التعايش بين المسلمين وغيرهم

التعايش بين المسلمين وغيرهم

يزعم كثير من الناس أن دعوة التعايش دعوة لتذويب الأمة والقضاء على هُويتها، فما مفهوم التعايش؟ وهل يتوافق مع أحكام الإسلام؟ وما موقف المسلم المعاصر من قضية التعايش بين المسلمين وغيرهم؟

التعايش بشكل إجمالي يعني قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الاختلاف واحترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية في إطار الالتزام بالأطر العامة والنظام العام، أو هو -بمعنًى أكثر إجمالًا- احتواء الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا ما أراده الله من أصل الخلق؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، فليس المقصود بالتعايش أنه الذوبان بحيث يتخلى كلٌّ عن معتقده، ولكنه آلية لحصول الأمان بين الأطراف في التعامل والسكن والعمل وما إلى ذلك من ضرورات الوجود الإنساني، والإسلام لم يحرِّم التعايش مع غير المسلم بمعاملة حسنة، بل دعا إليه وألزم به أتباعه ما دام هذا المختلف غير مُعتَدٍ؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وكلُّ هذا مضبوط بما لا يُحدث فتنة، أو يكون جاذبًا لمعصيةٍ، أو طريقًا للكفر أو التهاون في ثوابت الدين.

التفاصيل ....

بالرجوع إلى الدلالة اللغوية للتعايش التي هي الأصل في اشتقاق هذا المصطلح نجد أن العيش: الحياة، يقال: عاش يعيش عيشًا، وعايشه: عاش معه؛ كقوله: عاشره. "لسان العرب" مادة: عيش (6/ 322، ط. دار صادر).
وفي "المعجم الوسيط" (6/ 639، ط. دار الدعوة): عاش عيشًا، وعيشة ومعاشًا صار ذا حياة، عايشه: عاش معه، وتعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، ومنه التعايش السلمي، والعيش معناه الحياة، وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب.
وإذا دققنا في مدلولات مصطلح "التعايش" الذي شاع في هذا العصر، والذي ابتدأ رواجه مع ظهور الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية اللتين كانتا تقسمان العالم إلى معسكرين متناحرين، قبل سقوط سور برلين، وانهيار الاتحاد السوفيتي نجد أن البحث في مدلول المصطلح يقودنا إلى جملة من المعاني محمَّلة بمفاهيم تتضارب فيما بينها، ولكن يمكن تصنيفها إلى مستويات ثلاثة:
الأول: سياسي أيديولوجي يحمل معنى الحد من الصراع، أو ترويض الخلاف العقائدي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في المرحلة السابقة، أو العمل على احتوائه، أو التحكم في إدارة هذا الصراع بما يفتح قنوات الاتصال، وللتعامل الذي تقضيه ضرورات الحياة المدنية والعسكرية.
الثاني: اقتصادي يرمز إلى علاقات التعاون بين الحكومات والشعوب فيما له صلة بالمسائل القانونية والاقتصادية والتجارية من قريب أو من بعيد.
الثالث: ديني ثقافي حضاري، وهو الأحدث، ويشمل تحديد معنى التعايش الديني أو التعايش الحضاري، والمراد به أن تلتقي إرادة أهل الأديان السماوية والحضارات المختلفة من أجل أن يسود الأمن والسلام العالم وحتى تعيش الإنسانية في جو من الإخاء والتعاون على ما فيه الخير الذي يعم بين البشر جميعًا من دون استثناء، وهذا هو مناط الحديث. راجع: "إشكالية التعايش بين الثوابت والخصوصيات" لنوال السباعي (ص: 2)، و"الإسلام والتعايش مع الأديان" للدكتور عبد العزيز التويجري (ص5).
والتعايش بالمستوى الثالث المشار إليه اختلفت حوله التعريفات بحيث اعتبره بعضهم التواصل مع الآخر بجميع أشكال التفاعل والتعاون والتكامل الإيجابي البنَّاء المنبثق عن الإحسان والرفق والرعاية والعناية بين المسلم فردًا ومجتمعًا والآخر فردًا ومجتمعًا؛ بغية الوصول لما فيه مصلحة الطرفين دينيًّا ودنيويًّا حالًا ومآلًا، وينتظم هذا التعاون جانب الفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد والثقافة والتربية. راجع: "التواصل مع الآخر" للدكتور قطب سانو (ص: 5).
بينما قصره البعض على احترام حق الغير في ممارسة عباداتهم داخل أماكن العبادة من دون تدخل من الآخرين، ومن دون عدوانية، وعليهم أيضًا احترام حق الغير في معتقداته ومقدساته ورموزه. راجع: "الحريات والتعايش" لسيف الدين كاطع (ص: 5-6).
فالواضح أن التعايش تفاعل متبادل بين طرفين مختلفين في العادات أو المعتقد والدين، ويكون في المجتمعات المتنوعة الديانات والثقافات، التي ينتمي أفرادها إلى أصول مختلفة في الثقافة والدين، فالتعايش يبدأ من الاعتراف بالآخرين والعمل على قبولهم كما هم. راجع: "التعايش مع الآخرين حقيقة تاريخية" للدكتورة منى جلال (ص: 6).
واعتبر بعض العلماء التعايش ذا مفهومين؛ الأول: سلبي بمعنى التنازل عن العقيدة أو تقديم نصف عقيدة أو بعض دين، والثاني: إيجابي، ويعني التوصل إلى مستويات أخلاقية في الحوار، والاتفاق على أسس العيش والتصالح وتقدير الاختلاف والاعتراف به، والاعتراف بالتعددية. راجع: "التعايش الحضاري" للشيخ سلمان العودة، مقال بجريدة "الوسط" البحرينية، العدد (2534)، أغسطس 2009م.
وعلى ذلك: فالتعايش قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الاختلاف واحترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، وهو بهذا يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف.
وقبل أن نحدد موقف الإسلام من قضية التعايش نضع مجموعةً من المبادئ والأسس خاصة بنظرة الإسلام للإنسان كإنسان:
أولًا: لا ينكر مسلم عالمية الإسلام الثابتة بالنصوص القطعية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]، وهذه تستلزم انفتاح الثقافة والحضارة الإسلامية على حضارات الأمم، وأن تكونا متجاوبتين مع ثقافات الشعوب مؤثرتين ومتأثرتين.
ثانيًا: كما أن الإسلام لا يفرض المركزية الحضارية التي تريد العالم حضارة واحدة وتشكل سبل الصراع -صراع الحضارات- لقسر العالم على نمط حضاري واحد.
ثالثًا: الاختلاف بين البشر واقع بمشيئة الله ولا راد لها، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود: 118-119]، وهذا الاختلاف الواقع بقدر الله ومشيئته تجعل للآخر غير المسلم حقًّا في الكرامة والصيانة.
رابعًا: الإسلام يدعو إلى التعامل مع الإنسان كإنسان دون إفراط أو شطط؛ لأنه خليفة الله في أرضه مسلمًا وغير مسلم، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، ومن نعمه تعالى على الإنسان أنه هو بعلمه الذي يقيم الحياة فيها ويعمرها، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].
بل إن المسلم يعتبر الكون كله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه منقسم إلى اثنين: أمة الإجابة؛ وهم الذين اتبعوا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل، وأمة الدعوة؛ وهم غير المسلمين، والمسلم مطالب بدعوتهم إلى خير الإسلام، فحتى الآخر وغير المسلم هو من أمتنا بهذا المفهوم، وليس هو الجحيم كما يقول ساتر وغيره. "التعايش السلمي" للدكتور عمر معروف، بحث بمجلة "أصول الدين" جامعة أم درمان الإسلامية، العدد الثاني، سنة 1428هـ، (ص: 11).
خامسًا: حق الحياة الآمنة والمطمئنة حق للناس جميعًا؛ لأن الله هو خالق الناس جميعًا ووهب لهم الحياة، ولا فرق في هذا الحق يبن إنسان وآخر، ولا تمييز بين لون وجنس أو دين، والإسلام يدعو الناس جميعًا لفعل الخير وتجنب الشر والإفساد في الأرض حتى أنه نهاه عن قتل نفسه مهما كان السبب.
سادسًا: الإنسان كإنسان كائن مكرم ومفضل من الله سبحانه؛ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، لذا دعا القرآن الكريم إلى احترام الإنسان وكرامته باعتبار إنسانيته.
كما نبَّه الإسلام إلى احترام الآخر -غير المسلم- وحرم على المسلم أن ينال من أحد في شخصه أو معتقده حتى لا يؤدي ذلك إلى رد فعل مضاد، ويكون له تأثيره السلبي؛ فقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، فالمسلم مطالب باحترام غيره، ويعمل على إقناعه ومحاورته، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 21-22].
سابعًا: الإسلام يأمر بالدعوة إلى الله ويوضح أنها خير الأعمال وإذا قوبل بالإساءة فعليه أن يقابل ذلك بالإحسان، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 33-34].
ثامنًا: حرية الاعتقاد مكفولة حيث أعلن القرآن صراحة أنه لا يجبر أحدًا على معتقده، ولا يكرهه على الدخول في دين لا يريده؛ فقال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99].
تاسعًا: بناءً على ذلك وجدنا القرآن يؤسس لمبدأ التعايش حيث لم تقتصر النصوص الإسلامية على التأكيد على إنسانية الإنسان وحصانته بل أقامت كَمًّا من الجسور بين المسلمين وغيرهم، فثمة نصوص خاطبت خلق الله كافة من كل لون وجنس وملة؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم فيما ذكره زيد بن أرقم رضي الله عنه: «أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، ... أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ» رواه أبو داود.
وقال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، هذه الآيات تفتح باب التلاقي بين المسلمين وغيرهم معلنة أن المسلمين مؤمنون بكل الأنبياء والرسل، وأن جوهر الرسالات السماوية واحد في غير تعارض أو تنافر.
هذه مجموعة من المبادئ لا بد من وضعها نصب أعيننا ونحن نتحدث عن التعايش، وهناك كثير من التشريعات العملية التي تعضد مبدأ التعايش مع الآخر، منها: إباحة أكل طعام أهل الكتاب، وإباحة طعامنا لهم، ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 5]، وإباحة أكل الطعام بين المسلم وأهل الكتاب تتضمن إباحة المجالسة والمزاورة والتعامل وتبادل المصالح، سواء كانوا هم قلةً يعيشون بين أظهرنا، أو كان المسلمون قلة يعيشون بينهم أو ما يعرف بالجاليات الإسلامية، وهذه من أسباب تدعيم التعايش.
ومنها: إباحة زواج المسلم من المحصنات والعفيفات من أهل الكتاب؛ قال تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ [المائدة: 5]، فهذه آية صريحة في قوة صلة المسلم بأهل الكتاب؛ لأن فيها حل زواج المسلم من المرأة المحصنة العفيفة الكتابية، وفي هذا فتح لباب التراحم والمودة وتداخل الأنساب والأرحام والحب بين المسلم وأهل الكتاب.
ومنها: قبول شهادة الكتابي والثقة بها في بعض الأمور؛ قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ [المائدة: 106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ من غير المسلمين؛ يعني أهل الكتاب. راجع: "تفسير ابن كثير" (3/ 215، ط. دار طيبة).
ومنها: استعمال أوانيهم وصنائعهم؛ حيث يجوز للمسلم استعمال أواني غير المسلمين وصنائعهم مع التورع من النجاسات؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: "كنَّا نَغزُو مع رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فنصيبُ مِن آنيةِ المُشركينَ وأسقيتِهم فنَستمتِعُ بها، فلا يَعيبُ ذلكَ عَلَيهم" رواه أبو داود.
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر"، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: «إِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَكُلُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» رواه أبو داود والترمذي.
قال الخطابي شارحًا: [الأصل في هذا إذا كان معلومًا من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم لحم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمور فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف، فأما مياههم وثيابهم فإنها على الطهارة كمياه المسلمين وثيابهم إلا أن يكونوا من قوم لا يتحاشون النجاسات] اهـ. "معالم السنن" (4/ 257، ط. المطبعة العلمية بحلب).
ومنها: تعزيتهم، والتعزية هي مواساة أهل الميت وحثهم على الصبر، واختلف الفقهاء في تعزية غير المسلم وقد نص أهل العلم على ذلك.
ومنها: عيادة مريضهم، وقد اعتبرها المسلمون من البر والقسط؛ فعن أنس رضي الله عنه أن غلامًا يهوديًّا كان يخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده، فقال له: «أَسْلِمْ»، فَأَسْلَمَ. رواه البخاري.
ومنها: مواراة موتاهم والقيام لجنائزهم، كما جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن عمك الشيخ الضال مات فمن يواريه؟ قال: «اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي»، فواريته ثم جئت، فأمرني فاغتسلت ودعا لي. رواه أبو داود والنسائي.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرت عليه جنازة قام لها ولو لغير مسلم؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مرَّ بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقمنا به، فقلنا يا رسول الله إنها جنازة يهودي، قال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» رواه البخاري.
ومنها: قبول هدايا غير المسلمين وتبادل النبي صلي الله عليه وآله وسلم ذلك معهم؛ منهم: المقوقس عظيم مصر حينما أهدى إليه بغلة وجاريتين. "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 604، ط. مؤسسة الرسالة).
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبوك وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلة بيضاء وكساه بُرْدًا" رواه البخاري.
ومنها: الوفاء بعهدهم، وهو مبدأ إسلامي متين، ويكون ذلك حتى مع غير المسلمين، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» رواه الترمذي.
ولما أسرت قريش حذيفة بن اليمان وأباه رضي الله عنهما أطلقوهما وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا خارجين على بدر فقال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: «نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ» رواه مسلم.
ومنها: الصدقة عليهم، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» رواه مسلم، أي المسلم وغير المسلم، حتى الحيوان.
وعن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود فهي تجري عليهم. "الأموال" لأبي عبيد (ص: 728، ط. دار الفكر).
ومنها: دخولهم المسجد، فقد كانت تأتي الوفود من المشركين من العرب والنصارى واليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدخلون المسجد وينزلون فيه، كما في قصة وفد ثقيف، قال ابن القيم: [وفيها جواز إنزال المشرك في المسجد، ولا سيما إذا كان يرجى إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن ومشاهدة أهل الإسلام وعبادتهم] اهـ. "زاد المعاد" (3/ 525).
فهذه الأدلة وغيرها من أحكام البيوع والإيجارات والشركات دالة على جواز التعايش بين المسلم وغير المسلم، وقد وجد في تاريخ المسلمين سوابق تدل على التعايش سواء بين غير المسلمين في مجتمع المسلمين، أو مسلمين كجالية في مجتمع غير مسلم، من ذلك:
التعايش في مكة؛ حيث نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالدعوة إلى الإسلام وتبليغ القرآن، ولم يأمره بالخروج من مكة ولم يأذن له ولا للمسلمين بالخروج حتى تعرضوا للتعذيب والمنع والقتل وحتى تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لمحاولة القتل والسجن؛ ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: 30]، ولقد بقي المسلمون بمكة ولم يقطعوا الصلة بأهلها أو يخرجوا منها حتى أجبروا على الخروج، فكان أهل مكة قبل الهجرة هم الذين طردوا المسلمين وقاطعوهم، وحرموا التعامل معهم بيعًا وشراء وزواجًا ومساعدة.
ومنها: التعايش في الحبشة، فبعد تعرض المسلمين للتعذيب في مكة والتجويع أذن لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى أرض الحبشة؛ طلبًا للعدل والأمن، لأنه كان فيها ملك عادل لا يظلم أحدًا، فعاش المسلمون في الحبشة أعوامًا قبل الهجرة للمدينة.
ومنها: لما هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للمدينة وكان أكثر أهلها وثنيين وكان فيها قبائل من يهود وهم أهل كتاب ودين، وقد نظم النبي مع اليهود وغير المسلمين عقدًا اجتماعيًّا يعد نموذجًا مثاليًّا للتعايش؛ وذلك لتنظيم الحقوق، وواجب حماية المدينة وقواعد التعامل مع الأحداث، وبقي الأمر كذلك عدة سنوات.
وخير مثال على تعايش غير المسلمين مع المسلمين العهد الذي كتبه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأهل نجران المسيحيين حيث كتب لهم بأنه أجارهم بجوار الله وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم وأراضيهم وملتهم وأموالهم وحاشيتهم وعبادتهم وغائبهم وشاهدهم وأساقفتهم ورهبانهم وبِيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يخسرون ولا يعسرون، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته، وفاءً لهم بكل ما كتب لهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. راجع: "التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية" للدكتورة منى جلال الدين (ص: 2).
كما عاش المسلمون في الدولة الإسلامية مع أهل الكتاب، بل والوثنيين في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية والعباسية ودولة المماليك والعثمانية في جميع البلدان الإسلامية، وكانت بينهم وبين المسلمين صِلَات ومعاملات، ولم يؤمر المسلمون بقتلهم أو إخراجهم من الدولة الإسلامية.
من هذا يتضح أن الإسلام كدين وحضارة لا يشكل ولم يشكل أبدًا على مر العصور أي عائق في وجه التعايش مع الآخرين، إلا أن الثقافات العربية والإسلامية المعاصرة السائدة اليوم هي التي تشكل هذا العائق ليس في وجه التعايش مع الآخر فحسب، بل في صميم تعايشها بعضها مع بعض من جهة، ومع قيم حضارتها نفسها من جهة أخرى، ولا يعني هذا دعوة إلى تذويب الفوارق بين المسلمين وغيرهم حيث أول خطوة في التعايش هي تحديد الهوية في إطار الثوابت الحضارية للأمة، حيث بها تتحدد الخصوصية التي تعبر عن التنوع الذي هو شرط التفاعل "التعايش" مع الذات ومع الآخر، وعلى أساس هذا التنوع يصبح للحقوق معنًى، وللواجبات مكان، وهما أصلان رئيسان من أصول قواعد التعامل في إطار التعايش، فإبراز الخصوصية بتحديد الهوية والتأكيد عليها يعني الرغبة في الحوار والتعاون أكثر مما يعني التقوقع والانعزال. راجع: "إشكالية التعايش بين الثوابت والخصوصيات" لنوال السباعي (ص: 4).
لذا، كان يجب أن يحاط التعايش بمجموعة من الضوابط تحدد إطاره؛ حيث تنحصر الإشكالية الكبرى في التعايش الديني والحضاري في الولاءات العمودية المتعددة، مثل الطائفية والقبلية والدينية المشوهة أو ما يسمى بطغيان التقاليد على التعاليم أو طغيان الخصوصيات على الثوابت، والانتقاد الأساسي لهذه الولاءات هو تناقضها مع المشترك الأكبر وهو الولاء الإنساني المتصل بالولاء العام، وهو الولاء لتعاليم السماء؛ أي لله الذي يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13] أي لتعايشوا على أساس الولاء لله، فالتعايش هنا ليس مبنيًّا على غرائز الشر، بل مستند إلى قوى الخير الكامنة في النفوس البشرية التي يفجِّرها الولاء الأكبر، وتأمل في الدقة القرآنية حينما عبر بالشعوب وهي الأمم فيما بينها في علائق وصلات، والقبائل وهي المجموعات البشرية التي تتحرك نحو غيرها في المكان والزمان عن طريق الهجرة، يعني أنه يوجد اتجاهان للتعايش: التعايش بين الشعوب، والتعايش بين المجموعات البشرية. "التعايش" لنوال السباعي (ص: 15)، و"إشكالية التعايش" للدكتور علاء الخطيب (ص: 4).
وأهم ضوابط التعايش:
1- أمن الفتنة في الدين، والقدرة على إقامته، وعدم إكراهه على مخالفة شيء من دينه بفعل حرام أو ترك واجب ترغيبًا أو ترهيبًا؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97]، وهذا الضابط شرط لصحة التعايش؛ لأن معايشة المسلم لقوم يتسلطون عليه بالإكراه ويمنعونه من المحافظة على دينه فيظلم نفسه بالمعصية إرضاءً لهم بسبب ضعفه أو اتباع شهوته، فهذا يستحق العقوبة من الله، لذا لا بد أن يكون التعايش بالإرادة الحرة النابعة من الذات.
2- عدم الطاعة في معصية الله؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» رواه مسلم، فطاعة كل إنسان تصح في غير معصية الله تعالى، ودون إكراه فيما يرضاه الإنسان، ودون إكراه أو غصب، حتى الوالدان لا طاعة لهما في معصية الله، فالإحسان وحسن الصحبة والمعايشة تكون فيما يرضاه الله ويحبه.
3- عدم محبة الكفر بالله، فليس معنى رضائي بالتعايش أني أحب الكفر؛ فقد نص القرآن على: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، فمحبة الوالد والإحسان إليه من فرائض الدين، ولو كان الوالد كافرًا، وقد أجاز الإسلام محبته ومحبة الزوجة غير المسلمة ومحبة الولد الكافر، ولكنه حرَّم محبة كفر الولد والوالد والزوجة والأخ، وكذا جاز الإحسان إلى غير المسلم ومحبته محبة معاملة ومجاورة ما دام من غير الأعداء الذين يحاربون المسلمين، ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، فحب الولد والوالد والجار المحسن من أسباب التواصل والتعاون وإحياء صِلاة الإحسان؛ لهذا أمر الإسلام بها، وحب العمل أو المبدأ أو الفكرة أول مراحل العمل بها واتباعها سواء كانت خيرًا أو شرًّا، لهذا حرَّم الله محبة المعصية والظلم والكفر، لأنها من أسباب الفساد وانتشاره.
وعليه نقول: إن التعايش جائز بالصورة التي قدمناها، أما كيف يتم التعايش؟ وما أساليبه وطرقه ووسائله؟ وما قنواته؟ وما أهدافه وغاياته؟ ومتى يفقد التعايش قيمته وجدواه؟ فيجب على القائمين على التعايش العمل على تحديد ذلك وبيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا