال هو أفضل من ترك الجماع بالكلية.

وذكر المالكية جواز العزل بإذن الزوجة وقالوا: بأن جعل خرقة في الرحم ونحوها لمنع وصول ماء الزوج، هو مثل العزل في حكمه. انظر: "حاشية العدوي على شرح الخرشي" (3/ 225، ط. دار الفكر)، و"منح الجليل" (3/ 360، ط. دار الفكر).

مما يشير إلى أن ما يستحدث من وسائل منع الحمل ولا يشتمل على الضرر يكون حكمه الجواز بإذن الزوجة قياسًا على العزل.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لك ولزوجتك أن تتفقا على التماس وسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة مؤقتة إلى أن تتهيأ لك ولأسرتك الظروف المناسبة لاستقبال مولود جديد يتربى في ظروف ملائمة لإخراج الذرية الطيبة التي تقر بها عين الأبوين، ويتقدم بها المجتمع، وتفخر بها أمة الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد فإن الأولاد هبة من هبات الله سبحانه وتعالى لعباده، وهم من زينة الحياة الدنيا كما قال عز وجل في كتابه الكريم: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46]، وكما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البيهقي في "سننه" والحاكم في "المستدرك": «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةُ اللهِ لَكُمْ، ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: 49]، فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا».

وقد دعا غير واحد من الأنبياء عليهم السلام أن يهبهم الله الذرية الصالحة، فقال أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100]، وقال سيدنا زكريا عليه السلام في دعائه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38]، ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ • فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ [الأنبياء: 89-90].

وكما أن الأولاد هبة مهداة إلى الإنسان فهم أيضًا أمانة وفتنة واختبار ومسئولية معلقة في عنقه لا بد من أن يرعاها حق رعايتها كما في فتنة الأموال، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالعمل على إصلاح النفس والأهل والنأي بهم بعيدًا عن الهلاك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» رواه أبو داود والنسائي في "السنن الكبرى" واللفظ له.

والإضاعة كما تكون بعدم الإنفاق المادي تكون أيضًا بالإهمال في التربية الخلقية والدينية والاجتماعية، فالواجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم دينيًّا، وجسميًّا، وعلميًّا، وخُلُقيًّا، ويوفروا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية.

وما لم يغلب على ظن الإنسان أن لديه القدرة على تحمل مسئولية الأولاد، فإنه ما لم ينظم عملية الإنجاب عرض نفسه لتكلف ما يفوق وُسْعَه من واجبات، بل تعرض بذلك للوقوع في إثم الإخلال بحقوق من سيعولهم من الأبناء، بما يعود عليه وعلى زوجته وأولاده بالمشقة والضرر، والله تعالى لا يرضى أن يُضارَّ والد ولا والدة بسبب ولدها؛ قال الله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، وهذا وإن كان خبرًا في الظاهر لكن المراد منه النهي. انظر: "تفسير الإمام الرازي" (6 /462، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت).

وهذا النهي يشمل كل المضار سواء كانت مضارًّا في الدنيا بتكلف الإنسان ما لا يطيقه ويجعله تعيسًا في حياته، أو في الآخرة بتحمل الإنسان مسئولية يعلم من نفسه أنه سيعجز عنها وسيحاسب على إضاعتها حسابًا شديدًا في الآخرة، ولهذا قال نبي الله نوح عليه السلام في شكواه قومه إلى ربه عز وجل: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا﴾ [نوح: 21]، ففي هذا دلالة على أن الذرية لا بدَّ معها من الصلاح والإصلاح، وإلا فالقلة الطيبة خير من الكثرة الفاسدة المستتبعة للخسار.

والإسلام لم يفرض على كل مسلم أن ينجب عددًا معينًا من الأبناء، لكن حث عموم المسلمين على النكاح والتكاثر، وذلك لمن كان منهم مستطيعًا، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» رواه أبو داود والنسائي.

