حمل تصرفات العوام على أحد مذاهب المجتهدين

حمل تصرفات العوام على أحد مذاهب المجتهدين

ما حكم ما إذا صدر عن العاميِّ تصرُّفٌ فيه اختلاف بين المذاهب الفقهية، ثم سأل عنه أحد المفتين، فهل يجوز للمفتي أن يفتيه بما يوافق فعله وإن خالف ذلك مذهب المفتي، أم أنه يجب عليه الالتزام بمذهبه، أو إلزام المستفتي بمذهب واحد من المذاهب الفقهية؟ 

خلاصة القول في هذه المسألة أن تصرُّفات العوام بعد صدورها منهم محمولةٌ على ما صحَّ من مذاهب المجتهدين وأقوالهم، ومتى وافق عملُ العامي قولَ أحد المجتهدين ممن يقول بالصحة أو الحِل كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه باتفاق العلماء. 

التفاصيل ....

من مظاهر اليُسر في الشريعة الإسلامية أنها احتوت على خلاف التنوع في أكثر الأحكام الفقهية، وقد شاء الله تعالى أن يكون تنوع أقوال المجتهدين رحمةً بالأمة وتخفيفًا على مُكلَّفيها، ولذلك كان اجتهاد المجتهد دائرًا بين الأجر والأجرين؛ فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رواه البخاري ومسلم.
ولَمّا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، وخاف الصحابة أن يدخل وقت المغرب اختلفت أفهامهم في هذا الحديث؛ فمنهم من أبى أن يصلي العصر إلا في بني قريظة ولو وصل إليها بعد المغرب؛ عملًا بظاهر النص، ومنهم من فهم من النص معنى المبادرة وعدم التأخر فصلّى العصر في الطريق قبل أذان المغرب؛ إعمالًا لروح النص ومعناه، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أي الفريقين.
وهذا هو المعمول به والمُعوَّل عليه إفتاءً واستفتاءً، وقد عمل به السلف الصالح رضوان الله عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم؛ فعن الحكم بن مسعود الثقفي قال: شهدت عمر رضي الله عنه أشرك الإخوة من الأب والأم مع الإخوة من الأم في الثلث، فقال له رجلٌ: قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا! قال: "وكيف قضيتُ؟" قال: جعلتَه للإخوة للأم، ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئًا، قال: "ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي" أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مُصنَّفيهما"، والبيهقي في "السنن الصغير" و"السنن الكبرى" و"معرفة السنن والآثار".
وقال سفيان الثوري: "إِذا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعمَلُ العَمَلَ الذي قد اخْتُلِفَ فيه وأنت تَرَى غَيْرَهُ فلا تَنْهَهُ" أخرجه أبو نُعيم الأصبهاني في "الحلية".
ولذلك فقد نصَّ الفقهاء والأصوليون على أنّ أفعال العوام بعد صدورها منهم محمولة على ما صح من مذاهب المُجتهدين ممن يقول بالحل أو بالصِّحة؛ فإن مراد الشرع الشريف تصحيح أفعال المكلَّفين وعباداتهم وعقودهم ومعاملاتهم مهما أمكن ذلك؛ حتى تقرر في قواعد الفقه أن "إعمال الكلام أولى من إهماله"، وألَّف العلَّامة الشيخ جمال الدين القاسمي كتابه "الاستئناس، لتصحيح أنكحة الناس"، فإذا صدر من العامي فعلٌ مُعين: فيكفي في صحة فعله أن يوافق أحد آراء المذاهب وأقوال المُجتهدين، وليس للمفتي أن يبطل فعله أو يلزمه بإعادته، ما دام تصحيحُه ممكنًا؛ فإن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي: لا يُنقض إذا أمكن حملُه على الصحة.
فعند الحنفية:
قال العلَّامة ابن نُجيم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 90، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وإن لم يستفت أحدًا وصادف الصحة على مذهب مجتهدٍ: أجزأه ولا إعادة عليه، ويدل عليه ما ذكره في "الخلاصة" مُعزيًا إلى "الفتاوى الصغرى": رجلٌ يرى التيمم إلى الرُّسغ، والوتر ركعة، ثم رأى التيممَ إلى المِرفق، والوتر ثلاثًا: لا يُعيد ما صَلَّى، وإن فَعَلَ عن جَهلٍ] اهـ.
وقال العلَّامة الشُرنبلالي الحنفي فيما نقله العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (1/ 75، ط. دار الفكر): [وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأنَّ إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا يُنقَض] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين: [إن له التقليد بعد العمل؛ كما إذا صلى ظانًّا صحتَها على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره؛ فله تقليده، ويجتزي بتلك الصلاة على ما قال في "البزازية" إنه رُويَ عن أبي يوسف أنه صلى الجمعة مُغتسلًا من الحَمَّام ثم أُخبِر بفأرةٍ ميَّتة في بئر الحمَّام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: "إذا بلغ الماء قلتين: لم يحمل خبثا"] اهـ.
وعند المالكية:
قال العلَّامة عليش المالكي في فتاواه "فتح العلي المالك" (1/ 58، ط. دار المعرفة): [وسئل -أي ابن رشد- هل يلزم العامي أن يقلد عالمًا في نازلةٍ نزلت به؟ وإذا سأل العامي مفتيًا وثَمَّ مَن هو أعلم منه، هل يجتزئ بذلك أم لا؟ وكيف لو كانا متساويين فأفتى أحدهما بما يريد وأفتى الآخر بما لا يريد؟
فأجاب: إذا كان بالبلد إمامان كل واحد يجوز له أن يفتي: جاز للعامي أن يقلد أيهما أحب، أعلمهما أو الآخر، إلا أنه يستحب تقديم الأعلم، ولم يجب، إذ لو وجب: لم يجز أن يستفتى عالم وفي البلد أعلم منه، والله أعلم] اهـ.
وعند الشافعية:
قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (8/ 375، ط. دار الكتبي): [وحكى ابن المُنَيّرِ عن بعض مشايخ الشافعية أنه فاوضه في ذلك وقال: أيُّ مانعٍ يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول: كل مجتهد مصيب، وأن المصيب واحد غير معين، والكل دين الله، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله؟
قال: حتى كان هذا الشيخ رحمه الله من غلبة شفقته على العامِّي إذا جاء يستفتيه -مثلًا- في حنثٍ ينظر في واقعته، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي ولا يحنث على مذهب مالك قال لي: أفْتِهِ أنتَ؛ يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعًا، كان ينظر أيضا في فساد الزمان، وأنَّ الغالب عدم التقيد، فيرى أنه إن شدد على العامِّي ربما لا يقبل منه في الباطن، فيوسع على نفسه، فلا مستدرك ولا تقليد، بل جُرأة على الله تعالى واجتراء على المحرم] اهـ.
وقال العلَّامة الشيخ علوي بن أحمد السقَّاف الشافعي في "سبعة كتب مفيدة" (ص: 52، ط. الحلبي): [ومن فتاوى السيد سُليمان بن يحي مُفتي زبيد، عن البدر بن عبد الرحمن الأهدل بأنَّ: جميع أفعال العوام في العبادات والبيوع وغيرها مما لا يخالف الإجماع على الصحة والسداد إذا وافقوا إمامًا مُعتبرًا على الصحيح.. وما يُفتَى بهِ من أنَّ العامي لا مذهبَ له مُعيَّن يكاد أن تتعيَّن الفتوى به في حق العوام في هذه الأزمنة، وإن كان عن المتأخرين المُصحَّح من أنَّه يجب عليه التزام مذهب مُعين، لكن من خبر حال العوام في هذا الزمان -سيَّما أهل البوادي منهم- جزم بأن تكليفهم التزام مذهب مُعيَّن قريب من المستحيل، وبأنَّ الفتوى ما أفتى به البدر الأهدل: أنَّه لا مذهب للعامي مُعين كالمُتعين، والله المُستعان] اهـ.
وعند الحنابلة:
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي في "العدة" (4/ 1226، ط. مطبعة المِدَني): ["للعاميِّ أن يقلد من شاء من المجتهدين"، وإذا ثبت أنَّ له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلد من شاء؛ لأنَّه لمَّا لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد.. وإن استفتى عالمَين: فإن اتَّفقا على الجواب عمل بما قالاه، وإن اختلفا، فقال أحدهما: مباح، والآخر محظور –مثل: إن استفتاه في صريح الطلاق إذا نواه ثلاثًا، فقال له حنبلي: طلقت واحدة، وقال له شافعي: طلقت ثلاثًا- فإنه يقلد من شاء منهما، ولا يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ عليه.. وأمَّا تسويغ العاميّ تقليد من يشاء من المجتهدين: فلعمري أنَّه كذلك، وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية الحسين بن بشار المخرمي، وقد سأله عن مسألة من الطلاق، فقال: إن فعل حنث، فقال له: يا أبا عبد الله إن أفتاني إنسان يعني: لا يحنث؟ فقال له: تعرف حلقة المدنيين بالرصَّافة؟ قال له: فإن أفتوني يحل؟ قال: نعم" -فلم يكله الإمام أحمد رحمه الله إلى اجتهاده في المستفتي، وإنما أفتاه بقوله، وأرشده إلى غيره-.
ويدل أيضًا على أنَّ العاميَّ إذا سأل عالِمَين فأفتاهُ أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة أنَّه يجوز له أن يأخذ بقول من أفتاه بالإباحة.
وكذلك نقل ابن القاسم الحنبلي أنه قال لأحمد رحمه الله ربما اشتد علينا الأمر من جهتك فمن نسأل؟ فقال: سلوا عبد الوهاب -يعني عبد الوهاب بن عبد الحكم الورَّاق-.
وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث عن أحمد رحمه الله أنَّه سُئل عن مسألةٍ فقال: سل إسحاق بن راهويه] اهـ.
وهذا هو المعتمد في الفتوى، وهو الذي جرت عليه دار الإفتاء المصرية في عهودها المختلفة؛ قال العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق في "الفتاوى" (1/ 225، ط. دار وهبة): [متى وافق عمل العامي مذهبًا من مذاهب المجتهدين ممن يقول بالحل أو بالطهارة كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه اتفاقًا] اهـ.
وعلى ذلك: فقد جاء الشرع بالتيسير على المكلفين، ووضع العلماء القواعد التي من شأنها حمل أفعال الناس وأقوالهم وعقودهم ومعاملاتهم وأنكحتهم على الصحة مهما أمكن ذلك؛ كمثل: "إعمال الكلام أولى من إهماله"، و"إنما ينكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه".
وبناءً على ذلك: فإن تصرُّفات العوام بعد صدورها منهم محمولةٌ على ما صحَّ من مذاهب المجتهدين وأقوالهم، ومتى وافق عملُ العامي قولَ أحد المجتهدين ممن يقول بالصحة أو الحِل كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه باتفاق العلماء.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا