أدب المسلم مع غيره عند الإنكار في المسائل المختلف فيها

في ظل الحالة الإفتائية المعاصرة وما يشوبها من خلاف وتلبيس، يحتاج الاختلاف والخلاف إلى فقه خاص، إن لم يرفعه ويحلّ الوفاق محله، يمنع من تمادي المختلفين إلى ألوان الصراع والتعادي. فعلى سبيل المثال نجد من يرى حرمة حلق اللحية وينكر على من يرى كراهة حلقها، وهناك من يرى وجوب تغطية وجه المرأة وينكر على من قال: بجواز كشف وجهها، في سلسلة طويلة من المسائل الخلافية.
ونريد أن نعرف متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟ ومتى يجوز للمسلم الإنكار على أخيه المسلم؟ وهل كثرة الأقوال في الفقه الإسلامي من باب الرحمة أم النقمة؟ وهل ما يفعله هؤلاء المنكرون هو الصواب؟
 

 الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: الـمُضادة وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. ينظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" (1/ 179، ط. المكتبة العلمية).
هناك فرق بين الخلاف والاختلاف..
الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء؛ فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بـمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا. ينظر: "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/ 292-291، ط. دار السلاسل).
ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (ص: 470، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني] اهـ.
وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله في "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 403): [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213]، ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4]، ولا دليل لـهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول أبو البقاء في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا، والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل، فالاختلاف من آثار الرحمة.. والخلاف من آثار البدعة، ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ بتصرف يسير.
ويقول الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي فقال في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان ناشرون): [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
- متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟
والخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر؛ أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل أو عليه دليل ليس بقوي؛ ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مـما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بـمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي الـمُدْرَك؛ والـمدرك: مكان الإدراك وهو الدليل؛ لأن الدليل محلّ إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: "حاشية العطار على شرح الـمحلي لجمع الجوامع" (2/ 250، ط. دار الكتب العلمية)، و"الـمصباح المنير" (1/ 192-193، ط. المكتبة العلمية).
الشرط الثاني: ألَّا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألَّا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألَّا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع سعة ورحمة:
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحدٌ أحدًا، ولا نسب أحدٌ أحدًا إلى خطأ ولا قصور. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر، مصر) (2/ ب).
قال الإمام الذهبي -بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده-: [ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه، لـما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة] اهـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 40، ط. مؤسسة الرسالة).
فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية. ينظر: "أدب الاختلاف" (ص: 36، ط. دار قرطبة).
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد: أن رجلًا صنَّف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام: [لا تُسمِّه كتابَ الاختلاف، ولكن سـمه كتابَ السَّعَة] اهـ. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 79، ط. مجمع الملك فهد)، فنبَّه الإمامُ أحمد غيره إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يظن أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قبيل الاختلاف المذموم، وهو الاختلاف في الأصول. انظر: "أدب الاختلاف" (ص: 32).
قال الإمام السيوطي: [اعلم أن اختلاف المذاهب في الـملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سرٌّ لطيف أدركه العالـمون وعمي عنه الجاهلون؛ حتى سـمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟!
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربـما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك] اهـ. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بـمكتبة الأزهر، مصر) (2/ أ-ب).
وقال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه "المغني" (1/ 3-4، ط. مكتبة القاهرة): [فإن الله تعالى برحمته وطَوْلِهِ وقوته وحَوْلِهِ ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلـهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بـها وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهَّد بـهم قواعد الإسلام، وأوضح بـهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة] اهـ.
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالـهم أصرح من مقالـهم، ومن ذلك: ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: "ما يسرني أنـهم لم يختلفوا". ثم كتب إلى الأمصار: "ليقضِ كل قوم بـما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" (22/ 407) لابن تيمية في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بـها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
ونخص بكلامنا ما قد يثيره في زماننا غير المتخصصين؛ من الإنكار على مخالفيهم في مسائل الفروع التي يظنون أن الصواب فيها هو ما هم عليه فقط، وذلك لجهل أغلبهم بقاعدة مشهورة بين العلماء وأهل التخصص، وهي أنه "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر الـمجمع عليه"؛ قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية): [ويستثنى صور، يُنكرُ فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقص، ومن ثم وجب الحد على المرتـهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم، فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح] اهـ.
خطأ الإنكار في المختلف فيه:
فالإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتـهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة؛ من أن العامي الـمحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول" (ص: 16، ط. مطبعة المعاهد، القاهرة) تحت عنوان: (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين؛ كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتـها حجة على الناس تثبت بـها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد بل لأنـها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها، مع عدالتهم وسعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها؛ ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونـها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بـها من تـمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي؛ صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
الخلاصة:
وبناء على كل ما تقدم: فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بـها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذٍ الإنكار.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
___________________________
المصادر والمراجع:
- "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (تحقيق: محمد سيد كيلاني، الناشر: دار المعرفة، بيروت).
- "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين" بقلم: محمد عوامة، (الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط2، 1418هـ/ 1997م).
- "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "الدر المختار"، ومعه "حاشية ابن عابدين" (تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، تقديم: د. محمد بكر إسماعيل، الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة، 1423هـ/ 2003م).
- "الكليات"، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي (تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1998م).
- "المحكم والمحيط الأعظم" لأبي الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ"ابن سيده" (تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م).
- "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي" لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "المغني" لابن قدامة المقدسي (الناشر: دار إحياء التراث العربي).
- "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" لجلال الدين السيوطي (نسخة مخطوط بمكتبة الأزهر، مصر).
- "حاشية العطار على شرح الإمام المحلي لجمع الجوامع لتاج الدين السبكي" (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "سنن الدارمي" (تحقيق: فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ).
- "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ/ 1982م).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، الناشر: دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م).
- "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" للشيخ محمد حسنين مخلوف (مطبعة مصطفى الحلبي).

 

التفاصيل ....

 الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: الـمُضادة وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. ينظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" (1/ 179، ط. المكتبة العلمية).
هناك فرق بين الخلاف والاختلاف..
الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء؛ فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بـمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا. ينظر: "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/ 292-291، ط. دار السلاسل).
ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (ص: 470، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني] اهـ.
وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله في "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 403): [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213]، ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4]، ولا دليل لـهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول أبو البقاء في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا، والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل، فالاختلاف من آثار الرحمة.. والخلاف من آثار البدعة، ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ بتصرف يسير.
ويقول الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي فقال في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان ناشرون): [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
- متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟
والخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر؛ أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل أو عليه دليل ليس بقوي؛ ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مـما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بـمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي الـمُدْرَك؛ والـمدرك: مكان الإدراك وهو الدليل؛ لأن الدليل محلّ إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: "حاشية العطار على شرح الـمحلي لجمع الجوامع" (2/ 250، ط. دار الكتب العلمية)، و"الـمصباح المنير" (1/ 192-193، ط. المكتبة العلمية).
الشرط الثاني: ألَّا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألَّا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألَّا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع سعة ورحمة:
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحدٌ أحدًا، ولا نسب أحدٌ أحدًا إلى خطأ ولا قصور. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر، مصر) (2/ ب).
قال الإمام الذهبي -بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده-: [ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه، لـما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة] اهـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 40، ط. مؤسسة الرسالة).
فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية. ينظر: "أدب الاختلاف" (ص: 36، ط. دار قرطبة).
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد: أن رجلًا صنَّف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام: [لا تُسمِّه كتابَ الاختلاف، ولكن سـمه كتابَ السَّعَة] اهـ. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 79، ط. مجمع الملك فهد)، فنبَّه الإمامُ أحمد غيره إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يظن أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قبيل الاختلاف المذموم، وهو الاختلاف في الأصول. انظر: "أدب الاختلاف" (ص: 32).
قال الإمام السيوطي: [اعلم أن اختلاف المذاهب في الـملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سرٌّ لطيف أدركه العالـمون وعمي عنه الجاهلون؛ حتى سـمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟!
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربـما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك] اهـ. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بـمكتبة الأزهر، مصر) (2/ أ-ب).
وقال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه "المغني" (1/ 3-4، ط. مكتبة القاهرة): [فإن الله تعالى برحمته وطَوْلِهِ وقوته وحَوْلِهِ ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلـهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بـها وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهَّد بـهم قواعد الإسلام، وأوضح بـهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة] اهـ.
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالـهم أصرح من مقالـهم، ومن ذلك: ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: "ما يسرني أنـهم لم يختلفوا". ثم كتب إلى الأمصار: "ليقضِ كل قوم بـما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" (22/ 407) لابن تيمية في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بـها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
ونخص بكلامنا ما قد يثيره في زماننا غير المتخصصين؛ من الإنكار على مخالفيهم في مسائل الفروع التي يظنون أن الصواب فيها هو ما هم عليه فقط، وذلك لجهل أغلبهم بقاعدة مشهورة بين العلماء وأهل التخصص، وهي أنه "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر الـمجمع عليه"؛ قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية): [ويستثنى صور، يُنكرُ فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقص، ومن ثم وجب الحد على المرتـهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم، فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح] اهـ.
خطأ الإنكار في المختلف فيه:
فالإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتـهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة؛ من أن العامي الـمحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول" (ص: 16، ط. مطبعة المعاهد، القاهرة) تحت عنوان: (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين؛ كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتـها حجة على الناس تثبت بـها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد بل لأنـها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها، مع عدالتهم وسعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها؛ ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونـها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بـها من تـمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي؛ صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
الخلاصة:
وبناء على كل ما تقدم: فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بـها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذٍ الإنكار.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
___________________________
المصادر والمراجع:
- "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (تحقيق: محمد سيد كيلاني، الناشر: دار المعرفة، بيروت).
- "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين" بقلم: محمد عوامة، (الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط2، 1418هـ/ 1997م).
- "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "الدر المختار"، ومعه "حاشية ابن عابدين" (تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، تقديم: د. محمد بكر إسماعيل، الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة، 1423هـ/ 2003م).
- "الكليات"، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي (تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1998م).
- "المحكم والمحيط الأعظم" لأبي الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ"ابن سيده" (تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م).
- "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي" لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "المغني" لابن قدامة المقدسي (الناشر: دار إحياء التراث العربي).
- "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" لجلال الدين السيوطي (نسخة مخطوط بمكتبة الأزهر، مصر).
- "حاشية العطار على شرح الإمام المحلي لجمع الجوامع لتاج الدين السبكي" (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "سنن الدارمي" (تحقيق: فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ).
- "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ/ 1982م).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، الناشر: دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م).
- "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" للشيخ محمد حسنين مخلوف (مطبعة مصطفى الحلبي).

 

اقرأ أيضا

أدب المسلم مع غيره عند الإنكار في المسائل المختلف فيها

في ظل الحالة الإفتائية المعاصرة وما يشوبها من خلاف وتلبيس، يحتاج الاختلاف والخلاف إلى فقه خاص، إن لم يرفعه ويحلّ الوفاق محله، يمنع من تمادي المختلفين إلى ألوان الصراع والتعادي. فعلى سبيل المثال نجد من يرى حرمة حلق اللحية وينكر على من يرى كراهة حلقها، وهناك من يرى وجوب تغطية وجه المرأة وينكر على من قال: بجواز كشف وجهها، في سلسلة طويلة من المسائل الخلافية.
ونريد أن نعرف متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟ ومتى يجوز للمسلم الإنكار على أخيه المسلم؟ وهل كثرة الأقوال في الفقه الإسلامي من باب الرحمة أم النقمة؟ وهل ما يفعله هؤلاء المنكرون هو الصواب؟
 

 الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: الـمُضادة وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. ينظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" (1/ 179، ط. المكتبة العلمية).
هناك فرق بين الخلاف والاختلاف..
الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء؛ فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بـمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا. ينظر: "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/ 292-291، ط. دار السلاسل).
ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (ص: 470، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني] اهـ.
وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله في "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 403): [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213]، ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4]، ولا دليل لـهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول أبو البقاء في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا، والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل، فالاختلاف من آثار الرحمة.. والخلاف من آثار البدعة، ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ بتصرف يسير.
ويقول الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي فقال في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان ناشرون): [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
- متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟
والخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر؛ أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل أو عليه دليل ليس بقوي؛ ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مـما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بـمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي الـمُدْرَك؛ والـمدرك: مكان الإدراك وهو الدليل؛ لأن الدليل محلّ إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: "حاشية العطار على شرح الـمحلي لجمع الجوامع" (2/ 250، ط. دار الكتب العلمية)، و"الـمصباح المنير" (1/ 192-193، ط. المكتبة العلمية).
الشرط الثاني: ألَّا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألَّا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألَّا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع سعة ورحمة:
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحدٌ أحدًا، ولا نسب أحدٌ أحدًا إلى خطأ ولا قصور. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر، مصر) (2/ ب).
قال الإمام الذهبي -بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده-: [ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه، لـما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة] اهـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 40، ط. مؤسسة الرسالة).
فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية. ينظر: "أدب الاختلاف" (ص: 36، ط. دار قرطبة).
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد: أن رجلًا صنَّف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام: [لا تُسمِّه كتابَ الاختلاف، ولكن سـمه كتابَ السَّعَة] اهـ. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 79، ط. مجمع الملك فهد)، فنبَّه الإمامُ أحمد غيره إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يظن أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قبيل الاختلاف المذموم، وهو الاختلاف في الأصول. انظر: "أدب الاختلاف" (ص: 32).
قال الإمام السيوطي: [اعلم أن اختلاف المذاهب في الـملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سرٌّ لطيف أدركه العالـمون وعمي عنه الجاهلون؛ حتى سـمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟!
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربـما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك] اهـ. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بـمكتبة الأزهر، مصر) (2/ أ-ب).
وقال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه "المغني" (1/ 3-4، ط. مكتبة القاهرة): [فإن الله تعالى برحمته وطَوْلِهِ وقوته وحَوْلِهِ ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلـهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بـها وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهَّد بـهم قواعد الإسلام، وأوضح بـهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة] اهـ.
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالـهم أصرح من مقالـهم، ومن ذلك: ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: "ما يسرني أنـهم لم يختلفوا". ثم كتب إلى الأمصار: "ليقضِ كل قوم بـما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" (22/ 407) لابن تيمية في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بـها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
ونخص بكلامنا ما قد يثيره في زماننا غير المتخصصين؛ من الإنكار على مخالفيهم في مسائل الفروع التي يظنون أن الصواب فيها هو ما هم عليه فقط، وذلك لجهل أغلبهم بقاعدة مشهورة بين العلماء وأهل التخصص، وهي أنه "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر الـمجمع عليه"؛ قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية): [ويستثنى صور، يُنكرُ فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقص، ومن ثم وجب الحد على المرتـهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم، فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح] اهـ.
خطأ الإنكار في المختلف فيه:
فالإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتـهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة؛ من أن العامي الـمحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول" (ص: 16، ط. مطبعة المعاهد، القاهرة) تحت عنوان: (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين؛ كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتـها حجة على الناس تثبت بـها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد بل لأنـها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها، مع عدالتهم وسعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها؛ ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونـها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بـها من تـمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي؛ صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
الخلاصة:
وبناء على كل ما تقدم: فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بـها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذٍ الإنكار.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
___________________________
المصادر والمراجع:
- "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (تحقيق: محمد سيد كيلاني، الناشر: دار المعرفة، بيروت).
- "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين" بقلم: محمد عوامة، (الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط2، 1418هـ/ 1997م).
- "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "الدر المختار"، ومعه "حاشية ابن عابدين" (تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، تقديم: د. محمد بكر إسماعيل، الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة، 1423هـ/ 2003م).
- "الكليات"، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي (تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1998م).
- "المحكم والمحيط الأعظم" لأبي الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ"ابن سيده" (تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م).
- "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي" لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "المغني" لابن قدامة المقدسي (الناشر: دار إحياء التراث العربي).
- "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" لجلال الدين السيوطي (نسخة مخطوط بمكتبة الأزهر، مصر).
- "حاشية العطار على شرح الإمام المحلي لجمع الجوامع لتاج الدين السبكي" (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "سنن الدارمي" (تحقيق: فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ).
- "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ/ 1982م).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، الناشر: دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م).
- "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" للشيخ محمد حسنين مخلوف (مطبعة مصطفى الحلبي).

 

التفاصيل ....

 الاختلاف في اللغة: مصدر "اختلف" وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: الـمُضادة وهو مصدر "خَلَفَ"، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف. ينظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 200، ط. دار الكتب العلمية)، و"المصباح المنير" (1/ 179، ط. المكتبة العلمية).
هناك فرق بين الخلاف والاختلاف..
الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء؛ فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بـمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا. ينظر: "الموسوعة الفقهية الكويتية" (2/ 292-291، ط. دار السلاسل).
ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في "الفتاوى الهندية" (3/ 312، ط. دار الفكر): [إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟] اهـ. فما عبروا عنه أولًا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد.
قال العلامة الحصكفي في "الدر المختار" (ص: 470، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلًا لا الثاني] اهـ.
وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله في "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 403): [(قوله: والفرق... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ [البقرة: 213]، ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ [البينة: 4]، ولا دليل لـهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلًا] اهـ.
ومن العلماء مَن جعل بينهما فرقًا؛ يقول أبو البقاء في كتابه "الكليات" (ص: 61، ط. مؤسسة الرسالة): [والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا، والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل، فالاختلاف من آثار الرحمة.. والخلاف من آثار البدعة، ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع] اهـ بتصرف يسير.
ويقول الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 294، ط. دار القلم): [والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين] اهـ.
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي فقال في "كشاف اصطلاحات الفنون" (1/ 116، ط. مكتبة لبنان ناشرون): [قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف] اهـ.
- متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟
والخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر؛ أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل أو عليه دليل ليس بقوي؛ ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مـما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بـمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي الـمُدْرَك؛ والـمدرك: مكان الإدراك وهو الدليل؛ لأن الدليل محلّ إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: "حاشية العطار على شرح الـمحلي لجمع الجوامع" (2/ 250، ط. دار الكتب العلمية)، و"الـمصباح المنير" (1/ 192-193، ط. المكتبة العلمية).
الشرط الثاني: ألَّا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألَّا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألَّا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع سعة ورحمة:
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحدٌ أحدًا، ولا نسب أحدٌ أحدًا إلى خطأ ولا قصور. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر، مصر) (2/ ب).
قال الإمام الذهبي -بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده-: [ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه، لـما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة] اهـ. ينظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 40، ط. مؤسسة الرسالة).
فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية. ينظر: "أدب الاختلاف" (ص: 36، ط. دار قرطبة).
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد: أن رجلًا صنَّف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام: [لا تُسمِّه كتابَ الاختلاف، ولكن سـمه كتابَ السَّعَة] اهـ. انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 79، ط. مجمع الملك فهد)، فنبَّه الإمامُ أحمد غيره إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يظن أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قبيل الاختلاف المذموم، وهو الاختلاف في الأصول. انظر: "أدب الاختلاف" (ص: 32).
قال الإمام السيوطي: [اعلم أن اختلاف المذاهب في الـملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سرٌّ لطيف أدركه العالـمون وعمي عنه الجاهلون؛ حتى سـمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟!
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربـما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك] اهـ. انظر: "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" للسيوطي (نسخة مخطوطة بـمكتبة الأزهر، مصر) (2/ أ-ب).
وقال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه "المغني" (1/ 3-4، ط. مكتبة القاهرة): [فإن الله تعالى برحمته وطَوْلِهِ وقوته وحَوْلِهِ ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلـهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بـها وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهَّد بـهم قواعد الإسلام، وأوضح بـهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة] اهـ.
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالـهم أصرح من مقالـهم، ومن ذلك: ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: "ما يسرني أنـهم لم يختلفوا". ثم كتب إلى الأمصار: "ليقضِ كل قوم بـما اجتمع عليه فقهاؤهم" أخرجه الدارمي في "سننه".
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في "مجموع الفتاوى" (22/ 407) لابن تيمية في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بـها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: [ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا] اهـ.
ونخص بكلامنا ما قد يثيره في زماننا غير المتخصصين؛ من الإنكار على مخالفيهم في مسائل الفروع التي يظنون أن الصواب فيها هو ما هم عليه فقط، وذلك لجهل أغلبهم بقاعدة مشهورة بين العلماء وأهل التخصص، وهي أنه "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر الـمجمع عليه"؛ قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية): [ويستثنى صور، يُنكرُ فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقص، ومن ثم وجب الحد على المرتـهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم، فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح] اهـ.
خطأ الإنكار في المختلف فيه:
فالإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتـهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة؛ من أن العامي الـمحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه "بلوغ السول" (ص: 16، ط. مطبعة المعاهد، القاهرة) تحت عنوان: (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين؛ كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتـها حجة على الناس تثبت بـها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد بل لأنـها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها، مع عدالتهم وسعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها؛ ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونـها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة، وملكة قوية يتمكن بـها من تـمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي؛ صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع] اهـ.
الخلاصة:
وبناء على كل ما تقدم: فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بـها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذٍ الإنكار.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
___________________________
المصادر والمراجع:
- "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (تحقيق: محمد سيد كيلاني، الناشر: دار المعرفة، بيروت).
- "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين" بقلم: محمد عوامة، (الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط2، 1418هـ/ 1997م).
- "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "الدر المختار"، ومعه "حاشية ابن عابدين" (تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، تقديم: د. محمد بكر إسماعيل، الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة، 1423هـ/ 2003م).
- "الكليات"، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي (تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1998م).
- "المحكم والمحيط الأعظم" لأبي الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ"ابن سيده" (تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م).
- "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي" لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "المغني" لابن قدامة المقدسي (الناشر: دار إحياء التراث العربي).
- "جزيل المواهب في اختلاف المذاهب" لجلال الدين السيوطي (نسخة مخطوط بمكتبة الأزهر، مصر).
- "حاشية العطار على شرح الإمام المحلي لجمع الجوامع لتاج الدين السبكي" (الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت).
- "سنن الدارمي" (تحقيق: فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ).
- "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ/ 1982م).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، الناشر: دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م).
- "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" للشيخ محمد حسنين مخلوف (مطبعة مصطفى الحلبي).

 

اقرأ أيضا
;