أما غير المستطيع بسبب ظروفه المالية فقد أمره الشرع بالصبر والاستعفاف: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: 33]، وأرشده إلى عبادة الصوم وِجاءً له من وساوس الشيطان وتغلب الشهوات؛ كما ورد في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصن لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

فمن لم يستطع القيام بأعباء ومسئوليات الزواج لزمه الصبر حتى تتهيأ له الظروف، وكذلك من غلب على ظنه عدم القدرة على القيام بواجبات الأبوة، فإنه لا بأس عليه في أن يلتمس الوسائل المشروعة لتأخير الإنجاب مؤقتًا "تنظيم الأسرة" إذا اتفق على ذلك الزوجان وارتضياه لمصلحة الأسرة ودفع المشاق والأضرار عنها إلى أن تتحسن ظروف الأسرة ومستواها المعيشي؛ كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: 233]، والولد إنما يكون هدية وهبة تقر بها عين والديه إذا عاش سعيدًا في حياته، معافًى في بدنه، مستقيمًا في سلوكه، ناضجًا في تفكيره، بصيرًا بشئون دنياه ودينه، أما لو عاش تعيسًا منحرفًا سقيمًا؛ فإنه يكون مبعث ألم وتعب لوالديه وأسرته وأمَّته. انظر: "تنظيم الأسرة في الإسلام" الإدارة العامة لبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف (ص: 5).

والمقصود بتنظيم الأسرة: هو أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما؛ لتقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم. انظر: "كلمة عن تنظيم الأسرة ورأي الدين فيه" لمفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر سابقا فضيلة الدكتور/ محمد سيد طنطاوي (ص: 9-10، ط. وزارة الإعلام).

وقد كانت وسائل تنظيم النسل معروفة في العصور القديمة، ولكنها تكاد أن تنحصر في طريقة (العزل) والذي هو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها أثناء الجماع؛ لمنع التقاء مني الزوج ببويضة الزوجة. انظر: "حاشية رد المحتار" لابن عابدين (3/ 175، ط. دار الكتب العلمية)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 166، ط. دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب)، و"كشاف القناع" للبهوتي الحنبلي (5/ 189، ط. دار الكتب العلمية).

ولا يخرج هذا المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ إذ إن العزل في اللغة: هو التنحية. يقال: عزله عن العمل أي: نحاه عنه، ويقال: عزل عن المرأة واعتزلها: لم يرد ولدها. قال الأزهري: العزل عزل الرجل الماء عن جاريته إذا جامعها لئلا تحمل. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1763، ط. دار العلم للملايين)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 441، ط. دار صادر).

وقد ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعزلون عن نسائهم وجواريهم في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك بلغه ولم ينهَ عنه، فقد أخرج البخاري ومسلم واللفظ له في "صحيحيهما" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنْهَنَا». فكأنه يقول: فعلنا العزل في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نقرَّ عليه. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 306، ط. دار المعرفة - بيروت).

مما يدل على أن تنظيم النسل لا تأباه نصوص الشريعة وقواعدها قياسًا على العزل الذي كان معمولًا به في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارِيَةً، هِيَ خَادِمُنَا وَسَانِيَتُنَا، وَأَنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» فَلَبِثَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ حَبِلَتْ، فَقَالَ: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ» صريح في الإذن بذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى. انظر: "فتح الباري" (9/ 306).

وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» دلالة على أنه لا تعارض بين الأخذ بالأسباب ووقوع الأقدار؛ لأنه لا قدرة لأحد على مخالفة قضاء الله وقدره، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقد روى أبو داود في "سننه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ».

فعلى هذا لا يعتبر العزل تدخلًا غير جائز في القدر أو هروبًا منه، وإنما هو من باب الأخذ بالأسباب العادية التي إن شاء الله تعالى خلق عندها الأثر أو لم يخلقه كما هي عقيدة أهل السنة في ارتباط الأسباب بالمسببات بطريق جريان العادة، وأن كل أثر وقع في الكون فهو مخلوق، وأنه لا خالق سوى الله عز وجل.

جاء في "المواقف" وشرحه في بيان مذهب إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه (1/ 143، ط. دار الجيل - بيروت): [ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالإحراق عقيب مماسة النار والري بعد شرب الماء فليس للمماسة والشرب مدخل في وجود الإحراق والري بل الكل واقع بقدرته واختياره تعالى فله أن يوجد المماسة بدون الإحراق وأن يوجد الإحراق بدون المماسة وكذا الحال في سائر الأفعال] اهـ.

ومذهب جمهرة أهل العلم هو جواز العزل عن الزوجة الحرة برضاها؛ لأن لها حقًّا في الاستمتاع وطلب النسل، ولصاحب الحق أن يتنازل عن حقه برضاه. انظر: "المنتقى شرح الموطأ" (4/ 143، ط. مطبعة السعادة).

فيجوز لها التنازل عن حقها في طلب النسل وتمام الاستمتاع حرصًا على تحقيق المصلحة الراجحة لها ولأسرتها.

وقد صرح الحنفية بجواز العزل عن الزوجة ولو بغير إذنها، وذلك إذا خشي الزوج على ولده السوء لفساد الزمان، وقالوا: بأن مثل هذا يعتبر من الأعذار المسقطة لإذن الزوجة، وذلك كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فخاف أن تحبل. انظر: "حاشية رد المحتار على الدر المختار" لابن عابدين (3/ 176، ط. دار الكتب العلمية).

ويذكر حجة الإسلام الغزالي من الشافعية أن العزل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف وإن تنافى مع تمام التوكل -والذي هو من أعلى درجات الإحسان- إلا أنه ليس منهيًا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر في العواقب والأخذ بالأسباب؛ قال في "إحياء علوم الدين" (2/ 52، ط. دار المعرفة- بيروت): [النيات الباعثة على العزل خمس... الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه؛ فإن قلة الحرج معين على الدين. نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضًا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه] اهـ.

ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 308): [وليس في جميع الصور التي يقع العزل بسببها ما يكون العزل فيه راجحًا سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضع؛ لأنه مما جرب فضر غالبًا] اهـ.

وهذا وإن كان فيه قصر الترجيح على إحدى الصور لكنه يفيد بأن علة ترجيح العزل تدور مع وقوع الضرر، أو الاحتمالية الغالبة لوقوعه إن لم يتيقن ذلك على سبيل القطع.

ولا فرق بين الإضرار بالولد المرضع أو أخيه الذي سيولد أو بأحد الوالدين؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولا فرق أيضًا في هذه القضية بين الضرر وبين الحرج والمشقة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

وذكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام ما يفيد بأن العلة تدور مع المصلحة فقال بتفضيل فعل ما هو الأصلح للزوجين عند التخير بين فعل الجماع وتركه. انظر: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (1/ 146، ط. دار الكتب العلمية).

فيستحب ترك الجماع إذا كان الترك هو ما يحقق المصلحة الراجحة، وينطبق مثل هذا الحكم على العزل من باب أولى؛ لتحصيل المصلحة الراجحة معه وانقضاء الشهوة ولو بصورة غير تامة، لكن على كل حال هو أفضل من ترك الجماع بالكلية.

وذكر المالكية جواز العزل بإذن الزوجة وقالوا: بأن جعل خرقة في الرحم ونحوها لمنع وصول ماء الزوج، هو مثل العزل في حكمه. انظر: "حاشية العدوي على شرح الخرشي" (3/ 225، ط. دار الفكر)، و"منح الجليل" (3/ 360، ط. دار الفكر).

مما يشير إلى أن ما يستحدث من وسائل منع الحمل ولا يشتمل على الضرر يكون حكمه الجواز بإذن الزوجة قياسًا على العزل.

وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لك ولزوجتك أن تتفقا على التماس وسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة مؤقتة إلى أن تتهيأ لك ولأسرتك الظروف المناسبة لاستقبال مولود جديد يتربى في ظروف ملائمة لإخراج الذرية الطيبة التي تقر بها عين الأبوين، ويتقدم بها المجتمع، وتفخر بها أمة الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;