حكم عطاء الوالد لبعض أولاده حال حياته، وبيان معنى حديث: «استفت قلبك»

حكم عطاء الوالد لبعض أولاده حال حياته، وبيان معنى حديث: «استفت قلبك»

ما حكم عطاء الوالد لبعض أولاده حال حياته؟ فنحن ثلاث أخوات شقيقات، ولنا أختان من أبينا، وكان والدنا رحمه الله تعالى قد كتب لي ولشقيقَتَيَّ أرضًا زراعية مساحتها 11 فدانًا بيعًا وشراء، وترك ستة أفدنة أخرى لم يكتبها باسم أحد، تم تقسيمها على ورثته بعد وفاته، وكذلك قد خصني أنا وشقيقَتَيَّ -دون الأختين الأخريين- بمبلغ ألف جنيه في دفتر توفير لكل واحدة منا، مع العلم أننا ساعتها كنا صغيرات، وكانت أختانا لأبينا متزوجتين.

والسؤال هنا: هل من حق الإنسان أن يتصرف حال حياته كيفما يشاء في ماله؟ مع العلم أنني قد سمعت عدة آراء فقهية مختلفة في هذه المسألة؛ بعضها يحرم ما فعله الوالد ويلزمنا بِرَدِّ الحقوق، وبعضها يحرم ما فعله الوالد ويجعل رد الحقوق تطوعيًّا منا، وبعضها يجيز ما فعله الوالد ولا يلزمنا بشيء، فما مدى صحة هذه الآراء؟ وهل يجوز لي تقليد أيٍّ منها؟ وهل معنى حديث: «استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك، والبر ما اطمأن إليه القلب والإثم ما حاك بالصدر» أن الإنسان إذا سمع عددًا من الآراء فإن الرأي الذي يطمئن إليه قلبه وعقله يكون هو الصحيح شرعًا؟ وما حكم العمل بالأحوط هنا؟ حيث إنني قد احتطت ورددت بعض الحقوق لأصحابها، وطلبت منهم المسامحة في الباقي فسامحوا.

ما فعله والدك حال حياتهِ وكمال أهليتهِ، هو تصرفٌ صحيحٌ وجائزٌ شرعًا، ولا إثم عليه في ذلك؛ لأنَّه إنَّما َتَصَرَّف فيما يملك حسبما رآه مُحَقِّقًا لِلمَصلحة، خاصة وقد قام بِكُنَّ وقتَ ذلك التصرف معنًى يقتضي التفضيل؛ وهو الصغر وعدم الزواج، كما يترتب على ذلك التصرف كل آثاره من: ثبوت الملك لك ولشقيقتيك فيما وهبه لَكُنَّ، مع الأخذ في الاعتبار أن القبض شرطٌ من شروط تمام الهبة ولزومها إفتاءً وقضاءً.

أما إذا أردتِ سلوك مسلك الورع والاحتياط؛ بأن تقومي بِرَدِ ما كانتا ستأخذانه أُختيك لأبيك لولا هبة الوالد، فلكِ أن تفعلي ذلك، ولو جزئيًّا، ولكن في حدود نصيبك، ويكون ذلك منك على وجه التطوع، لا على وجه الوجوب والإلزام، وليس لك الحق في إلزام شقيقتيك بذلك في خصوص نصيبيهما، بل الأمر مردودٌ لهما؛ إن شاءتا أَعْطَيَتَا وإن شاءتا أَمْسَكَتَا.

أما الحديث المذكور فليس معناه أن معرفة الأحكام وتمييز الصحيح منها يكون بمجرد التذوق النفساني والشعور القلبي، بل يُحمل هذا الحديث على أحد معنيين: فإما أن يكون خاصًّا بالصحابي راوي الحديث وهو وابصة رضي الله عنه لأجل معنًى معيَّن قام به؛ فلا يتعداه الحكم لغيره ويكون الحديث واقعة عينٍ لا تُعَمَّم، أو أن يكون الحديث خاصًّا بالمؤمنِ المطمئنِ قلبُه بالإيمان، المنشرحِ صدرُه بنور المعرفة واليقين إذا واجه أمرًا يشتبه في حِلِّه أو جوازه ولم يجد فيه قولًا لأحد ممن يوثق بعلمه أو دينه.

التفاصيل ....

المحتويات

 

تصرف الإنسان في ماله حال حياته

من المقرر شرعًا أنه يجوز للإنسان في حال حياته، وكمال أهليته -بالبلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر عليه- أن يتصرف في ملكه تصرفًّا ناجزًا بشتى أنواع التصرفات المشروعة كما يشاء حسبما يراه محققًا للمصلحة؛ فعن حِبَّان بن أبي جَبَلَة مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رواه الدارقطني والبيهقي في "السنن"، فهذا الحديث يقرر أصل إطلاق تصرف الإنسان في ماله.

وإذا تصرف الإنسان ذلك التصرف الناجز ثم مات فإن هذه التصرفات -سواء أكانت هبات أم تنازلات أم بيوعًا أم غير ذلك- هي عقود شرعية صحيحة نافذة يُعمل بها، ولا تدخل ضمن تركته، بل تكون حقًّا خالصًا لمن كُتِبَت له لا يشاركه فيها غيره من ورثة الميت، ولا حق لهم في المطالبة بشيء منها.

حكم تخصيص بعض الورثة بشيء زائد عن غيرهم

قد يَخصُّ الإنسان بعضَ ورثته أو غيرهم بشيء زائد لمعنى صحيح معتبر شرعًا؛ كمواساة في حاجة، أو مرض، أو بلاء، أو كثرة عيال، أو لضمان حظِّ صِغارٍ، أو لمكافأة على بر وإحسان، أو لمزيد حب، أو لمساعدة على تعليم أو زواج، أو غير ذلك، ولا يكون بذلك مرتكبًا للجَور أو الحيف؛ لوجود علة تفضيل بعضهم على بعضٍ.

حكم التسوية بين الأولاد في العطايا والهبات

طلب الشرع الشريف من المُكلَّف أن يُسَوي في خصوص هبته لأولاده فيما بينهم؛ فروى سعيد بن منصور في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا أَحَدًا لَآثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ»، ولكن المختار أن هذا الطلب من الشرع محمول على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب؛ فإذا وهب الوالد أحد أولاده هبة وخصه بها دون باقي إخوته، كان هذا الوالد حينئذٍ تاركًا للمستحب وليس تاركًا للواجب، وترك المستحب لا يترتب عليه إثم، بخلاف ترك الواجب؛ حيث يثاب فاعله ويأثم تاركه.

والقول: بأن تسوية الوالد في هبته بين أولاده من المستحبات وليس من جملة الواجبات؛ هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية.

قال الإمام ابن نجيم في "البحر الرائق" (7/ 288، ط. دار الكتاب الإسلامي): [يُكرَه تفضيل بعض الأولاد على البعض في الهبة حالة الصحة إلا لزيادة فضل له في الدِّين] اهـ.

وقال العلامة الخَرَشي المالكي في شرحه لـ "مختصر خليل" (7/ 82، ط. دار الفكر): [وأما هبةُ الرجلِ لبعض ولدِه مالَه كـلَّه أو جُـلَّه فمكروه] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (2/ 483، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(يُكره) للوالد وإن علا (أن يهب لأحد ولديه أكثر) من الآخر (ولو ذكرًا)] اهـ.

واستدلوا على ذلك بأدلة منها: ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث النُّعمان بن بَشِير رضي الله عنهما أنه قال: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وكذا َذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: «أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، ثُمَّ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَلَا إِذًا». فلو كان ما فعله بَشِير حرامًا لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليأمره بإشهاد غيره عليه؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر بمحرَّم ولا يترك النهي عنه.

فهذه الرواية دلت على أن الأمر بالتسوية للاستحباب دون الوجوب؛ ولربط ذلك بحصول البر مِن أولاده له بالسوية، والتسوية في البِر لَمَّا كانت ليست واجبة على الأولاد بل مندوبًا إليها، لم تكن التسوية في العطية واجبة على الآباء بل مندوبًا إليها؛ فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما ينبه الصحابي بذلك إلى مراعاة الأفضل.

وقد فعل بعض الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين ذلك ففضلوا بعض أبنائهم دون نكير من أحد؛ حيث فَضَّل أبو بكر الصّديق ابنتَه عائشةَ رضي الله عنهما، وكذلك فَضَّل عمرُ رضي الله عنه ابنَه عاصمًا بشيء أعطاه إياه، وفَضَّل عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ رضي الله عنه ولدَ أمِّ كلثوم، وقيل: إنه فَضَّل ابنته من أم كلثوم بأربعة آلاف درهم، وقطع ابن عمر رضي الله عنهما ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي في "السنن" عن نافع أن ابن عمر "قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَرْؤُسٍ أَوْ أَرْبَعَةً لِبَعْضِ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ".

قال الإمام البغوي في "شرح السنة" (8/ 298-299، ط. الكتب الإسلامي): [فضل أبو بكر عائشة بجداد عشرين وسقا نحلها إياها دون سائر أولاده، وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاصمًا بشيء أعطاه إياه، وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم] اهـ.

مذهب الحنابلة في حكم التسوية بين الأولاد في العطايا والهبات

ذهب فقهاء الحنابلة وغيرهم إلى: وجوب التسوية بين الأولاد في الهبات والعطايا؛ استنادًا لما جاء في بعض روايات حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله سلم لما امتنع عن الشهادة على موهبة بشير لابنه رضي الله عنهما قال له: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» متفق عليه.

تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطية والهبة لمعنى معتبر شرعًا

لما انتفت حرمة التفضيل بين الأولاد ثبتت الكراهة على مذهب جمهور الفقهاء، فإن هذه الكراهة تنتفي أيضًا لمعنى معتبر شرعًا من مرضٍ، أو كثرة عيالٍ، أو اشتغالٍ بالعلم، ونحوه.

قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (4/ 444، ط. دار الكتب العلمية): [لو وهب شيئًا لأولاده في الصحة، وأراد تفضيل البعض على البعض: روي عن أبي حنيفة لا بأس به إذا كان التفضيل لزيادة فضل في الدِّين، وإن كانوا سواء يكره، وروى المعلى عن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا لم يقصد الإضرار وإلا سوَّى بينهم، وعليه الفتوى] اهـ.

وقاله الإمام الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (6/ 94، ط. دار الكتاب الإسلامي)، والإمام الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (3/ 567، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامة المرداوي في "الإنصاف" (7/ 139، ط. دار إحياء التراث العربي)؛ وقد زالت كراهية فعل ذلك للأب لما تقرر من الكراهية تزول للضرورة؛ قال العلامة السفاريني الحنبلي في "غذاء الألباب" (1/ 323، ط. مؤسسة قرطبة): [الضرورة الحاجة، إذ الكراهة تزول بالحاجة] اهـ.

تقليد العامي أحد مذاهب المجتهدين

أما عن تقليد بعض المذاهب: فمن كان دون رتبة الاجتهاد فإنه يجوز له أن يقلد أيًّا من هذه الآراء، والأخذ ببعض المذاهب دون غيره، فمن ابتلي بشيء قلد من أجاز، وقد تقرر في محله من علم الأصول أن: العامي لا مذهب له، ومن ثَمَّ فله أن يَتَخَيَّر في تقليد أيِّ مذهب من المذاهب المعتبرة؛ قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (8/ 375، ط. دار الكتبي): [الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ] اهـ.

وله كذلك الانتقال من مذهب إلى آخر؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (11/ 117): [والذي يَقتضيه الدليل أنه -أي: العامي- لا يَلزمه التمذهب بمذهب، بل يَستفتي مَن شاء أو مَن اتُّفِق] اهـ.

وقال العلامة ابن حَجَر الهَيتَمي في "فتاويه الفقهية" (4/ 315، ط. المكتبة الإسلامية): [والأصح أنه -أي: العامي- مُخَيَّرٌ في تقليد مَن شاء ولو مفضولًا عنده مع وجود الأفضل ما لم يَتَتَبَّع الرُّخَص، بل وإن تَتَبَّعها على ما قاله بعض أصحابنا، واعتمده الشيخ عز الدين -يعني: ابن عبد السلام-، وأطال في الاستدلال له] اهـ.

توجيه الحديث الوارد عن سيدنا وابصة «استفت قلبك»

أما الحديث المسؤول عنه: فعن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه أنه قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ، فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ، فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فُقُلْتُ: دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ، قَالَ: «دَعُوا وَابِصَةَ، ادْنُ يَا وَابِصَةُ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَمْ تَسْأَلُنِي»؟  قُلْتُ: لَا، بَلْ أَخْبِرْنِي، فَقَالَ: «جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ» فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي، وَيَقُولُ: «يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» فقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وحَسَّن الإمام النووي إسناده في "الأربعين".

وليس معنى الحديث أن يكون مدار معرفة الأحكام الشرعية وتمييز الصحيح فيها على مجرد التذوق النفساني والشعور القلبي؛ فللعلماء مسلكان في توجيه الحديث؛ فمنهم من جعله في المؤمن الذي تحقق بنور الإيمان وترقى في مراتب التقى والعرفان إذا واجه أمرًا يشتبه في حِلِّه أو جوازه، ولم يجد فيه قولًا لأحد إلا ممن لا يوثق بعلمه أو دينه.

قال الملا علي القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح" (5/ 1901، ط. دار الفكر): [قيل: المعني بهذا الأمر أرباب البصائر من أهل النظر والفكر المستقيمة، وأصحاب الفراسات من ذوي النفوس المرتاضة والقلوب السليمة؛ فإن نفوسهم بالطبع تصبو إلى الخير وتنبو عن الشر؛ فإن الشيء ينجذب إلى ما يلائمه وينفر عما يخالفه، ويكون ملهمة للصواب في أكثر الأحوال. قال التوربشتي رحمه الله: وهذا القول وإن كان غير مستبعد، فإن القول بحمله على العموم فيمن يجمعهم كلمة التقوى وتحيط بهم دائرة الدين أحق وأهدى] اهـ.

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 103، ط. مؤسسة الرسالة): [وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء، وحاك في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المُفْتُون] اهـ.

ومنهم من جعله خاصًّا بوابصة رضي الله عنه؛ لأجل معنًى معين قام به، وعليه: فإن الحكم لا يتعداه لغيره؛ ويكون الحديث حينئذٍ في واقعة عين لا عموم لها؛ قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (2/ 117، ط. دار المعرفة): [لم يَرُدَّ عليه السلام كل أحد إلى فتوى القلب، وإنما قال ذلك لوابصة؛ لما كان قد عرف من حاله] اهـ.

ويمكن أن يقال في توجيه الحديث: أنه منصرف إلى الأخذ بالورع والعمل بالأحوط في خاصة النفس، ولا ينصرف بحال إلى معرفة حد الحلال والحرام.

حكم العمل بالأحوط

العمل بالأحوط شيء حَسَنٌ؛ لما فيه من الخروج من الخلاف وهو أمر مستحب لا شيء فيه؛ قال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 136، ط. دار الكتب العلمية): [الخروج من الخلاف مستحب] اهـ.

وقال الإمام التاج السبكي في "قواعده" (1/ 111-112، ط. دار الكتب العلمية): [اشتهر في كلام كثير من الأئمة، ويكاد يحسبه الفقيه مجمعًا عليه، ثم علَّل القاعدة بأن: أفضليته -أي: الخروج من الخلاف- ليست لثبوت سنة خاصة فيه؛ بل لعموم الاحتياط والاستبراء للدين، وهو مطلوب شرعًا مطلقًا؛ فكان القول بأن الخروج أفضل ثابت من حيث العموم، واعتماده من الورع المطلوب شرعًا] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما فعله والدك حال حياتهِ وكمال أهليتهِ، هو تصرفٌ صحيحٌ وجائزٌ شرعًا، ولا إثم عليه في ذلك؛ لأنَّه إنَّما َتَصَرَّف فيما يملك حسبما رآه مُحَقِّقًا لِلمَصلحة، خاصة وقد قام بِكُنَّ وقتَ ذلك التصرف معنًى يقتضي التفضيل؛ وهو الصغر وعدم الزواج، كما يترتب على ذلك التصرف كل آثاره من: ثبوت الملك لك ولشقيقتيك فيما وهبه لَكُنَّ، مع الأخذ في الاعتبار أن القبض شرطٌ من شروط تمام الهبة ولزومها إفتاءً وقضاءً.

أما إذا أردتِ سلوك مسلك الورع والاحتياط؛ بأن تقومي بِرَدِ ما كانتا ستأخذانه أُختيك لأبيك لولا هبة الوالد، فلكِ أن تفعلي ذلك، ولو جزئيًّا، ولكن في حدود نصيبك، ويكون ذلك منك على وجه التطوع، لا على وجه الوجوب والإلزام، وليس لك الحق في إلزام شقيقتيك بذلك في خصوص نصيبيهما، بل الأمر مردودٌ لهما؛ إن شاءتا أَعْطَيَتَا وإن شاءتا أَمْسَكَتَا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا