عدة الكتابية

ما هي عدة الكتابية من زوجها المسلم إذا طلقها وأراد مراجعتها، أو أراد مسلم غيره أن يتزوجها؟

يقوم بعض المسلمين بالزواج من نصرانية أو يهودية، ثم قد يكون هناك فراق بينهما، فيأتي السؤال: هل هناك عدَّة على هذه الزوجة الكتابية؟

وبالنظر إلى الشريعة نجد أن الله تعالى قد أباح الزواجَ من الكتابيات: اليهوديات والنصرانيات؛ كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].

ثم قد يحدث هناك فراق بين الزوجين، وهو لا يقتصر على الطلاق فقط، بل يكون بالطلاق، وقد يكون بالفسخ، ويكون كذلك بالوفاة، وفي كل حالة مما سبق يكون على الزوجة عدة.

والعدة في اللغة مأخوذة من العدد؛ لاشتمالها عليه غالبًا؛ قال الإمام الأزهري في "تهذيب اللغة" (1/ 69، باب: العين والدال، ط. دار إحياء التراث العربي): [والعِدَّة: مصدر عَدَدْتُ الشَّيْء عَدًّا وَعِدَّةً. وَالْعِدَّةُ عِدَّة الْمَرْأَة شهورًا كَانَت أَو أَقراء أَو وضع حَمْل كَانَت حَمَلَتْهُ من الَّذِي تَعْتَدُّ مِنْهُ. يُقَال: اعْتَدَّتِ الْمَرْأَة عِدَّتَها من وَفَاة زَوجهَا وَمِنْ تطليقه إِيَّاهَا اعْتِدَادًا. وَجمع العِدَّة عِدَدٌ، وأصل ذَلِك كلِّه من العَدِّ] اهـ.

وأما في الشرع فهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 389، ط. دار الكتاب الإسلامي): [مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لِتَفَجُّعِهَا على زوج] اهـ.

وأما الحكم الشرعي في المسألة فهو وجوب العدة على الزوجة الكتابية سواء كان الفراق عن طلاق أم غيره كما تقدم.

والدليل على ذلك عموم الأدلة الواردة في أبواب العِدَدِ من كتب الفقه، كقوله تعالى في الطلاق: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، وكقوله تعالى في الوفاة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، فلم تُفَرِّق النصوصُ بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية.

كما أن كلمة "أو" في تعريف العدة الشرعي لا يمنع الجمع بين الأنواع المذكورة؛ قال الشيخ البجيرمي في "حاشيته على الإقناع في حَلِّ ألفاظ أبي شجاع" للخطيب الشربيني (4/ 41، ط. دار الفكر): [قَوْلُهُ: (لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا) أَيْ: فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِتَفَجُّعِهَا ... إلَخْ أَيْ: فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَهَذِهِ أَمْثِلَةُ انْفِرَادِ كُلِّ قِسْمٍ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعَبُّدُ مَعَ التَّفَجُّعِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ عَمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ أَوْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مَعَ التَّفَجُّعِ فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ التَّعَبُّدِ أَبَدًا، وَاجْتِمَاعُ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مَأْخُوذٌ مِنْ ذِكْرِ (أَوْ)؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَتُجَوِّزُ الْجَمْعَ، وَالتَّعَبُّدُ هُوَ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عِبَادَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا] اهـ.

وهذا يمنع أن التعبد فقط هو المطلب الشرعي، ويوضح ذلك قولُه تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] فجعل العدة حقًّا للزوج.

فالعدة قد تكون حقًّا للعباد كما تكون تعبدية، وحقوق العباد مُطَالَب بها قضاءً المسلمة والكتابية، فوجب بذلك قضاء العدة على الكتابيات.

قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ في "الأم" (5/ 230، ط. دار المعرفة): [وَالْحُرَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ يُطَلِّقُهَا الْمُسْلِمُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا مِثْلُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَجَمِيعُ مَا لَزِمَ الْمُسْلِمَةَ لَازِمٌ لَهَا مِنَ الْإِحْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ تُكْمِلَهَا لَمْ تَسْتَأْنِفْ وَبَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا، وَهَكَذَا إنْ طَلَّقَهَا الْكِتَابِيُّ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ لِلزَّوْجِ حَيًّا وَوَرَثَتِهِ مَيِّتًا مِنْ مَنْعِهَا الْخُرُوجَ مَا لَهُمْ مِنْ مَنْعِ الْمُسْلِمَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ الْمُسْلِمَ وَلَا يَرِثُهَا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (3/ 191، ط. المكتبة العلمية): [وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالأَمَةُ كَالأَمَةِ؛ لأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللهِ، وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، وَالْكِتَابِيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ إيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 96، ط. مكتبة القاهرة): [وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ دِينِهِمْ، لَمْ تَلْزَمْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَةَ. وَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَمَنْ تَبِعَهُمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَعْتَدُّ مِنَ الْوَفَاةِ بِحَيْضَةِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ، أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن الزوجة الكتابية إذا طلقها زوجها المسلم فعليها ما على المسلمات من العدة، ولها ما للمسلمات من النفقة والسكنى، ويختلف هذا باختلاف حالتها، فإن كانت من ذوات الأقراء كانت عدتها ثلاث حيضات، وإن لم تكن كذلك فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملًا فتنتهي عدتها بوضع الحمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يقوم بعض المسلمين بالزواج من نصرانية أو يهودية، ثم قد يكون هناك فراق بينهما، فيأتي السؤال: هل هناك عدَّة على هذه الزوجة الكتابية؟

وبالنظر إلى الشريعة نجد أن الله تعالى قد أباح الزواجَ من الكتابيات: اليهوديات والنصرانيات؛ كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].

ثم قد يحدث هناك فراق بين الزوجين، وهو لا يقتصر على الطلاق فقط، بل يكون بالطلاق، وقد يكون بالفسخ، ويكون كذلك بالوفاة، وفي كل حالة مما سبق يكون على الزوجة عدة.

والعدة في اللغة مأخوذة من العدد؛ لاشتمالها عليه غالبًا؛ قال الإمام الأزهري في "تهذيب اللغة" (1/ 69، باب: العين والدال، ط. دار إحياء التراث العربي): [والعِدَّة: مصدر عَدَدْتُ الشَّيْء عَدًّا وَعِدَّةً. وَالْعِدَّةُ عِدَّة الْمَرْأَة شهورًا كَانَت أَو أَقراء أَو وضع حَمْل كَانَت حَمَلَتْهُ من الَّذِي تَعْتَدُّ مِنْهُ. يُقَال: اعْتَدَّتِ الْمَرْأَة عِدَّتَها من وَفَاة زَوجهَا وَمِنْ تطليقه إِيَّاهَا اعْتِدَادًا. وَجمع العِدَّة عِدَدٌ، وأصل ذَلِك كلِّه من العَدِّ] اهـ.

وأما في الشرع فهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 389، ط. دار الكتاب الإسلامي): [مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لِتَفَجُّعِهَا على زوج] اهـ.

وأما الحكم الشرعي في المسألة فهو وجوب العدة على الزوجة الكتابية سواء كان الفراق عن طلاق أم غيره كما تقدم.

والدليل على ذلك عموم الأدلة الواردة في أبواب العِدَدِ من كتب الفقه، كقوله تعالى في الطلاق: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، وكقوله تعالى في الوفاة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، فلم تُفَرِّق النصوصُ بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية.

كما أن كلمة "أو" في تعريف العدة الشرعي لا يمنع الجمع بين الأنواع المذكورة؛ قال الشيخ البجيرمي في "حاشيته على الإقناع في حَلِّ ألفاظ أبي شجاع" للخطيب الشربيني (4/ 41، ط. دار الفكر): [قَوْلُهُ: (لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا) أَيْ: فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِتَفَجُّعِهَا ... إلَخْ أَيْ: فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَهَذِهِ أَمْثِلَةُ انْفِرَادِ كُلِّ قِسْمٍ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعَبُّدُ مَعَ التَّفَجُّعِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ عَمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ أَوْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مَعَ التَّفَجُّعِ فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ التَّعَبُّدِ أَبَدًا، وَاجْتِمَاعُ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مَأْخُوذٌ مِنْ ذِكْرِ (أَوْ)؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَتُجَوِّزُ الْجَمْعَ، وَالتَّعَبُّدُ هُوَ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عِبَادَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا] اهـ.

وهذا يمنع أن التعبد فقط هو المطلب الشرعي، ويوضح ذلك قولُه تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] فجعل العدة حقًّا للزوج.

فالعدة قد تكون حقًّا للعباد كما تكون تعبدية، وحقوق العباد مُطَالَب بها قضاءً المسلمة والكتابية، فوجب بذلك قضاء العدة على الكتابيات.

قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ في "الأم" (5/ 230، ط. دار المعرفة): [وَالْحُرَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ يُطَلِّقُهَا الْمُسْلِمُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا مِثْلُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَجَمِيعُ مَا لَزِمَ الْمُسْلِمَةَ لَازِمٌ لَهَا مِنَ الْإِحْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ تُكْمِلَهَا لَمْ تَسْتَأْنِفْ وَبَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا، وَهَكَذَا إنْ طَلَّقَهَا الْكِتَابِيُّ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ لِلزَّوْجِ حَيًّا وَوَرَثَتِهِ مَيِّتًا مِنْ مَنْعِهَا الْخُرُوجَ مَا لَهُمْ مِنْ مَنْعِ الْمُسْلِمَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ الْمُسْلِمَ وَلَا يَرِثُهَا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (3/ 191، ط. المكتبة العلمية): [وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالأَمَةُ كَالأَمَةِ؛ لأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللهِ، وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، وَالْكِتَابِيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ إيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 96، ط. مكتبة القاهرة): [وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ دِينِهِمْ، لَمْ تَلْزَمْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَةَ. وَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَمَنْ تَبِعَهُمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَعْتَدُّ مِنَ الْوَفَاةِ بِحَيْضَةِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ، أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن الزوجة الكتابية إذا طلقها زوجها المسلم فعليها ما على المسلمات من العدة، ولها ما للمسلمات من النفقة والسكنى، ويختلف هذا باختلاف حالتها، فإن كانت من ذوات الأقراء كانت عدتها ثلاث حيضات، وإن لم تكن كذلك فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملًا فتنتهي عدتها بوضع الحمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

عدة الكتابية

ما هي عدة الكتابية من زوجها المسلم إذا طلقها وأراد مراجعتها، أو أراد مسلم غيره أن يتزوجها؟

يقوم بعض المسلمين بالزواج من نصرانية أو يهودية، ثم قد يكون هناك فراق بينهما، فيأتي السؤال: هل هناك عدَّة على هذه الزوجة الكتابية؟

وبالنظر إلى الشريعة نجد أن الله تعالى قد أباح الزواجَ من الكتابيات: اليهوديات والنصرانيات؛ كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].

ثم قد يحدث هناك فراق بين الزوجين، وهو لا يقتصر على الطلاق فقط، بل يكون بالطلاق، وقد يكون بالفسخ، ويكون كذلك بالوفاة، وفي كل حالة مما سبق يكون على الزوجة عدة.

والعدة في اللغة مأخوذة من العدد؛ لاشتمالها عليه غالبًا؛ قال الإمام الأزهري في "تهذيب اللغة" (1/ 69، باب: العين والدال، ط. دار إحياء التراث العربي): [والعِدَّة: مصدر عَدَدْتُ الشَّيْء عَدًّا وَعِدَّةً. وَالْعِدَّةُ عِدَّة الْمَرْأَة شهورًا كَانَت أَو أَقراء أَو وضع حَمْل كَانَت حَمَلَتْهُ من الَّذِي تَعْتَدُّ مِنْهُ. يُقَال: اعْتَدَّتِ الْمَرْأَة عِدَّتَها من وَفَاة زَوجهَا وَمِنْ تطليقه إِيَّاهَا اعْتِدَادًا. وَجمع العِدَّة عِدَدٌ، وأصل ذَلِك كلِّه من العَدِّ] اهـ.

وأما في الشرع فهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 389، ط. دار الكتاب الإسلامي): [مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لِتَفَجُّعِهَا على زوج] اهـ.

وأما الحكم الشرعي في المسألة فهو وجوب العدة على الزوجة الكتابية سواء كان الفراق عن طلاق أم غيره كما تقدم.

والدليل على ذلك عموم الأدلة الواردة في أبواب العِدَدِ من كتب الفقه، كقوله تعالى في الطلاق: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، وكقوله تعالى في الوفاة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، فلم تُفَرِّق النصوصُ بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية.

كما أن كلمة "أو" في تعريف العدة الشرعي لا يمنع الجمع بين الأنواع المذكورة؛ قال الشيخ البجيرمي في "حاشيته على الإقناع في حَلِّ ألفاظ أبي شجاع" للخطيب الشربيني (4/ 41، ط. دار الفكر): [قَوْلُهُ: (لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا) أَيْ: فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِتَفَجُّعِهَا ... إلَخْ أَيْ: فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَهَذِهِ أَمْثِلَةُ انْفِرَادِ كُلِّ قِسْمٍ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعَبُّدُ مَعَ التَّفَجُّعِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ عَمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ أَوْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مَعَ التَّفَجُّعِ فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ التَّعَبُّدِ أَبَدًا، وَاجْتِمَاعُ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مَأْخُوذٌ مِنْ ذِكْرِ (أَوْ)؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَتُجَوِّزُ الْجَمْعَ، وَالتَّعَبُّدُ هُوَ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عِبَادَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا] اهـ.

وهذا يمنع أن التعبد فقط هو المطلب الشرعي، ويوضح ذلك قولُه تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] فجعل العدة حقًّا للزوج.

فالعدة قد تكون حقًّا للعباد كما تكون تعبدية، وحقوق العباد مُطَالَب بها قضاءً المسلمة والكتابية، فوجب بذلك قضاء العدة على الكتابيات.

قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ في "الأم" (5/ 230، ط. دار المعرفة): [وَالْحُرَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ يُطَلِّقُهَا الْمُسْلِمُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا مِثْلُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَجَمِيعُ مَا لَزِمَ الْمُسْلِمَةَ لَازِمٌ لَهَا مِنَ الْإِحْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ تُكْمِلَهَا لَمْ تَسْتَأْنِفْ وَبَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا، وَهَكَذَا إنْ طَلَّقَهَا الْكِتَابِيُّ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ لِلزَّوْجِ حَيًّا وَوَرَثَتِهِ مَيِّتًا مِنْ مَنْعِهَا الْخُرُوجَ مَا لَهُمْ مِنْ مَنْعِ الْمُسْلِمَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ الْمُسْلِمَ وَلَا يَرِثُهَا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (3/ 191، ط. المكتبة العلمية): [وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالأَمَةُ كَالأَمَةِ؛ لأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللهِ، وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، وَالْكِتَابِيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ إيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 96، ط. مكتبة القاهرة): [وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ دِينِهِمْ، لَمْ تَلْزَمْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَةَ. وَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَمَنْ تَبِعَهُمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَعْتَدُّ مِنَ الْوَفَاةِ بِحَيْضَةِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ، أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن الزوجة الكتابية إذا طلقها زوجها المسلم فعليها ما على المسلمات من العدة، ولها ما للمسلمات من النفقة والسكنى، ويختلف هذا باختلاف حالتها، فإن كانت من ذوات الأقراء كانت عدتها ثلاث حيضات، وإن لم تكن كذلك فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملًا فتنتهي عدتها بوضع الحمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

يقوم بعض المسلمين بالزواج من نصرانية أو يهودية، ثم قد يكون هناك فراق بينهما، فيأتي السؤال: هل هناك عدَّة على هذه الزوجة الكتابية؟

وبالنظر إلى الشريعة نجد أن الله تعالى قد أباح الزواجَ من الكتابيات: اليهوديات والنصرانيات؛ كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].

ثم قد يحدث هناك فراق بين الزوجين، وهو لا يقتصر على الطلاق فقط، بل يكون بالطلاق، وقد يكون بالفسخ، ويكون كذلك بالوفاة، وفي كل حالة مما سبق يكون على الزوجة عدة.

والعدة في اللغة مأخوذة من العدد؛ لاشتمالها عليه غالبًا؛ قال الإمام الأزهري في "تهذيب اللغة" (1/ 69، باب: العين والدال، ط. دار إحياء التراث العربي): [والعِدَّة: مصدر عَدَدْتُ الشَّيْء عَدًّا وَعِدَّةً. وَالْعِدَّةُ عِدَّة الْمَرْأَة شهورًا كَانَت أَو أَقراء أَو وضع حَمْل كَانَت حَمَلَتْهُ من الَّذِي تَعْتَدُّ مِنْهُ. يُقَال: اعْتَدَّتِ الْمَرْأَة عِدَّتَها من وَفَاة زَوجهَا وَمِنْ تطليقه إِيَّاهَا اعْتِدَادًا. وَجمع العِدَّة عِدَدٌ، وأصل ذَلِك كلِّه من العَدِّ] اهـ.

وأما في الشرع فهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 389، ط. دار الكتاب الإسلامي): [مدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لِتَفَجُّعِهَا على زوج] اهـ.

وأما الحكم الشرعي في المسألة فهو وجوب العدة على الزوجة الكتابية سواء كان الفراق عن طلاق أم غيره كما تقدم.

والدليل على ذلك عموم الأدلة الواردة في أبواب العِدَدِ من كتب الفقه، كقوله تعالى في الطلاق: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 228]، وكقوله تعالى في الوفاة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، فلم تُفَرِّق النصوصُ بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية.

كما أن كلمة "أو" في تعريف العدة الشرعي لا يمنع الجمع بين الأنواع المذكورة؛ قال الشيخ البجيرمي في "حاشيته على الإقناع في حَلِّ ألفاظ أبي شجاع" للخطيب الشربيني (4/ 41، ط. دار الفكر): [قَوْلُهُ: (لِمَعْرِفَةِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا) أَيْ: فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِتَفَجُّعِهَا ... إلَخْ أَيْ: فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَهَذِهِ أَمْثِلَةُ انْفِرَادِ كُلِّ قِسْمٍ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّعَبُّدُ مَعَ التَّفَجُّعِ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ عَمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ أَوْ كَانَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ تَجْتَمِعُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مَعَ التَّفَجُّعِ فِيمَنْ يُولَدُ لَهُ فِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنْ التَّعَبُّدِ أَبَدًا، وَاجْتِمَاعُ الْأَقْسَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مَأْخُوذٌ مِنْ ذِكْرِ (أَوْ)؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةُ خُلُوٍّ فَتُجَوِّزُ الْجَمْعَ، وَالتَّعَبُّدُ هُوَ مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عِبَادَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا] اهـ.

وهذا يمنع أن التعبد فقط هو المطلب الشرعي، ويوضح ذلك قولُه تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] فجعل العدة حقًّا للزوج.

فالعدة قد تكون حقًّا للعباد كما تكون تعبدية، وحقوق العباد مُطَالَب بها قضاءً المسلمة والكتابية، فوجب بذلك قضاء العدة على الكتابيات.

قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ في "الأم" (5/ 230، ط. دار المعرفة): [وَالْحُرَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ يُطَلِّقُهَا الْمُسْلِمُ أَوْ يَمُوتُ عَنْهَا مِثْلُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَجَمِيعُ مَا لَزِمَ الْمُسْلِمَةَ لَازِمٌ لَهَا مِنَ الْإِحْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ قَبْلَ أَنْ تُكْمِلَهَا لَمْ تَسْتَأْنِفْ وَبَنَتْ عَلَى عِدَّتِهَا، وَهَكَذَا إنْ طَلَّقَهَا الْكِتَابِيُّ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ لِلزَّوْجِ حَيًّا وَوَرَثَتِهِ مَيِّتًا مِنْ مَنْعِهَا الْخُرُوجَ مَا لَهُمْ مِنْ مَنْعِ الْمُسْلِمَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ الْمُسْلِمَ وَلَا يَرِثُهَا] اهـ.

وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (3/ 191، ط. المكتبة العلمية): [وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالأَمَةُ كَالأَمَةِ؛ لأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللهِ، وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49]، وَالْكِتَابِيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ إيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (8/ 96، ط. مكتبة القاهرة): [وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ دِينِهِمْ، لَمْ تَلْزَمْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ. وَلَنَا عُمُومُ الْآيَاتِ؛ وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَةَ. وَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، فِي قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي وَمَنْ تَبِعَهُمْ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَعْتَدُّ مِنَ الْوَفَاةِ بِحَيْضَةِ. وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: 234]، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ، أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ] اهـ.

ومما تقدم يتبين أن الزوجة الكتابية إذا طلقها زوجها المسلم فعليها ما على المسلمات من العدة، ولها ما للمسلمات من النفقة والسكنى، ويختلف هذا باختلاف حالتها، فإن كانت من ذوات الأقراء كانت عدتها ثلاث حيضات، وإن لم تكن كذلك فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملًا فتنتهي عدتها بوضع الحمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;