قيام بعض الناس بتطبيق العقوبات على غيرهم بدعوى مخالفة الشريعة

قيام بعض الناس بتطبيق العقوبات على غيرهم بدعوى مخالفة الشريعة

ما حكم قيام بعض الناس بتطبيق الحدود والعقوبات على غيرهم بدعوى مخالفة الشريعة؟ وما حكم قيام طوائف الشعب بحماية المؤسسات العامة بدلًا من الجهات المختصة؟

الأصل أن تحديد العقوبات وتطبيقها من اختصاصات وصلاحيات ولي الأمر أو من يُنِيبُه عنه لذلك من السلطات التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وكذلك تأمين الحماية للمؤسسات العامة فهو من مهام قوات الشرطة أو الجيش بحسب القوانين واللوائح المنظمة لذلك؛ وليس هذا من اختصاص عموم الأشخاص؛ ولذا فإنه يحرم على أفراد الناس القيام بمثل هذه الأمور؛ لِما فيه من الاعتداء على صلاحيات ولي الأمر؛ ومن ثم مخالفة الشرع، ولِما فيه أيضًا من إحداث الفوضى، خاصة أن تطبيقَ القانون والأحكام وفرضَ النظام هو من واجبات ولي الأمر أو من ينوب عنه فقط، وهذا متحقق بالفعل، وليس لأحد من الناس أن يتجاوز هذا الثابت الشرعي تحت دعوى إقامة العدل ورد الحقوق.

التفاصيل ....

المحتويات

 

التحذير من الافتيات على ولي الأمر

أوجب الله تعالى على الجماعة المسلمة أن تجعل لها ولي أمر يدبر شؤونها ويَسُوسُ أمورها، ويتصرف فيها بما فيه مصلحة البلاد والعباد، وهذا القدر محل اتفاق ولا خلاف فيه؛ قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" (1/ 25، ط. مؤسسة الرسالة): [اعلم أيضًا أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات" اهـ. ومن قبله قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص 149، ط. دار الكتب العلمية): (السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعًا، فكان وجوب نصب الإمام من ضرورات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه)] اهـ.

وقد رتب الشرع الشريف لولي الأمر جملة من الاختصاصات والصلاحيات والتدابير؛ ليستطيع أن يقوم بما أنيط به من المهام الخطيرة والمسؤوليات الجسيمة، وجعل كذلك تطاول غيره إلى سلبه شيئًا من هذه الاختصاصات والصلاحيات أو مزاحمته فيها من جملة المحظورات الشرعية التي يجب أن يُضرَب على يد صاحبها؛ حتى لا تشيع الفوضى، وكي يستقر النظام العام، ويتحقق الأمنُ المجتمعي المطلوب.
وقد وصف علماء المسلمين من يُنازع ولي الأمر فيما هو له من ذلك بأنه "مُفتاتٌ" على الإمام.
والافتيات هو: التعدي، أو هو: فعل الشيء بغير ائتمار مَنْ حَقُّه أن يُؤتمر فيه. انظر: "الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 228، ط. دار إحياء الكتب العربية) مع "حاشية الدسوقي"، "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص 57، ط. عالم الكتب).
والافتيات على ولي الأمر ممنوع محرمٌ؛ لأنه تَعَدٍّ على حقه بمزاحمته فيما هو له، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت حاكمها عنها في تدبير شؤونها؛ يقول الإمام شمس الدين الغرناطي في "بدائع السلك في طبائع الملك" (/ 45، ط. وزارة الإعلام العراقية) - في معرض ذكر المخالفات التي يجب اتقاؤها في حق ولاة الأمور: [المخالفة الثالثة: الافتيات عليه -أي: ولي الأمر- في التعريض لكل ما هو منوط به، ومن أعظمه فسادًا: تغيير المنكر بالقدر الذي لا يليق إلا بالسلطان؛ لما في السَّمْح به والتجاوز به إلى التغيير عليه، وقد سبق أن من السياسة تعجيل الأخذ على يد من يتشوق لذلك وتظهر منه مبادئ الاستظهار به] اهـ.

حكم قيام بعض الناس بتطبيق العقوبات على غيرهم بدعوى مخالفة الشريعة

من جملة الأمور والاختصاصات التي ليست إلا لولي الأمر أو من ينيبه: إقامة الحدود واستيفاء العقوبات، وقد فوَّض الشرع ذلك إلى الأئمة والحكام؛ كي لا يوقع الاستبداد به في الفتن. انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 358، ط. عالم الكتب).
وقد روى ابن زنجويه في كتاب "الأموال" (3 / 1152، ط. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، السعودية): عن مسلم بن يسار، عن أبي عبد الله رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال مسلم: كان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه، قال: "هو عالم؛ فخذوا عنه"، فسمعته يقول: "الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان" اهـ.
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (5 / 507، ط. دار الفكر): [عن الحسن أنه قال: أربعة إلى السلطان: الزكاة، والصلاة، والحدود، والقضاء. وعن ابن محيريز أنه قال: الجمعة، والحدود، والزكاة، والفيء إلى السلطان. وعن عطاء الخراساني أنه قال: إلى السلطان، الزكاة، والجمعة، والحدود] اهـ.

وهذا هو ما نص عليه أئمة الدين وفقهاء الملة على اختلاف مذاهبهم: فمن الحنفية: قال الإمام السرخسي في "شرح السير الكبير" (1938، ط. الشركة الشرقية للإعلانات): [واستيفاء الحدود إلى الإمام] اهـ.
وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (7/ 57-58، ط. دار الكتب العلمية): [وأما شرائط جواز إقامتها -أي: الحدود- فمنها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص البعض دون البعض، أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة؛ وهو أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام ... وبيان ذلك: أن ولاية إقامة الحد إنما ثبتت للإمام لمصلحة العباد -وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم- ... والإمام قادر على الإقامة؛ لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم؛ لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام، وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيم على وجهها، فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين ... وللإمام أن يستخلف على إقامة الحدود؛ لأنه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه؛ لأن أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الإسلام، ولا يمكنه الذهاب إليها، وفي الإحضار إلى مكان الإمام حرج عظيم، فلو لم يجز الاستخلاف لتعطلت الحدود، وهذا لا يجوز؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يجعل إلى الخلفاء تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود] اهـ.
ومن المالكية: قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (2/ 245، 246، ط. دار الكتب المصرية): [لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر؛ فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (4/ 223، ط. دار الحديث): [وأما من يقيم هذا الحد -أي: حد شرب الخمر- فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود] اهـ.
وقال في "مختصر خليل وشرحه" لسيدي أحمد الدردير (4/ 239، ط. دار الفكر): [(القاتل) عمدًا وعدوانًا فإنه معصوم (من غير المستحق) لدمه، وأما بالنسبة لمستحق دمه -وهو ولي المقتول- فليس بمعصوم، لكن إن وقع منه قتل للقاتل بلا إذن الإمام أو نائبه فإنه يؤدب؛ لافتياته على الإمام] اهـ.
ومن الشافعية: قال الإمام العمراني في "البيان" (12/ 376، ط. دار المنهاج): [إذا وجب حد الزِّنَا أو السرقة أو الشرب على حُرٍّ لم يجز استيفاؤه إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام ذلك؛ لأن الحدود في زمن رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّمَ وفي زمن الخلفاء الراشدين رَضِيَ الله تعالى عَنهُم لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها يفتقر إلى نظر واجتهاد، فلا يصح استيفاؤها إلا من الإمام أو النائب عنه] اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (3/ 191، ط. دار الكتب العلمية): [ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان؛ لأنه يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحَيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة السلطان عَزَّره على ذلك ... والمنصوص أنه يُعَزَّر؛ لأنه افتيات على السلطان] اهـ.
ومن الحنابلة: قال الإمام ابن مفلح في "الفروع" (6/ 53، ط. عالم الكتب): [تحرم إقامة حَدٍّ إلا لإمام أو نائبه] اهـ.
وجاء في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (6/ 159، ط. المكتب الإسلامي) للشيخ الرحيباني: [(وإقامته)؛ أي: الحد (لإمام أو نائبه مطلقًا): أي: سواء كان الحد لله -كحد زنا- أو لآدمي -كحد قذف-؛ لأنه يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحَيف؛ فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقيم الحدود في حياته وكذا خلفاؤه من بعده، ويقوم نائب الإمام فيه مقامه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «واغد يا أُنَيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فاعترفت فرجمها، وأمر برجم ماعِز ولم يحضره، وقال في سارق أُتِي به: «اذهبوا به فاقطعوه»] اهـ.

ونقول أيضًا إن إقامة العقوبات في العصر الحاضر في ظل دولة المؤسسات إنما تناط بجهة محددة تسند إليها ما يسمى بالسلطة التنفيذية، وهذه الجهة لا تستطيع أن تنفذ عقوبة ما إلا بعد أن تَبُت الجهة المختصة بالسلطة القضائية في الأمر؛ فتقوم بالنظر في الواقعة المعينة، وتستوفي فيها الأدلة والقرائن، وتستنطق الشهود، وتنظر في الملابسات والظروف المحيطة، ثم تقضي بعقوبة مخصوصة فيها، وهذه الجهة بدورها لا تستقل بعقوبة لم يُنَصّ عليها في القانون المعمول به في البلاد، والذي تقوم على اختياره وصياغته الجهة المختصة بالسلطة التشريعية، وكل جهة من هذه الجهات الثلاث تُعَدُّ هي ولي الأمر فيما أقيمت فيه؛ قال العلامة ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (5/ 97، 98، ط. الدار التونسية للنشر) -عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]-: [أولو الأمر مِن الأمَّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنَّه مِن خصائصهم ... فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا أهل الحلّ والعقد] اهـ.

ولذلك فإن قيام آحاد الناس الآن بتطبيق العقوبات بأنفسهم على متهم بجريمة أو معروف بعدوان فيه افتيات على أصحاب هذه السلطات الثلاث؛ فقد يُعاقَب المجرم بغير ما قُرِّر له من العقوبة في القانون، وقبل ذلك فإنه يُدَان من هؤلاء المفتاتين بلا تحقيق أو دفاع، أو قد يُدان بغير ما يستوجب الإدانة أصلًا؛ حيث يكون قد فعل أمرًا مشروعًا ولكن يظنه غيره -لجهله وعدم اطلاعه على خلاف العلماء- أنه ليس مشروعًا؛ ثم إن إنزال العقاب يحصل بعد ذلك من غير ذي اختصاص، وكل هذا في النهاية يقود المجتمع إلى الفوضى وإلى الخلل في نظامه العام، فضلًا عن تشويه صورة الإسلام، والكر على مقصد الدعوة الإسلامية بالبطلان أمام العالمين.

حكم قيام بعض الناس بحماية المؤسسات العامة بدلًا من الجهات المختصة

أما تأمين الحماية للمؤسسات العامة فهو في الأصل من مهام قوات الشرطة أو الجيش بحسب القوانين واللوائح المنظمة لذلك، وليس متروكًا للأفراد؛ وذلك لأن مهمة التأمين تتطلب خبرة من نوع خاص، مع مراعاة للتدرج في الردع وغير ذلك مما يعرفه هؤلاء ويدرسونه، وهي تشبه ما تكلم عنه الفقهاء في دفع الصائل؛ حيث لا يُلجَأ إلى الأشد في الدفع مع إمكان الأخف.

وهذه الشرائط والخبرات الشأن في آحاد الناس أنها منتفية عنهم؛ كما أنها تتطلب تحصيل آلة وسلاح يحصل به التأمين والحماية، وهذا مما لا يسمح به القانون إلا في أحوال مخصوصة لأفراد مخصوصة، فيصدر لهم ترخيص رسمي بحمل سلاح معين، وكذلك فإنه لو تركت مهمة الحماية لآحاد الناس لم يؤمَن معها أن يندس وسطهم من يريد شرًّا ولا يقصد خيرًا، فيختلط الحابل بالنابل، ولا يدرى من الجاني، ومن ثم يتحول الأمر من واجب تقوم به القوات المعنية بأسس مدروسة إلى شجار أخرق واشتباك أحمق بين أبناء البلد الواحد، مما يرسخ العداوة والبغضاء بينهم، وقد تراق فيه الدماء المعصومة بلا سبب شرعي.

ولذلك فإنه لا يسمح شرعًا لآحاد الناس أن يبادروا من عند أنفسهم بمهام الحماية المذكورة ما دامت القوات المسؤولة موجودة لصد العدوان عن المنشآت، وإلا كان في ذلك افتيات عليهم فيما أقيموا فيه، إلا أن تستعين هذه القوات بالغير تحت متابعتها وإشرافها في صورة لجان شعبية مثلًا، فيجوز ذلك حينئذ، شريطة أن يلتزم كل واحد بالدور المطلوب منه ولا يتعداه إلى غيره.

وكذلك إذا خلا المكان عمن يدافع عنه وتعرض للنهب أو للتدمير ونحوهما جاز للناس حينئذ تشكيل لجان شعبية تدرأ عن المنشآت والمؤسسات، إن كان لها القدرة على ذلك، دون بغي منهم أو فساد؛ وأصله ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ»؛ قال المهلب في قوله صلى الله عليه وآله وسلم-: «ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له»: [فيه من الفقه: أن من رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سد خللها إذا كان مستطيعًا لذلك، وعلم من نفسه منة وجزالة] اهـ. (شرح صحيح البخاري لابن بطال 5/ 223، ط. مكتبة الرشد).

ومما سبق يعلم الجواب عن المسؤول عنه.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا