طالعتنا إحدى الصحف بعنوان مثير للاستنكار وهو (التحذير من كتاب "دلائل الخيرات")، وادعى فيه صاحبه أن هذا الكتاب مملوء بالمخالفات الشرعية، والعبارات الشركية، ولـَمَزهُ بأنه "دلائل الشركيات"، وأن الدليل على شركه عبارة: "مستمدًّا من حضرته"؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إذا سألت فاسأل الله"، وحرَّموه بدعوى أنه لا يجوز استحداث صيغ جديدة، وأنه يذكر أسماء وصفات للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تليق به؛ مثل: محي، ومنج، وناصر، وغوث، وصاحب الفرج، ولا تجوز لأن فيها غلوًّا ومبالغة، وأنه لا تجوز الزيادة على أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في الأحاديث الصحيحة، وأن فيها عبارات كفر؛ مثل: (اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار)، أو حرام؛ مثل: (اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء). فكيف نرد عليه؟ وما حكم قراءة دلائل الخيرات؟
الرد على منتقد كتاب "دلائل الخيرات"
كتاب "دلائل الخيرات" من الكتب المباركة التي كتبت في الصلاة والسلام على أشرف الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كتاب عالي القدر، سرى في الأمة مسرى الشمس في الآفاق، وعُقِدَت له المجالس، وشرحه كبار العلماء والأولياء، وهو أجلُّ كتاب أُلف في الصلاة عليه، قد رُزِق من القبول في المسلمين عامتهم وخاصتهم ما لم يرزقه غيره.
ووصف كتابٍ -هذا شأنُه عبر الأمصار والأعصار، وهذه منزلته في الأمة الإسلامية- بـ"دلائل الشركيات" هو من شأن الخوارج الذين يكفرون علماء المسلمين وأئمتهم.
وما يقال حوله من دعاوى وشبهات هي في الحقيقة أكاذيب تشكك الأمة في علمائها وأوليائها، وتفتقر إلى أصول الفهم وقواعد العلم، بل هي مغالطات يُدْرِك من له أدنى حظ من العلم ما فيها من الخلط والتلبيس.
فأما دعوى الشرك في عبارة: (مستمدًّا من حضرته): فهي دعوى فاسدة، وأشد منها فسادًا الاستدلال عليها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا سَأَلْتَ فاسأل الله»؛ فإن المقصود هو طلب المدد على جهة السببية؛ أي أنه صلى الله عليه وآله وسلم هو سببٌ في ذلك، وهذا جائز شرعًا.
وأما إنكار أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألقابه وأوصافه المذكورة بالكتاب؛ ودعوى أنها لا تليق به صلى الله عليه وآله وسلم: فهو جهلٌ بأن هذه الأسماء الشريفة مأخوذة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن السلف، وأن للعلماء فيها تآليف وتصانيف، وهذه الأسماء والأوصاف كتبها المسلمون على جدار قبلة المسجد النبوي الشريف، بنصّها وعددها، بأجمل الخطوط وأحلاها وأبدعها؛ يقرأها كل زائر، ويلهج بها كلُّ محبّ، ودعوى الغلوّ والمبالغة تجاهلٌ وتغافلٌ عن أن كمالاته صلى الله عليه وآله وسلم لا تتناهى، وأن الخلق كلهم عن بكرتهم مهما وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلن يصلوا إلى عشر معشار قدره ومقامه عند مولاه؛ فهو الذي دل الخلق على الخير.
والزعم أنه لا تجوز الزيادة على أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الواردة كلام فيه تلبيسٌ وخلطٌ بين باب الاسمية والوصفية؛ فإن الاسم قد يطلق تارةً على العَلَم، وقد يطلق على الوصف؛ فإن أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلق على أوصافه وشمائله، وهي مأخوذة من القرآن والسنة والسيرة وآثار السلف الصالح، وتشتق من أفعاله وكراماته وخصائصه وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما استنكار بعض هذه الأسماء الشريفة؛ ومنها: مُحي، ومُنج، وناصر، وغوث، وصاحب الفرج، وأجير، فغير صحيح؛ إذ كلها أسماء صحيحة متفق عليها لا معنى لإنكارها؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لإحياءِ القلوب، والنجاةِ من العقاب، والحمايةِ من العذاب، وإغاثةِ الخلق، وتفريجِ كروبهم، كل ذلك بإذن الله تعالى؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم سببٌ في كلّ ذلك.
وزعم الشرك في عبارة: (اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار)، بدعوى أن الأزهار فتقها الله وحده: مغالطة وشغب؛ فالمعنى المقصود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سببٌ لكل خير في الدنيا والآخرة.
وأما دعوى معارضة النصوص لقوله: (اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء): فجهل بالسنة؛ فقد ورد ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا عند الطبراني في "الدعاء" والديلمي في "الفردوس": "اللَّهُمَّ صَلِّى عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ صَلَاتِكِ شَيْءٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ بَرَكَاتِكَ شَيْءٌ، وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ السَّلَامِ شَيْءٌ". على معنى صلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم جميعَ ما صليتَه وأبرزتَه لأهل عنايتِك وأنبيائِك ورسلك وملائكتك، وقد كان كذلك، فإن الله سبحانه أنعم عليه صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يُعْطِهِ لمجموع أحبته وأهل وده وخاصته، بل أعطاه أكثر وأجمل، وسيعطيه بعدُ ما لا يحيط به عقل، ولا يحويه نقل.
ومـمَّا سبق يتبين أنّ ما أُثير من دعوى وشبهات ما هي إلا أكاذيب تبُثُّ مناهج التبديع والتكفير؛ فلا يجوز الالتفات إليها ولا التعويل عليها.
التفاصيل ...."دلائل الخيرات": هو الكتاب الذي "عمَّت بركته الأرض"؛ كما يقول الإمام أبو العباس أحمد التُّنبكتي [ت1036هـ] في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" (ص: 545، ط. دار الكاتب)، وهو من أفضل كتب الصلاة على النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم التي اعتمدها العلماء والأئمة عبر الأعصار، وأوصوا بها في مختلف الأمصار، وكُتِبَ له من القبول في الأمة الإسلامية ما لم يُكتَب لغيره من الكتب والمصنفات في هذا الموضوع على كثرتها، وقد لهجَ به العلماء والأولياء والصالحون ذكرًا وقراءة وشرحًا منذ زمان تأليفه إلى يومنا هذا، من غير نكير، حتى ظهر النابتة المتشددون الذين أحيَوْا مناهج الخوارج بتكفير الأمة وتبديعها، فكفَّروا المسلمين ظلمًا وبغيًا وعدوانًا.
واسم هذا الكتاب المبارك: "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار، في ذكر الصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم" للإمام الشريف الحسيب النسيب زين الأولياء وسيد العلماء العارف بالله تعالى الشهيد أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي الحسني المالكي [ت870هـ]، صاحب القدم الراسخ في فقه الإمام مالك رضي الله عنه؛ حتى كان يحفظ كتاب "المدونة" عن ظهر قلب، ويحفظ فَرْعِيَّ ابن الحاجب؛ كما جاء في "كفاية المحتاج" (2/ 181، ط. أوقاف المغرب)، و"ممتع الأسماع" (ص: 6، ط. مطبعة حاضرة فاس).
و"دلائل الخيرات" هو كتاب جمع فيه مؤلفُهُ ما ورد في صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفضلاء الأخيار، والعلماء الأبرار، والأولياء الأطهار، مما رتَّبُوه في أورادهم أو سطّروه في تآليفهم، ومما فتح الله به على مؤلفه رضي الله عنه؛ ممتثلًا بذلك الأمر الشرعي بإحسان الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعًا: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْه» رواه ابن ماجه في "السنن"، وعبد بن حميد وأبو يعلى في "المسند"، وابن أبي خيثمة في "التاريخ"، وغيرهم، وحسّنه جمعٌ من الحفّاظ كالمنذري، وابن حجر، وصححه الحافظ مغلطاي.
وإحسان الصلاة: يحصل بكل ما يؤكد مقاصدها، ويبلغ مرادها، ويفصح عن الشرف النبوي، ويبين مظاهر الكمال المحمدي؛ اعتناءً واقتداءً، وتمجيدًا وثناءً، وفي ذلك إذنٌ بالصلاة عليه بكل ما يمكن ذكره به من صيغ حسان، وأوصافٍ ومعان، وإذنٌ باستحداث ما يُسْتَطَاعُ من الصيغِ الفصيحة المعبرة عن ذلك؛ على وسع ما تصل إليه بلاغة المرء في التعبير اللائق عن خير الخلائق صلى الله عليه وآله وسلم من غير تقيد بالوارد؛ كما قرره المحققون ودرج عليه العلماء والصالحون، سلفًا وخلفًا من غير نكير؛ حتى فعل ذلك الصحابة والتابعون، وتتابع عليه العلماء والأولياء والعارفون عبر الأعصار والقرون، وتفنن علماء الأمة وأولياؤها وعارفوها في صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نثرًا ونظمًا بما لم تبلغه أمة من الأمم في حق نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
قال الحافظ جمال الدين بن مُسْدِي [ت663هـ] -فيما نقله عنه الحافظ السخاوي في "القول البديع" (ص: 146، ط. الريان)-: [وقد رُوِيَ في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديثُ كثيرة، وصنَّف في ذلك جماعة جمعوا الأبواب وهذَّبوا التراجم.
وذهب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم: إلى أن هذا الباب لا يوقف فيه مع المنصوص، وأن من رزقه الله بيانًا فأبان عن المعاني، بالألفاظ الفصيحة المباني، الصريحة المعاني، مما يُعرِب عن كمال شرفه صلى الله عليه وآله وسلم وعظيم حرمته، كان ذلك واسعًا، واحتجّوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "أحسنوا الصلاة على نبيكم؛ فإنكم لا تدرون لعل ذلك يُعرَض عليه"] اهـ.
أما وصف هذا الكتاب "بدلائل الشركيات": فهو من التطاول بالباطل والجراءة في الإفك على هذا الكتاب الشريف المبارك العالي القدر الذي سرى في الأمة مسرى الشمس في الآفاق، وانعقدت عليه الخناصر، وتعلقت به الأواصر، وعُقِدَت له المجالس، وأُلِّفت له الشروح، وشرحه كبار العلماء والأولياء:
فقال العلامة الفقيه حمدون بن محمد الطاهري الجوطي الفاسي [ت1191هـ] في "تحفة الإخوان ببعض مناقب شرفاء وزان" (ق: 66، مخطوط): [وكفاه هذا التأليف العظيم شهادة على سمو قدره، ونمو فخره، وأثر كسوة قلب مؤلفه عليه ظاهر، ومنه لائح، وشدة شغفه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهالكه في حبه منه واضح، وريح الجنان والعطر منه ساطع وفائح، يستنشقه كل عارف وولي صالح] اهـ.
ومدحه مفتي فاس الإمام العارف الرحّالة أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العَيّاشي [ت1090هـ]، ووصف ما يحتويه بقوله:
عليك بما يحـــــويه هذا المؤلَّـفُ .. ففيه غنى الدارين إن كنت تعرفُ
فلازمه واستمسك به إن تكن فتى .. لديك إلى حُبِّ الرســـــول تَشَوُّفُ
حوى صلوات طيبـــات كثيرة .. على المصطفى أزهارها منه تقطف
فمنهـــا الذي قد انشـــــأته أئمـــة .. وأخرى أتت فيمـــا روَوْه وصنفوا
(دلائل خيرات) فوائد نعـــمة .. شــــوارق أنـــــوار بهـــا تتشــــرف
ينابيع رحمات موارد حكمة .. حــــدائق جنـــاتٍ من الله تُزلِفُ
وجامعهـــا فردُ الزمـــان وغـوثُه .. أقر له بالفـضل مَن هو منصــــف
له في مقـــامات اليقين تمكّن .. وسر خفي في المعـــارف يلطــف
جزاه إله العرش عن جمعه الذي .. به يترقى الســـالك المتصــــــــــوف
فلا تعدون عينـــاك عنــــــه فإنه .. كتاب بأنوار الفضــائل يُعْرَفُ
لقـــارئه الحســــنى غدًا وزيـــادة .. وقرب مكين بالمواهب ينطف
وعدَّه شيخ الشافعية في عصره العلامة سليمان الجمل [ت1204هـ] في شرحه "المنح الإلهيات" (ق: 4، مخ) [أجلَّ كتاب أُلف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وذكر حافظ عصره العلامة محمد مرتضى الزبيدي [ت1205هـ] في كتابه "إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين" (3/289، ط. المطبعة الميمنية 1311هـ) [أن الله رزقه من القبول والاشتهار ما لم يُعْط لغيره؛ فولعت به الخاصة والعامة، وخدموه بشروح وحواشٍ، وما ذلك إلا لحسن نية صاحبه وخلوص باطنه في حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
ووصفه العلامة المحقق عبد الرحمن بن محمد الفاسي المالكي [ت1036هـ] في شرحه "الأنوار اللامعات في الكلام على دلائل الخيرات" (ق: 4/أ، مخطوط) بأنه [مِن أفضل ما صُنِّف في كيفية الصلاة على النبي المختار، وكان الاعتكاف والدوام على قراءته من وظيفة الأبرار، ومن أجَلِّ ما تحلَّى به -حتى صار هِجِّيرَاهم- المقربون الأخيار] اهـ.
وعده العلامة الحاج خليفة [ت1067هـ] في "كشف الظنون" (1/ 759، ط. مكتبة المثنى): [آية من آيات الله في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، يُواظَبُ بقراءته في المشارق والمغارب، لا سيما في بلاد الروم] اهـ.
وقال فيه العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد المهدي بن أحمد الفاسي المالكي [ت1109هـ] في كتابه "ممتع الأسماع بمناقب الشيخ الجزولي والتباع، ومن لهما من الأتباع" (ص: 9): [قد نفع الله به العباد، وأخذ بالأسانيد المحررة وأقبل الناس عليه، وسار فيهم مسير الشمس والقمر، واشتهر في البدو والحضر، وانكبوا عليه في مشارق الأرض ومغاربها دون غيره من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على كثرتها وأسبقيتها، ويجدون له بركة ونورًا] اهـ.
وقال فيه العلامة الشيخ حسن العدوي الحمزاوي [ت1303هـ] في كتابه "بلوغ المسرات على دلائل الخيرات" (ص: 1، طبع حجر): [وكفى بهذا الكتاب شرفًا؛ حيث بلغ في الانتفاع والقبول، ما تحتار فيه العقول ولا يحصى] اهـ.
وقال العلامة الشيخ أبو الفتح محمد بن عبد السلام بن بوستة البناني المالكي [ت1346هـ] في كتابه "النعم الجلائل في التعريف بالشيخ مولانا محمد بن سليمان صاحب الدلائل" (ق: 20أ، مخطوط): [وبالجملة: فهذا الكتاب المبارك من أحسن الذخائر وأعظم البشائر، تلوح على قلوب العارفين له الأسرار، وتشرق فيها الأنوار، وتنجلي ببركته الهموم والأكدار، فله الفضائل التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، والبركات التي لا تُحَدُّ ولا تُستَقْصَى] اهـ.
وقال العلامة عبد المجيد الشرنوبي الأزهري المالكي [ت1348هـ] في "شرح دلائل الخيرات" (ص: 1، ط. مكتبة الآداب): [كتاب "دلائل الخيرات" من أنفس ما يُتَقَرَّب به إلى سيد السادات] اهـ.
إلى غير ذلك من عبارات الثناء العاطر والمدح السائر التي تبين أن هذا الكتاب قد رُزِق من القبول في المسلمين عامتهم وخاصتهم ما لم يرزقه غيره، وحاز من الحظوة والانتشار ما لم يَحُزْهُ أي كتاب، وعمَّ دخوله كل البيوت وجميع الطبقات، وقرأه حتى ربات الخدور، ورأى المسلمون من خيره وبركته ما لا يحصى من بلوغ الآمال، وعم الانتفاع به في المشارق والمغارب عبر العصور والأجيال، وشاهدوا له من البركات والأنوار ما لا يخطر على بال، وتنافس الناس في كتابته ونسخه؛ حتى إن المتتبع لنُسَخِه المخطوطة المبثوثة في مكتبات العالم يجده في المرتبة الأولى في عدد المخطوطات.
ووصف كتابٍ -هذا شأنُه عبر الأمصار والأعصار، وهذه منزلته في الأمة الإسلامية- بـ"دلائل الشركيات" هو من شأن الخوارج الذين يكفرون علماء المسلمين وأئمتهم غير عابئين بما يجرُّه منهج التكفير هذا على شباب المسلمين من عواقب وخيمة وبلايا عظيمة، تُسْفَك فيها الدماء، وتُسْتَحَلّ فيها الحرمات، وما أسهل التكفير على محرومي التفكير، وما أيسر التضليل على من ضل السبيل!
أما الشبهات المسوقة فهي شبهات واهيات تفتقر إلى أصول الفهم وقواعد العلم، وتجمع إلى سوء الظن بالعلماء، استباحة الطعن في الأولياء، مع أفهام لا تحتملها عبارات الكتاب، ولم يفهمها بهذا الفهم عالم أو فقيه على مرّ العصور، على كثرة من شرح الكتاب وفسر عباراته، بل هي مغالطات يدرك من له أدنى حظ من العلم ما فيها من الخلط والتلبيس وغياب العدل والإنصاف.
فأما دعوى الشرك في عبارة: (مستمدًّا من حضرته): فهي دعوى فاسدة، وأشد منها فسادًا الاستدلال عليها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا سَأَلْتَ فاسأل الله»؛ فإنه يلزم على هذا الاستدلال أن يكون كل سؤال لمخلوق في الدنيا شركًا! وهذا باطل؛ فإن طلب المدد قد يكون على جهة السببية؛ فيُطلَب من المخلوق، وقد يكون على جهة الخلق والتأثير؛ فلا يجوز حينئذٍ طلبه إلا من الخالق.
وأما إنكار أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألقابه وأوصافه التي ساقها صاحب "الدلائل"، ودعوى أنها لا تليق به صلى الله عليه وآله وسلم: فهو جهلٌ بأن هذه الأسماء الشريفة مأخوذة من الكتاب والسنة والآثار الواردة عن السلف، وأن للعلماء فيها تآليف وتصانيف مفردة، وأن هذه الدعوى تستلزم أن الأمة كلها نسبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يليق به؛ فإن الأئمة تواردوا على شرح هذه الأسماء في كتاب "الدلائل" عبر القرون وبَيَّنُوا مآخذها من الكتاب والسنة من غير نكير، وقد كتب الله تعالى لهذه الأسماء القبول؛ حتى اعتمدها علماء الأمة، وشرحوا معانيَها، ومنهم من نظمها، وكتبها المسلمون على جدار قبلة المسجد النبوي الشريف بنصها وعددها، بأجمل الخطوط وأحلاها وأبدعها؛ يقرأها كل زائر، ويلهج بها كلُّ محبّ.
ودعوى أنها لا تجوز لأن فيها غلوًّا ومبالغة: تجاهل وتغافل عن أن كمالاته صلى الله عليه وآله وسلم لا تتناهى، وأن الخلق كلهم عن بكرتهم مهما وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلن يصلوا إلى عشر معشار قدره ومقامه عند مولاه؛ لأن الله صلى عليه أزلًا وأبدًا، وسخر الكون للصلاة عليه، وأعطاه ثواب كل خير يفعله مخلوق؛ فهو الذي دل الخلق على الخير.
والزعم أنه لا تجوز الزيادة على أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في الأحاديث الصحيحة: كلام فيه تلبيسٌ وخلطٌ بين باب الاسمية والوصفية؛ فإن الاسم قد يطلق تارةً على العَلَم، وقد يطلق مجازًا على الوصف، وفي هذا الزعم تحريم لأمر فعله علماء المسلمين سلفًا وخلفًا؛ فإن أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلق على أوصافه وشمائله، وهي كما تؤخذ من السنة الصحيحة تستفاد كذلك من القرآن والسيرة وآثار السلف الصالح، وتشتق من أفعاله وكراماته وخصائصه وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما استنكار بعض هذه الأسماء الشريفة؛ ومنها: مُحي، ومُنج، وناصر، وغوث، وصاحب الفرج، وأجير، فغير صحيح؛ إذ كلها أسماء صحيحة متفق عليها لا معنى لإنكارها، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لإحياءِ القلوب، والنجاةِ من العقاب، والحمايةِ من العذاب، وإغاثةِ الخلق، وتفريجِ كروبهم، كل ذلك بإذن الله تعالى، فهو من إضافة الفعل إلى متسببه مجازًا مع اعتقاد أن الله هو الفاعل الحقيقي؛ كما قال تعالى على لسان السيد المسيح عيسى عليه السلام: ﴿وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾ [آل عمران: 49]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]، وهذا كثير في كلام العرب؛ كقولهم: أنبت الربيع البقل.
وزعم الشرك في عبارة: (اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار)، بدعوى أن الأزهار فتقها الله وحده: مغالطة وشغب؛ فإن إنكار الأسباب مكابرة وجهل، ولا يخفى على أي مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لكل خير في الدنيا والآخرة.
وأما دعوى معارضة النصوص لقوله: (اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء): فجهل بالسنة؛ لأن ذلك وارد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا عند الطبراني في "الدعاء" والديلمي في "الفردوس"، وقد بينه الإمام القاضي أبو عبد الله الرصّاع -كما في "المعيار المعرب" (1/350، ط. دار الغرب الإسلامي)-: [معنى قوله: (حتى لا يبقى من صلاتك شيء) صلّ على محمد جميعَ ما صليتَه وأبرزتَه لأهل عنايتِك وأنبيائِك ورسلك وملائكتك، وجميعَ ما أبرزه سبحانه مِن الرحمة لـمَن رحِمَه؛ مِن نبي مُرسَل أو ملك مقرب، هو قد انتهى وانحصر ودخل في الوجود؛ فكأن المصلِّي طلب من ربنا سبحانه أن جميع ما رحم الله به عباده وأولياءه وأصفياءه وخاصته، وأحسن به إلى جميع أهل مودته من أهل سمائه وأرضه، لمثله أعط لنبيك وحبيبك ومعدن سرك، فقد كان كذلك، فإن الله سبحانه أنعم عليه صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يُعْطِهِ لمجموع أحبته وأهل وده وخاصته، بل أعطاه أكثر وأجمل، وسيعطيه بعدُ ما لا يحيط به عقل، ولا يحويه نقل، فغاية ما في هذا الحديث تخصيص لفظ العموم فيه في الصلاة عليه والبركات، وهذا ليس فيه شيء، والتخصيص إما بالعقل وإما بالنقل والعادة.. وإنما احتجنا إلى هذا التأويل لأن تحسين الظن بالأخيار وأهل المحبة من النقلة واجب، لا سيما والتأويل بابه مفتوح، مع قرب التأويل في ذلك] اهـ.
وهذا هو الفرق بين العالم الذي يحمل الكلام على أحسن محامله، وبين المتحامل الذي يترصّد لِلَمْزِ الأولياء، والمتعالم الذي يهوى عيب العلماء.
وبناء على ذلك: فكتاب "دلائل الخيرات" من الكتب المباركة التي كتب الله لها القبول في الأمة الإسلامية، وشرحه العلماء الكبار على اختلاف الأعصار والأمصار، وقرأه المسلمون عبر القرون، وأجمعت على قبوله الأمة من غير نكير، وهو من أعظم كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بركة وفائدة ونفعًا، ومن أعظم ما امتُثِل به الأمرُ النبوي بإحسان الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءته مشروعة، وهي من أعظم الوسائل الموصلة لصاحب الشمائل صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اعتمد العلماء ما ذكره من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه وكتبوها على جدار قبلة المسجد النبوي الشريف.
وأما تسميته "بدلائل الشركيات" فذلك منهج الخوارج الذين يكفرون الأمة؛ بفعل ما اتفقت على مشروعيته الأئمة؛ من التوسل بالنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والاستمداد من جنابه الشريف ونوره المنيف، وما يقال حوله من مزاعم ودعاوى لا تعدو أن تكون أكاذيب وشبهات تشكك الأمة في سلفها، وتعمي بصائرها عن نور نبيها، وتبث فيها مناهج التبديع والتكفير؛ فلا يجوز الالتفات إليها ولا التعويل عليها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.