تشبه الرجال بالنساء

تشبه الرجال بالنساء

ما حكم الدين في تشبه الرجال بالنساء في الملابس واتباعهم لموضة الغرب؟ 

اختلف العلماء في معنى النهي المراد من تشبه الرجال بالنساء وعكسه، أو التشبه بغير المسلم، واختلفوا في حمله على الحرمة أو الكراهة أو الإباحة على حسب اختلاف الطباع والأعراف والعادات التي تختلف من بلد إلى آخر، ومدى موافقة هذه الأعراف والعادات أو مخالفتها لأحكام الشريعة الإسلامية.
وبالتحقيق نجد أن التشبه إنما يكون فيما اختص بالْمُتَشَبَّهِ به عادةً أو طبعًا في جنسِهِ وهيئتِهِ، فإن اختص التشبه في جنسه دون هيئته أو هيئته دون جنسه لم يكن حرامًا، ويكون حكمه حينئذٍ راجعًا إلى قصد المتشبه؛ فإن جرى به العرف السليم فلا كراهة، وإلا فهو مكروه.
كما أن تقليد المسلم واتباعه لعادات غير المسلمين وتقاليدهم واتباع كل ما هو جديد -الموضة- في الملبس وغيره: إنما يحرم إذا كان مخالفًا لأحكام الشرع، أو كانوا مختصين بها لأجل كونهم غير مسلمين، وقصد به المسلم مع ذلك تقليدهم فيها من هذا الوجه، أما لو رأى فيها ما يعجبه من جهة الحضارة أو التمدن أو الأخلاق أو الجمال أو غير ذلك مما لا يخالف الشريعة وأحكامها فلا حرج حينئذٍ، ولا يعد من التشبه المنهيّ عنه في شيءٍ.
ومما يجدر الإشارة إليه: أن الإسلام لا يأمر أتباعه بالتميز أو عدم التشبه لمجرد التميز والمخالفة، وإنما يأمرهم بالأخلاق الحسنة والشمائل الكريمة، ومراعاة كرامة الإنسان، والوفاء بالعهود والمواثيق، ومراعاة النظام العام، واحترام الخَلْق والرحمة بهم. 

التفاصيل ....

اللباس مشروع في الإسلام لحكم عظيمة، أهمها: الستر، والزينة، وقد امتن الله على عباده بما خلقه لهم من اللباس؛ فقال عز وجل: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26]، وأمرنا به سبحانه وتعالى فقال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]؛ أي: ما يستر عورتكم عند الصلاة، ولم تشترط الشريعة لباسًا معينًا، ولكنها وضعت له شروطًا عامة متى تحققت فيه كان الملبوس جائزًا في الشرع؛ منها: أن يكون طاهرًا، غير مغصوب، ساترًا لما يجب ستره من البدن، لا شفافًا رقيقًا يظهر ما يجب ستره، ولا ضيقًا يصف العورة، وألا يكون ذهبًا أو حريرًا بالنسبة للرجال خاصة، إضافة إلى شرط عام في اللباس وفي غيره، وهو ألا يكون فيه تشبه من الرجال بالنساء أو من النساء بالرجال.
وقد ساوت الشريعة الإسلامية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، لكنها راعت متطلبات كل منهما حسبما تقتضيه الطبيعة والهيئة الخِلْقية الخاصة بالتكوين الجسماني لكل جنس وما يمر به من مراحل عمرية مختلفة.
وكما أنَّ الشرع الشريف فرق بين جنس الذكر وجنس الأنثى؛ فإنَّه رتَّب على ذلك أحكامًا تقتضي عدم إذابة صفات كل منهما في صفات الآخر.
ومن هذه الأحكام: عدم تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال؛ لِمَا في ذلك من إخراج كل جنسٍ منهما عن الصفة التي خلقه عليها أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجلَ يلبسُ لِبْسَة المرأةِ، والمرأةَ تلبس لِبْسَة الرجلِ" أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود وابن ماجه في "السنن"، والنسائي في "السنن الكبرى"، وصححه ابن حبان والحاكم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتشبِّهينَ من الرّجالِ بالنّساءِ، والمتشبّهاتِ من النّساءِ بالرّجالِ" رواه الإمام البخاري وأصحاب "السنن"، وفي لفظٍ: "لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المخنَّثين من الرّجالِ، والمترجِّلاتِ من النّسَاء".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أنه رأى أم سعيد بنت أبى جهل متقلدة قوسًا وهي تمشى مِشْيَةَ الرجال، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِالرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا مَنْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ» رواه الإمام أحمد في "المسند"، والطبراني في "المعجم الكبير".
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تنهي عن تشبه النساء بالرجال وعن تشبه الرجال بالنساء.
- فمِن الفقهاء من ذهب إلى أنَّ النهي الوارد في الأحاديث محمول على الحُرمة، وهم الجمهور؛ لأنَّ اللعن لا يكون إلَّا على مُحرَّم، وذلك لعموم الأحاديث الصحيحة في النهي عن تشبه أحد الجنسين بالأخر، ومحلّ الحرمة عندهم إذا تحقق أمران:
الأول: أن يكون التشبه مقصودًا؛ بأن يتعمد الرجل فعل ما يكون من شأن النساء، وأن تتعمد المرأة فعل ما يكون من شأن الرجال، أما مجرد التوافق بدون قصد وتعمد فلا حرج فيه، فإذا انتفى القصد كان الفعل تَشَابُها لا تشبُّها، ولا حرج في التشابه فيما لم يُقصَد.
الثاني: أن يكون التشبه في شيء هو من خصائص الجنس الآخر، ومعيار ذلك: إمّا الدين، أو الطبع والجِبِلَّة، أو العرف والعادة.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 332-333، ط. دار المعرفة): [قال الطبري: "المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء، ولا العكس".
قلتُ: وكذا في الكلام والمشي. فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد؛ فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس، لكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار.
وأما ذم التشبه بالكلام والمشي: فمختص بمن تعمد ذلك، وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين..
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به ما ملخصه: ظاهر اللفظ الزجرُ عن التشبه في كل شيء، لكن عُرِفَ من الأدلة الأخرى أن المراد: التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير، وقال أيضًا: اللعن الصادر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ضربين:
أحدهما: يراد به الزجر عن الشيء الذي وقع اللعن بسببه، وهو مخوف؛ فإن اللعن من علامات الكبائر. والآخر: يقع في حال الحرج، وذلك غير مخوف، بل هو رحمة في حق من لعنه، بشرط أن لا يكون الذي لعنه مستحقًّا لذلك، كما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند "مسلم".
قال: والحكمة في لعن من تشبه: إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: «المغيّرَات خلق الله»] اهـ.
- وحمل جماعةٌ من العلماء النهيَ الواردَ في الأحاديث على الكراهة، ونصُّوا على أنَّه ليس المقصود حقيقة اللعن، بل التنفير والتحذير من الوقوع في التشبه بين كل من الجنسين فيما اختص به الجنس الآخر:
قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (5/ 269، ط. المكتبة التجارية): [وقال جماعةٌ من العلماء: ليس المرادُ هنا حقيقةَ اللعن، بل التنفير فقط؛ ليرتدع من سمعه عن مثل فعله، ويحتمل كونه دعاء بالإبعاد.
وقد قيل: إنَّ لعن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المعاصي كان تحذيرًا لهم عنها قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم ودعا لهم بالتوبة. وأما من أغلظ له ولعنه تأديبًا على فعلٍ فعله: فقد دخل في عموم شرطه؛ حيث قال: «سَألتُ ربّي أن يَجعَلَ لَعْني له كفَّارةً ورَحْمَةً»] اهـ.
ونبَّه على مثل ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (12/ 81-82)، وذكره العلَّامة الأمير الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/ 49، ط. مكتبة دار السلام).
- والقول بالكراهة قال به جماعةٌ من الفقهاء؛ كبعض المالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة:
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (1/ 171، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ويكره للرجال التزين بزينة النساء] اهـ.
وقال الإمام ابن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" (3/1289، ط. دار الغرب الإسلامي): [ويكره للرجال التشبه بالنساء] اهـ.
وقال العلَّامة ابن رشد في "البيان والتحصيل" (18/ 438، ط. دار الغرب): [ويُكرَه للرجال التشبهُ بالنساء، وللنساء التشبهُ بالرجال؛ لِمَا جاء في ذلك، وبالله التوفيق] اهـ.
وقال الإمام ابن الحاجب المالكي في "جامع الأمهات" (ص: 562، ط. اليمامة): [ويكره الاكتحال بالإثمد للرجال؛ لأنه من زينة النساء] اهـ.
وقال الإمام الرافعي الشافعي في "فتح العزيز شرح الوجيز" (6/ 29، ط. دار الفكر): [ويحرم علي النساء تحلية آلات الحرب بالذهب والفضة جميعًا؛ لأن في استعمالهن لها تشبهًا بالرجال، وليس لهن التشبه بالرجال، هكذا ذكره الجمهور، واعترض عليه صاحب "المعتمد": بأن آلات الحرب من غير أن تكون محلاة إما أن يجوز للنساء لبسُها واستعمالها، أو لا يجوز، والثاني: باطل؛ لأن كونه من ملابس الرجال لا يقتضي التحريم، إنما يقتضي الكراهة؛ ألا ترى أنه قال في "الأم": ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب وأنه مِن زي النساء، لا للتحريم. فلم يحرم زي النساء على الرجال، وإنما كرهه؛ فكذلك حكم العكس.. وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام النوويُّ الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 444، ط. دار الفكر): [قال صاحب "المعتمد": والتشبه مكروه وليس بحرام، ألا ترى أن الشافعي قال في "الأم": ولا أكرهُ للرجلِ لُبْسَ اللٌّؤلُؤِ إلا للأدبِ، وأنهُ مِنْ زيِّ النساءِ، لا للتحريم. فلم يُحرِّمْ زيَّ النساءِ على الرجالِ، بل كرهَهُ؛ فكذا عكسه] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الرملي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (2/ 374، ط. دار الفكر): [وقد ضبط ابن دقيق العيد ما يَحْرُمُ التَّشبُّه بِهِنَّ فيهِ بأنه: ما كان مخصوصًا بِهِنَّ فيِ جنسِهِ وهيئتِهِ، أو غالبًا في زيهنَّ، وكذا يقال في عكسهِ] اهـ.
وفي هذا يقول العلَّامة الشبراملَّسي في "حاشيته على نهاية المحتاج" (2/ 374، ط. دار الفكر): [وما أفاده -أي: الإسنوي- من أن العبرة في لباس وزي كلّ من النوعين حتى يحرم التشبه به فيه بعرف كل ناحية: حسنٌ اهـ. وعليه: فليس ما جرت به عادة كثير من النساء بمصر الآن من لبس قطعة شاش على رؤوسهن حرامًا؛ لأنه ليس بتلك الهيئة مختصًّا بالرجال ولا غالبًا فيهم، فليُتنبه له؛ فإنه دقيق] اهـ.
- والتحقيق عند الشافعية: أن التشبه لا يكون حرامًا حتى يجمع المتشبه بين أمرين:
الأول: ما يختص به أحد الجنسين دون الآخر.
الثاني: ما تختص به هيئة أحدهما دون الآخر.
وما لم يجمع المتشبه بين هذين الأمرين فإنَّ النهي يحمل على الكراهة لا على الحرمة:
يقول العلامة الرشيدي الشافعي مُحشِّيًا على "نهاية المحتاج" (2/ 374، ط. دار الفكر): [ويحتمل أن المراد: أن فرض كلام الشافعي فيما إذا لبسه لا على الهيئة التي تلبس بها النساء؛ فقد تشبه بهن فيما هو مخصوص بهن في جنسه لا في هيئته، والحرمة إنما تثبت بمجموعهما؛ كما يأتي في الضابط، فقوله: لا أنه زي مخصوص بهن؛ أي: ولا غالب فيهن؛ أي: بل تشاركهن فيه الرجال على السواء مثلا على الاحتمال الأول، أو المراد: أنه ليس مخصوصًا بهن لكونه لبسه على الهيئة المخصوصة بهن على الاحتمال الثاني. فتأمل] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية" (3/ 535، ط. عالم الكتب): [يكرهُ تَشبُّهُ رَجلٍ بِامرأةٍ وامرأةٍ بِرجلٍ، في لِباسٍ أو غَيرهِ، ذَكرَهُ صاحبُ "المستوعب" وابن تميم، وقدَّمه في "الرعاية الكبرى"، وعنهُ: يَحْرُمُ ذَلِكَ، وقَطَعَ بِهِ الشيخ موفق الدين، وهو أَوْلَى، وَقَطَعَ بِهِ أَكثَرُ الشافعيةِ] اهـ.
وقال العلامة البهوتى الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 239، ط. دار الكتب العلمية): [وجزم جماعةٌ بالكراهة] اهـ.
وفيما يتعلق باتباع الرجال لموضة الغرب في الملبس، فإن أمر اللباس في الإسلام منوطٌ بالأعراف والعادات؛ أي أن الحرمة إنما هي في الهيئة المخالفة للإسلام؛ كأن تكون الملابس عارية أو شفافة أو مفتوحة تظهر العورة وما يجب ستره.
أما تقليد الإنسان المسلم واتباعه لعادات غير المسلمين وتقاليدهم: فإنما يحرم إذا كان مخالفًا لأحكام الشرع، أو كانوا مختصين به لأجل كونهم غير مسلمين وقصد به المسلم مع ذلك تقليدهم من هذا الوجه، أما لو رأى في ذلك ما يعجبه من جهة الحضارة أو التمدن أو الأخلاق أو غير ذلك مما لا يخالف الشريعة ولا أحكامها فإن له أن يفعله ولا حرج عليه في ذلك، وليس ذلك من التشبه المحرم في شيء؛ لأنَّ الإسلام لا يسعى لأن يكون أتباعه متميزين لمجرد التميز، إنما يأمرهم بالتميز بالأخلاق الحسنة والشمائل الكريمة، ومراعاة كرامة الإنسان، والوفاء بالعهود والمواثيق، ومراعاة النظام العام، واحترام الخلق وحبهم ورحمتهم.
فالتشبه بصنيع أهل الكتاب يكون ممنوعًا في الملبس وغيره: إذا كان الفاعل قاصدًا لحصول الشبه؛ لأن التشبه: تَفَعُّل، وهذه المادة تدل على انعقاد النية والتوجه إلى قصد الفعل ومعاناته، ومن الأصول الشرعية اعتبار قصود المكلفين ونيَّاتهم:
فقد روى الإمام مسلم في "الصحيح" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سَلَّم قال: «إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ؛ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا».
و"كاد" تدل في الإثبات على انتفاء خبرها مع مقاربة وقوعه، ولذلك لَمّا لَم يقصد الصحابة التشبه انتفى ذلك الوصف عنهم شرعًا.
قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (1/ 624، ط. دار الفكر): [إنَّ التَّشبُّهَ بهم لا يكرهُ في كلِ شيءٍ، بل في المذمومِ وفيمَا يقصدُ بهِ التَّشبٌّهُ، كما في "البحرِ"] اهـ.
ويقول العلامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 624): [قوله: (لأنَّ التشبهَ بهم لا يكرهُ في كلِ شيءٍ) فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون.. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا الحديد بأسا؟ قال: لا، قلت: سفيان وثور بن يزيد كَرِهَا ذلكَ لأن فيه تشبهًا بالرهبان؛ فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال التي لها شعر". وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا يضر، فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع. اهـ. وفيه إشارة أيضًا إلى أن المراد بالتشبه أصل الفعل، أي: صورة المشابهة بلا قصد] اهـ.
قال العلَّامة الرافعي الشافعي في "فتح العزيز" (6/ 30، ط. دار الفكر): [وأما التاج فقد ذكروا أنه إن جرت عادة النساء بلبسه كان مباحًا، وإلا فهو مما يلبسه عظماء الفرس؛ فيحرم، وكأن هذا إشارة إلى اختلاف الحكم بحسب اختلاف النواحي؛ فحيث جرت عادة النساء بلبسه جاز لبسه، وحيث لم تجر لا يجوز؛ تحرزًا عن التشبه بالرجال] اهـ.
وبناءً على ذلك: فالعلماء مختلفون في معنى النهي عن تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال؛ بين حمله على التحريم وحمله على الكراهة، والتحقيق: أن تحريم تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال إنما يكون على كل جنسٍ فيما اختص به الجنسُ الآخر عادةً أو طبعًا، وضابط ما يحرم التشبه فيه: ما كان مخصوصًا بكل جنسٍ في جنسِهِ وهيئتِهِ، فإن اختص في جنسه دون هيئته أو هيئته دون جنسه لم يكن حرامًا، ويكون حكمه حينئذٍ راجعًا إلى قصد المتشبه؛ فإن جرى به العرف فلا كراهة، وإلا فهو مكروه، والمرجع في ذلك هو أعراف الناس وعاداتهم التي تختلف من بلدٍ إلى آخر.
كما أن تقليد المسلم واتباعه لعادات غير المسلمين وتقاليدهم إنما يحرم إذا كان مخالفًا لأحكام الشرع، أو كانوا مختصين بها لأجل كونهم غير مسلمين وقصد به المسلم مع ذلك تقليدهم فيها من هذا الوجه، أما لو رأى فيها ما يعجبه من جهة الحضارة أو التمدن أو الأخلاق أو الجمال أو غير ذلك مما لا يخالف الشريعة ولا أحكامها فإن له أن يفعلها ولا حرج عليه فيها، وليس ذلك من التشبه المحرم في شيءٍ؛ لأنَّ الإسلام لا يأمر أتباعه بالتميز لمجرد التميز والمخالفة، وإنما يأمرهم بالتميز بالأخلاق الحسنة والشمائل الكريمة، ومراعاة كرامة الإنسان، والوفاء بالعهود والمواثيق، ومراعاة النظام العام، واحترام الخَلْق والرحمة بهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا