حكم التقليد واتباع المذاهب

بعض المتصدرين للدعوة والإرشاد يحذرون الناس من تقليد المذاهب الفقهية الأربعة بدعوى أن الواجب هو أخذ الأحكام من الكتاب والسنة فقط، وأن أئمة هذه المذاهب أنفسهم قد نهوا عن تقليدهم، فما هي حقيقة التقليد؟ وهل يصح هذا الكلام في ذم التقليد أم لا؟ وهل أقوال المذاهب مخالفة للكتاب والسنة فعلًا؟

المراد بالتقليد في اللغة:
التقليد في اللغة: مأخوذٌ من القِلادة، وهي ما جُعِلَت في العُنُقِ، وتكون للإِنسان والفَرَس والبَدَنَة التي تُهدَى في الحج، وجَعْلُ القِلادة في عُنُق ما يُهدَى إلى الحرم مِن النعم؛ ليُعْلَم أنه هَديٌ فيكف الناس عنه؛ تعظيمًا للبيت وما أُهدِي إليه. انظر "تاج العروس" (9/ 64 مادة: ق ل د)، و"البحر المحيط" للإمام الزركشي (8/ 316).
التقليد في الاصطلاح له معنيان:
أحدهما: العمل بقول الغير من غير حجة من الحجج الشرعية الملزمة، أي؛ من غير دليل قائم على حكمه أو حجيته.
والثاني: العمل بقول المجتهد من غير معرفة دليله معرفة تامة.
والأول غير جائز باتفاق، والثاني جائز، بل لازم عند أهل العلم. "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 25)، و"الموجز في أصول الفقه" (ص: 295)، و"التقرير والتحبير" (3/ 340-341).
والمراد بقولنا (من غير معرفة دليله) أي: معرفة تامة للدليل، وهي معرفة الاستنباط الاجتهادي والاكتساب الفقهي الذي يُشترَط في اعتبارهما توفر شروط الاجتهاد التي في كتب الأصول.
فدخل في التقليد: أخْذ العامي بقول المجتهد من غير معرفة دليله أصلًا أو مع عدم معرفته معرفة تامة بأن عرف وجه دلالته، ولكن لا يعرفها من الوجه الذي باعتباره يفيد الحكم. سواء أَذَكَرَ المجتهد في قوله سندَ الحكم أم لا، وسواء أخذه عنه مباشرة أم بواسطة عالم موثوق به يرويه له عن نفس المجتهد أو عن مذهبه المدوَّن في الكتب المعتمدة. انظر "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 23).
المكلفون بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان:
قسم قادر على أخْذ الأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد، وقسم دون ذلك.
والأول: هم المجتهدون، والثاني: هم المقلِّدون، ولا بُدَّ لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي ليعمل به حسبما كُلِّف.
فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد للعمل بالأحكام الشرعية واتِّباعها. والثاني مأمور بتقليده كذلك. المرجع السابق (ص: 26).
حقيقة المقلد عند الأصوليين:
وجمهور الأصوليين على أن المقلِّد يشمل: العامي المحض؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد، والعالم الذي تَعَلَّمَ بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فكل منهما يلزمه التقليد.
أقول العلماء في مشروعية التقليد:
وقد اتفق جمهور العلماء على مشروعية التقليد ووجوبه عند عدم التمكن من الاجتهاد، يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: "بلوغ السول" (ص: 15) تحت عنوان (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا-: أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع..
ثم قال: وكما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم؛ كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله، أو قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو مجردًا عنه. فإن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لـمَن لم يعلم حكم الله في النازلة غير لازم خصوصًا إذا كان مـمَّن لا يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان الدليل ذا مقدمات يتوقف فهمها وتقريب الاستدلال بها على أمور ليس للعامي إلمام بها] اهـ.
ويقول الإمام الشاطبي في"الموافقات" (4/ 292-293): [فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة؛ وقد قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمقلِّد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فَهُمْ إذًا القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع] اهـ.
والعوام في زمن الصحابة والتابعين كانوا إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت لهم واقعة يهرعون إلى الصحابة والتابعين؛ ليسألوهم عن حكم الله في تلك الحادثة، وكانوا يجيبونهم عن هذه المسائل من غير أن ينكروا عليهم ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم أمروا هؤلاء السائلين بأن يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم، فكان ذلك إجماعًا من الصحابة والتابعين على أن مَن لم يقدر على الاجتهاد فطريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر عليها، فتكليف العوام بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع السكوتي.
وكذلك فإن القول بمنع التقليد فيه ما فيه من تكليف مَن لا قدرة له على الاجتهاد بمعرفة الحكم عن دليله وهو تكليفٌ له بما ليس في وسعه، فيكون منهيًّا عنه؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ويضاف إلى ذلك أنه يؤدي إلى ترك الناس مصالحهم الضرورية، والاشتغال عن معايشهم في الحياة الدنيا، بتعطيل الحرف والصناعات لمعرفة الأحكام، وفي ذلك فساد للأحوال. "أصول الفقه" لمحمد أبي النور زهير (4/ 209، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، وتعليق الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات" (4/ 292).
* حكم التزام المقلد لمذهب معين:
وبعد أن قرر العلماء أن التقليد في الفروع مشروع بلا غضاضة اختلفوا بعد ذلك في أن التزام المقلد تقليد مذهب معين من مذاهب المجتهدين في كل واقعة على قولين:
الأول: أنه يجب التزام مذهب معين، قال الإمام الجلال المحلي في "شرح المحلي على جمع الجوامع" (2/ 441، ط. دار الكتب العلمية): [(و) الأصح (أنه يَجِبُ) على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد (التزامُ مذهبٍ معين) من مذاهب المجتهدين (يعتقده أرْجَحَ) من غيره (أو مساويًا) له، وإن كان نفس الأمر مرجوحًا على المختار المتقدم، (ثم) في المساوي (ينبغي السعي في اعتقاده أرجح) ليتجه اختياره على غيره] اهـ.
الثاني: أنه لا يجب عليه التزام مذهب معين في كل واقعة، بل له أن يأخذ بقول أي مجتهد شاء وهو الصحيح؛ ولذلك اشتهر قولهم: "العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه"، أي: المعروف بالعلم والعدالة. وهذا الأخير هو الصحيح؛ قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (11/ 117، ط. المكتب الإسلامي): [الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، أو مَنِ اتَّفق من غير تلقُّطٍ للرخص، ولعل مَن مَنَعَه لم يثق بعدم تلقطه] اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (1/ 51) عن الشرنبلالي قوله: [ليس على الإنسان التزامُ مذهب معين, وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غيرَ إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض] اهـ.
ويؤيد ذلك أن الله تعالى قد أوجب اتباع العلماء من غير تخصيص بعالم دون آخر؛ إذ قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمستفتون في عصر الصحابة والتابعين لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون مَن تهيأ لهم دون تقيُّد بواحد دون آخر، ولم ينكر عليهم أحد.
واتباع المقلِّد لمن شاء من المجتهدين هو اتباع للحق؛ فإن جميع الأئمة على حقّ بمعنى أن الواحد ليس عليه إلا أن يسير حسب ما هداه إليه اجتهاده، ولا ينبغي للمقلد أن يتصوَّر وهو يختار اتباع واحد منهم أن الآخرين على خطأ. انظر "أصول الفقه الإسلامي" (2/ 1137-1139)، و"اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية" للدكتور محمد سعيد البوطي (ص: 37-38).
* الفرق بين التقليد واتباع مذهب أثناء الدراسة:
وأما اتباع المذاهب في إطار الدراسة والتفقه، فهذا مما لا فكاك منه ولا بديل عنه؛ لأن هذه المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة قد خُدِمت خدمة لم تتوفر لغيرها، فاعتني بنقلها وتحريرها ومعرفة الراجح فيها، واستدل لها وترجم لأئمتها بما جعل كل واحدة منها مدرسة مستقلة لها أصول معلومة، وفروع محررة يتحتم على من أراد التفقه في الدين أن يسلك أحدها متعلمًا ودارسًا ومتدربًا، فتكون بدايته هو من حيث انتهوا هم.
* بعض الاعتراضات التي وردت على التقليد والتمذهب:
الاعتراض الأول: الدليل الذي أوجب الشرع علينا اتباعه هو الكتاب والسنة، وليس كلام الأئمة.
جوابه: الدليل ليس هو الكتاب والسنة فقط، بل الدليل يشمل أيضًا الإجماع، والقياس، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان، وغير ذلك.
وفَهْمُ معنى الدليل على أنه الكتاب والسنة فقط قصور ظاهر؛ لأن الدليل معناه أعم من أن يكون محصورًا في الكتاب والسنة فقط، فالكتاب والسنة إنما هي نصوص يستنبط ويستخرج منهما المجتهد الأحكام، وكذلك من غيرهما من الأدلة.
وكذلك فإن أقوال الأئمة المجتهدين ليست قسيمًا للكتاب والسنة، بل إن أقوالهم هي نتاج فهمهم لهما، فأقوالهم تفسير وبيان للكتاب والسنة.
فالأخْذ بأقوال الأئمة ليس تركًا للآيات والأحاديث، بل هو عين التمسُّك بهما؛ فإن الآيات والأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيح الأحاديث وسقيمها، وحسنها وضعيفها، ومرفوعها ومرسلها، ومتواترها ومشهورها، وتاريخ المتقدم والمتأخر منها، والناسخ والمنسوخ، وأسبابها، ولغاتها، وسائر علومها مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها.
وهذا كله مع كمال إدراكهم وقوة ديانتهم، واعتنائهم وورعهم ونور بصائرهم، فتفقهوا في القرآن والسنة على مقتضى قواعد العلوم التي لا بد منها في ذلك، واستخرجوا أسرار القرآن والأحاديث، واستنبطوا منها فوائد وأحكامًا، وبيَّنوا للناس ما يخفى عليهم على مقتضى المعقول والمنقول، فيسروا عليهم أمر دينهم، وأزالوا المشكلات باستخراج الفروع من الأصول، ورد الفروع إليها، فاستقر بسببهم الخير العميم. راجع "مقالات وفتاوى" للشيخ يوسف الدجوي (2/ 581).
الاعتراض الثاني:
نرى المقلدة لا يترك أحدهم مذهبه إذا رأى حديثًا يخالفه، وهذا من التقديم بين يدي الله ورسوله.
ويجيب عن هذا الاعتراض الشيخ الكيرانوي في كتابه "فوائد في علوم الفقه" (ص: 30).؛ فيقول: [هذا هو منشأ ظنكم الفاسد، واعتقادكم الباطل أنَّا نُرجِّح قول الإمام على قول الله ورسوله مع أن الأمر ليس كذلك، وحقيقة الأمر أن ظهور قول الله ورسوله على خلاف قول الإمام موقوف على أمرين:
أحدهما: أن يعلم أن ذلك قول الله والرسول.
والثاني: أن يعلم أنه مخالف لقول الإمام.
ولا علم عند المقلِّد بأحد من هذين الأمرين؛ لأن هذا العلم موقوف على الاستدلال، والمقلِّد إما لا يقدر عليه أصلًا، أو يكون استدلاله غير قابل للاعتبار شرعًا؛ كاستدلال مَن استدل على وجوب الغسل على المشجوج بآية التيمم.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن له أن يحكم على المجتهد بأنه خالف حكم الله ورسوله باجتهاد نفسه؟
وإذا لم يمكن ذلك فكيف يترك قوله للمخالفة؟
فالحاصل: أن عدم ترك المقلد قول الإمام للحديث وغيره؛ ليس لأن قول الإمام راجح عنده على قوله الله والرسول حاشاه من ذلك، بل لأجل أنه لم يثبت عنده مخالفة الإمام لله والرسول.
فإن قلت: إن كان لا يعلم هو المخالفة بنفسه، فنحن والعلماء الآخرون معنا نُعْلِمُه بأن إمامه خالف الحديث.
قلنا: إن صدَّقكم في هذا القول بالاستدلال فهو ليس بأهلٍ للاستدلال، ولا يُعتمَد على صحَّة استدلاله فكيف بالتصديق؟ وإن صدَّقكم بدون حجَّة يكون مقلِّدًا لكم، وليس أحد التقليدين أولى من الآخر فكيف يترك تقليده السابق ويرجع إلى تقليدكم، فانكشف غبار الطعن واللجاج، ولله الحمد] اهـ.
الاعتراض الثالث:
تقليد الأئمة مخالف لما أرشدوا هم إليه؛ حيث نهوا عن تقليدهم، وخاصة إذا خالف رأيهم الحديث الصحيح، وقد ورد عن كل واحد من الأئمة الأربعة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
الجواب: دعوى أن الأئمة المجتهدين قد نهَوا عن تقليدهم مطلقًا هي دعوى باطلة؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم ذلك، ولو ثبت عنهم فتَرْكُ التقليد لقولهم هو عين التقليد، وهو منهي عنه عندكم، فكيف يجب ترك التقليد بتقليد قولهم؟ فالأمر بتقليدهم في أمرهم بترك التقليد إيجاب للنقيضين، وهو باطل.
ولو سلم ثبوت النقل عن الأئمة بالنهي عن تقليدهم فالمراد تحريم التقليد على مَن كان أهلًا للاجتهاد. المرجع السابق (ص: 33، 66).
وقد أجاب الإمام النووي في مقدمة "المجموع" (1/ 64، ط. دار الفكر) عن دعوى تحريض الأئمة مخالفة مذاهبهم إذا خالف الحديث رأيهم بقوله: [وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث, ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث, وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث, ولم يتفق ذلك إلا نادرًا, ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث، وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي، وعمل بظاهره, وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه, وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته, وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قَلَّ مَن يتصف به، وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال الشيخ أبو عمرو -يعني: ابن الصلاح- رحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث، وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي رحمه الله عمدًا، مع علمه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على غيره, كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي، قال: صحَّ حديثُ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» -رواه أبو داود في "سننه" (2369، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم)، والترمذي (774، كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم)، وابن ماجه (1679، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم).-.
فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم، فرُدَّ ذلك على أبي الوليد؛ لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخًا عنده، وبيَّن الشافعي نسخه واستدل عليه، وستراه في (كتاب الصيام) إن شاء الله تعالى، وقد قدمنا عن ابن خزيمة أنه قال: لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه. وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحلّ المعروف. قال الشيخ أبو عمرو: فمَن وجد من الشافعية حديثًا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقًا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابًا شافيًا فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه هنا, وهذا الذي قاله حسنٌ متعيّن] اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

المراد بالتقليد في اللغة:
التقليد في اللغة: مأخوذٌ من القِلادة، وهي ما جُعِلَت في العُنُقِ، وتكون للإِنسان والفَرَس والبَدَنَة التي تُهدَى في الحج، وجَعْلُ القِلادة في عُنُق ما يُهدَى إلى الحرم مِن النعم؛ ليُعْلَم أنه هَديٌ فيكف الناس عنه؛ تعظيمًا للبيت وما أُهدِي إليه. انظر "تاج العروس" (9/ 64 مادة: ق ل د)، و"البحر المحيط" للإمام الزركشي (8/ 316).
التقليد في الاصطلاح له معنيان:
أحدهما: العمل بقول الغير من غير حجة من الحجج الشرعية الملزمة، أي؛ من غير دليل قائم على حكمه أو حجيته.
والثاني: العمل بقول المجتهد من غير معرفة دليله معرفة تامة.
والأول غير جائز باتفاق، والثاني جائز، بل لازم عند أهل العلم. "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 25)، و"الموجز في أصول الفقه" (ص: 295)، و"التقرير والتحبير" (3/ 340-341).
والمراد بقولنا (من غير معرفة دليله) أي: معرفة تامة للدليل، وهي معرفة الاستنباط الاجتهادي والاكتساب الفقهي الذي يُشترَط في اعتبارهما توفر شروط الاجتهاد التي في كتب الأصول.
فدخل في التقليد: أخْذ العامي بقول المجتهد من غير معرفة دليله أصلًا أو مع عدم معرفته معرفة تامة بأن عرف وجه دلالته، ولكن لا يعرفها من الوجه الذي باعتباره يفيد الحكم. سواء أَذَكَرَ المجتهد في قوله سندَ الحكم أم لا، وسواء أخذه عنه مباشرة أم بواسطة عالم موثوق به يرويه له عن نفس المجتهد أو عن مذهبه المدوَّن في الكتب المعتمدة. انظر "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 23).
المكلفون بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان:
قسم قادر على أخْذ الأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد، وقسم دون ذلك.
والأول: هم المجتهدون، والثاني: هم المقلِّدون، ولا بُدَّ لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي ليعمل به حسبما كُلِّف.
فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد للعمل بالأحكام الشرعية واتِّباعها. والثاني مأمور بتقليده كذلك. المرجع السابق (ص: 26).
حقيقة المقلد عند الأصوليين:
وجمهور الأصوليين على أن المقلِّد يشمل: العامي المحض؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد، والعالم الذي تَعَلَّمَ بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فكل منهما يلزمه التقليد.
أقول العلماء في مشروعية التقليد:
وقد اتفق جمهور العلماء على مشروعية التقليد ووجوبه عند عدم التمكن من الاجتهاد، يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: "بلوغ السول" (ص: 15) تحت عنوان (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا-: أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع..
ثم قال: وكما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم؛ كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله، أو قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو مجردًا عنه. فإن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لـمَن لم يعلم حكم الله في النازلة غير لازم خصوصًا إذا كان مـمَّن لا يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان الدليل ذا مقدمات يتوقف فهمها وتقريب الاستدلال بها على أمور ليس للعامي إلمام بها] اهـ.
ويقول الإمام الشاطبي في"الموافقات" (4/ 292-293): [فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة؛ وقد قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمقلِّد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فَهُمْ إذًا القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع] اهـ.
والعوام في زمن الصحابة والتابعين كانوا إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت لهم واقعة يهرعون إلى الصحابة والتابعين؛ ليسألوهم عن حكم الله في تلك الحادثة، وكانوا يجيبونهم عن هذه المسائل من غير أن ينكروا عليهم ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم أمروا هؤلاء السائلين بأن يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم، فكان ذلك إجماعًا من الصحابة والتابعين على أن مَن لم يقدر على الاجتهاد فطريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر عليها، فتكليف العوام بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع السكوتي.
وكذلك فإن القول بمنع التقليد فيه ما فيه من تكليف مَن لا قدرة له على الاجتهاد بمعرفة الحكم عن دليله وهو تكليفٌ له بما ليس في وسعه، فيكون منهيًّا عنه؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ويضاف إلى ذلك أنه يؤدي إلى ترك الناس مصالحهم الضرورية، والاشتغال عن معايشهم في الحياة الدنيا، بتعطيل الحرف والصناعات لمعرفة الأحكام، وفي ذلك فساد للأحوال. "أصول الفقه" لمحمد أبي النور زهير (4/ 209، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، وتعليق الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات" (4/ 292).
* حكم التزام المقلد لمذهب معين:
وبعد أن قرر العلماء أن التقليد في الفروع مشروع بلا غضاضة اختلفوا بعد ذلك في أن التزام المقلد تقليد مذهب معين من مذاهب المجتهدين في كل واقعة على قولين:
الأول: أنه يجب التزام مذهب معين، قال الإمام الجلال المحلي في "شرح المحلي على جمع الجوامع" (2/ 441، ط. دار الكتب العلمية): [(و) الأصح (أنه يَجِبُ) على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد (التزامُ مذهبٍ معين) من مذاهب المجتهدين (يعتقده أرْجَحَ) من غيره (أو مساويًا) له، وإن كان نفس الأمر مرجوحًا على المختار المتقدم، (ثم) في المساوي (ينبغي السعي في اعتقاده أرجح) ليتجه اختياره على غيره] اهـ.
الثاني: أنه لا يجب عليه التزام مذهب معين في كل واقعة، بل له أن يأخذ بقول أي مجتهد شاء وهو الصحيح؛ ولذلك اشتهر قولهم: "العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه"، أي: المعروف بالعلم والعدالة. وهذا الأخير هو الصحيح؛ قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (11/ 117، ط. المكتب الإسلامي): [الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، أو مَنِ اتَّفق من غير تلقُّطٍ للرخص، ولعل مَن مَنَعَه لم يثق بعدم تلقطه] اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (1/ 51) عن الشرنبلالي قوله: [ليس على الإنسان التزامُ مذهب معين, وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غيرَ إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض] اهـ.
ويؤيد ذلك أن الله تعالى قد أوجب اتباع العلماء من غير تخصيص بعالم دون آخر؛ إذ قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمستفتون في عصر الصحابة والتابعين لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون مَن تهيأ لهم دون تقيُّد بواحد دون آخر، ولم ينكر عليهم أحد.
واتباع المقلِّد لمن شاء من المجتهدين هو اتباع للحق؛ فإن جميع الأئمة على حقّ بمعنى أن الواحد ليس عليه إلا أن يسير حسب ما هداه إليه اجتهاده، ولا ينبغي للمقلد أن يتصوَّر وهو يختار اتباع واحد منهم أن الآخرين على خطأ. انظر "أصول الفقه الإسلامي" (2/ 1137-1139)، و"اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية" للدكتور محمد سعيد البوطي (ص: 37-38).
* الفرق بين التقليد واتباع مذهب أثناء الدراسة:
وأما اتباع المذاهب في إطار الدراسة والتفقه، فهذا مما لا فكاك منه ولا بديل عنه؛ لأن هذه المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة قد خُدِمت خدمة لم تتوفر لغيرها، فاعتني بنقلها وتحريرها ومعرفة الراجح فيها، واستدل لها وترجم لأئمتها بما جعل كل واحدة منها مدرسة مستقلة لها أصول معلومة، وفروع محررة يتحتم على من أراد التفقه في الدين أن يسلك أحدها متعلمًا ودارسًا ومتدربًا، فتكون بدايته هو من حيث انتهوا هم.
* بعض الاعتراضات التي وردت على التقليد والتمذهب:
الاعتراض الأول: الدليل الذي أوجب الشرع علينا اتباعه هو الكتاب والسنة، وليس كلام الأئمة.
جوابه: الدليل ليس هو الكتاب والسنة فقط، بل الدليل يشمل أيضًا الإجماع، والقياس، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان، وغير ذلك.
وفَهْمُ معنى الدليل على أنه الكتاب والسنة فقط قصور ظاهر؛ لأن الدليل معناه أعم من أن يكون محصورًا في الكتاب والسنة فقط، فالكتاب والسنة إنما هي نصوص يستنبط ويستخرج منهما المجتهد الأحكام، وكذلك من غيرهما من الأدلة.
وكذلك فإن أقوال الأئمة المجتهدين ليست قسيمًا للكتاب والسنة، بل إن أقوالهم هي نتاج فهمهم لهما، فأقوالهم تفسير وبيان للكتاب والسنة.
فالأخْذ بأقوال الأئمة ليس تركًا للآيات والأحاديث، بل هو عين التمسُّك بهما؛ فإن الآيات والأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيح الأحاديث وسقيمها، وحسنها وضعيفها، ومرفوعها ومرسلها، ومتواترها ومشهورها، وتاريخ المتقدم والمتأخر منها، والناسخ والمنسوخ، وأسبابها، ولغاتها، وسائر علومها مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها.
وهذا كله مع كمال إدراكهم وقوة ديانتهم، واعتنائهم وورعهم ونور بصائرهم، فتفقهوا في القرآن والسنة على مقتضى قواعد العلوم التي لا بد منها في ذلك، واستخرجوا أسرار القرآن والأحاديث، واستنبطوا منها فوائد وأحكامًا، وبيَّنوا للناس ما يخفى عليهم على مقتضى المعقول والمنقول، فيسروا عليهم أمر دينهم، وأزالوا المشكلات باستخراج الفروع من الأصول، ورد الفروع إليها، فاستقر بسببهم الخير العميم. راجع "مقالات وفتاوى" للشيخ يوسف الدجوي (2/ 581).
الاعتراض الثاني:
نرى المقلدة لا يترك أحدهم مذهبه إذا رأى حديثًا يخالفه، وهذا من التقديم بين يدي الله ورسوله.
ويجيب عن هذا الاعتراض الشيخ الكيرانوي في كتابه "فوائد في علوم الفقه" (ص: 30).؛ فيقول: [هذا هو منشأ ظنكم الفاسد، واعتقادكم الباطل أنَّا نُرجِّح قول الإمام على قول الله ورسوله مع أن الأمر ليس كذلك، وحقيقة الأمر أن ظهور قول الله ورسوله على خلاف قول الإمام موقوف على أمرين:
أحدهما: أن يعلم أن ذلك قول الله والرسول.
والثاني: أن يعلم أنه مخالف لقول الإمام.
ولا علم عند المقلِّد بأحد من هذين الأمرين؛ لأن هذا العلم موقوف على الاستدلال، والمقلِّد إما لا يقدر عليه أصلًا، أو يكون استدلاله غير قابل للاعتبار شرعًا؛ كاستدلال مَن استدل على وجوب الغسل على المشجوج بآية التيمم.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن له أن يحكم على المجتهد بأنه خالف حكم الله ورسوله باجتهاد نفسه؟
وإذا لم يمكن ذلك فكيف يترك قوله للمخالفة؟
فالحاصل: أن عدم ترك المقلد قول الإمام للحديث وغيره؛ ليس لأن قول الإمام راجح عنده على قوله الله والرسول حاشاه من ذلك، بل لأجل أنه لم يثبت عنده مخالفة الإمام لله والرسول.
فإن قلت: إن كان لا يعلم هو المخالفة بنفسه، فنحن والعلماء الآخرون معنا نُعْلِمُه بأن إمامه خالف الحديث.
قلنا: إن صدَّقكم في هذا القول بالاستدلال فهو ليس بأهلٍ للاستدلال، ولا يُعتمَد على صحَّة استدلاله فكيف بالتصديق؟ وإن صدَّقكم بدون حجَّة يكون مقلِّدًا لكم، وليس أحد التقليدين أولى من الآخر فكيف يترك تقليده السابق ويرجع إلى تقليدكم، فانكشف غبار الطعن واللجاج، ولله الحمد] اهـ.
الاعتراض الثالث:
تقليد الأئمة مخالف لما أرشدوا هم إليه؛ حيث نهوا عن تقليدهم، وخاصة إذا خالف رأيهم الحديث الصحيح، وقد ورد عن كل واحد من الأئمة الأربعة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
الجواب: دعوى أن الأئمة المجتهدين قد نهَوا عن تقليدهم مطلقًا هي دعوى باطلة؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم ذلك، ولو ثبت عنهم فتَرْكُ التقليد لقولهم هو عين التقليد، وهو منهي عنه عندكم، فكيف يجب ترك التقليد بتقليد قولهم؟ فالأمر بتقليدهم في أمرهم بترك التقليد إيجاب للنقيضين، وهو باطل.
ولو سلم ثبوت النقل عن الأئمة بالنهي عن تقليدهم فالمراد تحريم التقليد على مَن كان أهلًا للاجتهاد. المرجع السابق (ص: 33، 66).
وقد أجاب الإمام النووي في مقدمة "المجموع" (1/ 64، ط. دار الفكر) عن دعوى تحريض الأئمة مخالفة مذاهبهم إذا خالف الحديث رأيهم بقوله: [وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث, ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث, وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث, ولم يتفق ذلك إلا نادرًا, ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث، وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي، وعمل بظاهره, وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه, وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته, وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قَلَّ مَن يتصف به، وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال الشيخ أبو عمرو -يعني: ابن الصلاح- رحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث، وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي رحمه الله عمدًا، مع علمه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على غيره, كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي، قال: صحَّ حديثُ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» -رواه أبو داود في "سننه" (2369، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم)، والترمذي (774، كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم)، وابن ماجه (1679، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم).-.
فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم، فرُدَّ ذلك على أبي الوليد؛ لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخًا عنده، وبيَّن الشافعي نسخه واستدل عليه، وستراه في (كتاب الصيام) إن شاء الله تعالى، وقد قدمنا عن ابن خزيمة أنه قال: لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه. وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحلّ المعروف. قال الشيخ أبو عمرو: فمَن وجد من الشافعية حديثًا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقًا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابًا شافيًا فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه هنا, وهذا الذي قاله حسنٌ متعيّن] اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا

حكم التقليد واتباع المذاهب

بعض المتصدرين للدعوة والإرشاد يحذرون الناس من تقليد المذاهب الفقهية الأربعة بدعوى أن الواجب هو أخذ الأحكام من الكتاب والسنة فقط، وأن أئمة هذه المذاهب أنفسهم قد نهوا عن تقليدهم، فما هي حقيقة التقليد؟ وهل يصح هذا الكلام في ذم التقليد أم لا؟ وهل أقوال المذاهب مخالفة للكتاب والسنة فعلًا؟

المراد بالتقليد في اللغة:
التقليد في اللغة: مأخوذٌ من القِلادة، وهي ما جُعِلَت في العُنُقِ، وتكون للإِنسان والفَرَس والبَدَنَة التي تُهدَى في الحج، وجَعْلُ القِلادة في عُنُق ما يُهدَى إلى الحرم مِن النعم؛ ليُعْلَم أنه هَديٌ فيكف الناس عنه؛ تعظيمًا للبيت وما أُهدِي إليه. انظر "تاج العروس" (9/ 64 مادة: ق ل د)، و"البحر المحيط" للإمام الزركشي (8/ 316).
التقليد في الاصطلاح له معنيان:
أحدهما: العمل بقول الغير من غير حجة من الحجج الشرعية الملزمة، أي؛ من غير دليل قائم على حكمه أو حجيته.
والثاني: العمل بقول المجتهد من غير معرفة دليله معرفة تامة.
والأول غير جائز باتفاق، والثاني جائز، بل لازم عند أهل العلم. "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 25)، و"الموجز في أصول الفقه" (ص: 295)، و"التقرير والتحبير" (3/ 340-341).
والمراد بقولنا (من غير معرفة دليله) أي: معرفة تامة للدليل، وهي معرفة الاستنباط الاجتهادي والاكتساب الفقهي الذي يُشترَط في اعتبارهما توفر شروط الاجتهاد التي في كتب الأصول.
فدخل في التقليد: أخْذ العامي بقول المجتهد من غير معرفة دليله أصلًا أو مع عدم معرفته معرفة تامة بأن عرف وجه دلالته، ولكن لا يعرفها من الوجه الذي باعتباره يفيد الحكم. سواء أَذَكَرَ المجتهد في قوله سندَ الحكم أم لا، وسواء أخذه عنه مباشرة أم بواسطة عالم موثوق به يرويه له عن نفس المجتهد أو عن مذهبه المدوَّن في الكتب المعتمدة. انظر "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 23).
المكلفون بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان:
قسم قادر على أخْذ الأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد، وقسم دون ذلك.
والأول: هم المجتهدون، والثاني: هم المقلِّدون، ولا بُدَّ لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي ليعمل به حسبما كُلِّف.
فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد للعمل بالأحكام الشرعية واتِّباعها. والثاني مأمور بتقليده كذلك. المرجع السابق (ص: 26).
حقيقة المقلد عند الأصوليين:
وجمهور الأصوليين على أن المقلِّد يشمل: العامي المحض؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد، والعالم الذي تَعَلَّمَ بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فكل منهما يلزمه التقليد.
أقول العلماء في مشروعية التقليد:
وقد اتفق جمهور العلماء على مشروعية التقليد ووجوبه عند عدم التمكن من الاجتهاد، يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: "بلوغ السول" (ص: 15) تحت عنوان (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا-: أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع..
ثم قال: وكما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم؛ كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله، أو قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو مجردًا عنه. فإن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لـمَن لم يعلم حكم الله في النازلة غير لازم خصوصًا إذا كان مـمَّن لا يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان الدليل ذا مقدمات يتوقف فهمها وتقريب الاستدلال بها على أمور ليس للعامي إلمام بها] اهـ.
ويقول الإمام الشاطبي في"الموافقات" (4/ 292-293): [فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة؛ وقد قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمقلِّد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فَهُمْ إذًا القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع] اهـ.
والعوام في زمن الصحابة والتابعين كانوا إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت لهم واقعة يهرعون إلى الصحابة والتابعين؛ ليسألوهم عن حكم الله في تلك الحادثة، وكانوا يجيبونهم عن هذه المسائل من غير أن ينكروا عليهم ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم أمروا هؤلاء السائلين بأن يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم، فكان ذلك إجماعًا من الصحابة والتابعين على أن مَن لم يقدر على الاجتهاد فطريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر عليها، فتكليف العوام بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع السكوتي.
وكذلك فإن القول بمنع التقليد فيه ما فيه من تكليف مَن لا قدرة له على الاجتهاد بمعرفة الحكم عن دليله وهو تكليفٌ له بما ليس في وسعه، فيكون منهيًّا عنه؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ويضاف إلى ذلك أنه يؤدي إلى ترك الناس مصالحهم الضرورية، والاشتغال عن معايشهم في الحياة الدنيا، بتعطيل الحرف والصناعات لمعرفة الأحكام، وفي ذلك فساد للأحوال. "أصول الفقه" لمحمد أبي النور زهير (4/ 209، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، وتعليق الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات" (4/ 292).
* حكم التزام المقلد لمذهب معين:
وبعد أن قرر العلماء أن التقليد في الفروع مشروع بلا غضاضة اختلفوا بعد ذلك في أن التزام المقلد تقليد مذهب معين من مذاهب المجتهدين في كل واقعة على قولين:
الأول: أنه يجب التزام مذهب معين، قال الإمام الجلال المحلي في "شرح المحلي على جمع الجوامع" (2/ 441، ط. دار الكتب العلمية): [(و) الأصح (أنه يَجِبُ) على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد (التزامُ مذهبٍ معين) من مذاهب المجتهدين (يعتقده أرْجَحَ) من غيره (أو مساويًا) له، وإن كان نفس الأمر مرجوحًا على المختار المتقدم، (ثم) في المساوي (ينبغي السعي في اعتقاده أرجح) ليتجه اختياره على غيره] اهـ.
الثاني: أنه لا يجب عليه التزام مذهب معين في كل واقعة، بل له أن يأخذ بقول أي مجتهد شاء وهو الصحيح؛ ولذلك اشتهر قولهم: "العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه"، أي: المعروف بالعلم والعدالة. وهذا الأخير هو الصحيح؛ قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (11/ 117، ط. المكتب الإسلامي): [الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، أو مَنِ اتَّفق من غير تلقُّطٍ للرخص، ولعل مَن مَنَعَه لم يثق بعدم تلقطه] اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (1/ 51) عن الشرنبلالي قوله: [ليس على الإنسان التزامُ مذهب معين, وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غيرَ إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض] اهـ.
ويؤيد ذلك أن الله تعالى قد أوجب اتباع العلماء من غير تخصيص بعالم دون آخر؛ إذ قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمستفتون في عصر الصحابة والتابعين لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون مَن تهيأ لهم دون تقيُّد بواحد دون آخر، ولم ينكر عليهم أحد.
واتباع المقلِّد لمن شاء من المجتهدين هو اتباع للحق؛ فإن جميع الأئمة على حقّ بمعنى أن الواحد ليس عليه إلا أن يسير حسب ما هداه إليه اجتهاده، ولا ينبغي للمقلد أن يتصوَّر وهو يختار اتباع واحد منهم أن الآخرين على خطأ. انظر "أصول الفقه الإسلامي" (2/ 1137-1139)، و"اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية" للدكتور محمد سعيد البوطي (ص: 37-38).
* الفرق بين التقليد واتباع مذهب أثناء الدراسة:
وأما اتباع المذاهب في إطار الدراسة والتفقه، فهذا مما لا فكاك منه ولا بديل عنه؛ لأن هذه المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة قد خُدِمت خدمة لم تتوفر لغيرها، فاعتني بنقلها وتحريرها ومعرفة الراجح فيها، واستدل لها وترجم لأئمتها بما جعل كل واحدة منها مدرسة مستقلة لها أصول معلومة، وفروع محررة يتحتم على من أراد التفقه في الدين أن يسلك أحدها متعلمًا ودارسًا ومتدربًا، فتكون بدايته هو من حيث انتهوا هم.
* بعض الاعتراضات التي وردت على التقليد والتمذهب:
الاعتراض الأول: الدليل الذي أوجب الشرع علينا اتباعه هو الكتاب والسنة، وليس كلام الأئمة.
جوابه: الدليل ليس هو الكتاب والسنة فقط، بل الدليل يشمل أيضًا الإجماع، والقياس، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان، وغير ذلك.
وفَهْمُ معنى الدليل على أنه الكتاب والسنة فقط قصور ظاهر؛ لأن الدليل معناه أعم من أن يكون محصورًا في الكتاب والسنة فقط، فالكتاب والسنة إنما هي نصوص يستنبط ويستخرج منهما المجتهد الأحكام، وكذلك من غيرهما من الأدلة.
وكذلك فإن أقوال الأئمة المجتهدين ليست قسيمًا للكتاب والسنة، بل إن أقوالهم هي نتاج فهمهم لهما، فأقوالهم تفسير وبيان للكتاب والسنة.
فالأخْذ بأقوال الأئمة ليس تركًا للآيات والأحاديث، بل هو عين التمسُّك بهما؛ فإن الآيات والأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيح الأحاديث وسقيمها، وحسنها وضعيفها، ومرفوعها ومرسلها، ومتواترها ومشهورها، وتاريخ المتقدم والمتأخر منها، والناسخ والمنسوخ، وأسبابها، ولغاتها، وسائر علومها مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها.
وهذا كله مع كمال إدراكهم وقوة ديانتهم، واعتنائهم وورعهم ونور بصائرهم، فتفقهوا في القرآن والسنة على مقتضى قواعد العلوم التي لا بد منها في ذلك، واستخرجوا أسرار القرآن والأحاديث، واستنبطوا منها فوائد وأحكامًا، وبيَّنوا للناس ما يخفى عليهم على مقتضى المعقول والمنقول، فيسروا عليهم أمر دينهم، وأزالوا المشكلات باستخراج الفروع من الأصول، ورد الفروع إليها، فاستقر بسببهم الخير العميم. راجع "مقالات وفتاوى" للشيخ يوسف الدجوي (2/ 581).
الاعتراض الثاني:
نرى المقلدة لا يترك أحدهم مذهبه إذا رأى حديثًا يخالفه، وهذا من التقديم بين يدي الله ورسوله.
ويجيب عن هذا الاعتراض الشيخ الكيرانوي في كتابه "فوائد في علوم الفقه" (ص: 30).؛ فيقول: [هذا هو منشأ ظنكم الفاسد، واعتقادكم الباطل أنَّا نُرجِّح قول الإمام على قول الله ورسوله مع أن الأمر ليس كذلك، وحقيقة الأمر أن ظهور قول الله ورسوله على خلاف قول الإمام موقوف على أمرين:
أحدهما: أن يعلم أن ذلك قول الله والرسول.
والثاني: أن يعلم أنه مخالف لقول الإمام.
ولا علم عند المقلِّد بأحد من هذين الأمرين؛ لأن هذا العلم موقوف على الاستدلال، والمقلِّد إما لا يقدر عليه أصلًا، أو يكون استدلاله غير قابل للاعتبار شرعًا؛ كاستدلال مَن استدل على وجوب الغسل على المشجوج بآية التيمم.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن له أن يحكم على المجتهد بأنه خالف حكم الله ورسوله باجتهاد نفسه؟
وإذا لم يمكن ذلك فكيف يترك قوله للمخالفة؟
فالحاصل: أن عدم ترك المقلد قول الإمام للحديث وغيره؛ ليس لأن قول الإمام راجح عنده على قوله الله والرسول حاشاه من ذلك، بل لأجل أنه لم يثبت عنده مخالفة الإمام لله والرسول.
فإن قلت: إن كان لا يعلم هو المخالفة بنفسه، فنحن والعلماء الآخرون معنا نُعْلِمُه بأن إمامه خالف الحديث.
قلنا: إن صدَّقكم في هذا القول بالاستدلال فهو ليس بأهلٍ للاستدلال، ولا يُعتمَد على صحَّة استدلاله فكيف بالتصديق؟ وإن صدَّقكم بدون حجَّة يكون مقلِّدًا لكم، وليس أحد التقليدين أولى من الآخر فكيف يترك تقليده السابق ويرجع إلى تقليدكم، فانكشف غبار الطعن واللجاج، ولله الحمد] اهـ.
الاعتراض الثالث:
تقليد الأئمة مخالف لما أرشدوا هم إليه؛ حيث نهوا عن تقليدهم، وخاصة إذا خالف رأيهم الحديث الصحيح، وقد ورد عن كل واحد من الأئمة الأربعة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
الجواب: دعوى أن الأئمة المجتهدين قد نهَوا عن تقليدهم مطلقًا هي دعوى باطلة؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم ذلك، ولو ثبت عنهم فتَرْكُ التقليد لقولهم هو عين التقليد، وهو منهي عنه عندكم، فكيف يجب ترك التقليد بتقليد قولهم؟ فالأمر بتقليدهم في أمرهم بترك التقليد إيجاب للنقيضين، وهو باطل.
ولو سلم ثبوت النقل عن الأئمة بالنهي عن تقليدهم فالمراد تحريم التقليد على مَن كان أهلًا للاجتهاد. المرجع السابق (ص: 33، 66).
وقد أجاب الإمام النووي في مقدمة "المجموع" (1/ 64، ط. دار الفكر) عن دعوى تحريض الأئمة مخالفة مذاهبهم إذا خالف الحديث رأيهم بقوله: [وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث, ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث, وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث, ولم يتفق ذلك إلا نادرًا, ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث، وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي، وعمل بظاهره, وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه, وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته, وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قَلَّ مَن يتصف به، وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال الشيخ أبو عمرو -يعني: ابن الصلاح- رحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث، وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي رحمه الله عمدًا، مع علمه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على غيره, كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي، قال: صحَّ حديثُ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» -رواه أبو داود في "سننه" (2369، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم)، والترمذي (774، كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم)، وابن ماجه (1679، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم).-.
فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم، فرُدَّ ذلك على أبي الوليد؛ لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخًا عنده، وبيَّن الشافعي نسخه واستدل عليه، وستراه في (كتاب الصيام) إن شاء الله تعالى، وقد قدمنا عن ابن خزيمة أنه قال: لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه. وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحلّ المعروف. قال الشيخ أبو عمرو: فمَن وجد من الشافعية حديثًا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقًا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابًا شافيًا فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه هنا, وهذا الذي قاله حسنٌ متعيّن] اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

المراد بالتقليد في اللغة:
التقليد في اللغة: مأخوذٌ من القِلادة، وهي ما جُعِلَت في العُنُقِ، وتكون للإِنسان والفَرَس والبَدَنَة التي تُهدَى في الحج، وجَعْلُ القِلادة في عُنُق ما يُهدَى إلى الحرم مِن النعم؛ ليُعْلَم أنه هَديٌ فيكف الناس عنه؛ تعظيمًا للبيت وما أُهدِي إليه. انظر "تاج العروس" (9/ 64 مادة: ق ل د)، و"البحر المحيط" للإمام الزركشي (8/ 316).
التقليد في الاصطلاح له معنيان:
أحدهما: العمل بقول الغير من غير حجة من الحجج الشرعية الملزمة، أي؛ من غير دليل قائم على حكمه أو حجيته.
والثاني: العمل بقول المجتهد من غير معرفة دليله معرفة تامة.
والأول غير جائز باتفاق، والثاني جائز، بل لازم عند أهل العلم. "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 25)، و"الموجز في أصول الفقه" (ص: 295)، و"التقرير والتحبير" (3/ 340-341).
والمراد بقولنا (من غير معرفة دليله) أي: معرفة تامة للدليل، وهي معرفة الاستنباط الاجتهادي والاكتساب الفقهي الذي يُشترَط في اعتبارهما توفر شروط الاجتهاد التي في كتب الأصول.
فدخل في التقليد: أخْذ العامي بقول المجتهد من غير معرفة دليله أصلًا أو مع عدم معرفته معرفة تامة بأن عرف وجه دلالته، ولكن لا يعرفها من الوجه الذي باعتباره يفيد الحكم. سواء أَذَكَرَ المجتهد في قوله سندَ الحكم أم لا، وسواء أخذه عنه مباشرة أم بواسطة عالم موثوق به يرويه له عن نفس المجتهد أو عن مذهبه المدوَّن في الكتب المعتمدة. انظر "بلوغ السول في مدخل علم الأصول" (ص: 23).
المكلفون بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان:
قسم قادر على أخْذ الأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد، وقسم دون ذلك.
والأول: هم المجتهدون، والثاني: هم المقلِّدون، ولا بُدَّ لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي ليعمل به حسبما كُلِّف.
فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد للعمل بالأحكام الشرعية واتِّباعها. والثاني مأمور بتقليده كذلك. المرجع السابق (ص: 26).
حقيقة المقلد عند الأصوليين:
وجمهور الأصوليين على أن المقلِّد يشمل: العامي المحض؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد، والعالم الذي تَعَلَّمَ بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فكل منهما يلزمه التقليد.
أقول العلماء في مشروعية التقليد:
وقد اتفق جمهور العلماء على مشروعية التقليد ووجوبه عند عدم التمكن من الاجتهاد، يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: "بلوغ السول" (ص: 15) تحت عنوان (استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية): [وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا-: أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع..
ثم قال: وكما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم؛ كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة مقرونًا بدليله من قول الله، أو قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو مجردًا عنه. فإن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لـمَن لم يعلم حكم الله في النازلة غير لازم خصوصًا إذا كان مـمَّن لا يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان الدليل ذا مقدمات يتوقف فهمها وتقريب الاستدلال بها على أمور ليس للعامي إلمام بها] اهـ.
ويقول الإمام الشاطبي في"الموافقات" (4/ 292-293): [فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة؛ وقد قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمقلِّد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فَهُمْ إذًا القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع] اهـ.
والعوام في زمن الصحابة والتابعين كانوا إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت لهم واقعة يهرعون إلى الصحابة والتابعين؛ ليسألوهم عن حكم الله في تلك الحادثة، وكانوا يجيبونهم عن هذه المسائل من غير أن ينكروا عليهم ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم أمروا هؤلاء السائلين بأن يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم، فكان ذلك إجماعًا من الصحابة والتابعين على أن مَن لم يقدر على الاجتهاد فطريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر عليها، فتكليف العوام بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع السكوتي.
وكذلك فإن القول بمنع التقليد فيه ما فيه من تكليف مَن لا قدرة له على الاجتهاد بمعرفة الحكم عن دليله وهو تكليفٌ له بما ليس في وسعه، فيكون منهيًّا عنه؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ويضاف إلى ذلك أنه يؤدي إلى ترك الناس مصالحهم الضرورية، والاشتغال عن معايشهم في الحياة الدنيا، بتعطيل الحرف والصناعات لمعرفة الأحكام، وفي ذلك فساد للأحوال. "أصول الفقه" لمحمد أبي النور زهير (4/ 209، ط. المكتبة الأزهرية للتراث)، وتعليق الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات" (4/ 292).
* حكم التزام المقلد لمذهب معين:
وبعد أن قرر العلماء أن التقليد في الفروع مشروع بلا غضاضة اختلفوا بعد ذلك في أن التزام المقلد تقليد مذهب معين من مذاهب المجتهدين في كل واقعة على قولين:
الأول: أنه يجب التزام مذهب معين، قال الإمام الجلال المحلي في "شرح المحلي على جمع الجوامع" (2/ 441، ط. دار الكتب العلمية): [(و) الأصح (أنه يَجِبُ) على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد (التزامُ مذهبٍ معين) من مذاهب المجتهدين (يعتقده أرْجَحَ) من غيره (أو مساويًا) له، وإن كان نفس الأمر مرجوحًا على المختار المتقدم، (ثم) في المساوي (ينبغي السعي في اعتقاده أرجح) ليتجه اختياره على غيره] اهـ.
الثاني: أنه لا يجب عليه التزام مذهب معين في كل واقعة، بل له أن يأخذ بقول أي مجتهد شاء وهو الصحيح؛ ولذلك اشتهر قولهم: "العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه"، أي: المعروف بالعلم والعدالة. وهذا الأخير هو الصحيح؛ قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (11/ 117، ط. المكتب الإسلامي): [الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، أو مَنِ اتَّفق من غير تلقُّطٍ للرخص، ولعل مَن مَنَعَه لم يثق بعدم تلقطه] اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين في "حاشيته" (1/ 51) عن الشرنبلالي قوله: [ليس على الإنسان التزامُ مذهب معين, وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غيرَ إمامه مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض] اهـ.
ويؤيد ذلك أن الله تعالى قد أوجب اتباع العلماء من غير تخصيص بعالم دون آخر؛ إذ قال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، والمستفتون في عصر الصحابة والتابعين لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون مَن تهيأ لهم دون تقيُّد بواحد دون آخر، ولم ينكر عليهم أحد.
واتباع المقلِّد لمن شاء من المجتهدين هو اتباع للحق؛ فإن جميع الأئمة على حقّ بمعنى أن الواحد ليس عليه إلا أن يسير حسب ما هداه إليه اجتهاده، ولا ينبغي للمقلد أن يتصوَّر وهو يختار اتباع واحد منهم أن الآخرين على خطأ. انظر "أصول الفقه الإسلامي" (2/ 1137-1139)، و"اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية" للدكتور محمد سعيد البوطي (ص: 37-38).
* الفرق بين التقليد واتباع مذهب أثناء الدراسة:
وأما اتباع المذاهب في إطار الدراسة والتفقه، فهذا مما لا فكاك منه ولا بديل عنه؛ لأن هذه المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة قد خُدِمت خدمة لم تتوفر لغيرها، فاعتني بنقلها وتحريرها ومعرفة الراجح فيها، واستدل لها وترجم لأئمتها بما جعل كل واحدة منها مدرسة مستقلة لها أصول معلومة، وفروع محررة يتحتم على من أراد التفقه في الدين أن يسلك أحدها متعلمًا ودارسًا ومتدربًا، فتكون بدايته هو من حيث انتهوا هم.
* بعض الاعتراضات التي وردت على التقليد والتمذهب:
الاعتراض الأول: الدليل الذي أوجب الشرع علينا اتباعه هو الكتاب والسنة، وليس كلام الأئمة.
جوابه: الدليل ليس هو الكتاب والسنة فقط، بل الدليل يشمل أيضًا الإجماع، والقياس، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان، وغير ذلك.
وفَهْمُ معنى الدليل على أنه الكتاب والسنة فقط قصور ظاهر؛ لأن الدليل معناه أعم من أن يكون محصورًا في الكتاب والسنة فقط، فالكتاب والسنة إنما هي نصوص يستنبط ويستخرج منهما المجتهد الأحكام، وكذلك من غيرهما من الأدلة.
وكذلك فإن أقوال الأئمة المجتهدين ليست قسيمًا للكتاب والسنة، بل إن أقوالهم هي نتاج فهمهم لهما، فأقوالهم تفسير وبيان للكتاب والسنة.
فالأخْذ بأقوال الأئمة ليس تركًا للآيات والأحاديث، بل هو عين التمسُّك بهما؛ فإن الآيات والأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيح الأحاديث وسقيمها، وحسنها وضعيفها، ومرفوعها ومرسلها، ومتواترها ومشهورها، وتاريخ المتقدم والمتأخر منها، والناسخ والمنسوخ، وأسبابها، ولغاتها، وسائر علومها مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها.
وهذا كله مع كمال إدراكهم وقوة ديانتهم، واعتنائهم وورعهم ونور بصائرهم، فتفقهوا في القرآن والسنة على مقتضى قواعد العلوم التي لا بد منها في ذلك، واستخرجوا أسرار القرآن والأحاديث، واستنبطوا منها فوائد وأحكامًا، وبيَّنوا للناس ما يخفى عليهم على مقتضى المعقول والمنقول، فيسروا عليهم أمر دينهم، وأزالوا المشكلات باستخراج الفروع من الأصول، ورد الفروع إليها، فاستقر بسببهم الخير العميم. راجع "مقالات وفتاوى" للشيخ يوسف الدجوي (2/ 581).
الاعتراض الثاني:
نرى المقلدة لا يترك أحدهم مذهبه إذا رأى حديثًا يخالفه، وهذا من التقديم بين يدي الله ورسوله.
ويجيب عن هذا الاعتراض الشيخ الكيرانوي في كتابه "فوائد في علوم الفقه" (ص: 30).؛ فيقول: [هذا هو منشأ ظنكم الفاسد، واعتقادكم الباطل أنَّا نُرجِّح قول الإمام على قول الله ورسوله مع أن الأمر ليس كذلك، وحقيقة الأمر أن ظهور قول الله ورسوله على خلاف قول الإمام موقوف على أمرين:
أحدهما: أن يعلم أن ذلك قول الله والرسول.
والثاني: أن يعلم أنه مخالف لقول الإمام.
ولا علم عند المقلِّد بأحد من هذين الأمرين؛ لأن هذا العلم موقوف على الاستدلال، والمقلِّد إما لا يقدر عليه أصلًا، أو يكون استدلاله غير قابل للاعتبار شرعًا؛ كاستدلال مَن استدل على وجوب الغسل على المشجوج بآية التيمم.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن له أن يحكم على المجتهد بأنه خالف حكم الله ورسوله باجتهاد نفسه؟
وإذا لم يمكن ذلك فكيف يترك قوله للمخالفة؟
فالحاصل: أن عدم ترك المقلد قول الإمام للحديث وغيره؛ ليس لأن قول الإمام راجح عنده على قوله الله والرسول حاشاه من ذلك، بل لأجل أنه لم يثبت عنده مخالفة الإمام لله والرسول.
فإن قلت: إن كان لا يعلم هو المخالفة بنفسه، فنحن والعلماء الآخرون معنا نُعْلِمُه بأن إمامه خالف الحديث.
قلنا: إن صدَّقكم في هذا القول بالاستدلال فهو ليس بأهلٍ للاستدلال، ولا يُعتمَد على صحَّة استدلاله فكيف بالتصديق؟ وإن صدَّقكم بدون حجَّة يكون مقلِّدًا لكم، وليس أحد التقليدين أولى من الآخر فكيف يترك تقليده السابق ويرجع إلى تقليدكم، فانكشف غبار الطعن واللجاج، ولله الحمد] اهـ.
الاعتراض الثالث:
تقليد الأئمة مخالف لما أرشدوا هم إليه؛ حيث نهوا عن تقليدهم، وخاصة إذا خالف رأيهم الحديث الصحيح، وقد ورد عن كل واحد من الأئمة الأربعة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
الجواب: دعوى أن الأئمة المجتهدين قد نهَوا عن تقليدهم مطلقًا هي دعوى باطلة؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم ذلك، ولو ثبت عنهم فتَرْكُ التقليد لقولهم هو عين التقليد، وهو منهي عنه عندكم، فكيف يجب ترك التقليد بتقليد قولهم؟ فالأمر بتقليدهم في أمرهم بترك التقليد إيجاب للنقيضين، وهو باطل.
ولو سلم ثبوت النقل عن الأئمة بالنهي عن تقليدهم فالمراد تحريم التقليد على مَن كان أهلًا للاجتهاد. المرجع السابق (ص: 33، 66).
وقد أجاب الإمام النووي في مقدمة "المجموع" (1/ 64، ط. دار الفكر) عن دعوى تحريض الأئمة مخالفة مذاهبهم إذا خالف الحديث رأيهم بقوله: [وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث, ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث, وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث, ولم يتفق ذلك إلا نادرًا, ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث، وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي، وعمل بظاهره, وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه, وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته, وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قَلَّ مَن يتصف به، وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال الشيخ أبو عمرو -يعني: ابن الصلاح- رحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث، وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي رحمه الله عمدًا، مع علمه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على غيره, كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي، قال: صحَّ حديثُ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» -رواه أبو داود في "سننه" (2369، كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم)، والترمذي (774، كتاب الصوم، باب كراهية الحجامة للصائم)، وابن ماجه (1679، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم).-.
فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم، فرُدَّ ذلك على أبي الوليد؛ لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخًا عنده، وبيَّن الشافعي نسخه واستدل عليه، وستراه في (كتاب الصيام) إن شاء الله تعالى، وقد قدمنا عن ابن خزيمة أنه قال: لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه. وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحلّ المعروف. قال الشيخ أبو عمرو: فمَن وجد من الشافعية حديثًا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقًا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابًا شافيًا فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه هنا, وهذا الذي قاله حسنٌ متعيّن] اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا
;