أولوية القضاء بين الفوائت والسنن الراتبة ومطلق النوافل

أولوية القضاء بين الفوائت والسنن الراتبة ومطلق النوافل

ابتعدت عن الصلاة لمدة خمسة أعوام، وقد تبت إلى الله تعالى، وأقضي الآن ما عليَّ من الفوائت، فأقضي مع كل فرضٍ عددًا من الفوائت من مثله، لكن ذلك يؤثر على صلاتي للسنن الرواتب وصلاة النفل بوجه عام، فأنا أحب التطوع بالصلاة، ولا أدري أي الصلوات أقدم على الآخر، هل أقدم قضاء الفوائت، أم صلاة السنن الراتبة، أم صلاة التطوع؟

أجمع الفقهاء على وجوب قضاء الصلاة المفروضة الفائتة، ولا يجوز تأخير القضاء إلا لعذرٍ، ولا يرتفع إثم ترك الصلاة عمدًا بغير عذر بمجرد القضاء، بل يجب معه التوبة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن وجد الإنسان من نفسه القدرة على الإتيان بالنوافل وقضاء الفوائت معًا فلا حرج عليه في تقديم النافلة الراتبة على الفريضة الفائتة، فإن كان قضاء الفوائت يؤثر على أداء النوافل وجب قضاء الفرائض أولًا، ثم يأتي بالسنن الرواتب بعد ذلك إن وجد القدرة عليها، ثم يتنفل بعد ذلك بما شاء من الصلوات في غير أوقات الكراهة.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بيان وجوب أداء الصلاة في وقتها

لقد فرض الله علينا الصلاة وجعل لها أوقاتًا تؤدى فيها؛ فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣]، وامتدح المحافظين عليها في أوقاتها فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۞ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۞ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۞ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ۞ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج: ١٩-٢٣]، وحذر من التهاون بها؛ فقال سبحانه: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59]، وقال جل شأنه: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۞ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: ٤-٥].

حكم قضاء الصلوات الفائتة نسيانًا أو لعذر

فمن المقرر أن الفرائض الخمس قد أوجبها الله سبحانه وتعالى على كل مسلمٍ مكلَّفٍ في أوقاتٍ محددة، ويأثم المسلم بتأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر، وقد أخرج الشيخان بسنديهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ».

والعبد إذا ابتلي بالتقصير في الصلاة عمدًا أو بعذرٍ لنومٍ أو نسيانًا وجب أن يقضي ما عليه من فوائت بقدر طاقته، وقد أجمع الفقهاء على وجوب قضاء الصلاة الفائتة نسيانًا أو لعذر؛ قال العلامة ابن بزيزة المالكي في "روضة المستبين في شرح كتاب التلقين" (1/ 374، ط. دار ابن حزم): [وقد انعقد الإجماع على وجوب قضاء الصلوات الفوائت بنسيان أو نوم] اهـ.
ولا يجوز تأخير القضاء إلا لعذرٍ، كالسعي لتحصيل الرزق وتحصيل العلم الواجب عليه وجوبًا عينيًّا، وكالأكل والنوم.

حكم قضاء الصلوات المتروكة عمدًا

اختلف الفقهاء في الصلاة المتروكة عمدًا؛ قال العلامة ابن بزيزة المالكي في "روضة المستبين" (1/ 374): [واختُلف في المتروك عمدًا، والجمهور على وجوب قضائها بعد التوبة والاستغفار] اهـ.

وقال العلامة بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (2/ 582، ط. دار الكتب العلمية): [(ومن فاتته صلاة قضاها إذا ذكرها) سواء كان فوتها ناسيًا، أو بغير عذر النسيان أو عامدًا، وبه قال مالك والشافعي، وقال أحمد وابن حبيب: لا يقضي المتعمد في الترك] اهـ.

وإنما قال الجمهور بقضاء الصلاة المتروكة عمدًا؛ قياسًا على التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ فقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصلاة المنسية فيما رواه الإمام البخاري عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ»، وهي أدنى من المتعمد تركها، فالأعلى تدخل في التنبيه من باب أولى.

وعلى هذا: فقضاء الصلاة المفروضة التي فاتت واجبٌ، سواء فاتت بعذرٍ غير مسقطٍ لها، أو فاتت بغير عذر، ولا يرتفع الإثم بمجرد القضاء، بل يجب معه التوبة، كما لا ترتفع الصلاة بمجرد التوبة، فإن القضاء واجب؛ لأن من شروط التوبة الإقلاع عن الذنب، والتائب بدون قضاء غير مقلع عن ذنبه.

أولوية القضاء بين الفوائت والسنن الراتبة ومطلق النوافل

أما إذا كان قضاء الفوائت يؤثر على أداء السنن الرواتب وعلى النوافل فأيها يقدم: قضاء الفائتة أم الرواتب أم النفل المطلق؟ فإن العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة:

فالحنفية يرون تقديم قضاء الفوائت على النفل المطلق بخلاف السنن المؤكدة والرواتب؛ كتحية المسجد والأربع قبل العصر، والست بعد المغرب، فيجوز تقديمها على قضاء الفائتة؛ قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 74، ط. دار الفكر): [الاشتغال بقضاء الفوائت أولى وأهم من النوافل، إلا سنن المفروضة وصلاة الضحى وصلاة التسبيح والصلوات التي رويت فيها الأخبار] اهـ.

ويرى المالكية والحنابلة أنه يحرم على من عليه فوائت أن يصلي النفل المطلق، فلو صلَّاه لا ينعقد، وأما النفل المقيد؛ كالسنن الرواتب والوتر، فيجوز له أن يصليه في هذه الحالة، ولكن الأولى له تركه إن كانت الفوائت كثيرة، ويستثنى من ذلك سنة الفجر؛ فإنه يطلب فعلها ولو كثرت الفوائت؛ لتأكدها وحث الشارع عليها؛ فقد جاء في "الشرح الكبير" (1/ 264، ط. دار الفكر): [فيحرم التأخير إلا وقت الضرورة؛ ويحرم التنفل لاستدعائه التأخير، إلا السنن والشفع المتصل بالوتر وركعتي الفجر] اهـ.

وقال العلامة البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" (1/ 260، ط. دار الكتب العلمية): [ولا يصح نفلٌ مطلقٌ ممن عليه فائتة (إذن)، أي: في الوقت الذي أبيح له فيه تأخير الفائتة؛ لكونه حضر لصلاة عيد، أو يتضرر في بدنه أو نحوه، أو أخرها لغرض صحيح؛ (لتحريمه) أي: النفل المطلق إذن؛ (كأوقات النهي)؛ لتعيين الوقت للفائتة كما لو ضاق الوقت الحاضر، ومفهومه أنه يصحّ النفل المقيد كالرواتب والوتر؛ لأنها تتبع الفرائض فلها شبه بها، (وإن قلَّت الفوائت قضى سننها) الرواتب (معها)؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فاتته الفجر صلى سنتها قبلها، (وإن كثرت) الفوائت (فالأولى تركها)، أي: السنن؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قضى الصلوات الفائتة يوم الخندق لم ينقل أنه صلى بينها سنة، ولأن الفرض أهم، فالاشتغال به أولى، قاله في "الشرح" (إلا سنة فجر) فيقضيها ولو كثرت الفوائت؛ لتأكدها وحث الشارع عليها، (ويخير في الوتر) إذا فات مع الفرض وكثر، وإلا قضاه استحبابًا] اهـ.

وذهب الشافعية إلى التفرقة بين الفائتة بعذر، والفائتة بغير عذر؛ فقالوا: يتنفل مع قضاء الفائتة بعذر، ولا يتنفل مع قضاء الفائتة بغير عذر، هذا ما ذكره الإمام ابن حجر في فتاويه؛ حيث نص على أن من عليه فائتة بعذر جاز له قضاء النوافل مع الفائتة، وإذا جاز له قضاء النوافل جاز له الأداء من باب أولى؛ فقال رحمه الله في "الفتاوى الكبرى" (1/ 189، ط. المكتبة الإسلامية): [ومن عليه فوائت، فإن كانت فائتة بعذر جاز له قضاء النوافل معها؛ سواء الراتبة وغيرها... وإن كانت فاتت بغير عذر لم يجز له فعل شيء من النوافل قبل قضائها؛ لأنه واجب عليه فورًا، وبصرف الزمن للنوافل تفوت الفورية، فلزمه المبادرة لقضائها، وهي لا توجد إلا إن صرف لها جميع زمنه، فيجب على من عليه فوائت بغير عذر أن يصرف جميع زمنه إلى قضائها ولا يستثني من ذلك إلا الزمن الذي يحتاج إلى صرفه فيما لا بد منه من نحو نومه، وتحصيل مؤنته ومؤنة من تلزمه مؤنته، وهذا ظاهر وإن لم يذكروه؛ لأنه إذا لزمه القضاء فورًا كان مخاطبًا به خطابًا إيجابيًّا إلزاميًّا في كل لحظة، فما اضطر لصرفه في غير ذلك يعذر في التأخير بقدره، وما لم يضطر لصرفه في شيء يجب عليه صرفه في ذلك الواجب عليه الفوري، وإلا كان عاصيًا آثمًا بالتأخير، كما أنه عاصٍ آثمٌ بالترك] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فيجب على من كان عليه صلوات فائتة ولو لمدة طويلة بلغت سنواتٍ أن يشتغل بقضاء ما عليه من الفرائض، فإن كان يرى من نفسه أن لديه القدرة على الإتيان بالنوافل الراتبة وقضاء الفوائت معًا لوجود متسع في الوقت، فلا حرج عليه في تقديم النافلة الراتبة على الفريضة الفائتة، وإن كان يرى أن الانشغال بالسنن الراتبة لا يترك متسعًا من الوقت لقضاء ما عليه من الفرائض الفائتة، فعليه أن يقدم قضاء ما عليه من فرائض فائتة، ثم إذا وجد في وقته سعة أتى بالسنن الرواتب، ثم يكون له بعد ذلك أن يتنفل بما شاء من الصلوات ما دام في غير أوقات الكراهة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا