حكم الرهان على الخيول وغيرها والمقامرة في الإسلام

حكم الرهان على الخيول وغيرها والمقامرة في الإسلام

هل الرهان والمقامرة، والرهان على الخيول المتسابقة، يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، أو لا؟

الرِّهان والقمار لا يتفقان مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وهما من المحرَّمات باعتبارهما مِن أفراد المَيْسِر، ومِن أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، علاوةً على ما يترتب عليهما من المضارِّ النفسية والمالية.
وقد استثنى الشارع الحكيم من هذا التحريمِ ما كان عملُهُ لدوافع مشروعة؛ كالتسابق بالخيل والإبل والأقدام لتعلُّم الفروسية وإعداد الخيل للحرب، والرمي لاكتساب الخبرة والمهارة فيه، والعلوم للتفقُّه في الدين.
ولَمَّا كان الرهان على الخيول المتسابقة تؤدَّى جوائزُهُ من حصيلة تذاكر المراهنات، وكان الإقدامُ على شرائها إنما هو للمراهنةِ والكسب بهذا الطريق فقط، وليس تبرعًا لإنماء روح الفروسية المشروعة، ولا تجري تلك المسابقات لتدريب الخيول المتسابقة على فنون الفروسية، وإنما أُعدَّت تلك الخيول لهذه المراهنات، لَمَّا كان ذلك كان إجراءُ هذه المسابقات مُحرَّمًا، وكانت هذه المراهنات ليست لغرضٍ مشروعٍ، ولا بالشروط التي نصَّ عليها الشَّارع في الأحاديث الشريفة، وكان كلُّ ذلك داخلًا بواقعه وشروطه في القِمار المُحرَّمِ شَرْعًا، ويؤكِّد هذا حديثُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: «الخيل ثلاثة: فرسٌ يربطه الرجل في سبيل الله؛ فثمنه أجرٌ، وركوبه أجرٌ، وعاريته أجرٌ، وعلفه أجرٌ، وفرسٌ يغالق فيه الرجل ويراهن؛ فثمنه وزرٌ، وعلفه وزرٌ، وركوبه وزرٌ، وفرس للبِطنة؛ فعسى أن يكون سِدادًا من الفقر إن شاء الله تعالى» رواه أحمد.

التفاصيل ....

المحتويات 

 

بيان مفهوم الميسر

قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ۝ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: 29-30]، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 90-91].
قال أهل الفقه بلغة العرب: إن اسم الميسر في أصل اللغة إنما هو للتجزئة، وكل ما جزَّأْتَه فقد يسَّرْتَه، ويقال للجازر: الياسر؛ لأنه يُجَزِّئُ الجَزُور، والميسر: الجَزُور نفسه إذا تجزأ، وكانوا ينحرون جزورًا ويجعلونه أقسامًا يتقامرون عليها بالقداح على عادةٍ لهم. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 388).
وقالوا: إن اشتقاق لفظِ الميسر من اليُسْر بمعنى السهولة؛ لأنه أخذُ الرَّجُل مالَ غيره بيُسرٍ وسهولةٍ من غير كدٍّ ولا تعبٍ. أو من اليسار؛ لأنه سَلَبَ يسارَه. انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 261).
والذي يؤخذ من هذا أن اشتقاق لفظ الميسر إما من يَسر إذا وجب، أو من اليُسر بمعنى السهولة؛ لأنه كسبٌ بلا مشقة، أو من اليَسار وهو الغِنى؛ لأنه سببٌ للرِّبح، أو من اليسر بمعنى التجزئة والاقتسام، قال أهل اللغة: كل شيءٍ فيه قمارٌ فهو من الميسر. انظر: "لسان العرب" (5/ 298)، يقال: قامر الرجل مقامرة وقمارًا: راهنه، وهو التقامر والقمار والمقامرة، وتقامروا: لعبوا القمار. انظر: "لسان العرب" (5/ 115)، ويقال في اللغة: الرهان والمراهنة المخاطرة، وقد راهنه وهم يتراهنون … وراهنت فلانًا على كذا مراهنة: خاطرته، والمراهنة والرهان: المسابقة على الخيل، وغير ذلك. أما الرَّهن: فهو ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه. انظر: "لسان العرب" (13/ 188).

الميسر والقمار محرم شرعًا

اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على أن الميسر وكلَّ قمارٍ محرَّمٌ؛ بالآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، المرقومة أخيرًا إلا ما أباحه الشَّرع -على ما يأتي بيانه-.
وإنما كان تحريمُ الميسر والقمار بعمومه لما فيه من المضارِّ النفسية؛ إذ يعمل على إفساد التربية بتعويد النفس الكسلَ والقعودَ عن طلب الرِّزق والسعي في سبيله انتظارًا لقدومه بأسبابٍ موهومةٍ، وإضعافِ القوة العقلية بترك الأعمال المفيدة في طُرُقِ الكسب الطبيعية، وإهمال المُقامرِين للزراعةِ والصناعةِ والتجارةِ التي هي أركانُ العمران، ولما فيه من المضارِّ المالية؛ إذ يؤدي الميسرُ والقمارُ إلى تخريبِ البيوتِ والإفلاسِ فجأةً بالتحوُّل من الغنى إلى الفقر، والحوادثُ الكثيرةُ في المجتمع شاهدةٌ على ذلك، ولقد نقل المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنه وقتادة ومعاويةَ بنِ صالحٍ وعطاء وطاوس ومجاهد أن الميسر: القمار. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (ج 2 ص 566)، وأن كل ما كان من باب القمار فهو ميسرٌ بهذه الآية.

ولقد سُئِل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رجل قال لرجل: إن أكلتَ كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا، فقال علي كرم الله وجهه: "هذا قمار"، ولم يُجِزْهُ. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 388).

الميسر والقمار من صور أكل أموال الناس بالباطل

يحرمُ الميسرُ والقمارُ كذلك باعتبارهما أكلًا لأموالِ النَّاس بالباطلِ المنهي عنه في القرآن قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]؛ ذلك لأن أكل الأموال بالباطل كما عبَّر القرآنُ يتأتى في صورتين:
إحداهما: أخذُ المال بطريقٍ محظورٍ وبرضاءِ صاحبه؛ كالربا، والقمار.
والصورة الأخرى: أخذُ المالِ بغير رضاء صاحبه، وعلى وجه القسر والظلم والخِفية؛ كالغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور واليمين الكاذبة، ونحو هذا مما حرَّم الله سبحانه.
فالمراد من النهي عن أكل أموال الناس بالباطل: ما يعم الأخذ والاستيلاء وغيرهما من طريقٍ غير مشروع.
وعبَّر القرآن بـ"الأكل"؛ لأنه أهمُّ أغراض الانتفاع بالمال، وبيَّن في الآية الأولى إحدى وسائل الكسب الحلال وهي التجارة القائمة عن تراضٍ بين المتعاملين، ويلحق بالتجارة كل أسباب التملك التي أباحها الشارع؛ كالإرث والهبة والصدقة، وتملُّك المنافع بالإجارة والإعارة.
والمراد بكلمة "الباطل" في هاتين الآيتين: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188] و: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29] -والله أعلم- ما كان دون مقابلة شيءٍ حقيقي؛ حيث حرَّمتِ الشريعةُ أخذَ المال دون مقابلٍ حقيقيٍ يُعتدُّ به، ورضاءِ مَن يُؤخذ منه، وكذلك إنفاقه في غير وجهٍ حقيقيٍّ نافعٍ، ويدخل في هذا التعدِّي على الناس بأخذ المنفعة دون مقابلٍ أو إنقاصِ الأجر المسمى أو أجرِ المِثْل والغش والاحتيال والتدليس والقمار والمراهنات.
لَمَّا كان ذلك كان الرِّهان والقمار -فوق أنهما من المحرَّمات باعتبارهما من أفراد الميسر- مُحرَّمَيْن كذلك باعتبارهما من نوعياتِ أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ؛ أي بلا مقابلٍ حقيقيٍّ.

وأما قوله تعالى في سورة البقرة بعد آية المداينة: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 283] فليست من هذا الباب؛ إذ الرهان في هذه الآية -كما يقول القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 409)-: من الرهن؛ بمعنى احتباس العين وثيقةً بالحقِّ؛ ليُستوفَى الحقُّ من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذُّر أخذه من الغريم.
ومما تقدم يتقرر: أن كلَّ ما كان من تعاملٍ على سبيلِ المخاطرة بين شخصين أو أشخاصٍ، بحيث يَغْنَم بعضهم في تقديرٍ، ويَغْرَم من ماله على تقديرٍ آخر قمارٌ.

حكم الرهان على الخيول

ثم هل الرِّهان على الخيول المتسابقة من القمار المُحرَّم؟
الذي يستفاد مما سلف وحسبما جاء في كتب المفسرين والفقهاء أن الرِّهان والقمارَ من الميسرِ المُحَرَّم إلا ما استثناه الشارعُ وأجازهُ لدوافع مشروعة؛ فالرِّهان بمالٍ إنما يكون مشروعًا فيما دلَّ الدليلُ على الإذن به؛ كالتسابق بالخيل والإبل، والرمي وبالأقدام وفي العلوم، وقد شُرع هذا وأُجيز؛ للحاجة إليه؛ لتعلم الفروسية وإعداد الخيل للحرب وللخبرة والمهارة في الرمي وللتفقُّه في الدين وغيره من العلوم النافعة للإنسان في حياته، والسند في إجازة التسابق في هذا -كما قال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (8/ 77، وما بعدها في أبواب السبق والرمي)-: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -الذي رواه الخمسة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا سبق إلا في خفٍّ أو نَصلٍ أو حافرٍ» ولم يذكر فيه ابن ماجه «أو نصل».. أي: في الخيل والإبل والسلاح، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "سَبَّقَ بالخيل وَرَاهَنَ"، وفي لفظٍ: "سَبَّقَ بين الخيل وأَعطَى السابقَ" رواهما أحمد، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَا بَأْسَ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ آمِنٌ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

حكم جوائز المسابقات

هذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب استدلَّ بها الفقهاء على جواز السباق على جُعْلٍ -جائزة- في الأحوال الآتية:
الأولى: أن يكون الجُعل أو الجائزة مقررة من غير المتسابقين؛ كالإمام -ولي الأمر- وذلك بلا خلافٍ من أحدٍ، وإن كانت الجائزة أو الجُعل من أحد المتسابقين جاز ذلك عند جمهور الفقهاء.
الثانية: إذا كان السباق بين اثنين وكانت الجائزةُ مدفوعةً من أحدهما دون الآخر؛ بأن يقول أحدهما: إن سبق فرسُك فرسِي فلك مني مبلغ كذا جائزةً، وإن سبق فرسِي فرسُك فلا شيء لي عليك.
الحالة الثالثة: أن تكون الجائزةُ من كلٍّ من المتسابقين ويُدْخلان بينهما ثالثًا، ويقولان للثالث: إن سَبَقْتنا فالمال لك، وإن سبقناك فلا شيء لنا عليك مع بقاء الشرط الذي شرطاه بينهما وهو أيهما سبق كان له على صاحبه جُعلٌ -جائزة- باقٍ على حاله، فإن غلبهما الثالث أخذ المالين، وإن غلباه فلا شيء لهما عليه، ويأخذ أيهما غلب المشروط له من صاحبه، وأما إذا كان المالُ المشروطُ جائزةً من كلٍّ منهما ولم يُدخِلا هذا الثالث فهو من القِمار المُحرَّم، وقد حُكِي عن الإمام مالكٍ أنه لا يجيز أن يكون العِوَض -الجائزة- من غير الإمام -ولي الأمر. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 388).
وفيما تجوز المسابقة فيه خلافٌ بين الفقهاء، لكن الإمام الشوكاني قد نقل عن الإمام القرطبي قوله: [لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ عَلَى الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا مِن الدَّوَابِّ وَعَلَى الْأَقْدَامِ، وَكَذَا التَّرَامِي بِالسِّهَامِ وَاسْتِعْمَال الْأَسْلِحَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّدَرُّبِ عَلَى الْحَرْبِ] اهـ. انظر: "نيل الأوطار" للشوكاني (88/8)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 104).
وإذا كان ذلك، وكان الرهان على الخيول المتسابقة إنما تؤدَّى جوائزُهُ من حصيلة تذاكر المراهنات، وكان إقدامُ حائزي هذه التذاكر على شرائها إنما هو للمراهنةِ والكسب بهذا الطريق فقط، وليس إقدامهم على الاشتراك فيها تبرعًا لإنماء روح الفروسية المشروعة، كما أن هذه المسابقات لا تُجرى لتدريب الخيول المتسابقة على فنون الفروسية التي تُستعمل في حفظِ أمنِ البلاد داخليًّا وخارجيًّا، وإنما أُعدَّت تلك الخيول لهذه المراهنات، لما كان ذلك كان إجراءُ هذه المسابقات مُحرَّمًا، وكانت هذه المراهنات حسبما تجري في عصرنا ليست لغرضٍ مشروعٍ، ولا بالشروط التي نصَّ عليها الشَّارع في الأحاديث الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان كلُّ ذلك داخلًا بواقعه وشروطه في أنواع القِمار المُحرَّمِ شَرْعًا؛ لأنه من قَبيل المَيسر الذي سماه الله سبحانه في الآية الكريمة: ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: 90]، وقد امتد هذا الحكم ليشمل كلَّ تعاملٍ يَدخل تحت هذا الاسم، بالاعتبارات المشروحة التي أهمها المخاطرةُ، والحصول على مالٍ دون مقابلٍ حقيقيٍّ؛ ويؤكِّد هذا حديثُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الخيل ثلاثة: فرسٌ يربطه الرجل في سبيل الله؛ فثمنه أجرٌ، وركوبه أجرٌ، وعاريته أجرٌ، وعلفه أجرٌ، وفرسٌ يغالق -يراهِن- فيه الرجل ويراهن؛ فثمنه وزرٌ -إثم- وعلفه وزرٌ، وركوبه وزرٌ، وفرس للبطنة -طلب نتاجها بالولادة- فعسى أن يكون سدادًا من الفقر إن شاء الله تعالى» رواه أحمد. انظر: "نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 80-81).

حفظ المال من الضروريات في الإسلام

إذا كان الحِفاظُ على المال وإنفاقُه في الوجوه المشروعةِ من الضروريات في الإسلام، كانت المقامرة به في الرهان والقمار -أيًّا كانت صورهما- من الأمور المحرَّمة قطعًا؛ فقد عُنيَ الإسلام بتوجيه المسلمين إلى كسب المال بالطرق المباحة الحلال، وإلى إنفاقه كذلك فيما يفيد الإنسان، وكانت حكمةٌ بالغةٌ تلك التي أشار إليها النص القرآني الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] هذه الحكمة تجريمٌ لهذا العمل؛ لما يترتب عليه من المفاسد والمآسي التي تُفضي إلى إضاعةِ المال وتخريبِ البيوت العامرة، وكم دفع القمارُ محترفيه إلى ارتكاب صنوف الجرائم؛ كالسرقة والاختلاس، بل والانتحار! ولا مراء في أن الرهان على الخيول المتسابقة يحمل هذا الشَّر المستطير، وأن كل ما جاء عن طريقه يسارٌ موقوتٌ لا خير فيه ولا دوام له؛ كما أفاد الحديث الشريف الأخير؛ حيث نصَّ صراحةً على تحريم اتخاذ الخيول للمراهنات.
وبعد: فإن الله سائلٌ كلَّ إنسانٍ عن ماله: من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؛ كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» رواه الترمذي (4/ 190).

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا