تغسيل المتوفى بمرض الإيبولا

تغسيل المتوفى بمرض الإيبولا

السؤال عن التعامل مع الأشخاص الذين يتوفون بمرض الإيبولا، وهل يجب تغسيلهم في هذه الحالة رغم تصريحات منظمة الصحة العالمية بعدم تغسيل أجساد المرضى المتوفين بهذا المرض؛ لسهولة انتشار العدوى؟

إذا كان تغسيل جثث الأشخاص المتوفَّين بمرض الإيبولا متعذرًا؛ لكونه مظنة حصول العدوى، فلا يجب الغسل في هذه الحالة، ويلي الغسل في اللزوم عند تعذره التيمم، فإن تعذر هو الآخر ولم يمكن ارتكابه للضرر تُرِك وسقطت المطالبة به شرعًا، ولكن يبقى للميت بعد ذلك ما أمكن من التكفين والصلاة والدفن.
ويجوز أن تُحرَق جثة مريض الإيبولا بعد موته إن كان الحرق هو الوسيلة المتعينة للحَدِّ من انتشار الوباء في الأحياء، على أن يتم دفنها بعد ذلك، والمرجع في ذلك كله هو قول أهل الاختصاص المعتبرين.

التفاصيل ....

مرض الإيبولا (EVD) (Ebola virus disease) الذي كان يعرف من قبل باسم حمى إيبولا النزفية (EHF) (Ebola hemorrhagic fever) هو مرض خطير فَتَّاك، غالبًا ما يكون قاتلًا. وقد ظهر ذلك المرض أول مرة في سنة 1976م في موضعين اثنين في أفريقيا في آنٍ واحد؛ أحدهما كان في قرية تقع على مقربة من نهر إيبولا بالكونغو، ومنه اكتسب المرض اسمه فيما بعد.
والإصابة بذلك المرض تحدث عند التعامل المباشر مع سوائل جسم الإنسان المصاب به؛ كالدم وغيره من السوائل والإفرازات، أو ملامسة السطوح والثياب والأدوات الملوثة بالمرض؛ كشفرات الحلاقة، أو المعدات الطبية؛ كالإبر والمحاقن،
وتترواح فترة حضانة المرض الممتدة من لحظة الإصابة بالعدوى إلى بداية ظهور الأعراض، ما بين يومين وثلاثة أسابيع، وتبدأ الأعراض في الإصابة فجأة بحمى موهنة، وآلام في العضلات، وصداع والتهاب في الحلق، يتبعها تقيؤ، وإسهال، وظهور طفح جلدي، واختلال في وظائف الكُلَى والكَبِد، والإصابة في بعض الحالات بنزيف داخلي وخارجي على حد سواء، وتُظهِر النتائج المختبرية انخفاضًا في عدد الكريات البيضاء والصفائح الدموية، وارتفاعًا في معدلات إفراز الكبد للإنزيمات، ولتفادي الإصابة بذلك المرض، فإنه يتحتم تجنب التعامل مع المصاب وما يفرزه جسمه من السوائل.
فإذا مات المريض كان تغسيله مظنة العدوى، وهنا لا بد من الالتفات إلى أن الأصل المقرر في عقائد أهل السنة والجماعة هو أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى، وأن الأشياء ليس لها تأثير ذاتي، وأنها تحصل عند أسبابها لا بذات الأسباب، وعليه يُحمل ما وَرَدَ في بعض الأحاديث الشريفة مِن نفي العَدوى؛ من نحو:
ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا عَدْوى، ولا طِيَرَةَ».
وما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا عَدْوى، ولا صَفَرَ ولا هامَةَ» فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: «فَمَن أعْدَى الأَوَّلَ؟»
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 242، ط. دار المعرفة): [وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة؛ وحاصله: من أين جاء الجرب للذي أَعدى بزعمهم؟ فإن أجيب: من بعير آخر، لزم التسلسل، أو سبب آخر، فليفصح به. فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني، ثبت المدَّعَى؛ وهو أن الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شيء؛ وهو الله سبحانه وتعالى] اهـ.
ويؤكد ذلك ما جاء في تمام الحديث الأول من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وفِرَّ مِن المجذوم كما تَفِرَّ من الأسد».
وما رواه مسلم عن عمرو بن الشريد، عن أبيه رضي الله عنه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ». وما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ».
قال الإمام ابن الجوزي في " كشف المشكل من أحاديث الصحيحين" (2/ 471-472، ط. دار الوطن): [فمن المشكل في الحديث الأول: «لا عَدوى ولا طيرة». كانت العرب تتوهم الفعل في الأسباب، كما كانت تتوهم نزول المطر بفعل الأنواء، فأبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقوله: «لا عدوى»، وإنما أراد إضافة الأشياء إلى القدر؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فمن أعدى الأول؟» ونهى عن الورود إلى بلد فيه الطاعون؛ لئلَّا يقف الإنسان مع السبب وينسى المسبِّب. وسيأتي في "مسند أبي هريرة": «لا يورد مُمرِضٌ على مُصِحٍّ»، «وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»، ثم قد يسقم الإنسان لمصاحبة السقيم؛ من جهة أن الرائحة كانت سببًا في المرض، والله تعالى قد يُعمِل الأسباب وقد يبطلها... فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إضافة الواقعات من الضرر والنفع إلى الله عز وجل] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (14/ 213-214، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال جمهور العلماء يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان؛ قالوا: وطريق الجمع: أن حديث: «لا عدوى» المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده؛ أن المرض والعاهة تعدي بطبعها، لا بفعل الله تعالى، وأما حديث «لا يورد ممرض على مصح» فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينفِ حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره. فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعين المصير إليه] اهـ.
ومما تقدم يتبين أن المرض لا يعدي بنفسه وأن العدوى لا تصيب الإنسان بذاتها، وإنما بقضاء الله وقدره، فهناك أمراض جعلها الله تعالى سببًا لنقل العدوى بالمخالطة، أو بتعبير أدق لحدوث مرض مماثل لشخص آخر، ولكن ذلك على سبيل العادة الجارية؛ كتأثير النار بالإحراق، والماء بالري، والطعام بالشبع، فإن كل هذه المؤثرات وما شابهها إنما تقع إن وقعت بإرادة الله، وقد يتخلف وقوعها، هذا هو ما يجب الإيمان به، أما في جانب العمل فلا بد للأصحاء أن يحترزوا عن المريض بمرضٍ مُعْدٍ؛ حتى لا يكون سببًا لجريان تلك العادة عليهم.
أما بخصوص تغسيل المتوفى: فقد اتفق الفقهاء على أنه حق للميت المسلم، وأن القيام به له فرض كفاية على المسلمين؛ فإذا قام به البعض سقطت المطالبة والإثم عن الباقين، وأما إذا لم يكن الميت مسلمًا، فلا يجب على المسلمين غسله.
قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 312 ط. دار المعرفة): [حَقٌّ على الناس غسل الميت، والصلاة عليه، ودفنه، لا يسع عامتهم تركه، وإذا قام بذلك منهم مَن فيه كفاية له أجزأ إن شاء الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 119، ط. المنيرية): [لا يجب على المسلمين ولا غيرهم غسل الكافر بلا خلاف] اهـ.
ثم إن الفقهاء قد تدرجوا في الانتقال من الأصل إلى البدل في حالة تعذر الغسل وعدم إمكان تعميم جميع بدن المتوفى بالماء، فأوجبوا غسل ما يمكن غسله من أعضائه، وهذا كله بناءً على قاعدة: "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وهذه القاعدة من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». انظر: "الأشباه والنظائر" لابن السبكي (1/ 155، ط. دار الكتب العلمية).
وتعذر غسل الميت قد يكون من أجله هو؛ كالمحروق، وقد يكون من أجل الغاسل والمغسول معًا؛ كالرجل بين النساء ولا محرم، أو العكس، وقد يكون من أجل خوف انتقال الضرر من المغسول إلى الغاسل بسبب تغسيله، وهذا الأخير هو الذي عليه مدار الحال المسئول عنه.
قال في "المنهاج" للنووي وشرحه "تحفة المحتاج" لشيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي (3/ 184، ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر): [(ومن تعذر غسله)؛ لفقد ماء، أو لنحو حرق، أو لدغ، ولو غُسِّل تهرَّى، أو خيف على الغاسل ولم يمكنه التحفظ (يُمِّم) وجوبًا، كالحي] اهـ. قال مُحَشِّيه العلامة الشرواني: [(قوله: أو خيف إلخ) عطف على تهرَّى؛ أي: ولو غُسِّل تهرَّى الميت، أو خيف على الغاسل من سراية السم إليه. كردي] اهـ.
والقول بترك الغسل إن خيف على الغاسل من سراية السم نص جلي في ترك الغسل إن خيف على الحي الضرر.
وقد نَصَّ فقهاء المالكية على أن الغسل يسقط فيما هو أهون من ذلك، مثل أن تكثر الموتى جدًّا فيشق غسلهم؛ كما يحدث في الوباء ونحوه.
قال العلامة الموَّاق في "التاج والإكليل" (3/ 46، ط. دار الكتب العلمية): [ولو نزل الأمر الفظيع بكثرة الموتى، فلا بأس أن يدفنوا بغير غسل، إذا لم يوجد من يغسلهم، ويجعل النفر منهم في قبر واحد، وقاله أصبغ وغيره] اهـ.
وقال في "مختصر خليل وشرحه" لسيدي أحمد الدردير (1/ 420 مع "حاشية الدسوقي"، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(و) جاز (عدم الدلك لكثرة الموتى) كثرة توجب المشقة؛ أي: الفادحة فيما يظهر, وكذا عدم الغسل، ويُيَمَّم مَن أمكن تيممه منهم، وإلا صلى عليهم بلا غسل وتَيَمُّم على الأصح] اهـ. قال مُحَشِّيه العلامة الدسوقي: [(قوله: المشقة الفادحة)؛ أي: في الدلك، والمراد بها: الخارجة عن المعتاد. (قوله: وكذا عدم الغسل)؛ أي: وكذا يجوز عدم الغسل؛ لكثرة الموتى كثرة توجب المشقة الفادحة في تغسيلهم بلا دلك. (قوله: وإلا صلى)؛ أي: وإلا بأن كان يشق تيممهم مشقة فادحة صلى عليهم بلا غسل وبلا تيمم, وهذا لا يعارض ما مر من قوله: (وتلازما)؛ لما علمت أن المراد تلازما في الطلب، ولا شك أن الغسل مطلوب عند كثرة الموتى ابتداءً، وإن اغتفر تركه؛ للمشقة الفادحة] اهـ.
ولا شك أن المشقة تتعلق بالحاجيات، وهي مرتبة أدنى من الضروريات، فما جاز تركه للحاجة جاز تركه للضرورة من باب أولى، وحفظ النفس من أهم الضروريات كما سيأتي تقريره.
ومن اللطائف أن ترك الغسل مخافة العدوى قد ورد في كتب السنة في قصة هلاك أبي لهب؛ فقد روى الحاكم في "المستدرك" عن أبي رافع رضي الله عنه قال: كنت رجلًا ضعيفًا فاحتملني -أي: أبا لهب- فضرب بي الأرض، وبرك على صدري، وضربني، وقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الخيمة، فأخذته، وهي تقول: "استضعفتَه أن غاب عنه سيده"، وتضربه بالعمود على رأسه، وتدخله شَجَّةً مُنْكَرَة، فقام يجر رجليه ذليلًا، ورماه الله بالعَدَسَة، فوالله ما مكث إلا سبعًا حتى مات، فلقد تركه ابناه في بيته ثلاثًا، ما يدفنانه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي هذه العَدَسَة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: "ويحكما، ألَا تستحيان إن أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه؟" فقالا: "إننا نخشى عدوى هذه القرحة"، فقال: "انطلقا، فأنا أعينكما عليه"، فوالله ما غسلوه إلا قذفًا بالماء من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضفوا عليه الحجارة.
قال ابن الأثير الجزري في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 190، ط. المكتبة العلمية): [فِي حَدِيثِ أَبي رَافِعٍ أَنَّ أَبا لَهَبٍ رمَاه اللهُ بالعَدَسَة؛ هِيَ بَثْرة تُشْبِه العَدَسَة، تَخْرج فِي مَواضعَ مِنَ الْجَسَد، مِنْ جنْسِ الطَّاعُون، تقْتُل صاحِبَها غَالِبًا] اهـ.
والمقصود أن نقرر أن الميت إذا لم نستطع تغسيله لعذر شرعي، فإنه يُنتَقَل إلى التيمم، فإن لم نستطعه فقد سقط التيمم أيضًا، لكن يبقى له ما يكون بعد ذلك مما يتيسر من التكفين والصلاة والدفن؛ لأن "الميسور لا يسقط بالمعسور".
وأما بخصوص مسألة حرق جثة المريض بعد وفاته؛ فالأصل أنه لا يجوز حرق جثة الميت؛ لتكريم الله تعالى له بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:70]، والحرق ينافي التكريم؛ ولأن له حرمة كحرمة الحي؛ وقد روى أبو داود عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا»؛ قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 144، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [هذا كلام عام يراد به الخصوص؛ لإجماعهم على أن كسر عظم الميت لا دية فيه ولا قَوَد، فعلمنا أن المعنى ككسره حيًّا في الإثم، لا في القَوَد ولا الدية؛ لإجماع العلماء على ما ذكرت لك] اهـ.
لكن إذا عورض هذا الأصل بما كانت المصلحة فيه أقوى من المصلحة المتغياة بدفن الميت -من تكريمه ونحوه-؛ مثل أن يكون الحرق هو الوسيلة المتعينة للحَدِّ من انتشار الوباء في الأحياء إن لم يتم إحراق جثة الميت المصاب بهذا الداء، فإنه يشرع حينئذٍ حرق الجثث التي يخشى انتشار المرض إذا لم تحرق، والمصلحة هنا تكون حفظ كُلِّيٍّ من أهم الكليات الخمسة الضرورية التي ورد الشرع بحفظها، وهو النفس؛ قال الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة] اهـ.
وكثير من العلماء في ترتيبهم للمقاصد قد جعلوا حفظ النفس هو المقدم على الأربعة الباقية؛ كالإمام الرازي، والقرافي، والبيضاوي. انظر: "المحصول" للرازي (5/ 160، 458، ط. مؤسسة الرسالة)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 304، ط. دار الفكر)، و"منهاج الوصول" للبيضاوي (ص: 59، ط. مطبعة السعادة بمصر).
وهذا الترتيب يستقيم بناءً على تفسير الدِّين بما يُقابِل الإسلام بتمامه؛ كفروع الدِّين والشعائر ونحوها، وتقديم النَّفس مبرره: أن بها تحصل العبادات، وليس المقصود بالدين هنا هو الإسلام، بل الإسلام في هذا الاصطلاح أعم من الدين بذلك المفهوم، ويدل عليه موقف عَمَّار مع المشركين، وِإذْن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن ينطق بكلمة الكفر؛ حفاظًا على النفس؛ ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]. انظر: "المدخل" للدكتور علي جمعة (ص: 126، ط. المعهد العالمي للفكر الإسلامي).
وكذلك، فإن قواعد الشرع الأخرى تدعم ذلك وتدل عليه؛ من نحو قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وقاعدة "ما أُبيح للضرورة يُقَدَّر بقدرها"، وقاعدة "الضرر يزال"، وقاعدة "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وقاعدة "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، وقاعدة "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما"، وقاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح". انظر: "المنثور في القواعد" للزركشي (2/ 317، 320، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص84، 87، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح القواعد الفقهية" للشيخ أحمد الزرقا (ص179، 197، ط. دار القلم).
وقد تقرر في الشريعة الإسلامية أن حق الحي مقدم على حق الميت إذا تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما؛ لأن الحي أهم، والأهم مقدم على المهم، ومما يشهد لذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "أنها دخلت على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: أرجو فيما بيني وبين الليل -يعني: أتوقع أن تكون موتتي فيما بين ساعتي هذه وبين الليل-، فنظر إلى ثوب عليه، كان يُمَرَّض فيه به رَدع من زعفران -يعني: أثر-، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها، قلت: إن هذا خَلَق -يعني: قديم بالٍ-، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمُهلة -يعني الصديد الذي يخرج من جثة المتوفى بعد موته-، فلم يتوفَّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح".
وقد وردت تطبيقات لهذا الأصل في كلام الفقهاء؛ من ذلك: ما قاله فقهاء الحنفية فيما إذا ماتت امرأة وهي حامل، فاضطرب الولد في بطنها؛ قال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (8/ 233، ط. دار الكتاب الإسلامي): [فإن كان أكبر رأيه أنه حي يشق بطنها; لأن ذلك تسبب في إحياء نفس محترمة بترك تعظيم الميت، فالإحياء أولى] اهـ.
وقال الشيخ الجرجاني فيمن ابتلع درة أو دنانير لآخر، فمات المبتلع، ولم يترك مالًا: [إنه يشق بطن الميت لاستخراج ما ابتلعه]؛ قال العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (8/ 233) -مُعَلِّلًا هذا الرأي-: [لأن حق الآدمي مُقَدَّمٌ على حق الله تعالى إن كان حرمة الميت حقًّا لله تعالى، وإن كان حق الميت، فحق الآدمي الحي مقدم على حق الميت؛ لاحتياج الحي إلى حقه] اهـ.
وقال الشيخ محمد عليش في "منح الجليل شرح مختصر خليل" من كتب المالكية (1/ 530-532، ط. دار الفكر): [(وبُقِر) -بضم الموحدة، وكسر القاف-؛ أي: شق بطن الميت (عن مال) ابتلعه في حياته ومات، وهو في بطنه، سواء كان له أو لغيره (كُثر)... و(لا) تبقر بطن ميتة عن (جنين) حي رُجِي لإخراجه؛ لأن سلامته مشكوكة، فلا تنتهك حرمتها له، والمال محقق الخروج] اهـ.
وقال العلامة الجمل في "حاشيته على شرح المنهج" في فقه الشافعية (2/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [ولو بلع مالًا لنفسه ومات لم ينبش؛ لاستهلاكه له حال حياته، أو مال غيره، وطلبه مالكه، نبش، وشق جوفه، وأخرج منه، ورُدَّ لصاحبه] اهـ بتصرف.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" في فقه الإمام أحمد (1/ 359، ط. دار الكتب العلمية): [ومَن مات في بئر ذات نفس أُخرج، فإن لم يمكن إلا بمُثْلة، وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضًا؛ لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المُثلة، وإن لم يحتج إليها طمت عليه، فكانت قبره] اهـ.
والخلاصة: أنه لا يجب تغسيل جثث الأشخاص المتوفَّين بمرض الإيبولا ما دام الغسل متعذرًا؛ لكونه مظنة حصول العدوى، وأن الأصل الذي يلي الغسل في اللزوم عند تعذره هو التيمم، فإن تعذر هو الآخر ولم يمكن ارتكابه للعدوى تُرِك وسقطت المطالبة به شرعًا، ولكن يبقى للميت بعد ذلك ما أمكن من التكفين والصلاة والدفن.
كذلك فإنه يجوز أن تُحرَق جثة مريض الإيبولا بعد موته؛ خوفًا من نشر الوباء بين الأحياء، إن كان الحرق هو الوسيلة المتعينة للحَدِّ من انتشار الوباء في الأحياء، على أن يتم دفنها بعد ذلك، والمرجع في ذلك كله هو قول أهل الاختصاص المعتبرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا