تعزير المحكوم عليه مع عفو أولياء الدم في القتل

تعزير المحكوم عليه مع عفو أولياء الدم في القتل

بشأن الخطاب الوارد من فضيلة الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية من قلم كُتَّاب المحكمة الدستورية العليا بالرد على موضوع طعن يطلب فيه الطاعن قبول الطعن شكلًا، وبصفة عاجلة وقف تنفيذ الحكم الجنائي الصادر من محكمة الجنايات، والقاضي بمعاقبة الجاني بالسجن المؤبد، وذلك على النحو الوارد بطلباته الختامية بصحيفة الطعن المرفق صورة منها.

إذا تنازل ولي الدم عن القصاص من القاتل بالتصالح على الدية أو بالعفو مطلقًا فإن ذلك يسقط القصاص عن القاتل، إلا أنه يجوز لولي الأمر إذا رأى المصلحة في إنزال العقوبة بالجاني أن يفعل ذلك على وجه التعزير، ولو كان ذلك بعد عفو أولياء الدم.

التفاصيل ....

اطلعنا على المرفقات، وفيها منازعة التنفيذ بشق مستعجل لوقف تنفيذ الحكم الجنائي الصادر في الدعوى الدستورية المشار إليها بمعاقبة المنازع بالسجن المؤبد، وإنهاء آثاره الجنائية، المقدمة إلى السيد المستشار رئيس المحكمة الدستورية العليا من محامي المتهم.
ومُحَصَّلُها ما يلي:
أولًا: ذكر وصف وقائع الدعوى المذكور على لسان محكمة جنايات بني سويف، وفيها أنه قد ظهر لها أن المتهم قد بَيَّت النية وعَقَد العزم على قتل المجني عليه، وأَعَدَّ لهذا الغرض سلاحًا أبيض، وتربص له بالمكان الذي أيقن سلفًا مروره فيه، ثم طعنه عدة طعنات في مقتل عن عمد وقصد (قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد)، مما يستدعي معاقبته بعقوبة الإعدام -بحسب ما تقتضيه نصوص قانون العقوبات المصري رقم: (230)، (231)، (232)-، والتي خُفِّفَت إلى السجن المؤبد -بناءً على نص المادة: (17) من القانون المذكور-.
ثانيًا: المطالبة بوقف تطبيق مواد قانون العقوبات تلك في مواجهة المحكوم عليه المنازِع، بعد أن تصالح مع أولياء الدم، وقاموا بالتنازل في محضر رسمي تم توثيقه في الشهر العقاري، وعفو أولياء الدم عن القصاص يتعارض شرعًا مع الاستمرار في عقوبة المحكوم عليه، كما أن عفو أولياء الدم يعيد المحكوم عليه إلى حالة البراءة الأصلية.
ثالثًا: إيراد كلام طويل للإمام القرطبي في تفسيره حول أحكام القصاص في القتل العمد وقبول أولياء الدم للدية، وأن هذا القبول هو العفو المذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 178]، وأنه إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح.
رابعًا: إيراد ما حكمت به المحكمة الاتحادية العليا بإحدى الدول العربية في حكمها الصادر بجلسة 17/ 2/ 2014م بصدد الطعون أرقام 276/ 2009م، و73/ 2010م، و51/ 2011م؛ للاستئناس به على مطلبه؛ حيث قد ذهبت المحكمة المذكورة إلى أن العفو من أولياء الدم عن القصاص في الواقعة محل النظر والقضاء -بعد تأييد الحكم الابتدائي بقضاء الاستئناف وإقراره من المحكمة العليا والتصديق عليه من رئيس الدولة- يسقط القصاص شرعًا، وهو أمر يعلو على اعتبارات النظام العام وفق أحكام الشريعة الإسلامية الواجبة التطبيق، فحكمت على المتهمين في القضية المنظورة بسقوط القصاص عنهم، مع القضاء بحبس كل منهم ثلاث سنوات تعزيرًا، وأن عليهم الكفارة بالصيام شهرين متتابِعَين توبة من الله.
خامسًا: الاتكاء على المادة (7) من قانون العقوبات المصري، والتي تنص على أنه: [لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء]؛ على أساس أنه بناء عليها فلا بد من الاعتداد بتنازل أولياء الدم؛ لأنه من ضمن تلك الحقوق الشخصية.
سادسًا: التمسك بالمادة (7) من الدستور المصري الصادر في العام 2014م؛ والتي تنص على أن: [الأزهر الشريف هو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية] اهـ.
والمادة (54) منه، والتي تنص على أن: [الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمَس... ولكل من تُقَيَّد حريته ولغيره حق التظلم أمام القضاء من ذلك الإجراء والفصل فيه خلال أسبوع من ذلك الإجراء، وإلا وجب الإفراج عنه فورًا] اهـ.
والمادة (95) منه، والتي تنص على أن: [العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا تُوقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون] اهـ.
والمادة (96) منه، والتي تنص على أن: [المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه] اهـ.
باعتبار أن هذه القوانين هي من قبيل القانون الأصلح للمتهم، وقد نصت المادة (5) من قانون العقوبات المصري على أنه: [يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها. ومع هذا إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائيًّا قانون أصلح للمتهم، فهو الذي يتبع دون غيره.
وإذا صدر قانون بعد حكم نهائي يجعل الفعل الذي حُكِم على المجرم من أجله غير معاقب عليه بوقف تنفيذ الحكم وتنتهي آثاره الجنائية.
غير أنه في حالة قيام إجراءات الدعوى أو صدور حكم بالإدانة فيها، وكان ذلك عن فعل وقع مخالفًا لقانون ينهى عن ارتكابه في فترة محددة، فإن انتهاء هذه الفترة لا يحول دون السير في الدعوى أو تنفيذ العقوبات المحكوم بها] اهـ.
وبناءً على ما سبق جميعه فإن الطاعن يلتمس قبول المنازعة شكلًا، ووقف تنفيذ الحكم الجنائي الصادر ضد موكله بالسجن المؤبد في الجناية المذكورة، وإنهاء آثاره الجنائية بعد أن قضى ما يزيد على ثلاث سنوات ونصف سجينًا. (هذا هو مُحَصَّل ما جاء في المنازعة المذكورة).
ولا شك أن مقررات الشريعة الإسلامية أن القصاص من القاتل في القتل العمد هو الحكم الأصلي، وأن هذا حق لأولياء القتيل، ولكن مع ذلك ليس هو المسلك المتعين الوحيد؛ بل إن ولي الدم مخير في الجناية على النفس بين خصال: إما أن يقتص من القاتل، أو يعفو عنه إلى الدية أو بعضها، وإما أن يصالحه على مال مقابل العفو، أو يعفو عنه مطلقًا.
فإن اختار أولياء الدم استيفاء القصاص: كان على القاضي مساعدتهم حينئذٍ، وتمكينهم من نيل حقهم؛ كما قال عز وجل: ﴿وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [سورة الإسراء: 33]؛ أي: مُعَانًا مِن قِبَل القضاء؛ فالمقتول منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب، ووليه منصور أيضًا؛ حيث أوجب الله تعالى له القصاص، وأمر الولاة بمعونته. انظر: "تفسير البيضاوي" (3/ 254، ط. دار إحياء التراث العربي).
وإن اختاروا -جميعًا أو بعضهم- العفو عن القصاص، أو المصالحة على الدية، وجبت لهم الدية حالَّة في مال القاتل، وكان عليه أداؤها إليهم دون مماطلة أو بَخْس، وإن اختاروا العفو مطلقًا فهو الأثوب والأكمل.
ودليل ذلك: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة:178].
قال الإمام البيضاوي في "تفسيره" (1/ 122): [ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه؛ يعني: ولي الدم. وذكره بلفظ الأُخُوَّة الثابتة بينهما من الجنسية والإِسلام؛ ليرق له ويعطف عليه ﴿فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ﴾؛ أي: فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. والمراد به: وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف؛ فلا يُعَنِّف، والمعفو عنه بأن يؤديها بالإِحسان؛ وهو أن لا يمطل ولا يبخس. وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو...﴿ذلِكَ﴾؛ أي: الحكم المذكور في العفو والدية ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾؛ لما فيه من التسهيل والنفع. قيل: كُتِب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى العفو مطلقًا. وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية؛ تيسيرًا عليهم، وتقديرًا للحكم على حسب مراتبهم] اهـ.
ومن الأدلة أيضًا: قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: 45]؛ أي: كفارة للعافي بصدقته على الجاني.
وكذلك قد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ».
وروى أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: "ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رُفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو".
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
ولأن القياس يقتضيه؛ فالقصاص حق لأولياء الدم، فإذا عَفَوا عن القصاص عفوًا مستوفيًا لشروطه: سقط القصاص بعفوهم، وجاز لهم تركه، كسائر الحقوق، بل إن العفو عن القصاص مندوب إليه شرعًا.
وقد وقع الإجماع على ذلك؛ قال ابن قدامة في كتابه "المغني" (8/ 352، ط: مكتبة القاهرة): [أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص، وأنه أفضل] اهـ.
وكذلك فإن من مقررات الشريعة: أن ولي الأمر له السلطة في التعزير والعقوبة والتأديب على الجرائم دون الحَدِّيَّة. والحكمة منه: منع الجاني من معاودة الجريمة، ومنع غيره من ارتكابها، مع ما فيه من الإصلاح والتهذيب.
والدليل على جواز التعزير: ما رواه النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: «مَا أَصَابَ مِنْ ذِى حَاجَةٍ غَيْرِ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَىْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَىْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُئْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ».
والخبنة: هي معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه. يقال: أخبن الرجل إذا خبأ شيئًا في خبنة ثوبه أو سراويله. والجرين: موضع تجفيف التمر.
وقد نقل ارتكاب التعزير أيضًا عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. انظر: "معالم القربة في طلب الحسبة" لضياء الدين بن الأخوة القرشي الشافعي (ص: 190-191، ط. دار الفنون كمبريدج).
قال الإمام الماوردي في "الأحكام السلطانية" (ص: 344-347، ط. دار الحديث، القاهرة): [والتعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله؛ فيوافق الحدود من وجهِ أنه تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»، فتَدَرَّج في الناس على منازلهم: فإن تَسَاوَوا في الحدود المقدَّرة: فيكون تعزير مَن جلَّ قَدْرُه بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يومًا، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة.
والوجه الثاني: أنَّ الحد وإن لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، فيجوز في التعزير العفو عنه، وتسوغ الشفاعة فيه، فإن تفرَّد التعزير بحق السلطنة وحكم التقويم، ولم يتعلق به حق لآدمي: جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، وجاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب. روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِى اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ».
ولو تعلق بالتعزير حَقٌّ لآدمي -كالتعزير في الشتم والمواثبة- ففيه حق المشتوم والمضروب، وحق السلطنة للتقويم والتهذيب، فلا يجوز لولي الأمر أن يسقط بعفوه حق للمشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزيز الشاتم والضارب، فإن عفا المضروب والمشتوم كان ولي الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويمًا، والصفح عنه عفوًا.
والوجه الثالث: أن الحد وإن كان ما حدث عنه من التلف هدرًا، فإن التعزير يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف. قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة فأخمصت بطنها فألقت جنينًا ميتًا، فشاور عليًّا عليه السلام، وحمل دية جنينها] اهـ.
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه عند عفو أولياء الدم عن القاتل، يجوز لولي الأمر تعزيره، خاصة إن كان القاتل معروفًا بالشَّر؛ ليكون زجرًا له عن إيذاء المجتمع، وبعضهم رأى أن التعزير يطبق على كل حال. وهذا هو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه؛ جاء في "الموطأ": [قال مالك في القاتل عمدًا إذا عفي عنه أنه يجلد مائة جلدة ويسجن سنة] اهـ.
قال شارحه العلامة أبو الوليد الباجي في "المنتقى" (7/ 124، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وهذا على ما قال؛ أن القاتل عمدًا يُجلَد مائة ويُسجَن سنة، وقال ابن الماجشون: روي ذلك عن أبي بكر وعن علي رضي الله عنهما. قال القاضي أبو محمد: وقد كان يلزمه العقل، فلما لم يقتل وجب تأديبه، وأُلْحِق بالزاني يُقْتَل مع الإحصان، فإذا لم يقتل لعدم الإحصان: ضرب مائة وحبـس سنة، وقد قال ابن الماجشون في المَوَّازِيَّة والمجموعة: إنه لما عفا عنه مَن له العفـو، وبقيت لله عقوبة جعلناها كعقوبة الزنا البكر؛ جلد مائة، وحبس سنة، والله أعلم] اهـ.
وقال ابن أبي زيد القيرواني في "الرسالة" (2/ 185 -مع شرح الفواكه الدواني للنفراوي-، ط. دار الفكر): [ومَن عُفي عنه في العمد: ضُرِب مائة، وحُبس عامًا] اهــ.
ونقل الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 181، ط. دار الكتب العلمية) هذا المذهب عن أهل المدينة، وحكاه أيضًا هو والقرطبي عن الإمامين الليث بن سعد والأوزاعي.
ونقل القرطبي عن أبي ثور -واستحسنه- أن القاتل الذي يعفو عنه أولياء الدم إن كان يُعْرَف بالشر: فيؤدبه ولي الأمر على قدر ما يرى أنه يردعه. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 84، ط. مؤسسة الرسالة).
والذي يظهر والعلم عند الله أن مقصد التعزير: هو جعله وسيلة لتأديب الجاني من ناحية، وردع غيره عن أن يُقْدِم على مِثْل فِعْله من ناحية أخرى.
وتحديد التعزير بالقدر المذكور في مذهب مالك وغيره هو تحديد اجتهادي لا نص فيه، وليس مقصودًا في نفسه، بل إن مرجعه إلى تحقيق المصلحة الخاصة والعامة، وتحديد تلك المصلحة مَرَدُّه إلى ولي الأمر الذي لا يكون تصرفه على الرعية إلا منوطًا بالمصلحة -كما هو مقرر في قواعد الفقه. انظر: "الأشباه والنظائر" (ص: 121، ط. دار الكتب العلمية)، ولذلك جعل أبو ثور تحديد القدر الرادع في حق مُعتاد الشر أمرًا تقديريًّا لولي الأمر.
ومن هذا المنطلق قد قضت المحكمة الاتحادية العليا بإحدى الدول العربية في حكمها الصادر بجلسة 17/ 2/ 2014م بصدد الطعون أرقام 276/ 2009م، و73/ 2010م، و51/ 2011م بسقوط القصاص عن المتهمين في القضية بعد عفو أولياء الدم عنهم، مع حبس كل واحد منهم ثلاث سنوات تعزيرًا، وأن عليهم الكفارة بالصيام شهرين متتابِعَين توبة من الله.
مع الأخذ في الاعتبار أن المنصوص عليه في المادة رقم (1) من الباب التمهيدي والقواعد العامة من قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات أنه: [تُطَبَّق أحكام هذا القانون في شأن الإجراءات المتعلقة بالجرائم التعزيرية، كما تُطَبَّق في شأن الإجراءات المتعلقة بجرائم الحدود والقصاص والدِّيَة في ما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية] اهـ، مما يدل على أن المحكمة المذكورة قد رأت أن حكمها السالف الذكر هو الذي يحقق الردع المطلوب، وفي نفس الوقت لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
والمتأمل في النصوص الفقهية بوجه عام يجد أن ملحظ تحقيق الانزجار هو مدار التعزير حتى عند من لم يرَ مشروعية عقوبة القاتل الذي عفا عنه أهل الدم؛ أو لم يرَ أنه يجوز أن تبلغ العقوبة قدر الحد، فنجدهم قد اتفقوا في التأصيل، ثم بعد ذلك قد اختلفوا في التطبيق لمعانٍ أخرى أرجح عندهم.
فيقول العلامة الكاساني من الحنفية في "بدائع الصنائع" (7/ 64، ط. دار الكتب العلمية): [من مشايخنا من رتب التعزير على مراتب الناس؛ فقال: التعازير على أربعة مراتب: تعزير الأشراف؛ وهم الدهاقون -أي: رؤساء القرى- والقواد، وتعزير أشراف الأشراف؛ وهم العلوية والفقهاء، وتعزير الأوساط؛ وهم السوقة، وتعزير الأَخِسَّاء؛ وهم السِّفْلة. فتعزير أشراف الأشراف: بالإعلام المجرد؛ وهو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا، وتعزير الأشراف بالإعلام والجر إلى باب القاضي، والخطاب بالمواجهة، وتعزير الأوساط بالإعلام والجر والحبس، وتعزير السفلة: بالإعلام والجر والضرب والحبس؛ لأن المقصود من التعزير هو الزجر، وأحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب] اهـ.
وجعل الحنفية تقدير المدة في التعزير بالحبس راجعًا لولي الأمر؛ قال ابن نجيم في "البحر الرائق" (5/ 46، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وتقدير مدة الحبس راجعة إلى الحاكم] اهـ.
وجاء في "أوضح المسالك إلى مذهب الإمام مالك" و"الشرح الصغير" عليه للشيخ أحمد الدردير (4/ 503، 504، ط. دار المعارف): [(وعزر الحاكم) باجتهاده -لاختلاف الناس في أقوالهم وأفعالهم وذواتهم- (لمعصية الله) تعالى؛ وهي ما ليس لأحد إسقاطها؛ كأكل في نهار رمضان، وتأخير صلاة (أو لحق آدمي)؛ وهو ما له إسقاطه؛ كسَبٍّ، وضرب، وكل حق لمخلوق، فله فيه حق. وليس لغير الحاكم تأديب، إلا للسيد في رقيقه، والزوج في زوجته، أو والد في ولده غير البالغ، أو مُعَلِّم، ولا يجوز لحاكم أو غيره لعن ولا سب للمؤدب أو لوالديه، أو ضرب على وجه، أو شَين عضو. ويكون التعزير (حبسًا) مدة ينزجر بها بحسب حاله (ولومًا) ينزجر به؛ كتوبيخ بكلام...(وبالقيام من المجلس وبنزع العمامة) من فوق رأسه (وضربًا بسوط وغيره)؛ كقضيب ودِرَّة، وصفع بالقفا، وقد يكون بالنفي؛ كالمزورين، وبإخراج من الحارة؛ كمؤذي الجار، وبالتصدق عليه بما غش به] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الأحكام السلطانية" (ص: 344، ط. دار الحديث، القاهرة): [والتعزير...تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب] اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (10/ 174، ط. المكتب الإسلامي): [باب التعزير: هو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد -كمباشرة أجنبية بغير الوطء، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب والإيذاء بغير قذف-، أو لم يكن -كشهادة الزور والضرب بغير حق، والتزوير، وسائر المعاصي- وسواء تعلقت المعصية بحق الله تعالى، أم بحق آدمي، ثم جنس التعزير من الحبس أو الضرب جلدًا أو صفعًا إلى رأي الإمام، فيجتهد ويعمل ما يراه من الجمع بينهما والاقتصار على أحدهما، وله الاقتصار على التوبيخ باللسان على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (9/ 149، ط. دار إحياء التراث العربي): [ما كان من التعزير منصوصًا عليه -كوطء جارية امرأته، أو جارية مشتركة- فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصًا عليه، إذا رأى الإمام المصلحة فيه، أو علم أنه لا ينزجر إلا به: وجب؛ لأنه زجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب، كالحد] اهـ.
بل زاد بعض الفقهاء فأجاز التعزير بالقتل في بعض الأحوال؛ كأن تقتضي المصلحة العامة ذلك؛ كقتل المفسد إذا تكرر منه الفساد، وتعين القتل لدفع فساده، ولم يندفع بغيره.
قال العلامة ابن فرحون في كتابه "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" (2/ 297، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [وإذا قلنا: إنه يجوز للحاكم أن يجاوز الحدود في التعزير، فهل يجوز أن يبلغ بالتعزير القتل أو لا؟ فيه خلاف، وعندنا يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا كان يتجسس للعدو، وإليه ذهب بعض الحنابلة، وأما الداعية إلى البدعة المفرق لجماعة المسلمين فإنه يُسَتَتاب، فإن تاب وإلا قتل. وقال بذلك بعض الشافعية في قتل الداعية؛ كالجهمية، والروافض، والقدرية، وصرح الحنفية بقتل من لا يزول فساده إلا بالقتل، وذكروا ذلك في اللوطي؛ إذا كثر منه ذلك: يقتل تعزيرًا] اهـ.
وقال المحقق ابن الهُمَام في "فتح القدير" (5/ 397، ط. دار الفكر): [من رأى الإمام قَتْلَه؛ لما شاهد فيه من السعي بالفساد في الأرض، وبُعْد الطباع عن الرجوع، فله قتله سياسة] اهـ.
وجاء في "كشاف القناع" للبهوتي الحنبلي (6/ 124، ط. دار الكتب العلمية): وقال -يعني: البعلي- في الاختيارات -يعني: كتابه: "الاختيارات الفقهية لابن تيمية"-: [إذا كان المقصود دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل: قتل، وحينئذٍ فمَن تَكَرَّر منه جنس الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على الفساد: فهو كالصائل لا يندفع إلا بالقتل، فيُقْتَل] اهـ.
وعليه: فلا يُسَلَّم الدفع بأن تصالح الجاني مع أولياء الدم وإن أسقط الحد عن الجاني، فإنه يلزم أن يُسْقِط عنه أيضًا أي عقوبة أخرى؛ عسى أن يرى القاضي تعزيره بالعقوبة المناسبة.
وإسقاط الحق الشخصي لا يلزم منه دائمًا سقوط الحق العام؛ الذي هو حق المجتمع -مُمَثَّلا في الدولة- في معاقبة الجاني؛ الذي قد أخل بأمن المجتمع وسلامته واستقراره بجرمه الذي ارتكبه.
وأما محاولة الاستئناس بالحكم السالف الذكر للمحكمة الاتحادية العليا بإحدى الدول العربية لتقرير أن العقوبة قد سقطت عن الجناة في القضية التي كانت تنظرها تلك المحكمة، فغير سديد؛ لأن الذي سقط عنهم فيها هو خصوص القتل حدًّا، وذلك لم يمنع المحكمة أن تحكم عليهم فيها بالحبس ثلاث سنوات تعزيرًا، فانتفى الحد وبقي التعزير المناسب الذي ارتآه القاضي.
ومن هذا يُعْلَم أن الاتكاء على المادة (7) من قانون العقوبات المصري -والتي تنص على أنه: [لا تُخِلُّ أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء] اهـ؛ على أساس أنه بناء عليها فلا بد من الاعتداد بتنازل أولياء الدم؛ لأنه من ضمن تلك الحقوق الشخصية- غير سديد أيضًا؛ لأن معاقبة الجاني بالعقوبة المناسبة مع عفو أولياء الدم لم يسلب عنهم حقهم في العفو ألبتة، بل قررته، وانطلقت من حق ولي الأمر في التعزير وإن عفا أصحاب الحق.
ومثل هذا يقال في الاستناد للمادة (54) من دستور 2014م، والتي تنص على أن: [الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمَس...ولكل من تُقَيَّد حريته ولغيره حق التظلم أمام القضاء من ذلك الإجراء والفصل فيه خلال أسبوع من ذلك الإجراء، وإلا وجب الإفراج عنه فورًا] اهـ.
وأما المادة (95) منه، والتي تنص على أن: [العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا تُوقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون] اهـ، والمادة (96) منه، والتي تنص على أن: [المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه] اهـ: فلا يظهر كونهما من قبيل القانون الأصلح للمتهم؛ بحيث يقال: إن الفعل الذي حكم على الجاني من أجله يصير غير معاقب عليه، ويُوقَف تنفيذه وتنتهي آثاره الجنائية؛ لأن العقوبة الواقعة عليه شخصية؛ ولم تمتد إلى غير الشخص المسؤول عن الفعل الإجرامي، وقد تم إدانته وتجريم فعله وعقوبته عليه بحكم قضائي، وهو ما حكمت به محكمة جنايات بني سويف بجلسة 8/ 4/ 2012م، وكان هذا الحكم بناءً على قانون سابق للجناية محل النظر، وهذا القانون هو ما جاء في المادة (230)، (231)، (232) من قانون العقوبات المصري رقم (58) لسنة 1937م، والتي تستدعي معاقبته بعقوبة الإعدام، وهي كما يلي:
المادة (230): [كل مَن قتل نفسًا عمدًا مع سبق الإصرار على ذلك أو الترصد يُعاقَب بالإعدام] اهـ.
مادة (231): [الإصرار السابق: هو القَصْد المُصَمَّم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية يكون غرض المُصِرِّ منها: إيذاء شخص معين، أو أي شخص غير معين، وجده أو صادفه، سواء كان ذلك القصد معلقًا على حدوث أمر، أو موقوفًا على شرط] اهـ.
مادة (232): [الترصد: هو تربص الإنسان لشخص في جهة أو جهات كثيرة مدة من الزمن طويلة كانت أو قصيرة؛ ليتوصل إلى قتل ذلك الشخص، أو إلى إيذائه بالضرب ونحوه] اهـ.
ثم خففت تلك العقوبة إلى السجن المؤبَّد بناءً على ما تسمح به المادة (17) من قانون العقوبات، والتي تنص على أنه: [يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة على الوجه الآتي:
- عقوبة الإعدام بعقوبة السجن المؤبد أو المشدَّد.
- عقوبة السجن المؤبد بعقوبة السجن المشدَّد أو السجن.
- عقوبة السجن المشدَّد بعقوبة السجن أو الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ستة شهور. (مستبدلة بالقانون رقم 95 لسنة 2003م).
- عقوبة السجن بعقوبة الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ثلاثة شهور] اهـ.
والخلاصة: أن ولي الدم إذا تنازل عن القصاص من القاتل بالتصالح على دية أو بالعفو مطلقًا، فإن ذلك يسقط القصاص عن القاتل، وأنه يجوز لولي الأمر إذا رأى أن المصلحة في إنزال العقوبة المناسبة بالجاني أن يفعله على وجه التعزير، ولو كان ذلك بعد عفو أولياء الدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا