حكم قول: "اللهم اجعل مثواه الجنة" في الدعاء للميت

حكم قول: "اللهم اجعل مثواه الجنة" في الدعاء للميت

سؤال مقترح: ما حكم قول "اللهم اجعل مثواه الجنة" في الدعاء للمتوفى؟

ما صحة المنشور المنتشر بين الناس في هذه الأيام على مواقع التواصل، والذي ينهى الناس عن قولهم في الدعاء للمتوفى: "اللهم اجعل مثواه الجنة"؛ بزعم أن كلمة "المثوى" مختصة بالنار فقط؛ لقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: 60]، وأن كلمة "المستقر" أو "المأوى" هي المختصة بالجنة؛ لقوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: 24]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 41].

الدعاء للمتوفى بأن يجعل الله مثواه الجنة صحيحٌ شرعًا، ولا وجه لاختصاص المثوى بالنار؛ لا من جانب الشرع، ولا من جانب اللغة، والقول بالمنع من ذلك منشؤه التنطع والتقعر المذمومان فضلًا عن كون مدعيه جاهلًا باللغة والشرع.

التفاصيل ....

المحتويات

حكم الدعاء للمتوفى

الدعاء للمتوفى مشروع مطلوب، وهو من جملة هدايا الأحياء للأموات التي تصل إليهم، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وتقييد الدعاء بالولد في الحديث لا مفهوم له، فالدعاء يصل من الولد ومن غيره، وإنما خُصَّ الولدُ بالذكر في الحديث؛ تحريضًا له على الدعاء لأبيه، وقد قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (11/ 85، ط. دار إحياء التراث العربي): [الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما] اهـ.

حكم الدعاء بعبارة: "اللهم اجعل مثواه الجنة"

أما العبارة المسؤول عنها من قول الداعي في الدعاء للمتوفى: "اللهم اجعل مثواه الجنة" فهي جائزة ولا محذور فيها على الإطلاق؛ لأن المثوى في اللغة مصدر ميمي من الثواء، والثواء هو الإقامة، والمصدر الميمي يدل على الحدث والزمان والمكان؛ قال الإمام أبو حيان الأندلسي في "البحر المحيط" (3/ 358، ط. دار الفكر): [الْمَثْوَى: مَفْعَلْ من ثَوَى يَثْوِي أَقَامَ. يكون للمصدر والزمان والمكان، وَالثَّوَاءُ: الإقامة بالمكان] اهـ.

معنى لفظ: "المثوى"

فالمثوى: معناه المنزل أو الموضع الذي يقام به. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 125، ط. دار صادر).
وقد قال الأعشى:
أَثْـوَى وقَصَّر ليلةً لِيُـزَوَّدا *** ومَضَى وأَخْلَفَ مِن قُتَيلَةَ موعدًا
وأثوى لغة في ثوى، وقد روي البيت بالخبر والاستفهام، قال الأزهري: والروايتان تدلان على أن ثوى وأثوى معناه أقام. انظر: "تاج العروس" للإمام الزبيدي (37/ 306، ط. دار الهداية).
وقال العلامة ابن دريد في "جمهرة اللغة" (1/ 230، ط. دار العلم للملايين): [ثوى يثوي ثويًا: إذا أقام بالمكان، والاسم: الثواء ممدود.. والمثوى: الموضع الذي يثوي فيه الرجل، وهو مقصور] اهـ.

استعمال لفظ: "المثوى" في القرآن والسنة

ولذلك جاء استعمالها في القرآن والسنة بهذا المعنى دون اختصاص بالنار فقط، أو بيان الحال في الآخرة للمعذبين فحسب، بل إنها إذا جاءت مقترنة بالجنة أو بالنار أو بغيرهما فإن معناها يأتي للمقام أو المكان أو المستقر أو الحال.
ومن ذلك قول عزيز مصر لامرأته في شأن سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [يوسف: 21]؛ قال الإمام الرازي في "تفسيره" (18/ 435، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ أي: منزله ومقامه عندك؛ من قولك: ثويت بالمكان، إذا أقمت به، ومصدره الثواء، والمعنى: اجعلي منزله عندك كريمًا حسنًا] اهـ.
وقال الإمام أبو المظفر السمعاني في "تفسيره" (3/ 19، ط. دار الوطن بالرياض): [وقوله: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ معناه: أكرميه في المطعم والملبس والمقام. والمثوى في اللغة: موضع الإقامة، ويقال: ثوى بالمكان إذا أقام] اهـ.
ومنه قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ [يوسف: 23]؛ والمثوى هنا بمعنى المكانة والمنزلة؛ فإن سيدنا يوسف عليه السلام رفض ما كانت تريده امرأة العزيز، وأخبر أنه لا يفعل هذا مع سيده الذي أحسن منزلته، وأكرمه وائتمنه، فلا يكون جزاء هذا أن يخونه مع أهل بيته. انظر: "تفسير الطبري" (16/ 32، ط. مؤسسة الرسالة).
وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: 19]؛ قال العلامة الزمخشري في تفسيره "الكشاف" (4/ 324، ط. دار الكتاب العربي): [والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم، ويعلم حيث تستقرون في منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثواكم في القبور، أو متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار] اهـ.
وفي موضع آخر يقول تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَما كُنْتَ ثاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [القصص: 45]؛ يقول الإمام الطبري في "تفسيره" (9/ 585): [قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ يقول: وما كنت مقيمًا في أهل مدين، يقال: ثويت بالمكان أثْوِي به ثَواء] اهـ.
وقد قرئ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [العنكبوت: 58] ﴿لَنُثْوِيَنَّهُمْ﴾ بدلًا من ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾، وهي قراءة صحيحة متواترة قرأ بها حمزة والكسائي وخَلَف. انظر: "المبسوط في القراءات العشر" لأبي بكر النيسابوري (ص: 346، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق).
قال الإمام الطبري في تفسيره (20/ 57): [واختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ بالباء، وقرأته عامة قرّاء الكوفة بالثاء: ﴿لَنُثْوِيَنَّهُمْ﴾. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن قوله: ﴿لَنُبِّوَئَّنُهْم﴾ من بوأته منزلًا؛ أي: أنزلته، وكذلك ﴿لَنُثْوِيَنَّهُمْ﴾، إنما هو من أثويته مسكنًا، إذا أنزلته منزلًا؛ من الثواء، وهو المقام] اهـ.
وأما السنة المطهرة: فقد روى الحاكم في "المستدرك" والطبراني في "الكبير" في قصة إجارة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا علم بذلك قال لها: «أَيْ بُنَيَّةُ، أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْكِ فَإِنَّكَ لَا تَحَلِّينَ لَهُ».
ومن ذلك أيضًا: ما أخرجه ابن السُّنِّي في "عمل اليوم والليلة" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] ، وَ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ [آل عمران: 26] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 27] مُعَلَّقَاتٌ، مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ، لَمَّا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُنْزِلَهُنَّ تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ، قُلْنَ: رَبَّنَا، تُهْبِطُنَا إِلَى أَرْضِكَ، وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: بِي حَلَفْتُ، لَا يَقْرَأُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ، وَإِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ نَظْرَةً، وَإِلَّا قَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً، أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ، وَإِلَّا أَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ».
ومن ذلك أيضًا: ما أخرجه العلامة ابن زنجويه في "الأموال" (2/ 447، ط. مركز الملك فيصل للبحوث)، والعلامة ابن شبة في "تاريخ المدينة" (2/ 584، ط. جدة) في شأن الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، والذي جاء فيه: «وَعَلَى نَجْرَانَ مَثْوَى رُسُلِي عِشْرِينَ لَيْلَةً فَمَا دُونَهَا»؛ ومثوى رسلي: يعني إقامتهم وإكرامهم وضيافتهم وتوفير ما يكفيهم مدة بقائهم هذه المدة.
ومن ذلك: ما أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (9/ 43) في صلوات سيدنا علي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان علي رضي الله عنه، يعلم الناس الصلاة على نبي الله، يقول: «اللهم اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورافع تحيتك على محمد عبدك ورسولك.. ، وأكرم مثواه لديك ونُزُله» اهـ مختصرًا.

حكم التعبير بلفظ: "المأوى" أو "المستقر"

أما القول بأن التعبير بـ "المأوى" أو "المستقر" هو الذي يأتي مع الجنة ويختص بها، فهو الذي يصح استعماله دون "المثوى"، فكلام غلط مخالف للغة وللقرآن الكريم.
أما اللغة: فالمأوى معناه: المسكن والمنزل، والمستقر: المسكن؛ لأنه مكان القرار، وهو السكون والثبوت. انظر: "تاج العروس" للإمام الزبيدي (13/ 392، 37/ 113).
وأما القرآن الكريم: فقد قال تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 151]، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [آل عمران: 162]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72]، وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 37-39]، وغير ذلك من الآيات الكريمات.
ومثل ذلك في دعوى أن كلمة "المستقر" خاصة بالجنة؛ وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ۝ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان: 66].
غاية الأمر أن المأوى أعم من المثوى، فلا يلزم من كون المكان مأوى أن يقيم فيه الإنسان ويثوي إليه، لكن كل مثوى مأوى.
قال الإمام أبو العباس المعروف بالسمين الحلبي في "الدر المصون" (3/ 436، ط. دار القلم بدمشق): [في قوله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 151].
قوله: ﴿وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: مثواهم، أو النار. والمَثْوى: مَفْعَل من ثَوَيْتُ أي: أَقَمْتُ، فلامه ياء، وقُدِّم المأوى وهو المكان الذي يَأْوي إليه الإِنسان على المَثْوى، وهو مكانُ الإِقامةِ؛ لأنه على الترتيبِ الوجودي يأوي ثم يَثْوي، ولا يلزم من المأوى الإِقامةُ، بخلاف عكسه] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ما سبق: فإن الدعاء للمتوفى بأن يجعل الله مثواه الجنة صحيحٌ شرعًا، ولا وجه لاختصاص المثوى بالنار لا من جانب الشرع ولا من جانب اللغة، والقول بالمنع من ذلك منشؤه التنطع والتقعر المذمومان، مع الجهل باللغة والشرع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا