حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ..» الحديث؟

الأمرَ الواردَ في هذا الحديث مخصوص بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من أمته؛ حيث جاء بصيغة: «أُمِرْتُ»، وموجه إليه صلى الله عليه وآله وسلم من حيث كونه إمامًا، لا من حيث كونه نبيًّا ولا رسولًا. كما أن التعبير بكلمة: «أُقَاتِل» تشير إلى الدفاع والمقاومة ردًّا للعدوان. وكذلك كلمة: «النَّاس»؛ إنما هي من قبيل العامّ الذي أُريد به الخاص، حيث بينت السنة ذاتها المقصود بالناس في هذا الحديث، وأنهم المشركون المحاربون المعتدون دون غيرهم؛ ففي رواية النسائي: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ..» الحديث.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بيان الوسائل التي من خلالها يفهم المقصود من النصوص الشرعية

عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ» هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمامان البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، واللفظ هنا للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، كما رواه أصحاب "السُّنَن"، والإمام أحمد أيضًا في "مسنده"؛ ويُعدُّ هذا الحديث من الأحاديث المتواترة عند علماء الحديث، وكما هو معلوم من قواعدهم أن "التواتر يفيد القطعيَّة في الثبوت".

ولكي يُفهم المعنى الصحيح لهذا الحديث الشريف؛ لا بد من استدعاء أدوات فهمه؛ من وقوفٍ على دلالات معاني ألفاظه، وفقًا لمعهود كلام العرب ومقتضى أساليبهم البيانيَّة، وردّ متشابه هذه الدلالات إلى محكمات الدين وثوابته القطعيَّة.

لمن توجه الأمر بالقتال في هذا الحديث الشريف

بداية تجدر الإشارة إلى أن الأمرَ الواردَ في الحديث الشريف صادرٌ من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (1/ 180-181، ط. دار إحياء التراث العربي) عن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم «أُمِرْتُ»: [لا آمِر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم غير الله تعالى، وَالتَّقْدِير: أمرنِي الله تعالى] اهـ.

وبنحو ذلك ذهب العلامة الطوفي الصرصري في "التعيين في شرح الأربعين" (1/ 106، ط. مؤسسة الريان)، فقال: [قوله: «أُمِرْتُ»: أي: أمرني الله تعالى؛ إذ ليس فوق رتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يأمره إلا الله عزَّ وجلَّ] اهـ.

والجَديرُ بالملاحظة أن الأمرَ بالقتال لم يرد بصيغة (أمرتم) أو (أمرنا) أو (أمركم)، بل جاء بصيغة «أُمِرْتُ»؛ مما يدل على أن الأمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم جاء على جهة الخصوص، دون غيره من أمته؛ لعدم قيام الدَّليل والقرينة عليه، يشهد لذلك من كتاب الله عز وجل ما أشار إليه ابن الزبير الغرناطي في "ملاك التأويل" (2/ 424-426، ط. دار الكتب العلمية)، فقال: [قوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 12]؛ أمر خاص به، ولا يشركه فيه غيره، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ [الأنعام: 14] اهـ.

وإذا كان الأمر بالقتال قد توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهة الخصوص؛ فإنما توجه إليه من حيث كونه صلى الله عليه وآله وسلم إمامًا، لا من حيث كونه نبيًّا ولا رسولًا؛ أوضح ذلك المعنى الإمام القرافي في "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (1/ 105، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية)، فقال: [وأما تصرفه صلى الله عليه وآله وسلم بالإمامة فهو وَصفٌ زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء؛ لأن الإمَامَ هو الذي فُوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة.. إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس] اهـ.

إذًا: فالأمر بهذا القتال خاص بالإمام ولي الأمر؛ بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ»، ومن ثَمَّ؛ فقد تقرر في الشرع الحنيف أنه لا يجوز لأحدٍ الجهاد إلا تحت راية ولي أمر الوقت الحاضر؛ أشار إلى ذلك المعنى الإمام القرافي في "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (1/ 108)، فقال: [فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة؛ كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة.. ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدٍ الإقدام عليه، إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبُيِح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعًا مقررًا؛ لقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158] اهـ.

الفرق بين لفظ "أقاتل" الواردة في الحديث وبين لفظ "أقتل" 

بنظرةٍ فَاحصةٍ على دلالة التعبير بكلمة «أقاتل» الواردة في البيان النبوي الشريف والتي تعني رد ومقاومة العدوان؛ يتبين أنها وردت على وزن "أفاعل" من المفاعلة، التي تدل على مشاركة في الفعل بين طرفين: أحدهما، المبدوء بالقتال ويُسمى (مُقَاتِلًا) لدى نهوضه للمقاومة والدفاع، والآخر البادئ بالعدوان، وفي هذه الحالة يُسمَّى (قاتلًا). وعلى هذا، فهناك فرق كبير في المعنى بين التعبير بكلمة "أقاتل" التي تشير إلى الدفاع والمقاومة ردًّا للعدوان، وبين لفظة "أقتل" التي تعني البدء بالعدوان والمبادرة بالهجوم بقصد القتل؛ لذلك عَدَلَ البيان النبوي الشريف عن التعبير بها؛ وهذا الفرق الشاسع بين المعنيين لا يخفى على إدراك العربي الفصيح؛ وقد نبَّه على هذا المعنى اللغوي الدقيق بين اللفظين العلامة بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (1/ 180-181) فقال: [المأمور به هو الْقِتَال، ولا يلزم من إباحة الْقِتَال إباحة الْقَتْل؛ لأن باب المفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولا كذلك الْقَتْل فافهم] اهـ.
ولقد تجلت دقة التعبير والتناسق بين الألفاظ في البَيانِ القرآني الحكيم حين عَبَّر بكلمة ﴿وَقَاتِلُوا﴾ التي لا يأتي التعبير بها إلا في حالة وجود عدوان ينبغي دفعه ومقاومته، وهو المُشَار إليه في قوله تعالى: ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾؛ كما جاء في قول الله عز وجل: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]؛ ليدل ذلك على أن الأمر للمسلمين بالقتال جاء مشروطًا بعدوان المشركين من أهل القتال، وجاء الأمر بالنهي عن الاعتداء؛ ليدل على أن قتال من لم يُقَاتِلْنا عدوانٌ ومجاوزة للحد.

وبناء على هذا: يصحّ على أصل ومعهود كلام العرب للقائل أن يقول: (لأُقاتِلن من اعتدى على مالي)؛ حيث إن مقاتلته لهم إنما تأتي بعد توجههم إليه بالعدوان؛ ولا يصح له أن يقول: (لأَقتُلَن من اعتدى على مالي)؛ لأنه في حالته هذه لا يكون قاتلًا معتديًا، بل مقاومًا ومدافعًا رادًّا لعدوان من اعتدى عليه، كذلك يصحّ على هذا الأصل أن يُفهَم من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أَن أُقَاتِل..» معنى المقاومة والمدافعة لرد المعتدي لا قتله، ولا يصحّ أن يُفهَم منه معنى التعدي أو العدوان؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل (أُمِرتُ أن أقتل).

وقد أورد العلامة كمال الدين بن حَمْزَة الحُسَيْني في "البيان والتعريف" سبب ورود الحديث الشريف (1/ 168، ط. دار الكتاب العربي)، فقال: [قال القرطبي: هذا قاله في حالة قِتَاله لأهل الأوثان، الذين لا يقرون بالتوحيد] اهـ.

ولقد أدرك تلك المعاني الدقيقة بين اللفظين علماء وفقهاء الإسلام المحققون ورسخت في وعيهم؛ ومن ثمَّ رتبوا على أساسها، وأساس فهمهم الصحيح للحديث الشريف أحكامًا فقهية، تتعلق بمسألة حكم قتل تارك الصلاة عمدًا؛ وقد بيَّن ذلك الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 77، ط. دار المعرفة)، فقال: [وعلى هذا، ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر؛ للفرق بين صيغة "أقاتل" و"أقتل" والله أعلم؛ وقد أطنب ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل؛ لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل؛ وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل؛ فقد يحلّ قتال الرجل ولا يحل قتله] اهـ.

المقصود بكلمة «النَّاسَ» الواردة في هذا الحديث الشريف

إذا ما انتقلنا إلى معنى كلمة «النَّاسَ» التي وردت في الحديث النبوي الشريف، والتي استُشْكِل معناها على فهوم الكثير، ممن لا دراية له بلغة العرب، ولا أدوات فهم أساليبها؛ نجد أن لغة القرآن الكريم التي جاءت على أصلِ وَمعهودِ كلام العرب وأساليبهم البيانيَّة والبلاغيَّة، تطلق كلمة "الناس"، وتُعبِّر بها عن بعض الناس قَلَّ عددهم أو كثُر، وقد تُعَبِّر بها عن واحد منهم فقط؛ من ذلك قول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173]، قال الإمام البيضاوي في "أنوار التنزيل" (2/ 49، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾، يعني: الرَّكب الذين استقبلوهم من عبد قيس، أو نعيم بن مسعود الأشجعي؛ وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم، كما يقال: فلان يركب الخيل، وما لَه إلا فرس واحد. و﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ يعني أبا سفيان وأصحابه] اهـ. ومن ثمَّ فإن إطلاق لفظ الناس هنا يُعدُّ من الخطاب العام الذي يراد به الخصوص.

وهذا الأسلوب يندرج في علوم القرآن تحت ما يُعرف بالعام الذي أُريد به الخاص؛ ولهذا الأسلوب نظائر كثيرة وردت في آي الذكر الحكيم؛ من ذلك قول الله تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: 39]، والذي عليه جمهرة المفسرين أن المقصود بالملائكة في الآية الكريمة هو سيدنا جبريل عليه السلام؛ قال العلامة ابن عطية في "المحرر الوجيز" (1/ 428، ط. دار الكتب العلمية): [ذكر جمهور المفسرين: أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده، وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء] اهـ.

وعلى هذا الأساس، وعلى أصل لسان العرب ومعهود خطابهم؛ تأتي كلمة «النَّاس» الواردة في الحديث النبوي الشريف من قبيل العام الذي أُريد به الخاص، حيث بينت السنة النبوية المطهرة ذاتها المقصود بالناس في هذا الحديث، وأكدت أنهم هم المشركون دون غيرهم، وذلك في الرواية الصحيحة التي أخرجها الإمام النسائي في "سننه"، كتاب (تحريم الدم)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»؛ فكلمة المشركين هنا مفسرة لكلمة «النَّاس» في رواية الحديث الذي نحن بصدده.

وقد ذهب الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 77، ط. دار المعرفة) إلى أن كلمة الناس هي: [من العام الذي أريد به الخاص؛ فيكون المراد بالناس في قوله: «أُقَاتِلُ النَّاسَ»، أي: المشركين.. ويدل عليه رواية النسائي بلفظ: «أُمٍرْتُ أن أقاتلَ المُشْرِكِينَ»] اهـ.

وبذلك تكون الألف واللام في كلمة "الناس" للعهد وليس للجنس؛ حيث تشير إلى ناس معهودين مخصوصين هم مشركو مكة، ولا تشير إلى مطلق جنس الناس كما في قوله تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾ [الناس: 1].

السبب المبيح لقتال هذا الصنف الوارد في هذا الحديث الشريف

مما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن المراد بالمشركين هنا ليس مطلق المشركين، وإنما صنف منهم لهم صفات مخصوصة أوجبت قتالهم، هي: المحاربة والعدوان والمعاندة ومنع الدعوة إلى الإسلام، فهم قوم معتدون محاربون ناكثون للعهود، حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أعوام في المدينة، وغزوه في عقر داره مرتين، يريدون استئصاله وأصحابه، وكما وصفهم الله عز وجل: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ [التوبة: 10].

من هنا يتبين أن السبب المبيح لقتال هذا الصنف المخصوص من المشركين هو كونهم محاربين ومعتدين، وليس لكونهم كافرين؛ وقد ذهب الجمهور إلى أن وصف القتال منهم، والصدّ عن سبيل الله، ومنعهم من إظهار دين الإسلام، هو المبيح لقتالهم، فمن قاتل يقاتل، ومن سالم لا يقاتل؛ يدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[ الممتحنة: 8]؛ وقد أشار إلى ذلك القاضي العلامة عبد الكريم الجرافي في "ذخائر علماء اليمن" (155، ط. مؤسسة دار الكتاب الحديث): [اختلف العلماء في سبب قتال الكفار، هل سببه مقتالتهم للمسلمين، وصدهم لهم عن الدين، ودفع شرهم وضرهم عن الموحدين؟ أو سببه مجرد كفرهم، سواء خيف ضرهم وشرهم أو لا؟ على قولين للعلماء: منهم من ذهب إلى الثاني، وهو الشافعي، وهم الأقل، ومنهم من ذهب إلى الأول، وهو مالك وأحمد وأبو حنيفة، وقد حكى القولين في المسألة الموزعي في كتابه "أحكام القرآن"؛ وليس المراد المقاتلة بالفعل، بل متى كان الكافر من أهل القتال الذين يخيفون أهل الإيمان، ومن شأنه أن يُقَاتِل فإنه يحلّ قتله؛ ولذا فإنها لا تقتل المرأة ولا الشيخ الفاني غير ذي الرأي ولا المكفوف؛ لأن القتال للمسلمين ليس من شأنهم، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر في بعض مغازيه على امرأة مقتولة فقال: «مَا كَانَت هَذِهِ لتُقَاتِل»؛ فنبَّه على أن علة من يُقتَل كونه ممن يُقاتِل] اهـ.

الخلاصة

بناء على دلالات المعاني الصحيحة المعتبرة لألفاظ الحديث الشريف، واستنادًا لقواطع وثوابت نصوص الشريعة الغراء؛ يستقيم الفهم لمعنى الحديث الشريف؛ ولقد أيَّد الواقع هذا الفهم، فالذي يستقرئ سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقاتلته للمعتدين من أهل الشرك، يتأكد له سمو رحمته ونبل أخلاقه مع أعدائه، وليس أدلّ على ذلك من عفوه الشامل عن مشركي مكة حين مكنه الله عز وجل وأظهره عليهم، وقد لاقى وآله وأصحابه منهم ما لاقوا من تعذيب وتقتيل ونكث للعهود؛ فلو كان الأمر الوارد في الحديث الشريف مقصودًا به قتلهم أو إجبارهم على الدخول في الإسلام؛ لسارع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتنفيذ ما أُمِر به! لكن التاريخ سجل لنا بحروف من نور مقالته المشهورة الخالدة: «اذهَبُوا فَأَنتُم الطُّلقَاء»، فلم يقتلهم ولم يكرههم على الدخول في الإسلام؛ فما لبثوا بعد أن غزت قلوبهم عظيم أخلاقه، إلا وقد دخلوا في دين الله تعالى أفواجًا، وقد خلَّد القرآن الكريم هذا الحدث في قول الله عز وجل: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ۞ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ۞ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 1-3]، وعلى نهج هذا الفهم سار على هدْيِه القويم صلى الله عليه وآله وسلم خلفاؤه الراشدون، وعلماء أمته الوارثون.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا