تقرير عن كتاب الفريضة الغائبة

تقرير عن كتاب الفريضة الغائبة

تقرير عن كتاب: "الفريضة الغائبة". اطلعنا على صورة ضوئية لهذا الكتاب في أربع وخمسين صفحة، وقد احتوى في جملته على تفسيرات لبعض النصوص الشرعية من القرآن والسنة، وعنَى بالفريضة الغائبة الجهاد، داعيًا إلى إقامة الدولة الإسلامية وإلى الحكم بما أنزل الله؛ مدعيًا أن حكّام المسلمين اليوم في ردّة، وأنهم أشبه بالتتار، يحرم التعامل معهم أو معاونتهم، ويجب الفرار من الخدمة في الجيش؛ لأن الدولة كافرة ولا سبيل للخلاص منها إلا بالجهاد وبالقتال كأمر الله في القرآن، وأن أمة الإسلام تختلف في هذا عن غيرها في أمر القتال وفي الخروج على الحاكم، وأن القتال فرض على كل مسلم، وأن هناك مراتبَ للجهاد وليست مراحل للجهاد، وأن العلم ليس هو كل شيء، فلا ينبغي الانشغال بطلب العلم عن الجهاد والقتال فقط، كان المجاهدون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده وفي عصور التابعين وحتى عصور قريبة ليسوا علماء، وفتح الله عليهم الأمصار، ولم يحتجوا بطلب العلم أو بمعرفة علم الحديث وأصول الفقه، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل على أيديهم نصرًا للإسلام لم يقم به علماء الأزهر يوم أن دخله نابليون وجنوده بالخيل والنعال، فماذا فعلوا بعلمهم أمام تلك المهزلة؟ وآية السيف نسخت من القرآن مائة وأربعًا وعشرين آية، وهكذا سار الكتاب في فقراته كلها داعيًا إلى القتال والقتل. وفيما يلي الحكم الصحيح مع النصوص الدالة عليه من القرآن ومن السنة في أهم ما أثير في هذا الكتيب:

مستقَى هذا الكتيب ومورده في جملته أفكارُ طائفةِ الخوارج، وهي في ذات الوقت أفكارٌ استشراقية روّجها المستشرقون وأتباعهم في مصر وغيرها من بلاد المسلمين، محرفين الكلم عن مواضعه، مطلقين على بعض آيات القرآن عناوين لا تحملها ولا تصلح لها، متأولين هذه الآيات بما يطابق أغراضَهم وأهواءهم ابتغاءَ فتنة في الدين يثيرونها بين الناس حتى تلتبس عليهم الأمور، فهم الآن يذيعون هذه الأفكار التي انطمست ولم تبق إلا في بطون الكتب يقرؤها الدارسون لتاريخ الفرق الضالة، ولا ينبغي أن يطلق على هؤلاء الذين اتخذوا هذا الكتيبَ منهجًا وصفُ الجماعة الإسلامية، أو المتطرفين في الدين أو المتعصبة له؛ لأن الدين لا ينحرف وإنما يُنْحَرَفُ عنه، ومن تطرف في الدين فقد انحرف عنه.

التفاصيل ....

 تمهيد:
(أ) القرآن نزل بلسان عربي مبين على رسول عربي لا يعرف غيرَ لغة العرب؛ ففي القرآن الكريم قول الله سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ [الرعد: 37]، فوجب أن نرجع إلى لغة العرب وأصولها لمعرفة معاني هذا القرآن واستعمالاته في الحقيقة والمجاز وغيرهما وفقًا لأساليب العرب؛ لأنه جاء معجزًا في عبارته متحديًا لهم أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية، ولا نشك أنه نزل على رسول عربي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].
(ب) الإيمان وحقيقته: الإيمان في لغة العرب هو التصديق مطلقًا، ومن هذا القبيل قول الله سبحانه حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: 17]، أي: ما أنت بمصدق لنا فيما حدثناك به عن يوسف والذئب، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعريف الإيمان: «أن تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» رواه الترمذي وابن ماجه في "سننيهما"، ومعناه: التصديق القلبي بكل ذلك وبغيره مما وجب الإيمان به.

والإيمان في الشرع: هو التصديق بالله ورسله وبكتبه وبملائكته وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر؛ قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: 258]، وهكذا توالت آيات الله في كتابه وبيان ما يلزم به، والإيمان بهذا تصديق قلبي بما وجب الإيمان به، وهو عقيدة تملأ النفس بمعرفة الله وطاعته في دينه، ويؤيد هذا دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» "سنن ابن ماجه"، وقوله لأسامة رضي الله عنه -وقد قَتَلَ من قال: "لا إله إلا الله"-: «هَلَّا شَقَقْتَ قَلبَهُ؟» "مصنف ابن أبي شيبة"، وإذا ثبت أن الإيمان عمل القلب وجب أن يكون عبارة عن التصديق الذي من ضرورته المعرفة؛ ذلك لأن الله إنما يخاطبُ العربَ بلغتهم ليفهموا ما هو المقصود بالخطاب، فلو كان لفظ الإيمان في الشرع مغيَّرا عن وضع اللغة لبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بيَّن أن معنى الزكاة والصلاة غير ما هو معروف في أصل اللغة، بل كان بيان معنى الإيمان إذا غاير اللغة أولى.
(ج) الإسلام وحقيقته: الإسلام: يقال في اللغة: أسلم: دخل في دين الإسلام، وفي الشرع كما جاء في الحديث الشريف: «الإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» "مسند أحمد"، وبهذا يظهر أن الإسلام هو العمل بالقيام بفرائض الله من النطق بالشهادتين وأداء الفروض والانتهاء عما حرم الله سبحانه ورسوله، فالإيمان تصديق قلبي، فمن أنكر وجحد شيئًا مما وجب الإيمان به فهو كافر؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136]. أما الإسلام فهو العمل والقول، عمل الجوارح ونطق باللسان، ويدل على المغايرة بينهما قول الله سبحانه: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]. والحديث الشريف في حوار جبريل عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام يوضح مدلول كل منهما شرعًا على ما سبق التنويه عنه في تعريف كل منهما، وهما مع هذا متلازمان؛ لأن الإسلام مظهر الإيمان.
(د) متى يكون الإنسان مسلمًا؟ حدد هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» رواه البخاري، وفي قوله: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الخَيْرِ ذَرَّةً» رواه البخاري، هذا هو المسلم، فمتى يخرج عن إسلامه؟ وهل ارتكاب معصية بفعل أمر محرم، أو ترك فرض من الفروض ينزع عنه وصف الإسلام وحقوقه؟ قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116]، وفي حديث طويل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ» رواه البخاري.
هذه النصوص من القرآن والسنة تهدينا صراحة إلى أنه وإن كانت الأعمال مصدِّقة للإيمان ومظهرًا عمليًّا له، لكن المسلم إذا ارتكب ذنبًا من الذنوب بأن خالف نصًّا في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخرج بذلك عن الإسلام ما دام يعتقد صدق هذا النص ويؤمن بلزوم الامتثال له، فقط يكون عاصيًا وآثمًا لمخالفته في الفعل أو الترك، بل إن الخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دال على أن الإيمان بالمعنى السابق منقذ من النار، فقد روى أنس رضي الله عنه قال: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» رواه البخاري وأبو داود.
(هـ) ما هو الكفر؟ في اللغة: كَفَرَ الشيءَ ستره أي غطَّاه، الكفر شرعًا: أن يجحد الإنسان شيئًا مما أوجب الله الإيمان به بعد إبلاغه إليه وقيام الحجة عليه، وهو على أربعة أنحاء: كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلًا ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، ومن لقي الله بأي شيء من هذا الكفر لم يغفر له: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ النساء: [116]، وقد شاع الكفر في مقابلة الإيمان؛ لأن الكفر فيه ستر الحق بمعنى إخفاء وطمس معالمه، ويأتي هذا اللفظ بمعنى كفر النعمة وهو بهذا ضد الشكر، وأعظم الكفر جحود وحدانية الله باتخاذ شريك له وجحد نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته، والكافر متعارف بوجه عام فيمن يجحد كل ذلك.
وإذا كان ذلك هو معنى الإيمان والإسلام والكفر من نصوص القرآن والسنة كان المسلم الذي ارتكب ذنبًا وهو يعلم أنه مذنب- عاصيًا لله سبحانه وتعالى مُعَرِّضا نفسَه لغضبه وعقابه، لكنه لم يخرج بما ارتكب عن ربقة الإيمان وحقيقته، ولم يَزُل عنه وصف الإسلام وحقيقته وحقوقه، وأيًّا كانت هذه الذنوب التي يقترفها المسلم خطأ وخطيئة، كبائر أو صغائر، لا يخرج بها عن الإسلام ولا من عداد المؤمنين؛ ذلك مصداقه قول الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116] وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت قال: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ: «أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضًا -أي: لا يرمي أحدنا الآخر بالكذب والبهتان-، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى اللهِ؛ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» رواه مسلم في "صحيحه"، وابن حزم في "المحلى بالآثار" واللفظ له.
وبهذا يكون تفسير خلود العصاة في نار جهنم الوارد في بعض آيات القرآن الكريم مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14]، يمكن تفسير هذا -والله أعلم- بالخلود الآبد المؤبد إذا كان العصيان بالكفر، أما إذا كان العصيان بارتكاب ذنب كبيرة أو صغيرة خطأ وخطيئة دون إخلال بالتصديق والإيمان كان الخلود -البقاء- في النار مدةً ما، حسب مشيئة الله وقضائه. يدل على هذا أن الله سبحانه ذكر في سورة الفرقان عددًا من كبائر الأوزار، ثم أتبعها بقوله سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا ۞ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان: 70-71].
وهذا لا يعني الاستهانة بأوامر الله طمعًا في مغفرته أو استهتارًا بأوامره ونواهيه، فإن الله أغير على حرماته وأوامره من الرجل على أهله وعرضه كما جاء في الأحاديث الشريفة، ذلك هو الكفر وتلك هي المعصية ومنهما تحدد الكافر والعاصي أو الفاسق، وإن هذين غير ذاك في الحال وفي المآل.
(و) هل يجوز تكفير المسلم بذنب ارتكبه؟ أو تكفير المؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه؟ ومن له الحكم بذلك إن كان له وجه شرعي؟ قال الله سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [النساء: 94]، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ: -وعَدَّ منها- الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ..» رواه أبو داود. وقوله: «لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفِسْقِ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» رواه أحمد.
من هذه النصوص نرى أنه لا يحل تكفير مسلم بذنب اقترفه، سواء كان الذنب ترك واجب مفروض أو فعل محرّم منهيّ عنه، وأن من يكفر مسلمًا أو يصفه بالفسوق يرتدّ عليه هذا الوصف إن لم يكن صاحبه على ما وصف.
(ز) من له الحكم بالكفر أو بالفسق؟ قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ..﴾ [النساء: 59]، وقال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ..﴾ [التوبة: 122]، وقوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7]، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: سَمِعَ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلّم قَوْمًا يَتَمَارَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: «إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إلَى عَالِمِهِ» "إعلام الموقعين" لابن القيم.
هذا هو القرآن وهذه هي السنة كلاهما يأمر بأن النزاع في أمر من أمور الدين يجب أن يرد إلى الله وإلى رسوله، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن من يتولَّى الفصل وبيان الحكم هم العلماء بالكتاب وبالسنة، فليس لمسلم أن يحكم بالكفر أو بالفسق على مسلم وهو لا يعلم ما هو الكفر ولا ما يصير به المسلم مرتدًّا كافرًا بالإسلام أو عاصيًا مفارقًا لأوامر الله؛ إذ الإسلام عقيدةٌ وشريعةٌ له علماؤه الذين تخصَّصُوا في علومه تنفيذًا لأمر الله ورسوله، فالتدين للمسلمين جميعًا، ولكن الدين وبيان أحكامه وحلاله وحرامه لأهل الاختصاص به وهم العلماء قضاء من الله ورسوله.
وبعد هذا التمهيد ببيان هذه العناصر نتابع قراءةَ ذلك الكتيّب على الوجه التالي لنرى ما إذا كانت أفكاره في نطاق القرآن والسنة أو لا.
۞ أولًا: الجهاد: - جاء في صفحة (3) وما بعدها: إن الجهاد في سبيل الله بالرغم من أهميته القصوى وخطورته العظمى على مستقبل هذا الدين، قد أهمَلَه علماءُ العصر وتجاهلوه، بالرغم من علمهم بأنه السبيل الوحيد لعودة ورفع صرحِ الإسلام من جديد.. ثم ساق الكتاب حديث: «بُعِثْتُ بالسَّيفِ بينَ يَدَي السَّاعة حَتَّى يُعبَد الله وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمحِي..» إلخ الحديث، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطب قريشًا فقال: «استَمِعُوا يَا مَعْشَرَ قُرَيش، أمَا والَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَد جِئتكُمْ بالذّبحِ»، وبهذا رَسَم الطريقَ القويم الذي لا جدال فيه ولا مداهنة مع أئمة الكفر وقادة الضلال وهو في قلب مكة.
والجهاد في سبيل الله أمر جاء به القرآن وجرت به السنة لا يمارِي في هذا أحد، ولكن ما هو الجهاد؟ في اللغة أصله: المشقة، يقال: جاهدت جهادًا، أي: بلغت المشقة. وفي الشرع: جهادٌ في الحرب، وجهادٌ في السِّلم، فالأول: هو مجاهدة المشركين بشروطه، والآخر: هو جهاد النفس والشيطان، وفي الحديث: «رجعنا مِن الجِهَادِ الأَصغرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ؛ ألَا وَهُو جِهَادُ النَّفْسِ»، وللحديث رواية أخرى، وليس من الأحاديث الموضوعة كما جاء في هذا الكتيب؛ فقد رواه البيهقي في "الزهد"، وخرجه العراقي على "الإحياء". فالجهاد ليس منحصرًا لغةً ولا شرعًا في القتال، بل إن مجاهدة الكفار تقع باليد وبالمال وباللسان وبالقلب، وكل أولئك سبيله الدعوة إلى الله بالطريق الذي رسمه الله تعالى في القرآن واتبعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
- هل الجهاد فرض عين على كل مسلم؟ قال أهل العلم بالدين وأحكامه: إن الجهاد بالقتال كان فرضًا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من دعاه الرسول من المسلمين للخروج للقتال، وأما بعده فهو فرض كفاية إذا دعت الحاجة، ويكون فرضَ عين على كل مسلم ومسلمة في كل عهد وعصر إذا احتلت بلاد المسلمين، ويكون بالقتال وبالمال واللسان وبالقلب؛ لقوله صلى الله عليه وآله سلم: «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وجهاد النفس هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة دائمًا وفي كل وقت، وفي هذا أحاديث شريفة كثيرة، منها قول الرسول عليه والصلاة والسلام: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ عز وجل» "مسند أحمد".
- حديث: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ» أخرجه الأمام أحمد وعبد بن حميد في "مسنديهما"، وهو حديث صحيح، لكن ما مدلوله؟ وهل تؤخذ ألفاظه هكذا وحدها دون النظر إلى الأحاديث الأخرى وإلى سير الدعوة منذ بدأت؟ إن ما قال به هذا الكتيب هو ما قال به المستشرقون حيث عابوا على الإسلام فقالوا: إنه انتشر بالسيف، ألا ساء ما قالوا هؤلاء وأولئك، فإن القرآن قد فصل في هذه القضية، وما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا مُبَلِّغًا ومُنَفِّذًا للوحي، ولا يصدر منه ما يناقض القرآن الذي يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، ويقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]، ويقول: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]، ويقول: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20]، ويقول: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، ذلك القرآن أصل الإسلام، والسنة مفسرةٌ له لا تختلف معه، وحديث: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ» مع هذه الآيات لا يُؤخذُ على ظاهره، فقد جاء بيانًا لوسيلة حماية الدعوة عند التعدّي عليها أو التصدّي للمسلمين، وإلَّا فهل استعمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم السيف لإكراه أحد على الإسلام؟ اللهم لا، وما كان له أن يخالف القرآن الذي نزل على قلبه. وقوله الشريف: «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمحِي» إشارة إلى آية الغنائم وقسمتها: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]، وأن له رزقًا في بيت مال المسلمين حتى لا ينشغل عن الدعوة بكسب الرزق، وكان هذا مبدأً في الإسلام، فأصبح لولي أمر المسلمين مرتب في بيت مال المسلمين؛ حتى يتفرغ لشئونهم، وهذا هو ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعد أن اختاره المسلمون خليفة توجه إلى السوق كعادته للتجارة، فقابله عمر رضي الله عنه وقال له: ماذا تصنع في السوق؟ قال: أعمل لرزقي ورزق عيالي، فقال له: قد كفيناك ذلك، أو قد كفاك الله ذلك، مشيرًا إلى هذه الآية؛ فإن فيها قول الله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ..﴾، فمرتب الخليفة من هذا الخمس، هذا هو الحديث الذي يستهدي به الكتيب في حتمية القتال لنشر الإسلام فهو استدلال في غير موضعه، وإيراد للنص في غير ما جاء فيه ولا يحتمله، وإلا على زعم هذا الكتيب كان الحديث مناقضًا للقرآن، وذلك ما لا يقول به مسلم.
أما ما نقله الكتاب من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لقريش: «استَمِعُوا يَا مَعْشَرَ قُرَيش، أمَا والَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَد جِئتكُمْ بالذّبحِ» "مسند أحمد"، فإن قصة هذا القول كما جاء في "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 309-310، ط. ثالثة دار إحياء التراث العربي بيروت سنة 1391هـ/ 1971م): [قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير رضي الله عنهما، عن أبيه عروة بن الزبير رضي الله عنهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ما أكثرَ ما رأيتَ قريشًا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سَفَّهَ أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم -أو كما قالوا- فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفًا بالبيت، فلما مرّ بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أَتَسمَعُونَ يا مَعْشَرَ قُريش، أمَا والَّذِي نفسِي بيده لقد جِئتُكُم بالذّبحِ»] اهـ. ثم استطردت الرواية إلى ما كان بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء الذين غمزوه بالقول ثلاث مرات وهو يطوف حول البيت في ذات اليوم واليوم التالي. فما معنى هذه العبارة الأخيرة في قول الرسول حسبما جاء في هذه القصة: «لقد جِئتُكُم بالذّبحِ؟» نعود إلى اللغة نجدها تقول: ذبحت الحيوان ذبحًا: قطعت العروق المعروفة في موضع الذبح بالسكين، والذبح الهلاك وهو مجاز، فإنه من أسرع أسبابه، وبه فُسِّر حديث ولاية القضاء: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» "مصنف ابن أبي شيبة"، ويطلق الذبح للتذكية، وفي الحديث: "كُلُّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ مَذْبُوحٌ" "صحيح البخاري"؛ أي: ذكيّ لا يحتاج إلى الذبح، ويستعار الذبح للإحلال، أي: لجعل الشيء المحرّم حلالًا، وفي هذا حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ذَبحُ الخَمْرِ الملحُ والشَّمسُ"؛ أي: أن وضع الملح في الخمر مع وضعها في الشمس يذبحها أي يحولها خلًّا فتصبح حلالًا. فأيّ معنى لغويّ للفظ الذبح في هذه القصة يعتد به؟ لا يجوز أن يكون المراد المعنى الأصلي للذبح، وهو قطع العنق من الموضع المعروف؛ لأن الله بلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص: 56]، ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92]، ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [التغابن: 12]، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 82]، وهو لم يفعل ذلك، يعني: لم يذبح أحدًا لا في مكة ولا في غيرها، ولم يكره أحدًا على اتباعه، فيستبعد المعنى الأصلي لمعارضته للقرآن، وإذًا يكون المعنى المجازي هو المراد بهذا التهديد، فإنهم قد غمزوه وعابوه وشتموه وهو يطوف بالبيت، فهددهم بالهلاك بأن يدعو الله عليهم كما فعل السابقون من الأنبياء، أو بالتطهير مما هم فيه من الشرك، يعني: أنه جاءهم بالدين الصحيح الذي يتطهرون باتباعه، وهذا المعنى الأخير هو المتفق مع ما أُثِر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يدعو لقومه بالهداية إلى الإسلام.
وبهذا البيان من واقع القرآن والسنة ومن لغة العرب التي نزل بها القرآن يظهر بوجه قاطع أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يهدد قومه بالذبح الذي قصده هذا الكتيب وصرف القصة إليه وهو القتل؛ فالرسول إنما كان يهدّد بما يملك إنزاله بهم، لا بما يفوق قدرته الذاتية، فقد كان ومن تبعوه قلةً لا يستطيعون ذبحَ مخالف لهم، وهو لم يفعل حتى بعد أن هاجر وصارت له عدة وعدد من المؤمنين، بل إن تفسير الذبح في هذا التهديد بالمعنى المتبادر لهذا اللفظ يتعارض مع ما عرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلق وحكمة ورحمة بالناس، وقد أكد القرآن كل هذه الصفات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. ۞ ثانيًا: الحكم بما أنزل الله: في القرآن الكريم قول الله سبحانه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]، وقوله: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، وقوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: 155]، وقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، وفي الحديث الشريف الذي رواه مالك في "الموطأ": «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ رسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم»، فالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المرجع في التشريع الإسلامي، فقد اشتملا على العقائد والعبادات والمعاملات وعلى أحكام وحكم وعلوم وفضائل وآداب وإنباء عن اليوم الآخر وغير هذا مما يلزم الإنسان في حياته وفي آخرته، وقد أمر القرآن بالأخذ به وبما جاء به رسول الله، أي: سنته، ذلك قول الله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، وقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، وقوله: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51]، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47].
ذهب الخوارج إلى أن مرتكب الكبيرة كافر محتجين بهذه الآيات الثلاث الأخيرة، وهذا النظر منهم غير صحيح؛ ذلك لأننا إذا رجعنا إلى قواعد اللغة ودلالات الحروف والأسماء نجد أن كلمة «مَنْ» الواردة في تلك الآيات من أسماء الموصول، وهذه الأسماء لم توضع في اللغة للعموم، بل هي للجنس، تحتمل العموم وتحتمل الخصوص، قال أهل العلم باللغة والتفسير: وعلى هذا يكون المراد والمعنى -والله أعلم-: أما من لم يحكم بشيءٍ مما أنزل أصلًا فأولئك -أي من ترك أحكام الله نهائيًّا وهجر شرعه كلَّه- هم الكافرون وهم الظالمون وهم الفاسقون؛ وذلك بدليل ما سبق من الأحاديث الدالة على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج بها عن إيمانه وإسلامه، وإنما يكون آثمًا فقط، أو أن المراد في هذه الآيات بقول الله: ﴿بِمَا أَنزَلَ اللهُ﴾ هو التوراة؛ بقرينة ما قبله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ.
وإذا أخذنا هذا المعنى كانت الآيات موجهة لليهود الذين كان كتابهم التوراة، فإذا لم يحكموا بها كانوا كافرين أو ظالمين أو فاسقين، والمسلمون غير متعبدين بما اختص به غيرهم من الأمم السابقة، فقد كانت -مثلًا- توبة أحدهم من ذنب ارتكبه قتل نفسه: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 54]، وحرّم هذا في الإسلام: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وشرع بديلًا لقتل النفس التوبة بالاستغفار وبالصدقات، وبهذا البيان يكون مجرد ترك بعض أوامر الله أو مجرد فعل ما حرّم الله مع التصديق بصحة هذه الأوامر وضرورة العمل بها يكون هذا إثمًا وفسقًا، ولا يكون كفرًا ما دام مجرد تركٍ أو فعلٍ دون جحود أو استباحة، ومع ذلك يكون تكفير الحاكم لتركه بعض أحكام الله وحدوده دون تطبيق لا يستند إلى نص في القرآن أو في السنة، وإنما نصوصهما تسبغ عليه إثم هذه المخالفة ولا تخرجه بها من الإسلام، ولعلّ فيما قاله رسول الله وأوردناه فيما سبق من قوله: «ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ..»، لعل في هذا الرد القاطع على دعوى تكفير المسلم الذي لم يجحد شيئًا من أصول الإسلام وشريعته.
۞ ثالثًا: بلادنا دار الإسلام: جاء في صفحة (7): إن أحكام الكفر تعلو بلادنا وإن كان أهلها مسلمين. وهذا قول مناقض للواقع؛ فهذه الصلاة تؤدى، وهذه المساجد مفتوحة وتُبنى، وهذه الزكاة يؤديها المسلمون ويحجون بيت الله، وحكم الإسلام ماضٍ في الدولة إلا في بعض الأمور كالحدود والتعامل بالربا وغير هذا مما شملته القوانين الوضعية، وهذا لا يخرج الأمة والدولة عن أنها دولة مسلمة وشعبها مسلم؛ لأننا -حاكمًا ومحكومين- نؤمن بتحريم الربا والزنا والسرقة وغير هذا، ونعتقد صادقين أن حكم الله خير وهو الأحق بالاتِّباع فلم نعتقد حلّ الربا وإن تَعَامَلْنَا به، ولم نعتقد حلّ الزنا والسرقة وغير هذا من الكبائر وإن وقع كلّ ذلك بيننا، بل كلنا -محكومين وحاكمين- نبتغي حكم الله وشرعه ونعمل به في حدود استطاعتنا، والله يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وعقيدتنا فيما أمر الله به بقدر ما وهبنا من قوة.
۞ رابعًا: ما السبيل إلى تطبيق أحكام الله غير المنفذة؟ وهل يبيح هذا قتل الحاكم والخروج عليه؟ نسوق لرسم الطريق والجواب عن هذا: الحديثَ الذي رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ -أي: تدعون لهم ويدعون لكم؛ لأن الصلاة في اللغة الدعاء-، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ». ومثله الحديث الذي رواه أحمد وأبو يعلى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِمُ الْقُلُوبُ، وَتَلِينُ لَهُمُ الْجُلُودُ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَشْمَئِزُّ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْهُمُ الْجُلُودُ» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنُقَاتِلُهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ». وروى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أم سلمة هند بنت أبي حذيفة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»، ومعناه: أن من كره بقلبه ولم يستطع إنكارًا بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي.
وبهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها نهتدي إلى أن الإسلام لا يبيح الخروجَ على الحاكم المسلم وقتله ما دام مقيمًا على الإسلام يعمل به حتى ولو بإقامة الصلاة فقط، وإنَّ على المسلمين إذا خالف الحاكم الإسلام أن يتولوه بالنصح والدعوة السليمة المستقيمة كما في الحديث الصحيح: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» "سنن الترمذي"، فإذا لم يقم الحاكم حدود الله وينفذ شرعه تمامًا، فليست له طاعة فيما أمر من معصية أو منكر، ومعنى هذا أن الحكم بما أنزل الله لا يقتصر على الحاكم في دولته، بل يشمل كل أفراد المسلمين رجالًا ونساء، عليهم الالتزام بأمر الله فيما افترض من طاعات والانتهاء عما نهى من منكرات؛ ذلك أخذًا بمجموع نصوص القرآن والسنة، وإلا فإن هذا الاتجاه والفكر الذي ساقه هذا الكتاب من باب من يقرأ قول الله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون: 4]، ويسكت ولا يتبعها بقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 5]، ومن يقرأ قول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾، ويسكت ولا يتبعها بقوله سبحانه: ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43]، بل إن هذا الفكر ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ويقول في دين الله بغير علم، وذلك إثمٌ عظيم يحمله كل من يبث هذا الفكر، وعلى المجتمع مقاومته ونبذه، وعلى الدولة الوقوف ضده، والسبيل المستقيم مع أصول الإسلام في القرآن والسنة أن نطالب جميعًا بتطبيق أحكام الله دون نقصان بالأسوة الحسنة والحجة الواضحة لا بالقتل والقتال وتكفير المسلمين وإهدار حرماتهم، هكذا أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، وهكذا يجب أن نكون، وأن تكون دعوتنا إلى الله وإلى تطبيق شرع الله وتعميق العمل به في السلوك والحكم.
۞ خامسًا: آية السيف: صفحة (27-29): وقد عنى الكتيب المعروض بها، قول الله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 5]، ونقل الكتاب أن هذه الآية نسخت مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة، فهي ناسخة لكل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
هذه الآية الكريمة كما هو منطوقها واردةٌ في مشركي العرب الذين لا عهد لهم حيث نبذت عهودهم، وضرب الله لهم موعد الأربعة الأشهر الحرم، وقد فرّق القرآن في المعاملة بين مشركي العرب في هذه الآية، وما قبلها مبنيٌّ على كونهم البادئين بقتال المسلمين، والناكثين لعهودهم، كما جاء في آية تالية في ذات السورة: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [التوبة: 13]، ولقد أطلق بعضُ الناس القول في أن آية السيف ناسخة لغيرها من الآيات حسبما نقل هذا الكتيب، ولكنَّ الصواب أنه لا نسخ، وأن كل آية واردة في موضعها، كما أن الأصلَ أن الإعمال مقدم على الإهمال، بل إن آية السيف جاء في آخرها ما يوقف حكم أولها: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فمن آمن وأسلم تائبًا بذلك عن الشرك وأقام الصلاة وآتى الزكاة امتنع قتالهم وقتلهم، فالآية موجهة إلى المشركين الكافرين بأصول الدين، وغير موجهة في الأمر بقتال المسلمين، فالاستدلال بها على أنها آمرةٌ بقتال المشركين وغيرهم في غير موضعه، بل يناقض لفظها.
وفي صدد المشركين أجاز القرآنُ التعاهدَ معهم والوفاء بهذه المعاهدة في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [التوبة: 7]، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، فكيف إذًا يقال: إن آية السيف ناسخة لأمثال هذه الآيات التي نظمت التعاهد مع المشركين وغيرهم من أهل الكتاب؟! وكيف يمدّون حكمها إلى المسلم الذي ترك فرضًا من الفرائض من غير جحود أو فِعْلِ مُوبِقَة منهي عنها تحريمًا، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا» "صحيح البخاري"؟ وقد فسر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحق بثلاثٍ في قوله: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» "سنن أبي داود". فكيف مع هذا يستباح قتل المسلم الذي يصلّي ويزكي ويتلو القرآن باسم آية السيف؟! فليقرؤوا قول الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35].
۞ سادسًا: السلاجقة والتتار: هم أولئك الوثنيون الزاحفون من الشرق، أخضعوا واحتلوا بلادَ ما وراء النهر، وتقدموا إلى العراق، وظلوا يزحفون حتى وقعت في أيديهم أكثرُ الأراضي الإسلامية، ثم من بعدهم المغول التتار المتوحشون الوثنيون الذين سفكوا دماء المسلمين بالقدر الذي لم يفعله أحد من قبلهم، وقد وصف ابن الأثير فظائعهم وجَعْلَهم مساجد بُخارى إصطبلات خيل وتمزيقهم للقرآن الكريم وهدم مساجد سمرقند وبلخ فقال: [لقد بقيتُ عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها، فأنا أُقَدِّمُ إليها رِجْلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام إلى المسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟.. إلخ] اهـ. "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10/ 333، ط. دار الكتاب العربي). هؤلاء هم الذين حاربهم ابن تيمية، وأفتى في شأنهم فتاويه التي ولغ فيها هذا الكتيب اختصارًا وابتسارًا واستدلالًا بها في غير موضعها. أين هؤلاء من المسلمين في مصر وأولي الأمر المسلمين فيها؟! وهل هناك وجه للمقارنة بين أولئك الذين صنعوا بالمسلمين ما حملته كتبُ التاريخ في بطونها وبين مصرَ حكامِّها وشعبِها، أو أن هناك وجهًا لتشبيه هؤلاء بأولئك؟!
هذا الكتيب إنما يُروّجُ ما قال به المستشرقون من انتشار الإسلام بالسيف، وواقعُ الإسلام قرآنًا وسنةً وواقعُ تاريخه يقول لهم: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: 5].
۞ سابعًا: فتاوى ابن تيمية التي نقل منها الكتيب: تقدم القولَ بأنه لا وجهَ للمقارنة بين حُكام مصر المسلمين وبين التتار، لكن هذا الكتيب قد أشار إلى فتوى لابن تيمية في المسألة (777) من "فتاويه" في باب (الجهاد)، وبمطالعة هذه الفتوى نرى أنها قد أوضحت حالَ التتار، وأنهم وإن نطق بعضهم بكلمة الإسلام لكنهم لم يُقيموا فروضَه حيث يقول: [وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يُصَلُّون، ولم نَرَ في عسكرهم مؤذنًا ولا إمامًا، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله، ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان شرّ الخلق؛ إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن، وإما من هو من شر أهل البدع؛ كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم.. وهم يقاتلون على مُلْكِ جنكسخان.. وهو ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرًا وفسادًا وعدوانًا من جنس بُخْتنَصَّر وأمثاله، إن اعتقاد التتار كان في جنكسخان عظيمًا، فإنهم يعتقدون أنه ابن الله.. إلخ] اهـ.
هذه العبارات وأمثالها -مما جاء في تسبيب الفتوى- تُفصح عن أن ابن تيمية قد وقف على واقع حال التتار وأنهم كفار غير مسلمين وإن نطقوا بكلمة الإسلام تضليلًا للمسلمين، فما لهذا الكتيب قد ابتسر الفتوى؟!
إن واضع هذا الكتاب وأتباعَه تَصْدُقُ عليهم الآية: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85]. أين هؤلاء التتار من جيش مصر الذي عبر وانتصر بهتاف الإسلام: الله أكبر. في شهر رمضان ورجاله صائمون مصلّون يؤمهم العلماء، وفي كل معسكر مسجدٌ وإمام يذكِّرهم بالقرآن وبأحكام دين الله؟!
إن هذه الأقوال الجائرة التي جاءت في هذا الكتيب فاسدةٌ مخالفة للكتاب والسنة: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: 59].
۞ ثامنًا: هذا الكتيب لا ينتسب للإسلام، وكل ما فيه أفكارٌ سياسية؛ نرى هذا واضحًا في الكثير من عناوينه:
أ‌- الخلافة والبيعة على القتال: إن الشورى أساسُ الحكم في الإسلام، وبهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]. أي: في الأمور التي تتعلق بأمور الحياة والدولة، لا في شأن الوحي والتشريع وما يأتي من عند الله، وقال سبحانه: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، وقال: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 22]، وقال: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: 45]، والحاكم في الإسلام وكيلٌ عن الأمة؛ لذلك كان من شأنها أن تختار الحكام وتعزلهم وتراقبهم في كل تصرفاتهم، ويجب أن يكون الحاكم المسلم عادلًا قويًّا في دينه ومقاومته لأهل البغي والعدوان، ويتفق أهل العلم بالإسلام وأحكامه على أن خليفة المسلمين هو مجرد وكيل عن الأمة يخضع لسلطانها في جميع أموره، وهو مثل أيّ فرد فيها، فهو فرد عادي لا امتياز له ولا منزلة إلا بقدر علمه وعدله، فالإسلام أول من سنَّ بتلك الآيات مبدأ الأمة مصدر السلطات، والإجماع منعقد منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم على وجوب تعيين حاكم للمسلمين؛ استنادًا إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع، ولم تحدد نصوص الإسلام طريقًا لاختيار الحاكمِ وليِّ الأمر؛ لأن هذا مما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ومن ثمّ كان الاختيارُ بطريق الانتخاب المباشر أو بغيره من الطرق داخلًا في نطاق الشورى في الإسلام، وتسمية خليفة المسلمين أمر تحكمه عوامل السياسة في الأمة الإسلامية على امتداد أطرافها وأقطارها، وليس من الأمور التي تتعطل من أجلها مصالحُ الناس وإقامة الدين بعد أن تفرق المسلمون إلى دول ودويلات، لكنَّ المهم أن يكون هناك الحاكم المسلم في كل دولة إسلامية ليقيم أمورَ الناس وأمور الدين، حتى إذا ما اجتمعت كلمةُ المسلمين كأمة، وصاروا في دولة ذات كيان سياسي واحد يعرف العصر وأساليبه كما هُمْ في واقع الدين، أمة واحدة مع اختلاف لغاتهم وأوطانهم إذا اجتمعت الكلمة حُقّ عليهم أن يكون لهم حاكم واحد، وانتخاب الحاكم بالطرق المقررة في كل عصر قائم مقام البيعة التي ترددت في كتب فقهاء الشريعة، فما البيعة إلا إدلاء بالرأي والتزام بالعهد، وقد كان المسلمون يبايعون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الوقوف معه وحمايته مما يحمون منه أنفسهم ونساءهم وأولادهم، فهو عهدٌ والتزامٌ منهم بحماية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحماية دعوته، فقد كان يستوثق منهم لدينه بهذه البيعة.
والقتال في ذاته ليس هدفًا كما تقدم، وكما يقضي القرآن والسنة، وإنما هو وسيلة لحماية الدين والبلاد، ولم يكن آنذاك تجنيدًا إجباريًّا وجيشًا نظاميًّا متفرغًا لهذه المهمة، حتى إذا ما جيَّش عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومَن بعده الجيوشَ ودوَّن الدواوين لم يَعُد هناك مجالٌ لهذه البيعة على القتال خارج صفوف جيش الدولة، وإلا كان هؤلاء الذين يتبايعون على مثل هذا خارجين على جماعة المسلمين وحَلَّ قتالُهم والأخذ على أيديهم.
ذلك ما يقتضيه القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، فمن خرج على الجماعة كان الجزاء كما قال الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 33].
- ماذا يعني لفظ «الخليفة» وتاريخه في الإسلام؟
الخلافة: اسم مصدر من استخلف، والمصدر الاستخلاف، وهذا المعنى دخل في الاصطلاح الشرعي في اسم الخليفة ومهمته، فقد اصطلح علماء الشريعة على أن الخليفة نائبٌ في القيام في سياسة الأمة وتنفيذ الأحكام، وقد توقف هذا اللقب بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، ولم يلقب بخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدٌ من الخلفاء بعده، وإنما أطلق عليهم اسم أمير المؤمنين، وهذه الإمارة اصطلاح ليس من رسم الدين ولا من حكمه، فَلْنُسَمِّ الحاكم واليًا أو رئيسَ جمهورية أو غيرَ هذا من الأسماء التي يصطلح عليها؛ إذ لا مشاحّة في الاصطلاح.
فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟! أيريدون إطلاقَ اسم خليفة رسول الله على من يُحسن القيام بأمر الدين ومن يخالفه؟ كان أولى بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمثاله، وهم قد رأوا أنهم أقلّ من أن يحملوا هذا اللقب فاستبدلوا بأمير المؤمنين لقبًا للحاكم لا غير، لا يعطيه امتيازًا، بل هو من أفراد المسلمين ولكنه ولي أمرهم باختيارهم.
ب‌- الإسلام والعلم: جاء في كتيب "الفريضة الغائبة"، تحت عنوان: (الانشغال بطلب العلم)، صفحة (22) وما بعدها: إننا لم نسمع بقول واحد يبيح تركَ أمرٍ شرعيّ أو فرض من فرائض الإسلام بحجة العلم، خاصة إذا كان هذا الفرض هو الجهاد، فكيف نترك فرضَ عينٍ من أجل فرضِ كفايةٍ؟.. وحدود العلم أنّ مَن عَلِمَ فرضية الصلاة فعليه أن يصلي.. إلخ.
ومن كتب هذا لم يقرأ القرآنَ، وإذا كان قد قرأ فإنه لم يفهم ما قرأ، أو إنه ممن آمن ببعض الكتاب وأعرض عن بعض، فلنستعرض بعض ما أمر به القرآن الكريم وتوجيهاته إلى العلم والتعليم: إن أول نداء فتح الله به على نبيه إيذانًا ببدء الوحي قول الله سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۞ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۞ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۞ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۞ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5]. والقراءة طريق العلم والمعرفة، ثم يذكر القرآن خلق الإنسان وتكوينه، ويمن الله عليه بنعمة العلم، وبالعلم أعلى الله قدرَ آدم على الملائكة المقربين في قوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، والعلم في الإسلام يتناول كلَّ ما وجد في هذا الكون فضلًا عن العلم بالدين عقيدة وشريعة وآدابًا وسلوكًا، والعلم جهاد؛ ففي الحديث الشريف قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ» رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، ولقد ذُكِرَ أمامه صلى الله عليه وآله وسلم رجلان: عالم وعابد؛ فقال: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه، والإسلام يدعو إلى دراسة الدين وفقهه؛ قال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122]، ويدعو إلى دراسة نفس الإنسان والكون في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: 53]، ويدعو إلى دراسة التاريخ وأحوال السابقين من الأمم والشعوب في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [محمد: 10]، ويدعو إلى دراسة علم النبات والزراعة في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ۞ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ۞ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ [عبس: 24-26]، وإلى دراسة علم الحيوان في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، وإلى دراسة الفلك في قول الله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس: 37]، وإلى دراسة الجغرافيا في قول الله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: 20]، وإلى دراسة علم الجيولوجيا في قول الله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ [فاطر: 27]، وإلى دراسة الكيمياء والفيزياء في قول الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد: 25]، ولو ذهبنا نستقصي أوامرَ القرآن وحثه على العلم والتعلم وتفضيله العلماء على غيرهم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموطن لاحتجنا إلى كتاب بل إلى كتب، وكما بدأ القرآنُ في النزول بكلمة العلم وتفضيله «اقرأ باسم ربك» كان افتداء الأسارى في بدر تعليمَ أولاد المسلمين القراءة والكتابة، وهكذا كانت السنة الشريفة مع القرآن تبيانًا وهداية إلى العلم، وهكذا كان شأن العلم في الإسلام، فهل بعد هذه المنزلة نقصٌ من شأنه؟ ونقول: إنه يكفي منه القليل، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9].
إن هذه الدعوة الأثيمة إلى التقليل من فضل العلم هي دعوة إلى الأمية والبدائية باسم الإسلام، وفيها تحريض للشباب بالانصراف وهجر دراستهم في المدارس والجامعات، والامتناع عن استيعاب العلوم -علوم الدين وعلوم الدنيا- وهي الدعوة التي أوى إليها بعض الشباب الذين غرر بهم هؤلاء المفسدون، ونسي أولئك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: «اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» "مسند أحمد". وفي هذا الردُّ على الدعوة للانصراف عن العلوم الشرعية، ثم قد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ". "سنن الترمذي"، وهذه دعوة من رسول الله لأحد أصحابه ليتعلم لغةً أخرى غير العربية. وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه أيضًا: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ؛ قَالَ: «إِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ» قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ. "سنن الترمذي".
- نابليون والأزهر وعلماؤه: جاء في صفحة (23): وهناك مجاهدون منذ بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصور التابعين حتى عصور قريبة لم يكونوا علماءَ، وفتح الله على أيديهم أمصارًا كثيرة، ولم يحتجوا بطلب العلم أو بمعرفة علم الحديث وأصول الفقه، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل على أيديهم نصرًا للإسلام لم يقم به علماء الأزهر يوم أن دخل نابليون وجنوده الأزهرَ بالخيل والنعال.. ماذا فعلوا بعلمهم أمامَ تلك المهزلة؟
وبهذا بلغ هذا الكتيب حدًّا مفرطًا في الحط من شأن العلم وجهاد العلماء، إذا أهملنا علوم الحديث والفقه وأصول الفقه والتفسير والعقيدة وكل هذه العلوم الأصلية في الشريعة المنبثقة عن القرآن والسنة، فما هو قوام هذا الدين؟ وكيف يتعرف المسلمون أحكامَ الدين؟ إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكث بعد الرسالة نحوَ ثلاث عشرة سنة في مكة، يعلِّم أتباعَه أصول الدين وعلومه، ولم يبدأ جهاده إلا بعد أن استقرت في قلوب جمهرة من أصحابه كانوا هم القادة في العلم والمرجع في الفتوى؛ ثم أليس في القرآن: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122]، وأليس فيه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7]، أفبعد هذا نغضُّ من شأن علم الحديث وأصول الفقه وغيرهما من علوم الدين؟! ونغض كذلك من شأن علوم الحياة التي حثّ عليها القرآن حسبما تقدمت الإشارة إلى بعض أوامره في شأنها؟! سبحان الله هذا بهتانٌ عظيمٌ!
إن الكتيب يعيب على الأزهر وعلمائه بادعائه أنهم لم يعملوا شيئًا حين دخل نابليون وجنوده الأزهر بخيلهم ونعالهم، متجاهلًا التاريخ المسطور الأمين بوصف جهاد العلماء وقيادتهم لشعب مصر، ومطاردتهم للاستعمار، ومنذ عهد نابليون ومن قبله ومن بعده، وهل خرج نابليون وأتباعه مدحورين إلا بجهاد الشعب بقيادة الأزهر؟! وكان هذا هو الجهاد المشروع الذي أفتى به العلماء وقادوه من الأزهر ومن غير الأزهر، وليس ذلك الجهاد الذي يستعمل فيه السلاح في غير موضعه، أو يجاهد في غير عدو فيقتل المواطنين عدوانًا وظلمًا، ويدَّعي لنفسه حقَّ تكفير المسلمين واستباحة دمائهم.
ج- التعامل مع غير المسلمين والاستعانة بهم:
في صفحة (43) نقل الكتاب بعض الأحاديث في النهي عن الاستعانة بالمشرك والتعامل معه. وهذا كما تقدم: من باب الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض، وشرع الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، فلا بد حين نستقي حكمًا ونستنبطه من القرآن والسنة أن نستوفي كل النصوص المؤدية إلى الحكم صحيحًا بمعرفة أهل الاختصاص والعلم بالأحكام، وإذا رجعنا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نجده قد استعان في هجرته بعبد الله بن أريقط وهو مشرك، وقد اتخذه دليلًا لرحلة الهجرة يرشده إلى الطريق، وقد رافقه حتى وصل إلى المدينة، أليس هذا استعانةً من الرسول بمشرك لم يتبع دينه بعد؟ ولما دخلت بلاد الفرس والروم في الإسلام ودوَّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدواوين، ونقل عنهم بعض نظمهم الإدارية، استعان في ذلك ببعض خبراتهم وهم على دينهم، أليس هذا استعانة بغير المسلمين من أمير المؤمنين الذي ملأ الأرض عدلًا، وكان القرآن ينزل مؤيدًا لما اقترحه ورآه في كثير من أمور الدين والدنيا؟!
فالأصل في الإسلام التعامل مع الناس جميعًا المسلم وغير المسلم فيما لا يخالف نصًّا صريحًا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو حكمًا أجمع عليه المسلمون، وبالإضافة إلى ما سبق من عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتخاذه مشركًا دليلًا ورائدًا لرحلة الهجرة، فقد ثبت في السنة وفي السيرة الشريفة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قَبِلَ دعوة يهودي لتناول الطعام في بيته ومعه السيدة عائشة رضي الله عنها قبل نزول آية الحجاب، وقد قبل هدية امرأة يهودية، وكانت الهدية شاةً مسمومةً، ومات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونةٌ عند يهودي، وعمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بئر اليهودي بتمرات، وعقد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معاهدةً مع اليهود بعد هجرته مباشرةً، وظل على عهده ومعاهدته لهم حتى نقضوها هُمْ، وجرى تعامل المسلمين في هذا العهد مع غيرهم من المخالفين في الدين في التجارة والزراعة وغيرهما، ولم ينعزلوا عن جيرانهم، وكيف ينعزلون والقرآن قد نزل وقال الله سبحانه لهم فيه: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ [المائدة: 5]، هل هناك إباحة للتعامل أكثر من تبادل الطعام بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب؟! وهل نساؤهم زوجات للرجال من المسلمين؟ كل ذلك ما لم يرد نصٌّ صريح في القرآن والسنة يمنع التعامل في شأنٍ ما مع غير المسلمين، ومن المأثور إعمالًا لهذه الآية الكريمة: خالِطِ النَّاسَ ودِينَكَ لَا نَكْلِمَنَّهُ. ويوضح هذا ويؤازره الحديث الشريف الذي رواه الترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ».
د- الخدمة في الجيش:
إن الجيش هو عدة البلاد وهو المنوط به حماية أمنها الخارجي والداخلي، وهو في الجملة معهود إليه من الشعب بحماية الأرض والعرض، وهو البديل المشروع للبيعة التي كانت تعقد بين أفراد المسلمين وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقتال، فقد كان عهده معهم أن يمنعوه -أي يدافعون عنه- مما يمنعون منه أولادهم ونساءهم، وحتى إذا ما استقرت دولة المسلمين كان لها الجيش المتعلم المتفرغ لهذه المهام، وهذا نوع من الجهاد، فإن المرابطة في سبيل الله من الجهاد، وحراسة الحدود والثغور من الجهاد في سبيل الله، وفي الحديث الشريف: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» رواه الترمذي.
- هل هناك وجه للمقارنة بين جيش مصر والتتار؟
إن المفارقة ظاهرة حتى من تلك النبذ التي ساقها كتيب "الفريضة الغائبة" نقلًا من "فتاوى ابن تيمية"، إذ كيف نقارن بين جيش مصر الذي له في كل معسكر مسجدٌ وإمامٌ يقيم بهم شعائر الإسلام ويصومون رمضان ويتلون القرآن ويقدّمون أنفسهم فداء لاسترداد الأرض وتطهير العرض، هاتفين في كل موطن وموقع: الله أكبر، وبين التتار الذين وصفهم ابن تيمية بقوله: [وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يُصَلُّون، ولم نَرَ في عسكرهم مؤذنًا ولا إمامًا، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله] اهـ.. إلخ ما سبقت الإشارة إلى بعضه وموضعه من "فتاويه" وتاريخهم المظلم على ما تقدمت الإشارة إليه نقلًا عن ابن الأثير المؤرخ.
۞ تاسعًا: أفكار سياسية منحرفة عن الإسلام وخارجة عنه:
إن مستقَى هذا الكتيب ومورده في جملته أفكارُ طائفةِ الخوارج، وهم جماعة من أتباع علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرجوا عليه بعد قبوله التحكيمَ في الحرب التي كانت بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في شأن الخلافة، ثم انقسم هؤلاء الخوارج من بعد ذلك إلى نحو عشرين فرقة كل واحدة منها تكفر بالأخريات، وقد سموا بهذا الاسم: إما على حسب زعمهم وأوهامهم؛ لخروجهم في سبيل الله، وإما للخروج على الأمة والجماعة، وهذا هو واقع التسمية؛ لأنهم في جملة مذاهبهم قد حكموا بالكفر على سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعلى ابنيه الحسن والحسين سبطي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري، كما أكفروا أيضًا عائشة وعثمان وطلحة والزبير، وأكفروا كل من لم يفارق عليا ومعاوية بعد التحكيم، وأكفروا كل مسلم ارتكب ذنبًا. "الفَرْق بين الفِرَق" بتصرف يسير (1/ 307، ط. درا الأفاق الجديدة، بيروت).
وهي في ذات الوقت أفكارٌ استشراقية روّجها المستشرقون وأتباعهم في مصر وغيرها من بلاد المسلمين، محرفين الكلم عن مواضعه، مطلقين على بعض آيات القرآن عناوين لا تحملها ولا تصلح لها، متأولين هذه الآيات بما يطابق أغراضَهم وأهواءهم ابتغاءَ فتنة في الدين يثيرونها بين الناس حتى تلتبس عليهم الأمور، فهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك، هؤلاء الخوارج في تاريخهم القديم -وما أشبه الليلة بالبارحة- لما طلبوا من عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، حين أرادوا الانضمام إليه في قتاله مع الأمويين بعد أن أكفروا عليَّ بن أبي طالب والزبير وطلحة، لما طلبوا منه البراءة من هؤلاء ردَّ عليهم بقوله: إن الله أمر -وله العزة والقدرة- في مخاطبته أكفر الكافرين وأعتى العاتين بأرق من هذا القول؛ فقال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ۞ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. [طه: 43-44]. "العقد الفريد" (2/ 235، ط. دار الكتب العلمية). فهم الآن يذيعون هذه الأفكار التي انطمست ولم تبق إلا في بطون الكتب يقرؤها الدارسون لتاريخ الفرق.
هذا، ولا ينبغي أن يطلق على هؤلاء الذين اتخذوا هذا الكتيبَ منهجًا وصفُ الجماعة الإسلامية، أو المتطرفين في الدين أو المتعصبة له؛ لأن الدين لا ينحرف وإنما يُنْحَرَفُ عنه، ومن تطرف في الدين فقد انحرف عنه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأولئك النفر من أصحابه الذين ذهبوا إلى بيوته يسألون عن عبادته، فلما أُخبِروا بها عَدُّوها قليلة، وقال أحدهم: ما لنا وله، لقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما أنا فإني أصوم ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» "صحيح مسلم". هؤلاء لم ينحرفوا عن الدين فلم يتركوا العبادة، ولكنهم تغالوا فيها فَرَدَّهم الرسول إلى الصواب، إلى العمل الوسط الذي يستديمون به طاعة ربهم والقيام بفرائضه يحلون الحلال ويحرمون الحرام.
۞ عاشرًا: هل الجهاد فريضة غائبة؟
إن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والجهاد قد يكون قتالًا وقد يكون مجاهدةً للنفس والشيطان، وإذا أمعنَّا النظر البصير في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الجهاد بالقتال نجد أوامرهما في هذا موجهة إلى قتال الكفار الذين تربصوا بالإسلام وبني الإسلام، وأرادوا إطفاءَ نور دعوته والقضاء عليه، ولم يكن قتالًا لنشر هذه الدعوة وإكراه الناس على الدخول فيها قسرًا وجبرًا كما سلف، ولذلك لا نجد في القرآن ولا في السنة الأمرَ بالقتال موجهًا ضد المسلمين أو ضد المواطنين من غير المسلمين؛ إذ قد سمَّى الإسلام هؤلاء أهل الذمة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا من حقوق وواجبات، وأمر المسلمين بترك أهل الكتاب وما يدينون فيما يخصُّ العقيدة والعبادة، فإذا حدث ما يستدعي القتالَ دفاعًا عن الدين والبلاد فذلك ما يدعو إليه الإسلام ويحرص عليه، ويقوم به الجيش الذي استعد وأُعِدَّ وأنيطت به هذه المهام، وهذا هو الجهاد قتالًا، ويكون الجهاد بمجاهدةِ النفس والشيطان، وهذا هو نوع الجهاد المستمر الذي ينبغي على كل إنسان -وعلى المسلم بوجهِ الخصوص- أن يجاهد نفسَه حتى يصلح من أمرها وتنطبع على الخير والبر والأمانة والوفاء بالعهد ومغالبة الشيطان والشر سعيًا إلى طاعة الله ومرضاته وأداء فرائضه والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه، ولا يكون الجهاد بإكفار المسلمين أو الخروج على الجماعة والنظام الذي ارتضته في نطاق أحكام الإسلام، ولا يكون بتأويل آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما لا تحتمله ألفاظها وتحميلها معانيَ لا تحتويها مبانيها، وإلا كان تحريفًا للكلم عن مواضعه وهو مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، ولا يكون الجهاد بقتل النفس التي حرم الله قتلها؛ لأن له نطاقًا حدده الله، وإنما الجهاد في مواضعه ماضٍ إلى يوم القيامة، جهاد بالقتال إذا لزم الأمر دفاعًا عن دين الله وعن بلاد المسلمين وعن النفس وعن المال وعن العِرض، وجهاد للنفس حتى تكون في طاعة الله ومجاهدة للشيطان، فليس الجهاد فريضةً غائبةً، ولكنه فريضة ماضية إلى يوم القيامة في حدود أوامر الله، وكما فسر رسولُ الله قولَه سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153] صدق الله العظيم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا