سفر الزوج مدة طويلة وتركه زوجته

تاريخ الفتوى:17 يناير 2016 م

السفر المباح هو الخروج على قصد قطع مسافة القصر الشرعية فما فوقها، بحيث يكون القصد منه مستحبًّا؛ كالسفر لبر الوالدين أو لصلة الرحم أو طلب العلم، أو مباحًا؛ كسفر التجارة، أو واجبًا؛ كسفر الجهاد إذا تعين، أو مكروهًا، والزواج قائم على المودة والرحمة، وعلى أن يكون كل من الزوجين سكنًا للآخر؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرُّوم: 21]، فجعل الله سبحانه وتعالى الزواج سكنًا، وجعل بين الزوجين المودة والرحمة، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل المرأة سترًا لزوجها، والزوج لباسًا لها؛ قال الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187]، ولا يخفى قوة التعبير من تشبيه العلاقة الزوجية باللباس، حيث إن أقرب شيءٍ إلى المرء هي ثيابه وملبسه.

قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (3/ 191، ط. مؤسسة الرسالة): [أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسًا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب ... وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترًا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل: لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. قال مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض] اهـ.

ومن حق الزوجة على زوجها إتيانها وقضاء وطرها، ولها التنازل عن هذا الحق برضاها، وقد اختُلف في تحديد المدة التي يحقَّ للزوجة بعد مرورها مطالبة الزوج بذلك الحق على أقوال؛ لاختلاف ظروف وبيئات كل عصرٍ ومصرٍ، دلَّ على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».

ويدل على ذلك أيضًا ما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: "أن عمر رضي الله عنه سأل ابنته حفصة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: خمسة أشهر، ستة أشهر، فوقَّتَ للناس في مغازيهم ستة أشهر. يسيرون شهرًا ويقيمون أربعة ويسيرون شهرًا راجعين".

قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (7/ 305، ط. مكتبة القاهرة): [سُئل أحمد أي ابن حنبل: كم للرجل أن يغيب عن أهله؟ قال: يروى ستة أشهر] اهـ.

وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (5/ 193، ط. دار الكتب العلمية): [وإن لم يكن للمسافر عذر مانع من الرجوع وغاب أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه لزمه ذلك] اهـ.

وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 331، ط. المكتبة العلمية): [وللزوج أن يطالبها بالوطء متى شاء إلا عند اعتراض أسباب مانعة من الوطء؛ كالحيض والنفاس والظهار والإحرام وغير ذلك، وللزوجة أن تطالب زوجها بالوطء؛ لأن حله لها حقها كما أن حلها له حقه، وإذا طالبته يجب على الزوج، ويجبر عليه في الحكم مرة واحدة، والزيادة على ذلك تجب فيما بينه وبين الله تعالى من باب حسن المعاشرة واستدامة النكاح] اهـ.

وقال الإمام ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (3/ 302، ط. إحياء التراث): [واعلم أن ترك جماعها مطلقًا لا يحلُّ له، صرح أصحابنا بأن جماعها أحيانًا واجب ديانة، لكنه لا يدخل تحت القضاء والإلزام إلا الوطأة الأولى، ولم يقدِّروا فيه مدة، ويجب أن لا يبلغ به مدة الإيلاء إلا برضاها وطيب نفسها به] اهـ.

وقال الإمام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (2/ 52، ط. مصطفى الحلبي): [وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليالٍ مرة، فهو أعدله، إذ عدد النساء أربعة، فجاز التأخير إلى هذا الحد، نعم، ينبغي أن يزيد أو ينقص بحسب حاجتها في التحصين؛ فإن تحصينها واجب عليه] اهـ.

قال الإمام الزرقاني في "شرحه على مختصر خليل" (4/ 56، ط. دار الفكر): [يجب على الرجل وطء زوجته، ويقضي عليه به حيث تضررت بتركه، فإن شكت قلته قضى لها بليلة في كل أربع] اهـ.

وقال الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (29/ 173، ط. الرياض): [يجب على الرجل وطء زوجته بالمعروف، أي بقدر حاجتها وقدرته -كما يطعمها وينفق عليها بقدر حاجتها وقدرته- من غير تحديد بمرة في كل شهر أو أربعة أشهر أو أسبوع أو يوم من أربعة أو غير ذلك؛ وذلك لأن دلالة نصوص الكتاب والسنة عدم تقدير ذلك، أو أي شيء مما يوجبه عقد النكاح على كل واحد من الزوجين. والرجوع فيه إلى العرف؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم لهند زوجة أبي سفيان: «خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوفِ» أخرجه البخاري من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، فإن تنازع الزوجان في الوطء المستحق لها، فرض الحاكم ذلك باجتهاده بحسب العرف وحالة الزوجين، كما يفرض لها النفقة والسكنى وسائر حقوقها] اهـ بتصرف.

وقال الإمام ابن القيم في "روضة المحبين" (ص: 217، ط. دار الكتب العلمية): [يجب عليه أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف، ويكسوها ويعاشرها بالمعروف، بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف، والوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد، قالوا: وعليه أن يشبعها وطئًا إذا أمكنه ذلك، كما أن عليه أن يشبعها قوتًا] اهـ.

فعند عدم رضا الزوجة بذلك، فلا يجوز للزوج التغيب عنها ولو لسفر مباح لمدة طويلة؛ نظرًا لحقها في الوطء، فإن كان سفره محرَّمًا أو لغرض محرَّم لم يجز من باب أولى، وتحديد مدة الطول يختلف باختلاف الظروف والبيئات، ويحدد المدة قانون كل بلد وأعرافها وعاداتها.

وبناء على ما سبق: فإذا أذنت الزوجة لزوجها بهذا السفر المباح الطويل الأمد فيجوز، أما إذا لم تأذن به الزوجة فليس له ذلك، وتحديد مدة الطول الذي يتوقف على إذن الزوجة يختلف باختلاف البيئات والأزمنة والأمكنة والأعراف المجتمعية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 01 مايو 2025 م
الفجر
4 :37
الشروق
6 :12
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 33
العشاء
8 :57