حكم الإيثار في البدء بالسلام

حكم الإيثار في البدء بالسلام

حكم الإيثار في البدء بالسلام؛ فقد قرأت أنه ينبغي على المسلم الصغير أن يسلم على المسلم الكبير، والراكب على الماشي، والداخل على الحاضر (المار على القاعد)، فما هو الحال إذا كان الراكب أو الداخل هو الأكبر؟ مَن المقدَّم ومَن الذي ينبغي عليه أن يُسلِّم أولًا؟ وقرأتُ أيضًا أن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه لم يسلم ذات مرة على صحابي أكبر منه، ولما سأله هذا الصحابي مغضبًا: لماذا لم يسلم عليه عليّ رضي الله عنه، فأجاب عليّ رضي الله عنه: بأنه أراد أن يتيح الفرصة للكبير أن يبدأ بالسلام؛ لأن من يبدأ بالسلام أجره أعظم عند الله، فهل قصة عليّ رضي الله عنه هذه صحيحة؟ وإن كان ذلك كذلك فكيف يتم التوفيق بين تصرف عليّ رضي الله عنه وبين الأمر المذكور سلفًا بأنه يجب على الصغير أن يسلم على الكبير؟

السنة المتبعة في البدء بالسلام أن يسلم الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، فإذا كان الراكب أو الداخل هو الأكبر فالأَوْلَى أن يبدأ هو بالسلام.

وأما القصة المذكورة فمروية عن بعض شرَّاح الحديث؛ حيث آثر عليٌّ أبا بكرٍ رضي الله عنهما على نفسه في نيل ثواب البدء بالسلام، بعد أن رأى في المنام أن للبادئ بالسلام قصرًا في الجنة؛ ليتقرر من هذه القصة ونحوها أن "الأدب العالي مقدمٌ على اتباع الأمر غير الجازم".

التفاصيل ....

السنة في البدء بالسلام أن يسلم الصغير على الكبير، والمارُّ على القاعد، والقليل على الكثير؛ كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري واللفظ له ومسلم في "صحيحيهما" عن أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ».

ووجه هذه الآداب النبوية كما نقله ابن بطال في "شرح البخاري" (9/ 15، ط. مكتبة الرشد) عن الإمام المُهلَّب: [أن تسليم الصغير على الكبير من أجل حقِّ الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير، وتسليم المارِّ على القاعد هو من باب الداخل على القوم، فعليه أن يبدأهم بالسلام، وتسليم القليل على الكثير من باب التواضع أيضًا؛ لأن حقَّ الكثير أعظمُ من حقِّ القليل، وسلامُ الراكب على الماشي؛ لئلا يتكبر بركوبه على الماشي، فأُمر بالتواضع] اهـ.

وهذه الآداب ليست على سبيل الإلزام، وإنما شُرِعَتْ لِمَا يحتف بها من معاني الاحترام والمساعدة على نشر الحب والمودة بين الناس. فإذا كان الراكب أو الداخل هو الأكبر، فالأَوْلَى أن يبدأ بالسلام حينئذٍ المار أو الراكب صغيرًا كان أو كبيرًا، كما حققه جماعة من العلماء، منهم الإمام ابن رشد في "المقدمات والممهدات" (3/ 439-440، ط. دار الغرب الإسلامي)، والإمام النووي في "الأذكار" (ص: 256، ط. دار الفكر)، والإمام المهلَّب كما نقله عنه ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 15، ط. مكتبة الرشد).
والكلامُ كلُّه هنا في الأولوية لا في الوجوب، ولذلك قال الإمام المازري كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 17، ط. دار المعرفة): [هذه المناسبات لا يعترض عليها بجزئيات تخالفها؛ لأنها لم تُنصَبْ نَصْبَ العللِ الواجبةِ الاعتبارِ حتى لا يجوز أن يُعدَل عنها، حتى لو ابتدأ الماشي فسلم على الراكب لم يمتنع؛ لأنه ممتثل للأمر بإظهار السلام وإفشائه، غير أن مراعاة ما ثبت في الحديث أولى، وهو خبر بمعنى الأمر على سبيل الاستحباب، ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة، بل يكون خلاف الأولى، فلو ترك المأمور بالابتداء فبدأه الآخر كان المأمور تاركًا للمستحب، والآخر فاعلًا للسنة، إلا إن بادر فيكون تاركًا للمستحب أيضًا] اهـ.

والحكاية المسؤول عنها ذكرها الإمام ابن أبي جمرة في "شرح البخاري" فيما نقله عنه العلامة الصفوري في "نزهة المجالس" (1/ 212، ط. المطبعة الكاستلية، 1282هـ): [أن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان إذا لقي أبا بكر رضي الله عنه بدأه بالسلام، ثم في يوم من الأيام أعرض عنه، فبدأه أبو بكر بالسلام، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعراضِ عليٍّ عنه، فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال علي رضي الله عنه: رأيت في المنام البارحة قصرًا، فقلتُ: لمن هذا؟ فقيل: لِمَن بدأ صاحبه بالسلام، فأردتُ أن أوثر بذلك أبا بكر رضي الله عنه على نفسي] اهـ.

وما ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه محمولٌ على أنه رأى في ترك البدء بالسلام معنًى زائدًا في الأدب، والنِّكَاتُ لا تتزاحم؛ فإن المعنى الذي ترك سيدنا علي رضي الله عنه من أجله الابتداء بالسلام -وهو إيثار أهل الفضل بالفضل- أكثر زيادةً في الأدب من المعنى الذي استُحبَّ من أجله ابتداء الصغير بالسلام، ومن المقرَّر أن الأدب العالي مقدَّم على اتباع الأمر غير الجازم؛ حيث أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة على تقديم الأدب على الاتباع؛ فأَقرَّ سيدَنا عليًّا على عدم محو اسمه الشريف (محمد رسول الله) لَمَّا طلب المشركون منه ذلك في صلح الحديبية، فأمر عليًّا بمحوه، فأبى، وأقرَّ سيدنا أبا بكر على عدم تقدمه ورفضه أن يصلي إمامًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أشار إليه بذلك لَمَّا خرج من حجرته وأبو بكر يصلي بالناس.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا