مذاهب الفقهاء في زواج المسلمة من غير المسلم

مذاهب الفقهاء في زواج المسلمة من غير المسلم

هل تحريم زواج المرأة المسلمة من الرجل غير المسلم أمر قطعي؟ وهل يختلف الحكم إذا كان غير المسلم كتابيًّا من أتباع الأديان السماوية؟ وما أدلة التحريم؟ وهل في ذلك خلاف أم أنه محل إجماع؟ 

يحرم على المرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، سواء كان كتابيًّا من أتباع الكتب السماوية أو لم يكن، وسواء كانت له ديانةٌ أو تكن، وذلك بأدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين سلفًا وخلفًا، عبر الأمصار والأعصار؛ بحيث صار هذا الحكم الشرعي الثابت معلومًا من الدين بالضرورة، وجزءًا من هوية الإسلام ومسَلَّماتِ أحكامه. وإذا حصل ذلك فالعقد باطل، والعلاقة بين المسلمة وغير المسلم محرمة شرعًا. 

التفاصيل ....

أجمعت الأمة الإسلامية بعلمائها وفقهائها، على أنه: لا يجوز شرعًا للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم مطلقًا؛ كتابيًّا كان -من أتباع الكتب السماوية- أم غير كتابيٍّ، وسواءٌ كان متديِّنًا بدينٍ أم غير متديِّنٍ أصلًا، وهذا حكم شرعي قطعي؛ ثابت بالكتاب الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة.
أما الكتاب:
فقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ [البقرة: 221].
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (5/ 169، ط. دار المعرفة): [لا يحل لمن لزمه اسمُ كفرٍ نكاحُ مسلمةٍ حرةٍ ولا أمةٍ بحال أبدًا، ولا يختلف في هذا أهلُ الكتاب وغيرُهم من المشركين؛ لأن الآيتين عامّتان] اهـ.
وقال رضي الله عنه في "أحكام القرآن" (1/ 189، ط. مكتبة الخانجي): [وإن كانت الآية نزلت في تحريم نساء المسلمين على المشركين –من مشركي أهل الأوثان- فالمسلمات محرمات على المشركين منهم، بالقرآن: بكل حال، وعلى مشركي أهل الكتاب: لقطع الولاية بين المسلمين والمشركين، وما لم يختلف الناس فيه، علمته] اهـ.
وقال الإمام الطبري في "جامع البيان في تأويل القرآن" (4/ 370، ط. مؤسسة الرسالة) في تفسيره لهذه الآية قال: [يعني تعالى ذكره بذلك أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم؛ فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك ولو شرُف نسبه وكرم أصله وإن أعجبكم حسبه ونسبه] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 72، ط. دار الكتب المصرية): [أي: لا تزوجوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام] اهـ.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].
قال الإمام أبو الليث السمرقندي في تفسيره "بحر العلوم" (3/ 354، ط. دار الكتب العلمية): [يعني: لا تحل مؤمنة لكافر، ولا نكاح كافر لمسلمة] اهـ.
وقال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 271-272، ط. دار الكتب العلمية): [والنص وإن ورد في المشركين لكن العلّة، وهي الدعاء إلى النار، يعم الكفرة أجمع، فيتعمم الحكم بعموم العلة، فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي، كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي] اهـ.
وقال الإمام ابن جزي الغرناطي المالكي في تفسيره "التسهيل لعلوم التنزيل" (2/ 367، ط. دار الأرقم): [هذا تعليل للمنع من ردّ المرأة إلى الكفار، وفيه دليل على ارتفاع النكاح بين المشركين والمسلمات] اهـ.
أما السنة:
فقد وردت السنّة الفعلية بتفريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كل مسلمة أسلمت مع بقاء زوجها على غير الإسلام، وإبائه الإسلام، فإن أبى فرّق بينهما، أما من أسلم منهم فقد أبقاه على النكاح؛ حتى فرَّق صلى الله عليه وآله وسلم بين ابنته السيدة زينب رضي الله عنها وبين زوجها أبي العاص بن الربيع رضي الله عنه، فلما أُسِرَ في يوم بدر أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يبعث ابنته السيدة زينب رضي الله عنها إليه، فلما أسلم أبو العاص رضي الله عنه بعد ذلك ردَّها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
وقال الزهري: "لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ".
وأما الإجماع:
فقد نقله كثير من أهل العلم سلفًا وخلفًا، من كل فقهاء المذاهب المتبوعة، وعدوه من قطعيات الدين:
فمن السادة الحنفية:
قال الحافظ العيني الحنفي في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (20/ 83، ط. دار إحياء التراث العربي): [(بابُ الأكْفاءِ فِي الدِّينِ) أي: هذا بابٌ في بيان أن الأكفاء التي بالإجماع هي أن يكون في الدين، فلا يحل للمسلمة أن تتزوج بالكافر] اهـ.
ومن السادة المالكية:
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 72، ط. دار الكتب المصرية): [وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه] اهـ.
وقال الإمام ابن جزي الغرناطي المالكي في "القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية" (1/ 131، ط. تونس): [إن نكاح كافر مسلمة يحرم على الإطلاق بإجماع] اهـ.
وعند السادة الشافعية:
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (5/ 159، ط. دار المعرفة): [ولم يختلف الناس فيما علمنا في أن الزانية المسلمة لا تحل لمشرك؛ وثني ولا كتابي] اهـ.
وقال الإمام أبو بكر بن المنذر الشافعي في "الإشراف على مذاهب العلماء" (5/ 253، ط. مكتبة مكة): [أجمعوا على أن عقد الكافر على نكاح المسلمة باطل] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (9/ 101، ط. دار الكتب العلمية) في ذكر شروط الكفاءة المعتبرة في النكاح: [أما الشرط الأول: وهو الدين فإن اختلافهما في الإسلام والكفر كان شرطًا معتبرًا بالإجماع] اهـ.
وقال أيضًا في "الحاوي الكبير" (9/ 255): [المسلمة لا تحل لكافر بحال] اهـ.
وقال الحافظ ابن الصلاح الشافعي في "الفتاوى" (2/ 660، ط. العلوم والحكم): [والكافر ليس بأهل لنكاح المسلمة بحال] اهـ.
وعند السادة الحنابلة:
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (10/ 32، ط. دار عالم الكتب): [لا يجوز لكافر نكاح مسلمة، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم] اهـ.
وقال في "المغني" (10/ 10) أيضًا: [الإجماع منعقد على تحريم فروج المسلمات على الكفار] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (32/ 36، ط. مجمع الملك فهد): [وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، ولا يتزوج الكافر المسلمة] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح في "المبدع في شرح المقنع" (6/ 139، ط. دار الكتب العلمية): [لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال لا نعلم فيه خلافًا] اهـ.
وعند الظاهرية: قال الإمام ابن حزم في "المحلى بالآثار" (9/ 19، ط. دار الفكر): [لا يحل لمسلمة نكاح غير مسلم أصلًا] اهـ.
ويقول الشيخ العلامة محمد أبو زهرة في "زهرة التفاسير" (2/ 722، ط. دار الفكر العربي): [الحقيقة العرفية الإسلامية، والتي أجمع المسلمون عليها تحريم زواج المسلمة بالكتابي؛ وسند هذا الإجماع قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾، فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يحل، وإن كانت زوجته وأسلمت دونه انتهت وصارت لا تحل له، ولا يحل لها] اهـ.
ومن حكمة هذا التحريم: أن المرأة غالبًا ما تتبع زوجها، فكان النهي صيانةً لها من التهديد المباشر لدينها، فإن زواج المسلمة من غير المسلم مدعاة لضياع أولادها وخروجها من دينها، والإسلام وإن تسامح فيما يساعد على المحبة وتجدد الروابط بين أفراد المجتمع الواحد محافظةً على وحدة الصف، غير أن ذلك لا يجوز أن يكون على حساب التهديد في الدين وضياع الأبناء.
وهذا بعينه هو العلة في إباحة زواج المسلم من الكتابية؛ فإن الإسلام نهى الزوج المسلم عن إكراه زوجته الكتابية على الخروج من دينها؛ وهو في ذات الوقت يؤمن برسولها، فكان ذلك ضمانًا لها. أما المرأة المسلمة فليس لها هذا الضمان؛ إذ لا يؤمن الكتابي برسولها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما جُبِلَت عليه المرأة من ضعف طبيعتها.
يقول العلامة عبد الرحمن الجزيري في "الفقه على المذاهب الأربعة" (4/ 73، ط. دار الكتب العلمية): [لم يبح للمرأة أن تتزوج الكتابي، لأن المرأة مهما قيل في شأنها لا يمكنها أن تقف في سبيل زوجها غالبًا، فتكون مهددة بتغيير دينها، وأولادها لا محالة أن يتبعوا أباهم، وهي لا تستطيع ردهم، والإسلام وإن تسامح فيما يجدد الروابط فإنه لا يمكنه التسامح فيما يخرج المسلم من دينه، أو يجعل ذريته من غير مسلمين، فهو قد أباح الكتابية للمسلم ونهاه عن إكراهها على الخروج من دينها، أما الأديان الأخرى فليس فيها هذا الضمان، ولما كان الرجل قويًّا في الغالب جعل أمر ضمانه هو وأولاده موكولًا لقوة إرادته، وحال بين المرأة ضعيفة الإرادة وبين تزوجها من الرجل الكتابي] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإنه يحرم على المرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، سواء كان كتابيًّا من أتباع الكتب السماوية أو لم يكن، وسواء كانت له ديانةٌ أو تكن، وذلك بأدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين سلفًا وخلفًا، عبر الأمصار والأعصار؛ بحيث صار هذا الحكم الشرعي الثابت معلومًا من الدين بالضرورة، وجزءًا من هوية الإسلام ومسَلَّماتِ أحكامه. وإذا حصل ذلك فالعقد باطل، والعلاقة بين المسلمة وغير المسلم محرمة شرعًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا