حكم من أفطر في رمضان بسبب المرض ثم مات ولم يقض

حكم من أفطر في رمضان بسبب المرض ثم مات ولم يقض

ما حكم من أفطر في رمضان بسبب المرض؟ ثم شفاه الله، وتمكن من قضاء الصوم الذي عليه، إلا أنه لم يقم بالقضاء حتى تُوفِّي؟

يجب على ورثة من أفطر في رمضان بسبب المرض ثم مات ولم يقض إخراج الفدية من الثلث المخصص للوصايا في تركته إذا كان المتوفى قد أوصى بذلك، وإلا يكون إخراجُها عنه على سبيل الاستحباب والتبرع من أيِّ أحدٍ؛ سواء أكان من الورثة أم غيرهم، لا من التركة، إلا أن يشاء الورثة إخراجها منها.

التفاصيل ....

المحتويات

مفهوم الصيام في الإسلام

الصوم فريضة من فرائض الإسلام أناطها الله تعالى بالاستطاعة؛ فقد اقتضت رحمة الله بخلقه عدم تكليف النفس ما لا تطيق، ومن أجل ذلك شرع الله تعالى رخصةَ الفطر لمن يشُقُّ عليه أداء فريضة الصوم في رمضان لعذر، ثم يقضي بعد زوال العذر، وبيَّن سبحانه الأعذار التي تبيح الفطر؛ فقال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
قال فخر الدين الرازي في "التفسير الكبير" (5/ 242، ط. دار إحياء التراث العربي): [الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ إِنَّمَا يَلْزَمُ الْأَصِحَّاءَ الْمُقِيمِينَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَلَهُ تَأْخِيرُ الصَّوْمِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى أَيَّامٍ أُخَرَ] اهـ.

المرض المبيح للفطر في رمضان

المرض المبيح للفطر هو ما كان مؤديًا إلى ضررٍ في النفس أو زيادةٍ في العلة أو تأخيرٍ في الشفاء، وذلك بإخبار أولي التخصص من الأطباء، بل إذا كان الصوم يضُرُّ بصحته فيجب عليه أن يفطر حفاظًا على نفسه من الهلاك، وإنما أبيح الفطر للمريض؛ دفعًا للحرج والمشقة عنه، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه أحمد في "مسنده" من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقول الله تعالى في خصوص الصوم: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 97، ط. دار الكتب العلمية): [المريض الذي لا يضره الصوم ليس له أن يفطر، فكان ذكر المرض كنايةً عن أمرٍ يَضُرُّ الصومُ معه] اهـ.
وقال العلامة الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (1/ 535، ط. دار الفكر): [(و) جاز الفطر (بمرضٍ خاف)، أي: ظنّ لقول طبيبٍ عارف أو تجربة أو لموافق في المزاج، (زيادته أو تماديه) بأن يتأخر البرء، وكذا إن حصل للمريض بالصوم شدة وتعب، بخلاف الصحيح، (ووجب) الفطر لمريضٍ وصحيحٍ (إن خاف) على نفسه بصومه (هلاكًا أو شديدَ أذًى)؛ كتعطيل منفعةٍ من سمعٍ أو بصرٍ أو غيرهما؛ لوجوب حفظ النفس] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 258، ط. دار الفكر): [شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقةٌ يَشُقُّ احتمالها] اهـ.
وقال الإمام الخرقي الحنبلي في "مختصره" (ص: 50، ط. دار الصحابة للتراث): [وللمريض أن يفطر إذا كان الصيام يزيد في مرضه] اهـ.

حكم من أفطر بسبب المرض ثم شُفِيَ وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات

إن كان المرضُ مما يُرجَى الشفاء منه، وأفطر المريض بسببه، ثم شُفِيَ وتمكن من قضاء الأيام التي أفطرها لكنه لم يقضها حتى مات؛ فالواجب في هذه الحالة: إخراج فدية الصوم عنه عن تلك الأيام من تركته؛ سواء أوصى بذلك قبل موته أو لم يوصِ، وهو مذهب الشافعية في الجديد، والحنابلة في المعتمد عندهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْضُوا اللهَ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّ اللهَ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في خصوص من كان عليه صومٌ فلم يقضِهِ حتى مات: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرٍ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» رواه أبو داود والترمذي في "السنن" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 426، ط. دار الكتاب الإسلامي): [من مات وعليه صوم قضاءٍ أو نذرٍ أو كفارةٍ بعد التمكن منه وجبت الفدية في تركته؛ سواء أترك الأداء بعذر أم بغيره] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 369، ط. دار الفكر): [قد ذكرنا فيمن مات وعليه صوم وتمكَّن منه فلم يصمه حتى مات؛ إنه على قولين: الجديد المشهور في المذهب وصححه أكثر الأصحاب، أنه يجب الإطعام عنه لكل يومٍ مُدٌّ من طعام، ولا يجزئ الصيام عنه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 152، ط. مكتبة القاهرة): [من مات وعليه صيام من رمضان فمات بعد إمكان القضاء؛ فالواجب أن يُطعَم عنه لكل يوم مسكين، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ روي ذلك عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم. وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، والحسن بن حي، وابن علية، وأبو عبيدٍ في الصحيح عنهم] اهـ بتصرف يسير.
ووافقهم الحنفيةُ والمالكيةُ في القول بوجوب إخراجها عنه، لكن بشرط أن يكون قد أوصى بذلك، وتخرج من الثلث المخصَّص للوصايا في تركته، فإن لم يكن قد أوصى بذلك فإخراجها عنه حينئذٍ يكون مستحبًّا على سبيل التبرع ممن يتبرع بها؛ سواء من الورثة أو غيرهم، لا من التركة، إلا أن يشاء الورثة إخراجها منها.
قال بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (4/ 85، ط. دار الكتب العلمية): [(لابد من الإيصاء عندنا)، يعني: إذا أوصى يلزم الإطعام عنه على الولي من ثلث ماله، وبه قال مالك فيجزئه إن شاء الله، وإن لم يوصِ لا يلزم على الولي الإطعام، ومع هذا لو أطعم جاز إن شاء الله] اهـ.
وقال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص: 169، ط. المكتبة العصرية): [لزم (عليه) يعني على من أفطر في رمضان ولو بغير عذر (الوصية بما) أي بفدية ما (قدر عليه) من إدراك عِدَّةٍ من أيام أخر إن أفطر بعذر] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "عيون المسائل" (ص: 222، ط. دار ابن حزم): [من مات وعليه صوم رمضان: لم يقضه عنه وليه، ولا يصوم أحدٌ عن أحد، ويُطعَم عنه إن أوصى به أو تطوع ورثته به] اهـ.

إخراج فدية الصيام عن الميت

والقول بعدم إخراج الفدية من التركة إلا إذا أوصى بإخراجها، وأن ذلك يكون من الثلث الـمُخَصَّص للوصايا دون باقي التركة هو ما عليه الفتوى؛ لأن الفدية حقُّ الله تعالى، وأداءُ حقِّ الله تعالى يفوت بالوفاة؛ لأن التكليف مرتبطٌ بكون العبد في دار الدنيا، أمَا وقد تُوفِّيَ فقد انقطع عنه التكليف وانتقل إلى دار الآخرة وهي دار الجزاء؛ قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبين الحقائق شرح كنز الدقائق" (6/ 230، ط. المطبعة الأميرية الكبرى): [هذه الديون -أي ديون الله تعالى- تسقط بالموت، فلا يلزم الورثةَ أداؤها إلا إذا أوصى بها أو تبرَّعوا بها هُم مِن عندهم؛ لأن الركنَ في العبادات نيةُ المكلف وفِعْلُهُ، وقد فات بموته؛ فلا يُتَصَوَّر بقاء الواجب. يحققه: أن الدنيا دارُ التكليف، والآخرة دارُ الجزاء، والعبادة اختيارية وليست بجبرية؛ فلا يتصور بقاء الواجب؛ لأن الآخرة ليست بدار الابتلاء حتى يلزمه الفعل فيها، ولا العبادة جبريةً حتى يجتزأ بفعل غيره من غير اختياره، فلم يبق إلا جزاءُ الفعلِ أو تَرْكِهِ ضرورةً، بخلاف دين العباد؛ لأن فعله ليس بمقصودٍ فيه ولا نيته، ألا ترى أن صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه أخذه ويجتزأ بذلك، ولا كذلك حق الله تعالى؛ لأن المقصود فيها فِعلُهُ، ونيته ابتلاء، والله غنيٌّ عن ماله وعن العالمين جميعًا، غير أن الله تعالى تصدق على العبد بثلث ماله في آخر عمره يضعها فيما فرَّط فيه تفضلًا منه من غير حاجة إليه، فإن أوصى به قام فعلُ الورثة مقامَ فعله؛ لوجود اختياره بالإيصاء، وإلا فلا] اهـ.
وهذا ما عليه القانون المصري؛ حيث نصت المادة الرابعة من القانون رقم 77 لسنة 1943م على: [يؤدَّى من التركة بحسب الترتيب الآتي:
أولًا: ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت الى الدفن.
ثانيًا: ديون الميت.
ثالثًا: ما أوصى به في الحد الذي تنفذ فيه الوصية] اهـ.
جاء في المذكرة التفسيرية: [المراد بالديون في المادة: الديون التي لها مطالب من العباد، وأما ديون الله تعالى فلا تطالب التركة بها؛ أخذًا بمذهب الحنفية] اهـ.

الخلاصة

عليه: فمن أفطر في رمضان بسبب المرض، ثم شفاه الله تعالى، وتمكن من قضاء الصوم لكنه لم يقضِهِ حتى توفي؛ وجب إخراج الفدية عنه من الثلث المخصص للوصايا في تركته إن كان قد أوصى بذلك، وإلا يكون إخراجها عنه على سبيل الاستحباب والتبرع من أيِّ أحدٍ؛ سواء أكان من الورثة أم غيرهم، لا من التركة، إلا أن يشاء الورثة إخراجها منها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا