حكم تزيين المصاحف بالذهب

حكم تزيين المصاحف بالذهب

ما حكم استعمال الذهب في تحلية المصاحف وتمويهها وكتابتها؟

لا يزال المسلمون عبر العصور حريصين على التحري والدقة في التعامل مع القرآن الكريم وآياته قدر وسعهم في كافة أوجه التعامل معه قراءةً وكتابةً وعملًا؛ فمن الأمور التي أجمع عليها المسلمون وجوبُ تعظيمِ القرآن الكريم واحترامِه وصونِه عمّا لا يليق بواجب تقديسه.

ولا مانع شرعًا من استعمال الذهب في تزيين المصاحف وتحليتها به، وكذا يجوز كتابة حروف القرآن بماء الذهب، ولا بأس بتمويه المصاحف بالذهب على رأي من قال بجوازه من الفقهاء، مع مراعاة عدم الإسراف في ذلك، لا سيما في المجتمعات الفقيرة؛ فإنفاق هذه الأموال على الفقراء أَوْلَى.

التفاصيل ....

المحتويات

 

وجوب تعظيم القرآن الكريم واحترامه وصونه

لا يزال المسلمون عبر العصور حريصين على التحري والدقة في التعامل مع القرآن الكريم وآياته قدر وسعهم في كافة أوجه التعامل معه قراءةً وكتابةً وعملًا؛ فمن الأمور التي أجمع عليها المسلمون وجوبُ تعظيمِ القرآن الكريم واحترامِه وصونِه عمّا لا يليق بواجب تقديسه؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ۞ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ۞ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: 77-79]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 3-4].

قال الإمامُ النووي الشافعي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (1/ 190، ط. دار ابن حزم) فقال: [أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] اهـ.

تعريف المصحف والمقصود من تحليته بالذهب

المصحف هو: اسمٌ للمكتوب فيه كلام الله تعالى بين الدفتين، ويصدق المصحف على ما كان حاويًا للقرآن كله، أو كان مما يسمى مصحفًا عرفًا، ولو قليلًا؛ كحزب. ينظر: "حاشية قليوبي على شرح المحلي للمنهاج" لشهاب الدين القليوبي (1/ 39، ط. دار الفكر، بيروت).

ويقصد من تحلية المصاحف بالذهب: إلصاق قطعٍ رقيقةٍ من الذهب يتم التزيين بها بتسميرٍ ونحوه، وهو خلاف التمويه الذي هو إذابة الذهب واستعماله في الطلاء به؛ قال الشيخ سليمان الجمل الشافعي في "حاشيته على شرح المنهج" (2/ 257، ط. دار الفكر): [والتحلية: لصق عين النقد؛ أي قطع منه، في محالّ متفرقة مع الإحكام، حتى تصير كالجزء منه، ويمكن فصلها مع عدم ذهاب شيءٍ من عينها. وأما التمويه: فهو تسييح الذهب أو الفضة ويُطلَى به الشيءُ] اهـ.

حكم استعمال الذهب في تزيين المصاحف وتحليتها

استعمال الذهب في تزيين المصاحف وتحليتها أجازه فقهاء الحنفية؛ حيث يعُدُّونه من التعظيم والتكريم لكتاب الله تعالى، وقياسًا على جواز نقش المساجد وزخرفتها؛ قال الإمام المرغيناني الحنفي في "الهداية في شرح بداية المبتدي" (4/ 379، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت): [قال: (ولا بأس بتحلية المصحف -أي بالذهب-)؛ لما فيه من تعظيمه، وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب] اهـ.

وقصر المالكيةُ جوازَ تحلية المصاحف بالذهب والفضة بأن تكون على الغلاف الخارجي، وقالوا إن كتابة أجزائه أو أحزابه بأحد النقدين مكروهة؛ لأنها تشغل القارئ عن التدبر، أما كتب العلم والحديث فلا يجوز تحليتها بالذهب والفضة؛ قال الإمام الحطاب المالكي في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (1/ 125-126، ط. دار الفكر): [(إلا المصحف): أي فيجوز تحليته بالذهب والفضة في جلده على المشهور. قال الشيخ يوسف بن عمر: وهو أن يجعل ذلك على الجلد من خارج، ولا يجوز أن يجعل ذلك على الأحزاب والأعشار وغير ذلك.
قال الجزولي: يعني في أعلاه، ولا يكتب به، ولا يجعل له الأعشار ولا الأحزاب ولا الأخماس؛ لأن ذلك مكروه.. ووجه كراهته لتزيين داخله بالخاتم وتعشيره بالحمرة: أنه يلهي القارئ ويشغله عن تدبير آياته] اهـ.

وفصَّل فقهاءُ الشافعية القولَ في تحلية المصاحف بالذهب، والأصح عند الأكثرين منهم هو جواز تحلية المصحف بالذهب للنساء؛ قياسًا على جواز تحليها بالذهب، وتحريم ذلك في مصاحف الرجال؛ قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (4/ 445، ط. دار الفكر): [وفي تحليته بالذهب أربعة أوجه: (الأصح) عند الأكثرين: جوازه في مصحف المرأة وتحريمه في مصحف الرجل. (والثاني): جوازه مطلقًا. (والثالث): تحريمه مطلقًا. (والرابع): تجوز حلية نفس المصحف دون غلافه المنفصل عنه، وهو ضعيف] اهـ.

هذا عن تحلية المصاحف بالذهب، أما التمويه بالذهب: فمذهب الحنفية على جوازه؛ باعتبار أن التمويه مستهلكٌ؛ فلا عبرة بِلَوْنِهِ؛ قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (6/ 344 بتصرف، ط. دار الفكر): [المطلي بالذهب أو الفضة لا بأس به بالإجماع؛ لأن الطلاء مستهلكٌ لا يخلص؛ فلا عبرة لِلَوْنِهِ] اهـ.

واختلف الشافعية في حكمه: فمنعه بعضهم؛ لِمَا يترتب عليه من إضاعة المال؛ حيث إن الذهب إذا ذوِّب فمُّوه به المصحف لا يمكن إعادته ذهبًا مرةً أخرى؛ قال الإمام ابن حجر الهتيمي الشافعي في" تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (3/ 281-282 ط. المكتبة التجارية الكبرى بمصر): [يؤخذ من تعبيرهم بالتحليةِ المارِّ الفرقُ بينها وبين التمويه: حرمةُ التمويه هنا بذهبٍ أو فضةٍ مطلقًا؛ لما فيه من إضاعة المال. فإن قلتَ: العلة الإكرام وهو حاصلٌ بِكُلٍّ، قلتُ: لكنه في التحلية لم يخلفه محظور، بخلافه في التمويه؛ لما فيه من إضاعة المال وإن حصل منه شيء] اهـ.

وقال البعض الآخر بالجواز، ورَدُّوا على من قال بالمنع، بأن إضاعة المال -بمعنى إنفاقه بنوع من الترف- لغرضٍ صحيحٍ أمرٌ جائزٌ شرعًا، وتكريم المصحف بتمويهه بالذهب غرضٌ صحيح يباح من أجله الترف؛ قال الإمام الشرواني الشافعي في "حاشيته على تحفة المحتاج" (3/ 281، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ح: (يؤخذ من تعبيرهم بالتحليةِ المارِّ الفرقُ بينها وبين التمويه حرمةُ التمويه هنا بذهبٍ أو فضةٍ مطلقًا؛ لما فيه من إضاعة المال). ش: (قوله: تنبيهٌ: يؤخذ من تعبيرهم.. إلخ) بتذكر ما أسلفناه يعلم ما في هذا التنبيه فلا تغفل، ثم رأيت الفاضل الْمُحَشِّي قال: قوله: حرمة التمويه هنا.. إلخ؛ الوجه عدم الحرمة وإضاعة المال لغرضٍ جائزة] اهـ.

حكم كتابة حروف القرآن بماء الذهب

كتابة حروف القرآن بماء الذهب: فمذهب الحنفية على جواز تمويه المصحف بالذهب باعتبار أن التمويه مستهلكٌ فلا عبرة بِلَوْنِهِ، فيجوز أيضًا الكتابةُ بماء الذهب؛ لكون العلة في الحالتين واحدة.

وأجازها بعض المالكية، وبعضُهم قال بالكراهة بحجة أنه يشغل القارئ؛ قال الشيخ الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 63، ط. دار الفكر): [ش: (إلا المصحف) مثلث الميم فلا يحرم تحليته بأحد النقدين؛ للتعظيم، إلا أن تحلية جلده من خارجٍ جائزةٌ، بخلاف كتابته أو كتابة أجزائه أو إعشاره بذلك أو بالحمرة؛ فمكروهٌ؛ لأنه يشغل القارئ عن التدبر. ح: قال شيخنا العدوي: وأنا أقول: لا وجه للكراهة، والظاهر الجواز، بل في "البرزلي" ما يفيد جواز كتابته بالذهب] اهـ.

أما الشافعية فأجازوها بلا خلافٍ بينهم في المذهب؛ معلّلين ذلك بأنها وإن ترتب عليها إضاعةُ المال إلا أنه يُغتَفَرُ في إكرام حروف القرآن الكريم ما لا يُغتَفَرُ في غيرها؛ فإن استعمال الذهب في تكريم حروف القرآن محتاجٌ إليه، ولا يصلح استعمال الذهب في هذه الحالة إلا بالكتابة به، بخلاف جلدة المصحف -مثلًا-؛ إذ يمكن استعمال الذهب فيها بالتحلية به؛ قال الإمام ابن حجر الهتيمي الشافعي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (3/ 281-282): [قولُ الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن ولا زكاة عليه، قلتُ: .. يُغتفر في إكرام حروف القرآن -أي بكتابتها بالذهب- ما لا يغتفر في نحو ورقِهِ وجِلدِهِ؛ على أنه لا يتأتى إكرامها إلا بذلك؛ فكان مضطرًّا إليه فيه، بخلافه في غيرها؛ يمكن الإكرام فيه بالتحلية؛ فلم يحتج للتمويه فيه رأسًا] اهـ.

سواء في ذلك أن يكون المصحف للرجال أو للنساء؛ قال الإمام الشرواني في "حاشيته على تحفة المحتاج" (3/ 282): [(قوله: قول الغزالي إلخ) اعتمده "العباب" و"الأسنى" و"النهاية" و"المغني" (قوله: من كتب القرآن إلخ) ظاهره عدم الفرق في ذلك بين كتابته للرجل أو للمرأة، وهو كذلك "نهاية" و"مغني" و"إيعاب" (قوله: فقد أحسن) أي وإن لم يحصل بالكتابة شيءٌ بالعرض على النار سم (قوله: إكرامها) أي حروف القرآن (قوله: إلا بذلك) أي بالتمويه. قال الكردي: أي كتب القرآن اهـ (قوله: فكان) أي التمويه وكذا ضمير إليه (قوله: فيه) أي في إكرام حروف القرآن أو في كتبها (قوله: بخلافه) أي الإكرام (قوله: في غيرها) أي غير حروف القرآن] اهـ.
وقال الإمام الشهاب القليوبي في "حاشيته على شرح المنهاج" (2/ 31، ط. دار الفكر): [(وجواز تحلية المصحف بفضة) وكذا كتابته، واعتمد شيخُنا كوالد شيخنا الرملي جوازَ كتابته بالذهب للرجل والمرأة كما قاله الغزالي، وقياسه أن التحلية كذلك] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ما سبق: فلا مانع شرعًا من استعمال الذهب في تزيين المصاحف وتحليتها به، وكذا يجوز كتابة حروف القرآن بماء الذهب، ولا بأس بتمويه المصاحف بالذهب على رأي من قال بجوازه من الفقهاء، مع مراعاة عدم الإسراف في ذلك، لا سيما في المجتمعات الفقيرة؛ فإنفاق هذه الأموال على الفقراء أَوْلَى.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا