حكم الحدث أثناء الطواف

حكم الحدث أثناء الطواف

ما حكم الحدث أثناء الطواف؛ فإنني أثناء طواف العمرة أخرجت ريحًا؛ فأتممت طوافي دون إعادة الوضوء، فهل عليَّ حرج في ذلك، وإذا تكرر مني ذلك في العمرة القادمة فماذا أفعل؟

اختلف الفقهاء في حكم من أحدث أثناء الطواف، وخروجًا من هذا الخلاف فإن على من أحدث أثناء الطواف أن يعيد الوضوء ثم يعود ويستأنف طوافه من جديد، فإن شق عليه ذلك فله أن يبني على ما طافه تقليدًا لمن أجاز ذلك من الفقهاء، فإن أتمّ طوافه من غير طهارة وعاد إلى بلده فطوافه صحيح على مذهب السادة الحنفية ويلزمه ذبح شاة في الحرم.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بيان فضل الطواف وأنواعه

من المقرر أن الطواف بالكعبة المشرفة عبادة من أفضل العبادات وقربة من أشرف القربات، وهو أنواع عدة؛ منها طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج، وطواف العمرة، وهو ركن من أركانها، قال تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، ويُستحب الطواف ابتداء من غير حج ولا عمرة ويُثاب عليه المسلم ثوابًا عظيمًا كما أخرج الفاكهي في "أخبار مكة" عن الحجاج بن أبي رقية قال: كنت أطوف بالبيت فإذا أنا بابن عمر رضي الله عنهما، فقال: يا ابن أبي رقية استكثروا من الطواف؛ فإني سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ حَتَّى تُوجِعَهُ قَدَمَاهُ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يُرِيحَهُمَا فِي الْجَنَّةِ».
والطواف عبادة متعلقة بالكعبة المشرفة كما تعلقت بها الصلاة؛ أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الطَّوَافُ حَوْلَ البَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ»، ولذا شُرع التطهر للطواف من الأحداث والأنجاس كالصلاة، كما أخرج الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت»؛ وقال صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في "صحيح مسلم" من رواية جابر رضي الله عنه: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وهو يقتضي وجوب كل ما فعله إلا ما قام دليل على عدم وجوبه.

حكم اشتراط الطهارة في الطواف

استدل جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة بما ورد من تشبيه الطواف بالصلاة ومن فعله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع على أن الطهارة من الأحداث والأنجاس شرط لصحة الطواف؛ كالصلاة، فمن طاف محدثًا فطوافه باطل لا يُعتد به؛ فيجب عليه إعادته؛ وحديث ابن عباس رضي الله عنهما «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ» وإن كان على الصحيح موقوفًا على ابن عباس إلا أنه تحصل منه الدلالة على المسألة لأنه قول صحابي اشتهر ولم يخالفه أحد من الصحابة، وهو مما لا مدخل فيه للرأي؛ فيكون حجة.
قال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/ 238، ط. دار الغرب الإسلامي) عن شروط الطواف: [شرائطه وهي تسعة؛ فالثلاثة الأولى: -في "الجواهر"- طهارة الحدث وطهارة الخبث وستر العورة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ، إِلاَ أنَّ اللهَ تعالى أبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ»، ولما حاضت عائشة رضي الله عنها بكت فأمرها صلى الله عليه وآله وسلم أن تردف الحج على العمرة ولولا ذلك لأباح لها الطواف] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (4/ 144- 145، ط. دار الكتب العلمية): [الطهارة في الطواف واجبة، وهي شرط في صحة طهارة الأحداث وإزالة الأنجاس، فإن طاف محدثًا أو نجسًا لم يجزه، وبه قال مالك وأكثر الفقهاء... فإذا ثبت أن الطواف لا يصح بغير طهارة فطاف بغير طهارة، كان طوافه غير مجزئٍ كمن لم يطف] اهـ.
وقال الإمام الحجاوي الحنبلي في "زاد المستقنع" بشرحه "الروض المربع" للبهوتي (ص: 273، ط. مؤسسة الرسالة): [ومن ترك شيئًا من الطواف أو لم ينوه أو نسكه أو طاف على الشاذروان أو جدار الحجر أو طاف وهو عريان أو نجس أو محدث لم يصح طوافه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ»] اهـ. والشاذروان: هو قدرٌ تُرك من عرض الأساس خارجًا عن عرض جدار الكعبة مرتفعًا عن وجه الأرض قدر ثُلثي ذراع.

آراء المذاهب الفقهية في حكم من أحدث أثناء الطواف

بعد أن اتفق جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة على أن الطهارة شرط في الطواف اختلفوا في حكم من أحدث في الطواف؛ فذهب المالكية والحنابلة، وهو قول عند الشافعية، إلى أن من أحدث في الطواف بطل طوافه وعليه أن يبتدأه إذا توضأ ولا يبني على ما سبق؛ قال الإمام الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (3/ 68، ط. دار الفكر): [من أحدث في أثناء طوافه فقد بطل طوافه، ولا يجوز له البناء على ما مضى منه إذا تطهر، ولو كان قريبًا، وسواء كان حدثه غلبة أو سهوًا أو عمدًا، وسواء كان الطواف واجبًا أو تطوعًا، فإن كان الطواف واجبًا توضأ واستأنفه، وإن كان تطوعًا لم يكن عليه إعادته إلا أن يتعمد الحدث، فإن توضأ وبنى على ما طافه فهو كمن لم يطف] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المقنع" بشرحه المبدع (3/ 202، ط. دار الكتب العلمية): [وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعه بفصل طويل ابتدأ] اهـ.
ومذهب الشافعية أن من أحدث في طوافه توضأ وبنى؛ قال الإمام ابن حجر في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (4/ 75، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ولو أحدث فيه حدثًا أصغر أو أكبر أو انكشفت عورته توضأ أو اغتسل أو استتر وبنى، وإن تعمد وطال الفصل؛ لعدم اشتراط الولاء فيه كالوضوء بجامع أن كلاًّ عبادة، يجوز أن يتخللها ما ليس منها، وفي قول: يستأنف كالصلاة] اهـ.
وقد ذهب الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد، إلى أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف، بل هي واجبة، فمن طاف محدثًا فالأفضل أن يعيد طوافه؛ فإن لم يُعده صح طوافه وعليه شاة، قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (4/ 38، ط. دار المعرفة): [طواف المحدث معتد به عندنا، ولكن الأفضل أن يعيده، وإن لم يعده فعليه دم] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 343، ط. مكتبة القاهرة): [ويكون طاهرًا في ثياب طاهرة؛ يعني في الطواف؛ وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد. وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطًا، فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم. وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة] اهـ.
واستدل الحنفية ومن وافقهم بقوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]؛ قال العلامة السرخسي في "المبسوط" (4/ 38، ط. در المعرفة): [وحجتنا في ذلك أن المأمور به بالنص هو الطواف... وذلك يتحقق من المحدث والطاهر؛ فاشتراط الطهارة فيه يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين، والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين فيكون موجب العمل دون العلم فلم تصر الطهارة ركنًا ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في باب الحج] اهـ.
كما استدلوا بقياس الطواف على ركني الوقوف بعرفة والسعي؛ فإن الطهارة لا تُشترط لهما فلا تُشترط في الطواف كسائر الأركان.
وأجابوا عن تشبيه الطواف بالصلاة في الحديث بأن المراد التشبيه في حق الثواب دون الحكم، وفرَّقوا بينهما بأن الكلام والمشي لا يفسد الطواف ويفسد الصلاة.
وأجاب الجمهور عن استدلال الحنفية بهذه الآية بأنه لا يصح؛ لأن الآية مجملة، وقد أُخذ بيانها من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يطف إلا بطهارة.
وأجابوا عن قياس الحنفية الطوافَ على الوقوف والسَّعي بأنه قياس في معرض النص وهو فاسد. كما فرَّقوا بين الطواف والوقوف بأن الطواف عبادة متعلقة بالبيت فكانت كالصلاة، أما الوقوف فليس متعلقًا بالبيت.
كما ذهب بعض الفقهاء إلى أن الطهارة في الطواف سنة؛ وممن قال بذلك ابنُ شجاع من الحنفية والمغيرةُ من المالكية؛ قال الإمام اللخمي المالكي في "التبصرة" (3/ 1180، ط. وزارة الأوقاف بقطر): [وقال المغيرة فيمن طاف بغير وضوء: يعيد ما كان بمكة، فإذا أصاب النساء وخرج إلى بلده أجزأه، ولا شيء عليه] اهـ، وقال الإمام الحدادي الحنفي في "الجوهرة النيرة" (1/ 171، ط. المطبعة الخيرية): [ثم الطهارة ليست بشرط في الطواف عندنا، واختلف المشايخ هل هي سنة أو واجبة؟ فقال ابن شجاع: سنة لأن الطواف يصح من غير وجودها] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فمن أحدث في طوافه فعليه أن يقطعه فيتوضأ ثم يعود فيستأنف طوافه خروجًا من الخلاف، فإن شُق عليه ذلك فيجوز له أن يبني على ما طافه تقليدًا لمن أجاز.
وفي واقعة السؤال: فإن طواف السائل صحيح على قول الحنفية، خاصة أنه قد عاد إلى بلده، ويلزمه ذبح شاة في الحرم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا